القول في اجتناب المعاصى و معاصى القلب وآداب الصحبة >> كتاب بداية الهداية للغزالي
القسم الثاني القول في اجتناب المعاصى
توطئة
اعلم ان للدين شطرين، أحدهما: ترك المناهي، والآخر: فعل الطاعات.. وترك المناهي هو الأشد؛ فإن الطاعات يقدر عليها كل واحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه). واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك، وهي نعمة من الله عليك وأمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران، وخيانتك في أمانة استودعها الله غاية الطغيان؛ فأعضاؤك رعاياك، فانظر كيف ترعاها؛ فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته. واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق ذلق، تفضحك به على رؤوس الخلائق، قال الله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)، وقال الله تعالى: (اليوم نختم على افواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون). فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصى، وخصوصا أعضاءك السبعة؛ فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، ولا يتعين لتلك الابواب إلا من عصا الله تعالى بهذه الاعضاء السبعة، وهي: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل.
آداب العين
أما العين: فإنما خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات، وتستعين بها في الحاجات، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسموات، وتعتبر بما فيها من الآيات؛ن فاحفظها عن أربع: أن تنظر بها إلى غير محرم، أو إلى صورة مليحة ولا بشهوة نفس، أو تنظر بها إلى مسلم بعين الاحتقار، أو تطلع بها على عيب مسلم.
آداب الأذن
وأما الأذن: فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة، أو الغيبة، أو الفحش، أ الخوض في الباطل، أو ذكر مساوىء الناس؛ فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمة أوليائه، وتتوصل باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. فإذا أصغيت بها إلى شيء من المكاره صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك، وهذا غية الخسران. ولا تظن أن الإصم يختص به القائل دون المستمع؛ ففي الخبر: (أن المستمع شريك القائل وهو أحد المغتابين).
آداب اللسان
وأما اللسان: فإنما خلق لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه، وترشدن به خلق الله تعالى إلى طريقه، وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك. فإذا استعملته في غير ما خلق له، فقد كفرت نعمة الله تعالى فيه، وهو أغلب أعضائك عليك وعلى سائر الخلق، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. فاستظهر عليه بغاية قوتك حتى لا يكبك في قعر جهنم، ففي الخبر: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفا)، وروى أنه قتل شهيد في المعركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل:ن هنيئا له الجنة، فقال: صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه). فاحفظ لسانك من ثمانية:
الأول الكذبفاحفظ منه لسانك في الجد والهزل، ولا تعود لسانك الكذب هزلا فيتداعى إلى الجد، والكذب من أمهات الكبائر، ثم إنك إذا عرفت بذلك سقطت عدالتك والثقة بقولك، وتزدريك الأعين وتحتقرك. وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك، فانظر إلى كذب غيرك، وعلى نفرة نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه واستقباحك له. وكذلك فافعل في جميع عيوب نفسك؛ فإنك لا ترى قبح عيوبك من نفسك، بل من غيرك، فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك لا محلاة؛ فلا ترض لنفسك ذلك.
الثاني الخلف في الوعد ؟فإياك أن تعد بشيء ولا تفي به، بل ينبغي أن يكون إحسانك إلى الناس فعلا بلا قول، فإن اضطررت إلى الوعد، فإياك أن تخلف إلا لعجز أو ضرورة؛ فإن ذلك من امارات النفاثق وخبائث الاخلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان).
الثالث الغيبةفاحفظ لسانك عنها، والغيبة أشد من ثلاثين زنية في الاسلام. كذلك ورد في الخبر. ومعنى الغيبة: أن تذكر إنسانا بما يكرهه لو سمعه، فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقا. وإياك وغيبة القراء المرائين، وهو أن تفهم المقصود من غير تصريح فتقول: أصلحه الله فقد ساءني وغمني ما جرى عليه، فنسأل الله تعالى أن يصلحنا وإياه؛ فإن هذا جمع بين خبيثين، أحدهما: الغيبة إذا حصل به التفهم، والآخر: تزكية النفس والثناء عليها بالتجريح لغيرك والصلاح لنفسك. ولكن إن كان مقصودك من قولك: أصلحه الله - الدعاء؛ فادع له في السر. وإن اغتممت بسببه، فعلامة أنك لا تريد فضيحته واظهار عيبه، وفي إظهارك الغم بعيبه إظهار تعييبه. ويكفيك زاجرا عن الغيبة قوله تعالى: (وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضا، أَيُحِبُ أَحَدُكُم أَن يَأكلَ لَحمَ أخيهِ مَيتا فَكَرِهتُموه). فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة؛ فما أجدرك أن تحترز منها! ويمنعك عن الغيبة أمر لو تفكرت فيه وهو أن تنظر في نفسك، هل فيك عيب ظاهر أو باطن؟، وهل أنت مقارف معصية سرا أو جهرا؟ فإذا عرفت ذلك من نفسك، فاعلم أن عجزه عن التنزهي عما نسبته إليه كعجزك، وعذره كعذرك. وكما تكره أن تفتضح وتذكر عيوبك، فهو أيضا يكرهه؛ فإن سترته ستر الله عليك عيوبك، وإن فضحته سلط الله عليك ألسنة حدادا، يمزقون عرضك في الدينا، ثم يفضك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق يوم القيامة. وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك، فلم تطلع فيهما على عيب ونقص في دين ولا دنيا، فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة، ولا عيب أعظم من الحمق. ولو أراد الله بك خيرا لبصرك بعيوب نفسك، فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك وجهلك. ثم إن كنت صادقا في ظنك فاشكر الله تعالى عليه ولا تفسده بثلب الناس، والتمضمض بأعراضهم؛ فإن ذلك من أعظم العيوب.
الرابع المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلامفذلك فيه إيذاء للمخاطب وتجهيل له، وطعن فيه، وفيه ثناء على النفس وتزكية لها بمزيد الفطنة والعلم، ثم هو مشوش للعيش؛ فإنك لا تمارى سفيها إلا ويؤذيك، ولا تماري حليما إلا ويقليك ويحقد عليك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة). ولا ينبغي أن يخدعك الشيطان ويقول لك: أظهر الحق ولا تداهن فيه، فإن الشيطان أدبا يستجر الحمقى إلى الشر في معرض الخير، فلا تكن ضُحكة للشيطان فيسخر منك، فاظهار الحق حسن مع من يقبله منك، وذلك بطريق النصيحة في الخفية لا بطريق المماراة. وللنصيحة صفة وهيئة، ويحتاج فيها إلى تلطف وإلا صارت فضيحة، وكان فسادها أكثر من صلاحها. ومن خالط متفقهة العصر غلب على طبعه المراء والجدال، وعسر عليه الصمت، إذ ألقى إليه علماء السوء أن ذلك هو الفضل، والقدرة على المحاجة والمناقشة هو الذي يمتدح به؛ ففر منهم فرارك من الأسد، واعلم أن المراء سبب المقت عندالله وعند الخلق.
الخامس تزكية النفسفقد قال الله تعالى: (فَلا تُزَكوا أَنفُسَكُم هَو أَعلَمُ بِمَن اِتقى)، وقيل بعض الحكماء: مالصدق القبيح؟ فقال: ثناء المرء على نفسه. فإياك أن تتعود ذلك، واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس، ويوجب مقتك عندالله تعالى. فإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك، فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل والجاه والمال كيف يستنكره قلبك عليهم، ويستثقله طبعك، وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم؛ فاعلم أنهم أيضا في حال تزكيتك لنفسك يذمونك في قلوبهم ناجزا، وسيظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم.
السادس: اللعن فإياك أن تلعن شيئا مما خلق الله تعالى من حيوان أو طعام أو إنسان بعينه، ولا تقطع بشهادتك على أحد من أهل القبلة بشرك أو كفر أو نفاق؛ فإن المطلع على السرائر هو الله تعالى، فلا تدخل بين العباد وبين الله تعالى، واعلم أنك يوم القيامة لا يقال لك: لِم لمَ تلعن فلانا، ولم سكت عنه؟ بل لو لم تعلن ابليس طول عمرك، ولم تشغل لسانك بذكره لم تسأل عنه ولم تطالب به يوم القيامة. وإذا لعنت أحدا من خلق الله تعالى طولبت به، ولا تذم شيئا مما خلق الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يذم الطعام الردىء قط، بل كان إذا اشتهى شيئا أكله وإلا تركه.
السابع الدعاء على الخلق فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق الله تعالى، وإن ظلمك فكل أمره إلى الله تعالى؛ ففي الحديث: (إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه ثم يبقى للظالم فضل عنده يطالب به يوم القيامة). وطول بعض الناس لسانه على الحجّاج فقال بعض السلف: (إن الله لينتقم للحجاج ممن تعرض له بلسانه كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه).
الثامن المزاح والسخرية والاستهزاء بالناسفاحفظ لسانك منه، في الجد والهزل؛ فإنه يريق ماء الوجه ويسقط المهابة، ويستجر الوحشية، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللجاج والغضب والتصارم، ويغرس الحقد في القلوب؛ فلا تمازح أحدا؛ فإن مازحك أحد فلا تجبه، وأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وكن من الذين إذا مروا باللغو مروا كراما. فهذه مجامع آفات اللسان، ولا يعينك عليه إلا العزلة، أو ملازمة الصمت غلا بقدر الضرورة؛ فقر كان أبوبكر الصديق رضي الله تعالى عنه يضع حجرا في فيه ليمنعه ذلك من الكلام بغير ضرورة، ويشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. فاحترز منه بجهدك؛ فإنه أقوى أسباب هلاكك في الدنيا والآخرة.
آداب البطن
وأما البطن: فاحفظه من تناول الحرام والشبهة، واحرص على طلب الحلال، فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشبع، فإن الشبع يقسي القلب، ويفسد الذهن، ويبطل الحفظ، ويثقل الأعضاء عن العبادة والعلم، ويقوي الشهوات، وينصر جنود الشيطان. والشبع من الحلال مبدأ كل شر، فكيف من الحرام وطلب الحلال فريضة على كل مسلم، والعبادة مع أكل الحرام كالبناء على السرجين. فإذا قنعت في السنة بقميص خشن، وفي اليوم والليلة برغيفين من الخشكار، وتركت التلذذ بأطيب الأدم، لم يعوزك من الحلال ما يكفيك، والحلال كثير. وليس بعليك أن تتيقن بواطن الأمور، بل عليك أن تحترز مما تعلم أنه حرام أو تظن أنه حرام ظنا حصل من علامة ناجزة مقدرة بالمال؛ أما المعلوم فظاهر، وأما المظنون بعلامة فهو مال السلطان وعماله، ومال من لا كسب له إلا من النياحة، أو بيع الخمر، أو الربا، أو المزامير؛ وغير ذلك من آلات اللهو المحرمة. فإن من علمت أن أكثر ماله حرام قطعا، فما تأخذه من يده - وإن أمكن ان يكون حلالا نادرا - فهو حرام؛ لأنه الغالب على الظن. ومن الحرام المحض ما يؤكل من الأوقاف من غير شرط الواقف، فمن لم يشتغل بالتفقه فما يأخذه من المدارس حرام، ومن ارتكب معصية ترد بها شهادته، فما يأخذه باسم الصوفية من وقف أو غيره فهو حرام. وقد ذكرنا مداخل الشبهات والحلال والحرام في كتاب مفرد من كتب إحياء علوم الدين، فعليك بطلبه؛ فإن معرفة الحلال وطلبه فريضة على كل مسلم، كالصلوات الخمس.
آداب الفرج
وأما الفرج: فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالى، وكن كما قال الله: (وَالذَينَ هُم لِفُروجِهم حافِظون، إِلاّ عَلى أَزواجِهِم أَو ما مَلَكَت أَيمانُهُم غَيرُ مَلومين). ولا تصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن التفكر، وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع؛ فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها. آداب اليدين وأما اليدان: فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلما، أو تتناول بهما مالا حراما، أو تؤدي بهما أحدا من الخلق، أو تخون بهما في أمانة أو وديعة، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه.
آداب الرجلين
وأما الرجلان : فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام، أو تسعى بهما إلى باب سلطان ظالم؛ فإن المشي إلى السلاطين
الظلمة من غر ضرورة وارهاق معصية كبيرة؛ فإنه تواضع وإكرام لهم على ظلمهم. وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم في قوله تعالى: (وَلا تَركَنوا إِلى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَكُم النار) وهو تكثير لسوادهم، وإن ذلك لسبب طلب مالهم فهو سعى إلى حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لغنى صالح لغناه ذهب ثلثا دينه) وهذا في غنى صالح، فما ظنك بالغنى الظالم؟ وعلى الجملة، فحركاتك وسكناتك بأعضائك نعمة من نعم الله تعالى عليك؛ فلا تحرك شيئا منها في معصية الله تعالى أصلا، واستعملها في طاعة الله تعالى. واعلم أنك إن قصرت فعليك وباله، وإن شمرت فإليك تعود ثمرته، والله غني عنك وعن عملك، وإنما كل نفس بما كسبت رهينة، وإياك أن تقول: إن الله كريم رحيم يغفر الذنوب للعصاة؛ فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وصاحبها ملقب بالحماقة، بتلقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني).
واعلم أن قولك هذا أيضا هي قول من يريد أن يكون فقيها في علوم الدين من غير أن يدرس علما واشتغل بالبطالة وقال: إن الله كريم رحيم قادر على أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه وأوليائه من غير جهد وتكرار وتعلم وهو كقول من يريد مالا فترك الحراثة والتجارة والكسب ويتعطل، وقال: إن الله كريم رحيم وله خزائن السموات والأرض وهو قادر على أن يطلعني على كنز من كنوز أستغني به عن الكسب، فقد فعل ذلك لبعض عباده، فأنت إذا سمعت كلام هذين الرجلين استحمقتهما وسخرت منهما، وإن كان ما وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقا وحقا، فكذلك يضحك عليك أرباب البصائر في الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعى لها، والله وتعالى يقول: (وَأَن لَيسَ لِلإِنسان إِلا ما سَعى)، ويقول: (إِنَما تُجزونَ ما كُنتُم تَعملون) ويقول (إنّ الأَبرارَ لَفي نَعيم، وَإنّ الفُجارَ لَفى جَحيم). فإذا لم تكن تترك السعي في طلب العلم والمال اعتمادا على كرمه، فكذلك لا تترك التزود للآخرة، ولا تفتر؛ فإن رب الدنيا واللآخرة واحد، وهو فيهما كريم رحيم، وليس يزيد له كرم بطاعتك وإنما كرمه سبحانه وتعالى في أن ييسر لك طريق الوصول الى الملك المقيم والنعيم الدائم المخلد، بالصبر على ترك الشهوات أياما قلائل، وهذا نهاية الكرم. فلا تحدث نفسك بتهويسات البطالين، واقتد بأولى العزم والنهي من الانبياء والصالحين، ولا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع، وليت من صام وصلى وجاهد واتقى غفر له. فهذه جمل مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة، وأعمال هذه الجوارح إنما تترشح من صفات القلب؛ فإن أردت حفظ الجوارح فعليك بتطهير القلب؛ فهو تقوى الباطن، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، فاشتغل باصلاحه لتصلح به جوارحك، وصلاحه يكون بملازمة المراقبة.
القول في معاصى القلب
اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة، وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلة، وسبيل العلاج فيها غامض، وقد اندرس بالكلية علمه وعمله؛ لغفلة الخلق عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا. وقد استقصينا ذلك كله في كتاب (إحياء علوم الدين) في ربع المهلكات وربع المنجيات، ولكنا نحذرك؛ فإنها مهلكات في أنفسها، وهي أمهات لجملة من الخبائب سواها: وهي الحسد، والرياء، والعجب؛ فاجتهد في تطهير قلبك منها؛ فإن قدرت عليها فتعلم كيفية الحذر من بقيتها من ربع المهلكات. فإن عجزت عن هذا، فأنت عن غيره أعجز. ولا تظن أنك تسلم بنية صالحة في تعلم العلم، وفي قلبك شيء من الجسد والرياء والعجب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه).
الحسد
أما الحسد: فهو متشعب من الشح، فإن البخيل هو الذي يبخل بما في يده على غيره، والشحيح هوالذي يبخل بنعمة الله تعالى وهي في خزائن قدرته تعالى، لا في خزائنه، على عباد الله فشحه أعظم، والمحسود هو الذي يشق عليه إنعام الله تعالى من خزائن قدرته، على عبد من عباده بعلم أو مال أو محبة في قلوب الناس، أو حظ من الحظوظ، حتى أنه ليحب زوالها عنه، وإن لم يحصل له بذلك شيء من تلك النعمة؛ فهذا منتهى الخبث؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارالحطب). والحسود هو المعذب الذي لا يرحم، ولا يزال في عذاب دائم في الدنيا إلى موته، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر. بل لا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه، بل ينبغي ان يساهم المسلمين في السراء والضراء؛ فالمسلمون كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر الجسد. فإن كنت لا تصادف هذا من قلبك، فاشتغالك بطلب التخلص من الهلاك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات.
الرياء
وأما الرياء: فهو الشرك الخفي، وهو أحد الشركين، وذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، لتنال بها الجاه والحشمة، وحب الجاه من الهوى المتبع، وفيه هلك أكثر الناس، فما أهلك الناس إلا الناس، ولو أنصف الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضلا عن أعمال العادات، ليس يحملهم يحملهم عليه إلا مراءاة الناس، وهي محبطة للأعمال، كما ورد الخبر: (أن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار، فيقول: يا رب استشهدت في سبيلك، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال إنك شجاع، وقد قيل ذلك، وذلك أجرك - وكذلك يقال للعالم والحاج والقارىء.
العجب والكبر والفخر
وأما العجب والكبر والفخر: فهو الداء العضال، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستظام، وإلى غيره بعين الاحتقار والذل، ونتيجته على اللسان أن يقول: أنا وأنا كما قال إبليس اللعين: (أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين) وثمرته في المجالس الترفع والتقدم وطلب التصدر فيها، وفي المحاورة الاستنكاف من أن يرد كلامه عليه. والمتكبرهو الذي إن وعظ أنف، أو وعظ عنف، فكل من رأى نفسه خيرا من أحد من خلق الله تعالى فهو متكبر. بل ينبغي لك أن تعلم أن الخير من هو خير عند الله في دار الآخرة، وذلك غيب، وهو موقوف على الخاتمة؛ فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل محض، بل ينبغي ألا تنظر إلى أحد إلا وترى أنه خير منك، وأن الفضل له على نفسك، فإن رأيت صغيرا قلت: هذا لم يعص الله وأنا عصيته، فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلى، فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلي، فلا شك أنه خير مني وإن رأيت كبيرا قلت هذا قد عبد الله قبلي، فلا شك أنه خير مني.
وإن كان عالما قلت: هذا قد أعطى ما لم أعط، وبلغ ما لم أبلغ، وعلم ما جهلت؛ فكيف أكون مثله وإن كان جاهلا قلت: هذا قد عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم؛ فحجة الله على آكد، وما أدري بم يختم لي وبم يختم له؟ وإن كان كافرا قلت: لا أدري، عسى أن يسلم ويختم له بخير العمل، وينسل بإسلامه من الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين، وأما أنا - والعياذ بالله - فعسى أن يضلني الله فأكفر فيختم لي بشر العمل؛ فيكون غدا هو من المقربين، وأنا أكون من المبعدين. فلا يخرج الكبر من قلبك إلا بأن تعرف أن الكبير من هو كبير عند الله تعالى، وذلك موقوف على الخاتمة، وهي مشكوك فيه؛ فيشغلك خوف الخاتمة عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد الله تعالى، فيقينك وإيمانك في الحال لا يناقض تجويزك في الاستقبال؛ فإن الله مقلب القلوب يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. حديث جامع في معاصي القلب والأخبار في الحسد والكبر والرياء والعجب كثيرة، ويكفيك فيها حديث واحد جامع؛
فقد روى ابن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ: يا معاذ حدثني حديثا سمعنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت، ثم قال: واشوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى لقائه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: (يا معاذ، إني محدثك بحديث إن أنت حظفته نفعك عندالله، وإن ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله تعالى يوم القيامة يا معاذ إن الله تبارك وتعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، فجعل لكل سماء من السبع ملكا بوابا عليها، فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسي، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته وكثرته، فيقول الملك الموكل بها للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة، أمرني ربي ألا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري، قال: ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد له نور فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية،
فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنه أرا بعمله عرض الدنيا، أنا ملك الفخر، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نورا، من صدقة وصلا وصيام، قد أعجب الحفظة، فيجاوزون به إلى السماء الثالثة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان يتكبرى على الناس في مجالسهم، قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهو كما يزهو الكوكب الدري وله دوي من تسبيح وصلاة وصيام وحج وعمرة، حتى يجاوزا به إلى السماء الرابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وظهره وبطنه، أنا صاحب العجب، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان إذا عمل عملا أدخل العجب فيه،
قال: وتصعد الحفظة بعمل العب حتى يجاوزا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى بعلها، فيقول الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه،ن واحملوه على عاتقه، أنا ملك الحسد، إنه كان يحسد من يتعلم ويعمل بمثل عمله، وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة كان يحسدهم، ويقع فيهم، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد له ضوء كضوء الشمس، من صلاة وزكاة وحج وعمرة وجهاد وصيام، فيجاوزون به إلى السماء السادسة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه؛ إنه كان لا يرحم إنسانا قد من عباد الله أصابه بلاء أو مرض، بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صوم وصلاة ونفقة وجهاد وورع، له دوي كدوى النحل، وضوء كضوء الشمس، ومعه ثلاثة آلاف ملك، فيجاوزون به إلى السماء السابعة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا، واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واضربوا جوارحه واقفلوا به على قلبه، أنا صاحب الذكر، فإني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي؛ إنه إنما أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد به رفعة عند الفقهاء، وذكرا عند العلماء، وصيتا في المدائن، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم يكن لله تعالى خالصا فهو رياء، ولا يقبل الله عمل المرائي..
قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله تعالى، فتشيعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله تعالى، فتشيعه ملائكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله تعالى، فيقفون بين يديه، ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله تعالى، فيقول الله تعالى: أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه؛ إنه لم يردني بهذا العمل، وإنما أراد به غيري، فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا، فتلعنه السموات السبع ومن فيهن) ثم بكى معاذ، وانتحب انتحابا شديدا، وقال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معا، فكيف لي بالنجاة والخلاص من ذلك؟ قال: (اقتد بي وإن كان في عملك نقص، يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن خاصة، واحمل ذنوبك عليك، ولا تحملها عليهم، ولا تزل نفسك بذمهم، ولا ترفع نفسك عليهم، ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة، ولا تراء بعملك، ولا تتكبر في مجلسك، لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلا وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فتنقطع عنك خيرات الدنيا والآخرة، ولا تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار،
قال الله تعالى: (وَالناشِطاتِ نَشطا)، هل تدري من هن يا معاذ؟، قلت: ما هن - بأبي أنت وأمي - يا رسول الله ؟ قال: (كلاب في النار تنشط اللحم من العظم)، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، من يطيق هذه الخصال ونمن ينجو منها؟ قال: (يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، إنما يكفيك من ذلك أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، فإذن أنت يا معاذ قد سلمت). قال خالد بن معدان: فما رأيت أحدا أكثر تلاوة للقرآن العظيم من معاذ لهذا الحديث العظيم. فتأمل أيها الراغب في العلم هذه الخصال، واعلم أن أعظم الاسباب في رسوخ هذه الخبائث في القلب: طلب العلم لأجل المباهاة والمنافسة، فالعامي بمعزل عن اكثر هذه الخصال،والمتفقه مستهدف لها، وهو متعرض للهلاك بسببها؛ فانظر آي أمورك أهم، أتتعلم كيفية الحذر من هذه المهلكات، وتشتغل بإصلاح قلبك وعمارة آخرتك؟ أم الأهم أن تخوض مع الخائضين، فتطلب من العلم ما هو سبب زيارة الكبر والرياء والحسد والعجب، حتى تهلك مع الهالكين.
واعلم أن هذه الخصال الثلاث من أمهات خبائث القلب، ولها مغرس واحد، وهو حب الدنياي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)، ومع هذا فالدنيا مزرعة للآخرة فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة، ليستعين بها على الآخرة، فالدنيا مزرعته؛ ومن أراد الدنيا ليتنعم بها، فالدنيا مهلكته. فهذه نبذة يسيرة من ظاهر علم التقوى، وهي بداية الهداية، فإن جربت بها نفسك وطاوعتك عليها، فعليك بكتاب (إحياء علوم الدين) لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى. وإن كنت تطلب العلم من القيل والقال، والمراء والجدال، فما أعظم مصيبتك وما أطول تعبك وما أعظم حرمانك وخسرانك! فاعمل ما شئت؛ فإن الدينا التي تطلبها بالدين لا تسلم لك، والآخرة تسلب منك؛ن فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما جميعا، ومن ترك الدنيا للدين ربحهما جميعا. فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك، فعند ذلك ترتفع الحجب بينك وبين ربك، وتنكشف لك أنوار المعارف، وتنفجر من قلبك ينابيع الحكم، وتتضح لك أسرار الملك والملكة، ويتسير لك من العلوم ما تستحقر به هذه العلوم المحدثة التي لم يكن لها ذكر في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. فهذه جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بأداء أوامره واجتناب نواهيه، وأشير عليك الآن بجمل من الآداب لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع عباد الله تعالى وصحبتك معهم في الدنيا.
القسم الثالث القول في آداب الصحبة
آداب الصحبة مع الله تعالى
اعلم أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك وسفرك ونومك ويقظتك، بل في حياتك وموتك، هو ربك وسيدك ومولاك وخالقك، ومهما ذكرته فهو جليسك؛ إذ قال الله تعالى: (أنا جليس من ذكرين). ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك، فهو صاحبك وملازمك؛ إذ قال الله تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي). فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحبا وتركت الناس جانبا. فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك، فإياك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه لمولاك وتتلذذ معه بمناجاتك له، وعند ذلك فعليك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله تعالى. وآدابها: إطراق الرأس، وغض الطرف، وجمع الهم، ودوام الصمت، وسكون الجوارح، ومبادرة الأمر، واجتناب النهي، وقلة الاعتراض على القدر، ودوام الذكر، وملازمة الفكر، وإيثار الحق على الباطل، والإياس عن الخلق، والخضوع تحت الهيبة والانكسار تحت الماء، والسكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان والتوكل على فضل الله تعالى معرفة بحسن الاختيار. وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك ونهارك؛ فإنها آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك.
آداب العالمين
إن كنت عالما، فآداب العالم: الاحتمال، ولزوم الحلم، والجلوس بالهيبة على سمت الوقار مع إطراق الرأس، وترك التكبر على جميع العباد إلا على الظلمة زجرا لهم عن الظلم، وإيثارا للتواضع في المحافل والمجالس، وترك الهزل والدعابة، والرفق بالمتعلم، والتأني بالمتعجرف، وإصلاح البليد بحسن الارشاد، وترك الحرد عليه، وترك الأنفه من قول: (لا أدري) وصرف الهمة إلى السائل وتفهم سؤاله، وقبول الحجة، والانقياد للحق، والرجوع إليه عند الهفوة، ومنع المتعلم عن كل علم يضره، وزجره عن أن يريد بالعلم النافع غير وجه الله تعالى، وصد المتعلم عن أن يشتغل بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين.. وفرض عينه إصلاح ظاهره وباطنه بالتقوى، ومؤاخذه نفسه أولا بالتقوى ليقتدي المتعلم أولا بأعماله، ويستفيد ثانيا من أقواله.
آداب المتعلمين
إن كنت متعلما، فآداب المتعلم مع العالم: أن يبدأه بالتحية والسلام، وأن يقلل بين يديه الكلام، ولا يتكلم ما لم يسأله أستاذه، ولا يسأل ما لم يستأذن أولا، ولا يقول في معارضة قوله: قال فلان بخلاف ما قلت، ولا يشير عليه بخلاف رأيه فيرى أنه أعلم بالصواب من أستاذه، ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يلتفت إلى الجوانب، بل يجلس مطرقا ساكنا متآدبا كأنه في الصلاة، ولا يكثر عليه السؤال عند ملله، وإذا قام قام له، ولا يتبعه بكلامه وسؤاله، ولا يسأله في طريقه إلى أن يبلغ إلى منزله، ولا يسىء الظن به في أفعال ظاهرها منكرة عنده، فهو أعلم بأسراره، وليذكر عند ذلك قول موسى للخضر - عليهما السلام: (أَخَرَقتًها لِتُغرِقَ أَهلَها، لَقَد جِئتَ شَيئاً إمرا)، وكونه مخطئا في إنكاره اعتمادا على الظاهر.
آداب الولد مع الوالدين
وإن كان لك والدان، فآداب الولد مع الوالدين: أن يسمع كلامهما، ويقوم لقيامهما؛ ويمتثل لأمرهما، ولا يمشي أمامهما، ولا يرفع صوته فوق أصواتهما، ويلبي دعوتهما، ويحرص على مرضاتهما، ويخفض لهما جناح الذل، ولا يمن عليهما بالبر لهما ولا بالقيام لأمرهما، ولا ينظر إليهما شذراً، ولا يقطب وجهه في وجههما، ولا يسافر إلا بإذنهما. أصناف الناس في العلاقة بالمرءواعلم أن الناس بعد هؤلاء في حقك ثلاثة أصناف: إما أصدقاء، وإما معاريف، وإما مجاهيل. آداب العلاقة بالعوام المجهولين فإن بليت بالعوام المجهولين، فآداب مجالستهم: ترك الخوض في حديثهم، وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم، والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم، والاحتراز عن كثرة لقائهم والحاجة إليهم، والتنبيه على منكراتهم باللطف والنصح عند رجال القبول منهم.
آداب العلاقة بالاخوان والأصدقاء
وأما الإخوان والاصدقاء فعليك فيهم وظيفتان:
الوظيفة الأولى شروط الصحبة والصداقة
شروط الصحبة والصداقةإحداهما: أن تطلب أولا شروط الصحبة والصداقة، فلا تؤاخ إلا من يصلح للاخوة والصداقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). فإذا طلبت رفيقا ليكون شريكك في التعلم، وصاحبك في أمر دينك ودنياك، فراع فيه خمس خصال: الأولى: العقل: فلا خير في صحبة الأحمق، فإلى الوحشة والقطيعة يرجع آخرها، وأحسن أحواله أن يضرك وهو يريد أن ينفعك، والعدو العاقل خير من الصديق الأحمق، قال علي رضي الله عنه: فَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ ... وَإِياكَ وَإِياهُ فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليماً حِينَ آَخاهُ يُقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ ... إذا ما المَرءُ ماشاهُ كَحَذو النَعلِ بِالنَعلِ ... إِذا مالنَعلُ حاذاهُ وَلِلشَىء مِنَ الشَىء ... مَقاييِسُ وَأَشباهُ وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حِينَ يَلقاهُ
الثانية: حسن الخلق: فلا تصحب من ساء خلقه، وهو الذي لا يملك نفسه عند الغضب والشهوة. وقد جمعه علقمة العطاردي رحمه الله تعالى في وصيته لابنه لما حضرته الوفاة، قال: يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك.. اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها. اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإن حاولت أمرا أمرك، وإن تنازعتما في شر آثرك. وقال علي رضي الله عنه رجزا: إِن أخاكَ الحَقُ مَن كانَ مَعَك ... وَمَن يَضر نَفسه لِيَنفَعَك وَمَن إِذا ريبَ الزَمانُ صَدعَكَ ... شَتَتَ فيك شَملَهُ لِيَجمَعَك
الثالثة: الصلاح: فلا تصحب فاسقا مصرا على معصية كبيرة، لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله، بل يتغير بتغير الأحوال والأعراض، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطا). فاحذر صحبة الفاسق؛ فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية، وتهون عليك أمرها، ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها، ولو رأو خاتما من ذهب أو ملبوسا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه، والغيبة أشد من ذلك.
الرابعة: ألا يكون حريصا على الدنيا: فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري فمجالسه الحريص تزيد في حرصك، ومجالسه الزاهد تزيد في زهدك.
الخامسة: الصدق: فلا تصحب كذابا، فإنك منه على غرور، فإنه مثل السراب، يقرب منك البعيد، ويبعد منك القريب. ولعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس والمساجد، فعليك بأحد أمرين: إما العزلة والانفراد؛ ففيها سلامتك.. وإما أن تكون مخالطتك مع شركائك بقدر خصالهم، بأن تعلم أن الاخوة ثلاثة:
أخ لآخرين فلا تراع فيه إلا الدين،
وأخ لدنياك فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن،
وأخ لتأنس به فلا تراع فيه إلا السلامة من شره وفتنته وخبثه.
والناس ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط، ولكن العبد قد يتسلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع؛ فتجب مداراته إلى الخلاص منه، وفي مشاهدته فائدة عظيمة إن وفقت لها، وهو أن تشاهد من خبائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه فتجتنبه؛ فالسعيد من وعظ بغيره، والمؤمن مرآة المؤمن، وقيل لعيسى عليه السلام: من أدبك؟ فقال: ما أدبني أحد، ولكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته. ولقد صدق - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم لكملت آدابهم واستغنوا عن المؤدبين.
الوظيفة الثانية مراعاة حقوق الصحبة
فمهما انعقدت الشركة، وانتظمت بينك وبين شريكك الصحبة، فعليك حقوق يوجبها عقد الصحبة، وفي القيام بها آداب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى)، ودخل صلى الله عليه وسلم أجدمعة، فاجتنى منها سواكين، أحدهما معوج، والآخر مستقيم، وكان معه بعض أصحابه، فأعطاه المستقيم، وأمسك لنفسه المعوج، فقال: يارسول الله أنت أحق مني بالمستقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب يصحب صاحبا ولو ساعة من نهار إلا وسئل عن صحبته، هل أقام فيها حق الله تعالى أو أضاعه). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما اصطحب اثنان قط إلا وكان أحبهما إلى الله تعالى أرفقهما بصاحبه).
وآداب الصحبة: الايثار بالمال، فإن لم يكن هذا فبذل الفضل من المال عند الحاجة، والإعانة بالنفس في الحاجات، على سبيل المبادرة من غير احواج إلى التماس، وكتمان السر، وستر العيوب، والسكوت على تبليغ ما يسوؤه من مذمة الناس إياه، وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه، وحسن ا لإصغاء عند الحديث، وترك المماراة فيه، وأن يدعوه بأحب أسمائه إليهس، وأن ثني عليه بما يعرف من محاسنه، وأن يشكره على صنيعه في وجهه، وأن يذب عنه في غيبته إذا تعرض لعرضه كما يذب عن نفسه، وأن ينصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه، وأن يعفو عن زلته وهفوته، ولا يعتب عليه، وأن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته، وأن يحسن الوفاء مع أهله وأقاربه بعد موته، وأن يؤثر التخفيف عنه، فلا يكلفه شيئا من حاجاه، فيروح سره من مهماته، وأن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مساره، والحزن على نياله من مكارهه، وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهره، فيكون صادقا في وده سرا وعلانية، وأن يبدأه بالسلام عند إقباله، وأن يوسع له في المجلس ويخرج له من مكانه، وأن يشيعه عند قيامه، وأن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من كلامه، ويترك المداحلة في كلامه. وعلى الجملة، فيعامله بما يحب أن يعامل به، فمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأخوته نفاق، وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة. فهذا أدبك في حق العوام المجهولين، وفي حق الأصدقاء المؤاخين.
آداب العلاقة بالمعارف
وأما القسم الثالث، وهم المعارف: فاحذر منهم؛ فإنك لا تر الشر إلا ممن تعرفه، أم الصديق فيعينك، وأما المجهول فلا يتعرض لك، وإنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم. فأقلل من المعارف ما قدرت، فإذا بليت بهم في مدرسة أو مسجد أو جامع أو سوق أو بلد، فيجب ألا تستصغر منهم أحدا؛ فإنك لا تدري لعله خير منك، ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فتهلك، لأن الدنيا صغيرة عند الله تعالى، صغير ما فيها. ومهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين الله تعالى، وإياك أن تبذل لهم دينك لتنال به من دنياهم؛ فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم ثم حرم ما عندهم. وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة؛ فإنك لا تطيق الصبر على مكافأتهم، فيذهب دينك في عداوتهم، ويطول عناؤك معهم، ولا تسكن إليهم في حال إكرامهم إياك وثنائهم عليك في وجهك وإظهارهم المودة لك؛ فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة واحداً، ولا تطمع أن يكونوا لك في السر والعلن واحد، ولا تتعجب إن ثلبوك في غيبتك ولا تغضب منه؛ فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك، حتى في أصدقائك وأقاربك، بل في أستاذك ووالديك؛ فإنك تذكرهم في الغيبة بما لا تشافههم به، فاقطع طمعك عن مالهم وجاههم ومعونتهم؛ فإن الطامع في الأكثر خائب في المال، وهو ذليل لا محالة في الحال.
وإذا سألت واحدا حاجة فقضاها، فاشكر الله تعالى واشكره، وإن قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فتصير عدواة له، وكن كالمؤمن يطلب المعاذير، ولا تكن كالمنافق يطلب العيوب، وقل لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه. ولا تعظن أحدا منهم ما لم تتوسم فيه أو مخايل القبول، وإلا لم يستمع منك وصار خصما عليك، إذا أخطئوا في مسألة، وكانوا يأنفون من التعلم منك، فلا تعلمهم؛ فلا تعلمهم؛ن فإنهم يستفيدون منك علما ويصبحون لك أعداء، إلا إذا تعلق ذلك بمعصية يقارفونها عن جهل منهم، فاذكر الحق بلطف من غير عنف. وإذا رأيت منهم كرامة وخيرا، فاشكر الله الذي حببك إليهم. وإذا رأيت منهم شرا، فكلهم إلى الله تعالى، واستعذ بالله من شرهم، ولا تعاتبهم، ولا تقل لهم: لمِ لَم تعرفوا حقي؛ وأنا فلان بن فلان، وأنا الفاضل في العلوم؟ فإن ذلك من كلام الحمقى، وأشد الناس حماقة من يزكي نفسه ويثني عليها.
واعلم أن الله تعالى لا يسلطهم عليك إلا بذنب سبق منك، فاستغفر الله من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة من الله تعالى. وكن فيما بينهم سميعا لحقهم، أصم عن باطلهم، نطوفا بمحاسنهم، صموتا عن مساويهم، واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال. واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك - لحسدهم - ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامرون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم، حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة، يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرضون عليك الإخوان بالنميمة والبلاغات والبهتان، إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب. هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم، إلا من عصمه الله تعالى؛ فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان.
هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة؟ قال القاضي ابن معروف رحمه الله تعالى:
فَاحذَر عَدوكَ مَرَة ... وَاحذَر صَديقَكَ أَلفَ مَرَة
فَلَرُبَما اِنقَلَبَ الصَديقُ ... فَكانَ اَعرَف بِالمَضَرَة
وكذلك قال أبو تمام:
عَدوُكَ مِن صَديقِكَ مُستَفاد ... فَلا تَستَكثرِنَ مِنَ الصَحابِ
فَإِنّ الدَاءَ أَكثَرَ ما تَراهُ ... يَكون مِنَ الطَعامِ أو الشَرابِ
وكن كما قال هلال بن العلاء الرقى:
لَما عَفوتَ وَلَم أَحقِد عَلى أَحد ... أَرحتَ نَفسى مِن هُم العَداواتِ
إِني أَحيى عَدوى عِندَ رُؤيَتِهِ ... لأَدفَعَ الشَرَ عَنى بِالتَحياتِ
وَأَظهَر البَشَر لِلإِنسانِ أَبغُضُهُ ... كَأَن قَد مَلا قَلبى مَرات
وَلسَت أَسلَمَ مِمَن لَستَ أَعرِفُهُ ... فَكَيفَ أَسلَم مِن أهلِ المَوَداتِ
الناسُ دَاء دَواءِ الناسِ تَركُهُم ... وَفي الجَفاءِ لَهُم قِطَعُ الأَخواتِ
فَسالِم الناسَ تَسلَم مِن غوائِلِهِم ... وَكُن حَريصاً عَلى كَسبِ التقياتِ
وَخالِق الناسَ وَاصبِر ما بُلَيتَ بِهِم ... اَصَمٌ اَبكَمٌ اَعمى ذا تقيات
وكن أيضا كما قال بعض الحكماء: الق صديقك وعدوك بوجه الرضا، من غير مذلة لهما ولا هيبة منهما، وتوقر من غير كبر، وتواضع من غير مذلة، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فكلا طرفى قصدن الأمور ذميم، كما قيل:
عَلَيكَ بِأَوساطِ الأَمورِ فإِنّها ... طَريقٌ إِلى نَهجِ الصِراط قَويمُ
وَلا تَكُ فيها مُفرَطا أَو مُفرَطا ... فَإِنّ كُلا حالِ الأُمورِ ذميمُ
ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر إلى وارئك الالتفات، ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تستوفز، وتحفظ من تشبيك أصابعك، وكثرة بصاقك ونخمك، وطر الذباب عن وجهك، وكثرة التمطى والتثاؤب في وجوه الناس في الصلاة وغيرها، وليكن مجلسك هادئا، وحديثك منظوما مرتبا، واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط، ولا تسأله إعادته، واسكت عن المضاحك والحكايات، ولا تحدث عن إعجابك بولدك وشعرك وكلامك وتصنيفك وسائر ما يخصك، ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين، ولا تتبذل تبذل العبد، وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن، ولا تلح في الحاجات، ولا تشجع أحداً على الظلم، ولا تعلم أحدا من أهلك وولدك فضلا عن غيرهم مقدار مالك؛ واجفهم من غير عنف، ولن لهم من غير ضعف، ولا تهازل أمتك ولا عبدك، فيسقط وقارك من قلوبهم، وإذا خاصمت فتوقر، وتحفئ من جهلك وعجلتك، وتفكر في حجتك، ولا تكثر الاشارة بيدك، ولا تكثر الالتفاف إلى من ورائك ولا تجث على ركبتيك، وإذا هدأ غضبك فتكلم. وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان، وإياك وصديق العافية؛ فإنه أعدى الأعداء، ولا يجعل مالك أكرم من عرضك.
فهذا القدر يافتى يكفيك من بداية الهداية، فجرب بها نفسك؛ فإنها ثلاثة أقسام: قسم آداب الطاعات، وقسم في ترك المعاصي، وقسم في مخالطة الخلق، وهي جامعة لجمل معاملة العبد مع الخالق والخلق.
فإن رأيتها مناسبة لنفسك، ورأيت قلبك مائلا إليها راغبا في العمل بها، فاعلم أنك عبد نوَّر الله تعالى بالإيمان قلبك، وشرح به صدرك، وتحقق أن لهذه البداية نهاية، ووراءها أسرارا وأغوارا ومكاشفات، وقد أودعناها كتاب (إحياء علوم الدين)؛ فاشتغل بتحصيله.
وإن رأيت نفسك تستثقل العمل بهذه الوظائف، وتنكر هذا الفن من العلم، وتقول لك نفسك: أنى ينفعك هذا العلم في محافل العلماء، ومتى يقدمك هذا على الأقران والنظراء؟! وكيف يرفع منصبك في مجالس الأمراء والوزراء؟ وكيف يوصلك إلى الصلة والأرزاق وولاية الأوقاف والقضاء؟ فاعلم أن الشيطان قد أغواك وأنساك متقلبك ومثواك، فاطلب لك شيطانا مثلك، ليعملك ما تظن أنه ينفعك ويوصلك إلى بغيتك. ثم أنه قط لا يصفو لك الملك في محلتك، فضلا عن قريتك وبلدتك، ثم يفوتك الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.