علم مصطلح الحديث للإمام النووي
حديث الموضوع >> التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث للنووي
المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي
محتويات
- النوع الثاني عشر: التدليس
- النوع الثالث عشر: الشاذ
- النوع الرابع عشر: معرفة المنكر
- النوع الخامس عشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد
- النوع السادس عشر: معرفة زيادات الثقات وحكمها
- النوع السابع عشر: معرفة الإفراد
- النوع الثامن عشر: المعلّل
- النوع التاسع عشر: المضطرب
- لنوع العشرون: المدرج
- النوع الحادي والعشرون: الموضوع
- النوع الثاني والعشرون: المقلوب
- النوع الثالث والعشرون: صفة من تقبل روايته وما يتعلق به
- النوع الرابع والعشرون: كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه
النوع الثاني عشر: التدليس
وهو قسمان.
الأول: تدليس الإسناد بأن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهماً سماعه قائلاً: قال فلان. أو عن فلان ونحوه وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره ضعيفاً أو صغيراً تحسيناً للحديث.
الثاني: تدليس الشيوخ بأن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف، أما الأول فمكروه جداً ذمه أكثر العلماء، ثم قال فريق منهم: من عرف به صار مجروحاً مردود الرواية وإن بين السماع، والصحيح التفصيل، فما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع فمرسل وما بينه فيه، كسمعت، وحدثنا، وأخبرنا وشبهها فمقبول محتج به، وفي الصحيحين وغيرهما من هذا الضرب كثير، كقنادة، والسفيانين وغيرهم، وهذا الحكم جار فيمن دلس مرة، وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين بعن محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وأما الثاني فكراهته أخف وسببها توعير طريق معرفته، ويختلف الحال في كراهته بحسب غرضه ككون المغير السمة ضعيفاً، أو صغيراً، أو متأخر الوفاة، أو سمع كثيراً فامتنع من تكراره على صورة، وتسمح الخطيب وغيره بهذا، والله أعلم.
النوع الثالث عشر: الشاذ
هو عند الشافعي وجماعة من علماء الحجاز ما روى الثقة مخالفاً رواية الناس لا أن يروي ما لا يروي غيره، قال الخليلي: والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غيره، فما كان من غير ثقة فمتروك، وما كان عن ثقة توقف فيه ولا يحتج به، وقال الحاكم: هو ما انفرد به ثقة وليس له أصل بمتابع، وما ذكراه مشكل بافراد العدل الضابط كحديث "إنما الأعمال بالنيات" والنهي عن بيع الولاء وغير ذلك مما في الصحيح، فالصحيح التفصيل فإن كان مفرده مخالفاً أحفظ منه وأضبط كان شاذ مردود، وإن لم يخالف، فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بضبطه كان مفرده صحيحاً، وإن لم يوثق بضبطه ولم يبعد عن درجة الضابط كان حسناً، وإن بعد كان شاذاً منكراً مردوداً، فالحاصل أن الشاذ المردود: هو الفرد المخالف، والفرد الذي ليس في رواية من الثقة والضبط ما يجبر تفرده، والله أعلم.
النوع الرابع عشر: معرفة المنكر
قال الحافظ البرديحي هو الفرد الذي لا يعرف متنه عن غير راويه، وكذا أطلقه كثيرون، والصواب فيه التفصيل الذي تقدم في الشاذ، فإنه بمعناه، والله أعلم.
النوع الخامس عشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد
هذه أمور يتعرفون بها حال الحديث، فمثال الاعتبار: أن يروي حماد مثلاً حديثاً لا يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر هل رواه ثقة غير أيوب عن ابن سيرين، فإن لم يوجد فثقة غير ابن سيرين عن أبي هريرة وإلا فصحابي غير أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأي ذلك وجد علم أن له أصلاً يرجع إليه، وإلا فلا. والمتابعة أن يرويه عن أيوب غير حماد وهي المتابعة التامة، أو عن ابن سيرين غير أيوب، أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابي آخر. فكل هذا يسمى متابعة، وتقصر على الأولى بحسب بعدها منها، وتسمى المتابعة شاهداً، والشاهد أن يروى حديث آخر بمعناه، وى يسمى هذا متابعة، وإذا قالوا في مثله تفرد به أبو هريرة أو ابن سيرين أو أيوب أو حماد كان مشعراً بانتفاء المتابعات، وإذا انتفت مع الشواهد فحكمه ما سبق في الشاذ، ويدخل في المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج به ولا يصلح لذلك كل ضعيف، والله أعلم.
النوع السادس عشر: معرفة زيادات الثقات وحكمها
هو فن لطيف تستحسن العناية به، ومذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين قبولها مطلقاً، وقيل: لا تقبل مطلقاً، وقيل تقبل إن زادها غير من رواه ناقصاً ولا تقبل ممن رواه مرة ناقصاً، وقسمه الشيخ أقساماً.
أحدها: زيادة تخالف الثقات كما سبق.
الثاني: ما لا مخالفة فيه كتفرد ثقة بجملة حديث فيقبل، قال الخطيب:باتفاق العلماء.
الثالث: زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر رواته كحديث "جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا" تفرد أبو مالك الأشجعي فقال: "وتربتها طهوراً" فهذا يشبه الأول ويشبه الثاني، كذا قال الشيخ والصحيح قبول هذا الأخير، ومثله الشيخ أيضاً بزيادة مالك في حديث الفطرة "من المسلمين" ولا يصح التمثيل به فقد وافق مالكاً عمر بن نافع، والضحاك بن عثمان، والله أعلم.
النوع السابع عشر: معرفة الإفراد
تقدم مقصوده، فالمفرد قسمان.
أحدهما: فرد عن جميع الرواة وتقدم.
الثاني: بالنسبة إلى جهة كقولهم: تفرد به أهل مكة والشام، أو فلان عن فلان أو أهل البصرة عن أهل الكوفة وشبهه، ولا يقتضي هذا ضعفه إلا أن يراد بتفرد المدنيين إنفراد واحد منهم فيكون كالقسم الأول، والله أعلم.
النوع الثامن عشر: المعلّل
ويسمونه المعلول وهو لحن، وهذا النوع من أجلها، يتمكن منه أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، والعلة عبارة عن سبب غامض قادح مع أن الظاهر السلامة منه، ويتطرق إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهراً وتدرك بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنبه العارف على وهم بإرسال أو وقف أو دخول حديث في حديث أو غير ذلك بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف، والطريق إلى معرفته جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته، وضبطهم، وإتقانهم، وكثرة التعليل بالإرسال بأن يون راويه أقوى ممن وصل وتقع العلة في الإسناد وهو الأكثر، وقد تقع في المتن، وما وقع في الإسناد قد يقدح فيه وفي المتن كالإرسال والوقف، وقد يقدح في الإسناد خاصة ويكون المتن معروفاً صحيحاً كحديث يعلى بن عبيد الثوري عن عمرو بن دينار حديث "البيعان بالخيار" وغلط يعلى إنما هو عبد الله بن دينار، وقد تطلق العلة على غير مقتضاها الذي قدمناه، ككذب الراوي، وغفلته، وسوء حفظه، ونحوها من أسباب ضعف الحديث، وسمي الترمذي النسخ علة، وأطلق بعضهم العلة على مخالفة لا تقدح كإرسال ما وصله الثقة الضابط حتى قال: من الصحيح صحيح معلل كما قيل: منه صحيح شاذ، والله أعلم.
النوع التاسع عشر: المضطرب
هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة، فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه، أو غير ذلك: فالحكم للراجحة، ولا يكون مضطرباً، والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعدم الضبط، ويقع في الإسناد تارة وفي المتن أخرى وفيهما من راو أو جماعة: والله أعلم.
النوع العشرون: المدرج
هو أقسام.
أحدها:مدرج في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأن يذكر الراوي عقيبه كلاماً لنفسه أو لغيره فيرويه من بعده متصلاً فيتوهم أنه من الحديث.
الثاني: أن يكون عنده متنان بإسنادين فيرويهما بأحدهما.
الثالث: أن يسمع حديثاً من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه فيرويه عنهم باتفاق، وكله حرام، وصنف فيه الخطيب كتاباً شفى وكفى والله أعلم.
النوع الحادي والعشرون: الموضوع
هو المختلق المصنوع وشر الضعيف، ويحرم روايته مع العلم به في أي معنى كان إلا مبيناً، ويعرف الوضع بإقرار واضعه أو معنى إقراره، أو قرينة في الراوي أو المروي، فقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة لفظها ومعانيها، وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلدين، أعني أبا الفرج بن الجوزي، فذكر كثيراً مما لا دليل على وضعه، بل هو ضعيف والواضعون أقسام أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة في زعمهم، فقلبت موضوعاتهم ثقة بهم، وجوزت الكرامية الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خلاف إجماع المسلمين الذين يعتد بهم، ووضعت الزنادقة جملاً فبين جهابذة الحديث أمرها ولله الحمد، وربما أسند الواضع كلاماً لنفسه أو لبعض الحكماء، وربما وقع في شبه الوضع بغير قصد، ومن الموضوع الحديث المروي عن أبي بن كعب في فضل القرآن سورة سورة، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين، والله أعلم.
النوع الثاني والعشرون: المقلوب
هو نحو حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع ليرغب فيه، وقلب أهل بغداد على البخاري مائة حديث امتحاناً فردها على وجهها فأذعنوا بفضله، والله أعلم.
فرع
إذا رأيت حديثاً بإسناد ضعيف فلك أن تقول: هو ضعيف بهذا الإسناد ولا تقلا ضعيف المتن لمجرد ضعف ذلك الإسناد إلا أن يقول إمام أنه لم يرو من وجه صحيح أو أنه حديث ضعيف مفسراً ضعفه، فإن أطلق ففيه كلام يأتي قريباً، وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وما أشبهه من صيغ الجزم، بل قل: روى كذا أو بلغنا كذا أو ورد أو جاء أو نقل أو ما أشبهه، وكذا ما يشك في صحته، ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف والعمل به من غير بيان ضعفه في غير صفات الله تعالى والأحكام كالحلال والحرام وغيرهما وذلك كالقصص، وفضائل الأعمال، والمواعظ وغيرها مما لا تعلق له بالعقائد والأحكام، والله أعلم.
النوع الثالث والعشرون: صفة من تقبل روايته وما يتعلق به
فيه مسائل:
إحداها: أجمع المشاهير من أئمة الحديث والفقه أنه يشترط فيه أن يكون عدلاً ضابطاً بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً سليماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة متيقظاً، حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدث منه، عالماً بما يخيل المعنى إن روى به.
الثانية: تثبت العدالة بتنصيص عدلين عليها أو بالاستفاضة فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بها كفى فيها، كمالك، والسفيانين، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأشباههم وتوسع ابن عبد البر فيه فقال: كل حامل علم معروف العناية به محمول أبداً على العدالة حتى يبين جرحه، وقوله هذا غير مرضي.
الثالثة: يعرف ضبطه بموافقته الثقات المتقنين غالباً ولا تضر مخالفته النادرة فإن كثرت اختل ضبطه ولم يحتج به.
الرابعة: يقبل التعديل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور، ولا يقبل الجرح إلا مبين السبب، وأما كتب الجرح والتعديل التى لا يذكر فيها سبب الجرح ففائدتها التوقف فيمن جرحوه فإن بحثنا عن حاله وانزاحت عنه الريبة، وحصلت الثقة به قبلنا حديثه كجماعة في الصحيحين بهذه المثابة.
الخامسة: الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد، وقيل لا بد من اثنين، وإذا اجتمع فيه جرح وتعديل فالجرح مقدم، وقيل إن زاد المعدلون قدم التعديل، وإذا قال: حدثني الثقة أو نحوه لم يكتف به على الصحيح، وقيل يكتفي فإن كان القائل عالماً كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين، وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلاً عند الأكثرين وهو الصحيح، وقيل هو تعديل وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكماً بصحته ولا مخالفته قدح في صحته ولا في راويه، والله أعلم.
السادسة: رواية مجهول العدالة ظاهراً وباطناً لا تقبل عند الجماهير. ورواية المستور وهو عدل الظاهر خفي الباطن يحتج بها بعض من رد الأول وهو قول بعض الشافعيين. قال الشيخ: يشبه أن يكون العمل على هذا في كثير من كتب الحديث في جماعة من الرواة تقادم العهد بهم وتعذرت خبرتهم باطناً، وأما مجهول العين فقد لا يقبله بعض من يقبل مجهول العدالة، ثم من روى عنه عدلان عيناه ارتفعت جهالة عينه، قال الخطيب: المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء، ولا يعرفه حديثه إلا من جهة واحدة، وأقل ما يرفع الجهالة رواية اثنين مشهورين، ونقل ابن عبد البر عن أهل الحديث نحوه. قال الشيخ رداً على الخطيب: قد روى البخاري عن مرداس الأسلمي، ومسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنهما غير واحد، والخلاف في ذلك متجه كالاكتفاء بتعديل واحد والصواب نقل الخطيب ولا يصح الرد عليه بمرداس وربيعة فإنهما صحابيان مشهوران والصحابة كلهم عدول.
فرع
يقبل تعديل العبد والمرأة العارفين، ومن عرفت عينه وعدالته وجهل اسمه احتج به، وإذا قال أخبرني فلان أو فلان وهما عدلان احتج به، فإن جهل عدالة أحدهما أو قال فلان أو غيره لم يحتج به.
السابعة: من كفر ببدعة لم يحتج به بالاتفاق ومن لم يكفر قيل لا يحتج به مطلقاً، وقيل يحتج به إن لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، وحكي عن الشافعي وقيل يحتج به إن لم يكن داعية إلى بدعته، ولا يحتج به إن كان داعية، وهذا هو الأظهر الأعدل، وقول كثير أو الأكثر وضعف الأول باحتجاج صاحبي الصحيحين وغيرهما بكثير من المبتدعة غير الدعاة.
الثامنة: تقبل رواية التائب من الفسق إلا الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقبل أبداً وإن حسنت طريقه، كذا قال أحمد بن حنبل، والحميدي شيخ البخاري، والصيرفي الشافعي، قال الصيرفي: كل من أسقطنا خبره بكذب لم نعد لقبوله بتوبة ومن ضعفناه لم نقوه بعده بخلاف الشهادة، وقال السمعاني: من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، قلت وكل ذلك مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا ولا يقوى الفرق بينه وبين الشهادة.
التاسعة: إذا روى حديثاً ثم نفاه المسمع فالمختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال ما رويته ونحوه وجب رده ولا يقدح في باقي روايات الراوي عنه. فإن قال: لا أعرفه أو لا أذكره أو نحوه لم يقدح فيه ومن روى حديثاً ثم نسيه جاز العمل به على الصحيح، وهو قول الجمهور من الطوائف خلافاً لبعض الحنفية؛ ولا يخالف هذا كراهة الشافعي وغيره الرواية عن الأحياء، والله أعلم.
العاشرة: من أخذ على التحديث أجراً لا تقبل روايته عند أحمد، وإسحاق، وأبي حاتم، وتقبل عند أبي نعيم الفضل، وعلي بن عبد العزيز، وآخرين. وأفتى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجوازها لمن امتنع عليه الكسب لعياله بسبب التحديث.
الحادية عشرة: لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماعه أو أسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في السماع، أو يحدث لا من أصل مصحح، أو عرف بقبول التلقين في الحديث أو كثرة السهو في روايته إذا لم يحدث من أصل، أو كثرت الشواذ والمناكير في حديثه، قال ابن المبارك، وأحمد، والحميدي، وغيرهم: من غلظ في حديث فبين له فأصر على روايته سقطت رواياته. وهذا صحيح إن ظهر أنه أصر عناداً أو نحوه.
الثانية عشرة: أعرض الناس هذه الأزمان عن اعتبار مجموع الشروط المذكورة لكون المقصود صار إبقاء سلسلة الإسناد المختص بالأمة فليعتبر ما يليق بالمقصود، وهو كون الشيخ مسلماً بالغاً، عاقلاً، غير متظاهربفسق، أو سخف في ضبطه، بوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه وقد قال: نحو ما ذكرناه الحافظ أبو بكر البيهقي.
الثالثة عشرة: في ألفاظ الجرح والتعديل. وقد رتبها ابن أبي حاتم فأحسن. فألفاظ التعديل مراتب: أعلاها ثقة أو متقن أو ثبت أو حجة أو عدل حافظ أو ضابط. الثانية: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، قالابن أبي حاتم: هو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية وهو كما قال، لأن هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه على ما تقدم، وعن يحيى بن معين إذا قلت لا بأس به فهو ثقة، ولا يقاوم قوله عن نفسه. نقل ابن أبي حاتم عن أهل الفن. الثالثة: شيخ فيكتب وينظر. الرابعة: صالح الحديث يكتب للاعتبار، وأما ألفاظ الجرح، فمراتب، فإذا قاولوا لين الحديث كتب حديثه ونظر اعتباراً، وقال الدارقطني: إذا قلت لين لم يكن ساقطاً، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة، وقولهم: ليس بقوي يكتب حديثه، وهو دون لين، وإذا قالوا: ضعيف الحديث فدون ليس بقوي ولا يطرح بل يعتبر به؛ وإذا قالوا: متروك الحديث، أو ذاهبه، أو كذاب، فهو ساقط لا يكتب حديثه، ومن ألفاظهم: فلان روى عن الناس، وسط، مقارب الحديث، مضطربه، لا يحتج به، مجهول، لا شيء، ليس بذاك، ليس بذاك القوي، فيه أو في حديثه ضعف، ما أعلم به بأساً، ويستدل على معانيها بما تقدم، والله أعلم.
النوع الرابع والعشرون: كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه
تقبل رواية المسلم البالغ ما تحمله قبلهما، ومنع الثاني قوم فأخطأوا، قال جماعة من العلماء: يستحب أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة، وقيل بعد عشرين، وللصواب في هذه الأزمان التبكير به من حين يصح سماعه، وبكتبه وتقييده حين يتأهل له، ويختلف باختلاف الأشخاص، ونقل القاضي عياض رحمه الله: أن أهل الصنعة حددوا أول زمن يصح فيه السماع بخمس سنين، وعلى هذا استقر العمل والصواب اعتبار التمييز، فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزاً صحيح السماع، وإلا فلا، وروي نحو هذا عن موسى بن هارون، وأحمد بن حنبل.
بيان أقسام طرق تحمل الحديث، ومجامعها ثمانية أقسام
القسم الأول: سماع لفظ الشيخ
وهو إملاء وغيره من حفظ ومن كتاب، وهو أرفع الأقسام عند الجماهير. قال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في هذا للسامع أن يقول في روايته: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت فلاناً وقال لنا: وذكر لنا. قال الخطيب: أرفعهما سمعت ثم حدثنا وحدثني ثم أخبرنا، وهو كثير في الاستعمال، وكان هذا قبل أن يشيع أخبرنا بالقراءة على الشيخ. قال: ثم أنبأنا ونبأنا وهو قليل في الاستعمال. قال الشيخ: حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت من جهة، إذ ليس في سمعت دلالة أن الشيخ رواه إياه بخلافهما. وأما قال لنا، أو ذكر لنا، فكحدثنا. غير أنه لائق بسماع المذاكرة وهو به أشبه من حدثنا، وأوضح العبارات: قال أو ذكر من غير لي، أو لنا، وهو أيضاً محمول على السماع إذا عرف اللقاء على ما تقدم في نوع المعضل، لا سيما إن عرف أنه لا يقول قال إلا فيما سمعه منه، وخص الخطيب حمله على السماع به والمعروف أنه ليس بشرط.
القسم الثاني: القراءة على الشيخ
ويسميها أكثر المحدثين عرضاً سواء قرأت أو قرأ غيرك وأنت تسمع من كتاب أو حفظ الشيخ أم لا إذا أمسك أصله هو أو ثقة، وهي رواية صحيحة بلا خلاف في جميع ذلك إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد به، واختلفوا في مساواتها للسماع من لفظ الشيخ ورجحانه عليها ورجحانها عليه، فحكى الأول عن مالك وأصحابه وأشياخه ومعظم علماء الحجاز والكوفة والبخاري وغيرهم، والثاني عن جمهور أهل المشرق وهو الصحيح؛ والثالث عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما ورواية عن مالك، والأحوص في الرواية بها: قرأت عن فلان أو قرئ عليه وأنا أسمع فأقر به، ثم عبارات السماع مقيدة: كحدثنا أو أخبرنا قراءة عليه وأنشدنا في الشعر قراءة عليه، ومنع إطلاق حدثنا وأخبرنا ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد والنسائي وغيرهم وجوزوها طائفة. قيل: إن مذهب الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان والبخاري وجماعات من المحدثين ومعظم الحجازيين والكوفيين، ومنهم من أجاز فيها سمعت، ومنعت طائفة حدثنا وأجازت أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل الشرق، وقيل أنه مذهب أكثر المحدثين وروى عن ابن جريج والأوزاعي وابن وهب، وروى عن النسائي أيضاً وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث.
الأول: إذا كان أصل الشيخ حال القراءة بيد موثوق به مراع لما يقرأ أهل له فإن حفظ الشيخ ما يقرأ فهو كإمساكه أصله وأولى، وإن لم يحفظه فقيل: لا يصح السماع، والصحيح المختار الذي عليه العمل أنه صحيح، فإن كان بيد القارئ الموثوق بدينه ومعرفته فأولى بالتصحيح، ومتى كان الأصل بيد غير موثوق به لم يصح السماع إن لم يحفظه الشيخ.
الثاني: إذا قرأ على الشيخ قائلاً أخبرك فلان أو نحوه والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر، صح السماع وجازت الرواية به، ولا يشترط نطق الشيخ على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الفنون، وشرط بعض الشافعين والظاهرين نطقه، وقال ابن الصباغ الشافعي: ليس له أن يقول حدثني، وله أن يعمل به وأن يرويه قائلاً: قرئ عليه وهو يسمع.
الثالث: قال الحاكم: الذي اختاره وعهدت إليه أكثر مشايخي وأئمة عصري، أن يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ: حدثني ومع غيره حدثنا وما قرأ عليه أخبرني وما قرئ بحضرته أخبرنا وروى نحوه عن ابن وهب وهو حسن، فإن شك فالأظهر أن يقول: حدثني أو يقول: أخبرني لا حدثنا وأخبرنا، وكل هذا مستحب باتفاق العلماء، ولا يجوز إبدال حدثنا بأخبرنا أو عكسه في الكتب المؤلفة، وما سمعته من لفظ المحدث فهو على الخلاف في الرواية بالمعنى إن كان قائله يجوز إطلاق كليهما وإلا فلا يجوز.
الرابع: إذا نسخ السامع أو المسمع حال القراءة. قال إبراهيم الحربي وابن عدي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني الشافعي: لا يصح السماع. وصححه الحافظ موسى بن هارون الجمال وآخرون وقال أبو بكر الضبعي الشافعي: يقول حضرت ولا يقول أخبرنا، والصحيح التفصيل، فإن فهم المقروء صح وإلا لم يصح ويجزي هذا الخلاف فيما إذا تحدث الشيخ أو السامع أو أفرط القارئ في الإسراع أو هَيْنَمَ أو بعد بحيث لا يفهم، والظاهر أنه يعفى عن نحو الكلمتين، ويستحب للشيخ أن يجيز للسامعين رواية ذلك الكتاب وإن كتب لأحدهم كتب سمعه مني وأجزت له روايته، كذا فعله بعضهم، ولو عظم مجلس المملي فبلغ عنه المستملي فذهب جماعة من المتقدمين وغيرهم إلى أنه يجوز لمن سمع المستملي أن يروي ذلك عن المملي، والصواب الذي قاله المحققون: أنه لا يجوز ذلك وقال أحمد في الحرف يدغمه الشيخ فلا يفهم وهو معروف أرجو أن لا يضيق روايته عنه، وقال في الكلمة تستفهم من المستملي: إن كانت مجتمعاً عليها فلا بأس، وعن خلف بن سالم منع ذلك.
الخامس: يصح السماع من وراء حجاب إذا عرف صوته إن حدث بلفظه أو حضوره بمسمع منه إن قرئ عليه، ويكفي في المعرفة خبر ثقة وشرط شعبة روايته وهو خلاف الصواب وقول الجمهور.
السادس: إذا قال المسموع منه بعد السماع: لا تروعني أو رجعت عن اخبارك ونحو ذلك غير مسند ذلك إلى خطأ أو شك ونحوه لم يمتنع روايته، ولو خص بالسماع قوماً فسمع غيرهم بغير علمه جاز لهم الرواية عنه، ولو قال: أخبركم ولا أخبر فلاناً لم يضر، قاله الأستاذ أبو إسحاق.
القسم الثالث: الإجازة
وهي أضرب:
الضرب الأول: أن يجيز معيناً لمعين كأجزتك البخاري أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذا أعلى أضربها المجردة عن المناولة، والصحيح الذي قاله الجمهور من الطوائف واستقر عليه العمل جواز الرواية والعمل بها، وأبطلها جماعات من الطوائف وهو إحدى الروايتين عن الشافعي، وقال بعضهم الظاهرية ومتابعيهم: لا يعمل بها كالمرسل، وهذا باطل.
الضرب الثاني: يجيز معيناً غيره كأجزتك مسموعاتي فالخلاف فيه أقوى وأكثر، والجمهور من الطوائف جوزوا الرواية وأوجبوا العمل بها.
الضرب الثالث: يجيز غير معين بوصف العموم كأجزت المسلمين أو كل أحد أو أهل زماني، وفيه خلاف للمتأخرين، فإن قيد بوصف خاص فأقرب إلى الجواز، ومن المجوزين القاضي أبو الطيب، والخطيب، وأبو عبد الله بن منده، وابن عتاب، والحافظ أبو العلاء، وآخرون. قال الشيخ: ولم نسمع عن أحد يقتدي به الرواية بهذه. قلت: الظاهر من كلام مصححيها جواز الرواية بها، وهذا مقتضي صحتها، وأي فائدة لها غير الرواية بها.
الضرب الرابع: إجازة مجهول أوله كأجزتك كتاب السنن وهو يروي كتباً في السنن، أو أجزت لمحمد ابن خالد الدمشقي، وهناك جماعة مشتركون في هذا الاسم وهي باطلة، فإن أجاز لجماعة مسمين في الاستجازة أو غيرها ولم يعرفهم بأعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم ولا تصفحهم صحت الإجازة كسماعهم منه في مجلسه في هذا الحال، وأما أجزت لمن يشاء فلان أو نحو هذا ففيه جهالة وتعليق فالأظهر بطلانه، وبه قطع القاضي أبو الطيب الشافعي، وصححه ابن الفراء الحنبلي، وابن عمروس المالكي، ولو قال أجزت لمن يشاء الإجازة فهو كأجزت لمن يشاء فلان وأكثر جهالة، فلو قال أجزت لمن يشاء الرواية عني فأولى بالجواز، لأنه تصريح بمقتضى الحال، ولو قال أجزت لفلان كذا إن شاء روايته عني، أو لك إن شئت أو أحببت أو أردت، فالأطهر جوازه.
الضرب الخامس: الإجازة للمعدوم كأجزت لمن يولد لفلان، واختلف المتأخرون في صحتها فإن عطفه على موجود كأجزت لفلان ومن يولد له أو لك ولعقبك ما تناسلوا فأولى بالجواز، وفعل الثاني من المحدثين أبو بكر بن أبي داود، وأجاز الخطيب الأول، وحكاه عن ابن الفراء، وابن عمروس، وأبطلها القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: الشافعيان، وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، وأما الإجازة للطفل الذي لا يميز فصحيحه على الصحيح الذي قطع به القاضي أبو الطيب، والخطيب خلافاً لبعضهم.
الضرب السادس: إجازة ما لم يتحمله المجيز بوجه ليرويه المجاز إذا تحمله المجيز. قال القاضي عياض: لم أر من تكلم فيه، ورأيت بعض المتأخرين يصنعونه، ثم حكى عن قاضي قرطبة أبي الوليد منع ذلك، قال عياض: وهو الصحيح، وهذا هو الصواب، فعلى هذا يتعين على من أراد أن يروي عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته أن يبحث حتى يعلم أن هذا ما تحمله شيخه قبل الإجازة، أما قوله أجزت لك ما صح أو يصح عندك من مسموعاتي فصحيح تجوز الرواية بما لما صح عنده سماعه له قبل الإجازة، وفعله الدارقطني وغيره.
الضرب السابع:إجازة المجاز كأجزتك مجازاتي فمنعه بعض من لا يعتد به، والصحيح الذي عليه العمل جوازه، وبه قطع الحفاظ: الدارقطني، وابن عقدة، وأبو نعيم وأبو الفتح نصر المقدسي، وكان أبو الفتح يروي بالإجازة عن الإجازة، وربما والى بين ثلاث، وينبغي للراوي بها تأملها لئلا يروي ما لم يدخل تحتها، فإن كانت إجازة شيخ شيخه أجزت له ما صح عنده من سماعي فرأى سماع شيخ شيخه فليس له روايته عن شيخه عنه حتى يعرف أنه صح عند شيخه كونه من مسموعات شيخه.
فرع
قال أبو الحسين بن فارس: الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية والحرث، يقال: استجزته فأجازني إذا أسقاك ماءً لماشيتك أو أرضك كذا طالب العلم علمه فيجيزه، فعلى هذا يجوز أن تقول أجزت فلاناً مسموعاتي، ومن جعل الإجازة إذناً وهو المعروف يقول: أجزت له رواية مسموعاتي، ومتى قال: أجزت له مسموعاتي فعلى الحذف كما في نظائره، قالوا: إنما تستحسن الإجازة إذا علم المجيز ما يجيز، وكان المجاز من أهل العلم، واشترطه بعضهم وحكي عن مالك، وقال ابن عبد البر: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة في معين لا يشكل إسناده، وينبغي للمجيز كتابة أن يتلفظ بها فإن اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة صحت، والله أعلم.
القسم الرابع: المناولة
هي ضربان مقرونة بالإجازة، ومجردة، فالمقرونة أعلى أنواع الإجازة مطلقاً، ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو مقابلاً. ويقول: هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه أو أجزت لك روايته عني، ثم يبقيه معه تمليكاً أو لينسخه أو نحوه، ومنها أن يدفع إليه الطالب سماعه فيتأمله وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول: هو حديثي أو روايتي فاروه عني أو أجزت لك روايته، وهذا سماه غير واحد من أئمة الحديث عرضاً، وقد سبق أن القراءة عليه تسمى عرضاً فليسمّ هذا عرض المناولة وذاك عرض القراءة، وهذه المناولة كالسماع في القوة عند الزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومجاهد، والشعبي، وعلقمة، وإبراهيم، وأبي العالية، وأبي الزبير، وأبي التوكل، ومالك، وابن وهب، وابن القاسم، وجماعات آخرين، والصحيح أنها منحطة عن السماع والقراءة، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، البويطي، والمزني، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن يحيى. قال الحاكم: وعليه عهدنا أئمتنا وإليه نذهب، والله أعلم. ومن صورها أن يناول الشيخ الطالب سماعه ويجيزه له ثم يمسكه الشيخ، وهذا دون ما سبق، ويجوز روايته إذا وجد الكتاب أو مقابلاً به موثوقاً بموافقته ما تناولته الإجازة كما يعتبر في الإجازة المجردة، ولا يظهر في هذه المناولة كبير مزية على الإجازة في معين، وقال جماعة من أصحاب الفقه والأصول: لا فائدة فيها، وشيوخ الحديث قديماً وحديثاً يرون لها مزية معتبرة، ومنها أن يأتيه الطالب بكتاب ويقول: هذا روايتك فناولنيه وأجزلي روايته فيجيبه إليه من غير نظر فيه وتحقق لروايته فهذا باطل، فإن وثق بخبر الطالب ومعرفته اعتمده وصحت الإجازة كما يعتمده في القراءة، ولو قال: حدث عني بما فيه إن كان حديثي مع براءتي من الغلط كان جائزاً حسناً، والله أعلم.
الضرب الثاني: المجردة بأنه يناوله مقتصراً على: هذا سماعي، فلا تجوز الرواية بها على الصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول، وعابوا المحدثين المجوزين.
فرع
جوز الزهري، ومالك، وغيرهما، إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمناولة، وهو مقتضى قول من جعلها سماعاً، وحكي عن أبي نعيم الأصبهاني وغيره جوازه في الإجازة. والصحيح الذي عليه الجمهور وأهل التحري المنع وتخصيصها بعبارة مشعرة بها: كحدثنا وأخبرنا إجازة أو مناولة وإجازة أو إذناً أو في إذنه أو فيما أذن لي أو فيما أطلق لي روايته أو أجازني أولي أو ناولني أو أشبه ذلك وعن الأوزاعي تخصيصها بخبرنا والقراءة بأخبرنا، واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة، واختاره صاحب كتاب الوجازة وكان البيهقي يقول أنبأني إجازة، وقال الحاكم: الذي اختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن يقول فيما عرض على المحدث فأجازه شفاها: أنبأني، وفيما كتب إليه كتب إلي، وقال أبو جعفر بن حمدان: كل قول البخاري قال لي فلان: عرض ومناولة، وعبر قوم عن الإجازة بأخبرنا فلان أن فلاناً حدثه أو أخبره، واختاره الخطابي أو حكاه، وهو ضعيف، واستعمل المتأخرون في الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ حرف عن فيقول من سمع شيخاً بإجازته عن شيخ: قرأت على فلان عن فلان، ثم أن المنع من إطلاق حدثنا لا يزول بإباحة المجيز ذلك والله أعلم.
القسم الخامس: المكاتبة
وهي أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطه أو بأمره، وهي ضربان: مجردة عن الإجازة، ومقرونة بأجزتك ما كتب لك أو إليك ونحوه من عبارة الإجازة، وهي في الصحة والقوة كالمناولة المقرونة، وأما المجردة فمنع الرواية بها قوم، منهم القاضي الماوردي الشافعي، وأجازها كثيرون من المتقدمين والمتأخرين، منهم أيوب السختياني، ومنصور، والليث، وغير واحد من الشافعيين، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المشهور بين أهل الحديث، ويوجد في مصنفاتهم: كتب إليّ فلان قال حدثنا فلان، والمراد به هذا وهو المعمول به عندهم معدود في الموصول لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعاني فقال، هي أقوى من الإجازة، ثم يكفي معرفته خط الكاتب، ومنهم من شرط البينة وهو ضعيف؛ ثم الصحيح أنه يقول في الرواية بها: كتب إليّ فلان قال: حدثنا فلان أو أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة ونحوه، ولا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا، وجوزه الليث، ومنصور، وغير واحد من علماء المحدثين وكبارهم.
القسم السادس: إعلام الشيخ الطالب
أن هذا الحديث أو الكتاب سماعه مقتصراً عليه، فجوز الرواية به كثير من أصحاب الحديث، والفقه، والأصول، والظاهر، منهم ابن جريج، وابن الصباغ الشافعي، وابو العباس الغمري، بالمعجمة المالكي، قال بعض الظاهرية: لو قال هذه روايتي لا تروها كان له روايتها عنه، والصحيح ما قاله غير واحد من المحدثين وغيرهم: إنه لا يجوز الرواية به لكن يجب العمل به إن صح سنده.
القسم السابع: الوصية
هي أن يوصي عند موته أو سفره بكتاب يرويه فجوز بعض السلف للموصى له روايته عنه، وهو غلط، والصواب أنه لا يجوز.
القسم الثامن: الوجادة
وهي مصدر لوجد مولّد غير مسموع من العرب، وهي أن يقف على أحاديث بخط راويها لا يرويها الواجد فله أن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتابه بخطه حدثنا فلان ويسوق الإسناد والمتن، أو قرأت بخط فلان عن فلان، هذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع، وفيه شوب إتصال، وجازف بعضهم فأطلق فيها حدثنا وأخبرنا، وأنكر عليه، وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص، قال ذكر فلان أو قال أخبرنا فلان وهذا منقطع لا شوب فيه، وهذا كله إذا وثق بأنه خطه وكتابه، وإلا فليقل: بلغني عن فلان أو وجدت عنه ونحوه أو قرأت في كتاب: أخبرني فلان إنه بخط فلان، أو ظننت أنه خط فلان، أو ذكر كتابه أنه فلان، أو تصنيف فلان، أو قيل: بخط أو تصنيف فلان، وإذا نقل من تصنيف فلا يقل: قال فلان إلا إذا وثق بصحة النسخة بمقابلته أو ثقة لها، فإن لم يوجد هذا ولا نحوه فليقل: بلغني عن فلان، أو وجدت في نسخة من كتابه ونحوه، وتسامح أكثر الناس في هذه الأعصار بالجزم في ذلك من غير تحر، والصواب ما ذكرناه، فإن كان المطالع متقناً لا يخفى عليه غالباً الساقط والمغير رجونا جوازاً الجزم له، وإلا هذا استروح كثير من المصنفين في نقلهم، وأما العمل بالوجادة فنقل عن معظم المحدثين والفقهاء المالكيين، وغيرهم أنه لا يجوز، وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه وقطع بعض المحققين الشافعيين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة، وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه هذه الأزمان غيره والله أعلم.