إسلام حمزة و إسلام عمر وفاة خديجة وزواج عائشة
كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للخضري
محتويات
- إسلام حمزة
- هجرة الحبشة الأولى
- إسلام عمر
- رجوع مهاجري الحبشة
- كتابة الصحيفة
- هجرة الحبشة الثانية
- نقض الصحيفة
- وفود نجران
- وفاة خديجة رضي الله عنها
- زواج سودة
- زواج عائشة رضي الله عنها
- هجرة الطائف
- الاحتماء بالمُطْعِمِبن عَدِي
- وفد دوس
- الاسراء والمعراج
- العرض على القبائل
- بدء إسلام الأنصار
- العودة الي الصفحة الرئيسية من كتاب نور اليقين
إسلام حمزة
وكان بعض إيذائهم هذا سبباً لإسلام عمّه حمزةبن عبد المطلب، فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بإيذاء أبي جهل لابن أخيه، فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه، وقال: كيف تسبّ محمداً وأنا على دينه؟ ثُمَّ أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاماً، وأشدّهم غيرة على المسلمين، وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسدَ الله.
وكما أُوذي الرسول عليه الصلاة والسلام، أُوذي أصحابه لاتّباعهم له، خصوصاً من ليس له عشيرة تحميه، وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلواً في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبتهم الله حتى أتمّ أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)
ومن الذين أُوذوا في الله: بلالبن رباح كان مملوكاً لأميّةبن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلاً ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به، وهو يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ. لم يَشْغَلْهُ ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء ــــ وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لَنَضجَتْ ــــ ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيقول: أحد أحد. مرَّ به أبو بكر يوماً فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذْه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل: فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلاَّ ابْتِغَآء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21) } (الليل: 14 ــــ 21) بما يعطيه الله في الأخرى جزاء أعماله. وقد نبّه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن إلا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفاً وفضلاً للصدّيق رضي الله عنه وأرضاه، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعذبهم مواليهم.
ومنهم: حَمَامَةُ أُم بلال، وعامربن فُهَيرة كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فُكَيهة، كان عبداً لصفوانبن أميةبن خلف.
ومنهم امرأة تسمى زنيرة عذّبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلا إيماناً، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟ فأنزل الله في سورة الأحقاف: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ(11)
وممّن عُذب في الله: عماربن ياسر، وأخوه، وأبوه، وأمه، كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صبراً آل ياسر فموعدكم الجنة، اللهمّ اغفر لآل ياسر وقد فعلت». أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعاً من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال عليه الصلاة والسلام: «عمارٌ ملىء إيماناً من فرقه إلى قدمه» وأنزل الله في شأنه استثناءً في حكم المرتد، فقال جلّ ذكره في سورة النحل: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)
وممّن أوذي في الله: خبَّاببن الأرَتِّ، سُبي في الجاهلية فاشترته أُم أنمار، وكان حداداً وكان النبي يألفه قبل النبوّة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر فلا يزيده ذلك إلا إيماناً. وجاء خباب مرة إلى رسول الله وهو متوسد بُرْدَة في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد عليه الصلاة والسلام محمرّاً وجهه فقال: «إنه كان مَنْ قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشقّ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه». قال ذلك عليه الصلاة والسلام وهو في هذه الحال الشديدة التي لا يتصور فيها أعقل العقلاء، وأنبل النبلاء، قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة، اللهمّ إلا أن ذلك وحي يوحى إليه، ثم أنزل الله تعالى تثبيتاً للمؤمنين أول سورة العنكبوت: الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ :3 } (العنكبوت: 1 ــــ 3).
وممّن أُوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتد عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برْكَ الغِماد فلقيه ابن الدُّغُنَّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القَارَةُ) فقالَ: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مِثْلُك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتَصِل الرَحم وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يُخْرَجُ مثله. أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلِّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإِنّا نخشى أن يفتِن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بِفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلاً بكَّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنّا قد أجَرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإِنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وإن أبي إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْه أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخْفِرَكَ ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: لقد علمتَ الذي عاقدتُ لك عليه. فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن تُرْجع إليّ ذمتي، فإني لا أُحب أن تسمع العرب
أني أُخْفِرْتُ في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله. رواه البخاري. وكان ذلك سبباً لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أَذِيّةٍ لحقته، ولكن كل ذلك ضاع سدًى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل إرجاعهم، ولكن وفقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلاً.
ولما رأى كفار قريش أن ذلك الأذى لم يُجْدِهم نفعاً، بل كلما زادوا المسلمين أذًى ازداد يقينهم، اجتمعوا للشورى فيما بينهم، فقال لهم عتبةبن ربيعة العبشمي من بني عبد شمسبن عبد مناف ــــ وكان سيداً مطاعاً في قومه ــــ: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأُكلِّمه وأعرضُ عليه أموراً علَّه يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكفَّ عنّا؟ فقالوا: يا أبا الوليد فقمْ إليه فكلمه. فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يابن أخي إنك منّا حيث قد علمتَ من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهتَ أحلامهم، وعِبتَ آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال عليه الصلاة والسلام: «قل يا أبا الوليد أسمع».
فقال: يا ابن أخي إن كنتَ تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تُريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمراً دونك، وإن كنتَ تُريد مُلكاً ملكناكَ علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئّياً من الجن لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى، فقال عليه الصلاة والسلام: «فقد فرغتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم، «قال: فاسمع مني» فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سورة فصِّلت:
بسم الله الرحمان الرحيم} حم(1) تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله واحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8) قُلْ أَءنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآء لّلسَّآئِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَآء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13) إِذْ جَآءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(14)
فأمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يَكُفَّ عن ذلك، فلما رجع عتبة سألوه فقال: والله لقد سمعت قولاً ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لكلامه الذي سمعت نبأ، فَإِنْ تُصِبْهُ العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزّكم، فقالوا: لقد سحرك محمد، فقال: هذا رأيي.
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل الله تعالى في ذلك: قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(3) وَلا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ(4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ(6) قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} (يونس: 15).
وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به، وهو أنه بينما الرسول عليه الصلاة والسلام مع كُبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القرآن وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ــــ وهو ممّن أسلموا قديماً ــــ والنبي مشتغل بالقول، وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلامهم، فقال له عبد الله: يا رسول الله علِّمني مما علّمك الله وأكثر عليه القول، فشقّ ذلك على الرسول، وكره قطعه لكلامه، وخاف عليه الصلاة والسلام أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الأشراف، فأعرض عنه فعاتبه الله على ذلك بقوله أوَّلَ سورة عبس: عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَن جَآءهُ الاْعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى(6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى(7) وَأَمَّا مَن جَآءكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)
ولمّا رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها لا تُقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب آخر، وهو تعجيز الرسول بطلب الآيات، فاجتمعوا، وقالوا: يا محمد إن كنت صادقاً فأرِنا آيةً نطلبها منك وهي أن تشقّ لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، وانشقَّ القمر فرقتين فقال رسول الله: «اشهدوا» وهذه القصة رواها عبد اللهبن مسعود وهو من السابقين الأوّلين رُويت عنه من طرق كثيرة، ورواها عبد اللهبن عباس وغيره، ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر وقد ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى في أول سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ(1) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ(2) لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} (الإسراء: 90 ــــ 93) ولم يجبهم الله إلا بقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (الإسراء: 93) لأن الله علم ما تُكِنُّه جوانحهم من التعصب والعناد، فلا يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال جلّ ذكره في سورة الأنعام: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109) وكيف يرجى الخير ممّن قالوا كما في سورة الأنفال: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَآء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، وهذه سّنة
من سُنن الأنبياء إذا رأوا من طلاب الآيات عناداً، وأنهم يطلبونها تعجيزاً لا يسألون الله إنفاذ هذه الآيات كيلا يحلّ بقومهم الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ} (الإسراء: 59).
وقد حصل للمسيح عليه السلام أنه لمّا وقفَ أمام هيرودس طلب منه آية فلم يُجِبْهُ إلى طلبه، فلما رأى ذلك سخر منه وردّه إلى عدوه بيلاطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه، وذلك مذكور في الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا.
هذا ولما رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان، تحولوا إلى سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا: {حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) كما في سورة الأنبياء أما هؤلاء فازدادوا بالأذى على كل مَن أسلم رجاء صدّهم عن اتّباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يتركوا باباً إلا ولجوه، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم»، فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.
هجرة الحبشة الأولى
فعند ذلك تجهزَ ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم كما أشار عليه الصلاة والسلام، وهذه هي أول هجرة من مكة، وعدّة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة، وهم: عثمانبن عفان وزوجه رقيّة بنت رسول الله، وأبو سلمة وزوجه أُم سلمة، وأخوه لأمه أبو سَبْرةبن أبي رُهْم، وزوجه أم كلثوم، وعامربن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفةبن عتبةبن ربيعة وزوجه سهلة بنت سُهَيل، وعبد الرحمانبن عوف، وعثمانبن مظعون، ومصعببن عمير، وسُهَيْلبن البيضاء، والزبيربن العوّام، وجُلّهم من قريش، وكان عليهم ــــ فيما روى ابن هشام ــــ عثمانبن مظعون، فساروا على بركة الله، ولما انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا آمنين من أذًى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا القليل.
إسلام عمر
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمربن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدة أذاهم. قالت ليلى ــــ إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها ــــ: كان عمربن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبتُ بعيري أُريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا به، فقال لي: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهبُ في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رِقَّةِ عمر، فقال: ترجين أن يُسْلم؟ والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه قال قبيل إسلامه: «اللهم أعِزّ الإسلام بعمر». وكان إسلامه في دار الأرقمبن أبي الأرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقق الله بإسلامه ما رجاه عليه الصلاة والسلام، فقد قال عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر. فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلاته في المسجد ففعل وقد أدرك الكفارَ كآبةٌ شديدة حينما رأوا عمر أسلم، وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه، فجاء العاصبن وائل السَّهْمي وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر وعليه حُلَّة حِبَرَة، وقميص مكفوف بحرير، فقال لعمر: ما بالُكَ؟ فقال: زعم قومك أنهم سيقتلونني إنْ أسلمتُ. قال: لا سبيل إليك فأنا لك جار، فأمِنَ عمر، وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فرجع الناس من حيث أتوا.
رجوع مهاجري الحبشة
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلو العدد ــــ وفي الكثرة بعض الأُنس ــــ وأَضِف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.
وقد أُولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلم فيها كلاماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد: أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى(20)
وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته، وها نحن أُولاء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلان ما ذكر، أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفا: «لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم»، وأما المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (النجم: 23). فالكلام غير مُنْتَظم، ولو كان ذلك قد حصل لاتَّخذه الكفار عليه حجة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة، وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمَّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم في سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا} (البقرة: 142). ولكن لم يُسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: ما لك ذَممتَ آلهتنا بعد أن مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مُهج الرجال.
على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سبباً لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم: إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال، ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابةَ بعد ذلك إن قلنا إن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منَّ علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل مُفترٍ كذاب ففي السورة نفسها: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)
والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد اللهبن مسعود: أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ والنجم فسجد، وسجد مَنْ كان معه إلا رجلاً أخذ كفاً من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قُتِلَ بعد كافراً. وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: فرأيته قُتِل بعد كافراً أنه كان مسلماً ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الأذى فكفروا، منهم: عليبن أميةبن خلف.
هذا، ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إلا مَنْ وجد له مُجيراً، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمانبن مظعون في جوار الوليدبن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم يَرَ أن يكون مرتاحاً وإخوانه معذبون.
كتابة الصحيفة
ولما ضاقت الحيلُ بكفار قريش، عرضوا على بني عبد مناف، الذين منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، دية مضاعفة، ويسلمونه، فأبوا عليهم ذلك، ثم عرضوا على أبي طالب أن يُعطوه سيداً من شبانهم يتبناه، ويسلم إليهم ابن أخيه، فقال: عجباً لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب وَلَديْ عبد مناف وإخراجهم من مكة، والتضييق عليهم فلا يبيعونهم شيئاً، ولا يبتاعون منهم حتى يسلموا محمداً للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم ــــ بسبب ذلك ــــ في شِعْب أبي طالب، ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب فإنه كان مع قريش، وانخذلَ عنهم بنو عَمَّيْهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر، وكان أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدمة المانعين أبو لهب.
هجرة الحبشة الثانية
وبعد دخول الرسول وقومِهِ الشِّعْبَ أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضاً على الاغتراب، فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة، وكان من الرجال جعفربن أبي طالب وزوجه أسماء بنت عُمَيْس، والمقدادبن الأسود، وعبد اللهبن مسعود، وعبيد اللهبن جحش، وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتوجه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون: أبو موسى وبنو عمه. ولما رأتْ قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمروبن العاص وعُمارةبن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليُسَلِّم المسلمين، فرجعا شَرَّ رجعة، ولم ينالا من النجاشي إلا إهانة لما خاطبوه به من إخفار ذمته في قوم لاذوا به، أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريباً من ثلاث سنوات في شدة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفية.
نقض الصحيفة
وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة، وهم: هشامبن عمروبن ربيعةبن الحارث العامري، وهو أعظمهم في ذلك بلاءً، وزهيربن أبي أمية المخزومي ابن عمة الرسول عاتكة، والمُطْعِمبن عديّ النوفلي، وأبو البَخْتَريّبن هشام الأسدي، وزمْعَةبن الأسود الأسدي، واتفقوا على ذلك ليلاً، فلما أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة، فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونَلْبَسُ الثياب وبنو هاشم والمطلب هَلْكى لا يبيعون ولا يبتاعون؟ والله لا أقعد حتى تُشَق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال أبو جهل: كذبتَ، فقال زَمْعة لأبي جهل: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، وقال المطعمبن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك. وصدّق على ما قيل هشامبن عمرو، فقام إليها المطعمبن عدي فشقّها، وكانت الأَرَضة قد أكلتها فلم يبقَ فيها إلا ما فيه اسم الله، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر، فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه الشدة.
وفود نجران
وقد وفد على الرسول بعد الخروج من الشِّعب وفد من نصارى نجران بلغهم خبرُهُ من مهاجري الحبشة، فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم، وكانوا عشرين رجلاً أو قريباً من ذلك، فقرأ عليهم القرآن فآمنوا كلهم، فقال لهم أبو جهل: ما رأينا ركباً أحمق منكم، أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لكم ما أنتم عليه ولنا ما اخترناه، فأنزل الله في ذلك قوله في سورة القصص: الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ(55) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَآء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32).
وفاة خديجة رضي الله عنها
وبعد خروجه عليه الصلاة والسلام من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يذكرها ويترحم عليها، ولا غرابة، فهي أول نفس زكية صدَّقت رسول الله فيما جاء به عن ربه، وقد جاء منها بأولاده كلهم ما عدا إبراهيم. فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاصبن الربيع، وأعقب منها أمامة التي تزوجها عليبن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ومنها رقيّة وأُم كلثوم تزوجهما عثمان؛ الأولى بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى الحبشة، والثانية بالمدينة بعد أَنْ ماتت أختها، ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها عليبن أبي طالب، وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغاراً، ولم يعش بعد رسول الله من أولاده إلاّ فاطمة عاشت بعده قليلاً. ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله حزناً شديداً لما كانت عليه من الرقة لرسول الله، ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد، ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر.
زواج سودة
وعقد عليه الصلاة والسلام في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سَوْدة بنت زَمْعَة العامرية القرشية بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكرانبن عمرو، وقد كانت آمنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة، وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها، فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول بزوج رجل آمن به، ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها، وكرمُ نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقل منها نسباً وشرفاً.
زواج عائشة رضي الله عنها
وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج عليه الصلاة والسلام بكراً غيرها، ودخل عليها بالمدينة، أما سَودةُ فدخل عليها بمكة.
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر، توفي عمه أبو طالب، الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يُكَذِّب رسول الله فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته، وفيه نزل في سورة القصص: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن. ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب، واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلقت به كفار قريش مرة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف إلا أبو بكر فإنه تقدم، وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ} (غافر: 28).
هجرة الطائف
فلما رأى عليه الصلاة والسلام استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف بالطائف يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه، لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة، فإن أم هاشمبن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سُلَيمبن منصور وهم حلفاء ثقيف، فلما توجه إليهم ومعه مولاه زيدبن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثةً: عبد يالِيْل ومسعود وحَبيب أولاد عمروبن عمير الثقفي، فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته، فردّوا عليه رداً قبيحاً، ولم يرَ منهم خيراً، وحينذاك طلب منهم أن لا يُشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتدّ أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم، فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم عليه الصلاة والسلام، بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا عقبه، وكان زيدبن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرْم واستظلّ بها، وكانت بجوار بستان لعُتبة وشَيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان، فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلاً: «اللهمّ إني أشكو إليكَ ضعفَ قُوَّتي وقِلَّةَ حيلتي وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدوَ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي» فلما رآه ابنا ربيعة رَقَّا له وأرسلا إليه بِقِطْفٍ من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه عَدَّاس. فلما ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قال: «بسم الله الرحمان الرحيم» فقال عَدَّاس: هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: «من أيّ البلاد أنت وما دينك؟» فقال: نصراني من نِيْنَوى، فقال له عليه الصلاة والسلام: «من قرية الرجل الصالح يُونُسبن متَّى؟» قال: وما علمك بيونس؟ فقرأ له من القرآن ما فيه قصة يونس، فلما سمع ذلك عداس أسلم، وأتى جبريل برسالة من الله جلّ ذكره، وقال: إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه
معك، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون» فقال جبريل: صدق من سمّاك الرؤوف الرحيم.
ولما كان بنَخْلَة وفد عليه نفر من الجن يستمعون القرآن وهم ممّن ينتمون إلى موسى صلوات الله عليه، فلما سمعوه أنصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين وأبلغوهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ(29) قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ(30) ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآء أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ(32) قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً(1) يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَآ أَحَداً(2)
الاحتماء بالمُطْعِمِبن عَدِي
ولما رجع عليه الصلاة والسلام من الطائف هكذا لم يتمكن من دخوله مكة، لما علمه كفار قريش من أنه توجه إلى الطائف يستنصرُ بأهليها عليهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام إلى المُطْعِمبن عديبن نوفلبن عبد مناف يخبره أنه سيدخل مكة في جواره فأجاب إلى ذلك، وتسلح هو وبنوه وتوجهوا مع رسول الله إلى المطاف، فقال له بعض المشركين: أَمُجِيرٌ أنت أم تابع؟ فقال بل مجير، قالوا: إذاً لا تُخْفَرُ ذِمَّتُكَ.
وفد دَوْس
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة الطُّفَيْلبن عمرو الدَّوسي، من قبيلة دوس، عشيرة أبي هريرة الصحابي الشهير، وكان الطفيل شريفاً في قومه شاعراً نبيلاً، فلما قرأ عليه القرآن أسلم، فقال له رسول الله: «اذهب إلى قومك فادعهم إلى الإسلام» ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهمّ اهدِ دَوْساً»، فتوجه إليهم الطفيل ودعاهم فآمن بدعوته كثير منهم. وستأتي وِفَادَتُهُ على الرسول مرة ثانية بقومه في المدينة.
الإسراء والمعراج
وقبل الهجرة أكرمه الله بالإسراء والمعراج، أما الإسراء فهو توجهه ليلاً إلى بيت المقدس بإِيْلياء ورجوعه من ليلته، وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي، وقد قال جمهور أهل السنّة: إن ذلك كان بجسمه الشريف، وكانت عائشة رضي الله عنها تمنع رؤية رسول الله ربه، وتقول: من قال إن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، والإسراء مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى في أول سورة الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى ( ) ، :1} (الإسراء: 1).
وأما المعراج فقد ورد في صحيح السنّة، وأصحّ أحاديثه ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في شفائه عن أنسبن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بالبُراق ــــ وهو دابّة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طَرْفه ــــ قال: فركبته حتى أتيتُ بيتَ المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة. ثم عُرِجَ بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا ودَعَوا لي بخير. ثم عُرَج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول، ففتح لنا وإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير. ثم عُرِجَ بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. قال تعالى في سورة مريم: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً(57)
وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلَّم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها، فيصلي ركعتين إذا ظهر الفجر، وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا ضوعف ظل الشيء، وثلاثاً إذا غربت، وأربعاً إذا غاب الشفق الأحمر. وكان عليه الصلاة والسلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً، ومثلهما مساءً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام.
العرض على القبائل
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجد من قريش مَنَعَهً من تأدية الرسالة وتَسَلُّط الكبر والعظمة على قلوبهم، أراد الله أن يظهر أمر الدين على أيدي غيرهم من العرب، فكان عليه الصلاة والسلام يخرج في المواسم العربية ــــ وهي أسواق كانت العرب تعقدها للتجارة والمفاخرة ــــ ويعرض نفسه على القبائل ليحموه حتى يؤدي رسالة ربه، فكان بعضهم يردُّ ردّاً جميلاً، وآخرون ردّاً قبيحاً. وكان من أقبح القبائل ردّاً بنو حنيفة رهط مُسَيْلمَة الكذاب، وطلب منه بنو عامر إنْ هم آمنوا به أن يجعل لهم أمر الرياسة من بعده، فقال لهم: «الأمر لله يضعه حيث يشاء». وكان من الذين يحجّون البيت عرب يثرب وهي مدينة بين مكة والشام يقطنها قبيلتان: إحداهما من ولد الأوس، والثانية من ولد الخزرج وهما أخوان وكان بين أولادهما من العداوة ما يجعل الحرب لا تضع أوزارها بين الفريقين، فكانوا دائماً في شقاق ونزاع، وكان يجاورهم في المدينة أقوام من اليهود وهم: بنو قَينُقاع، وبنو قُرَيظة وبنو النَّضيرِ وكان لهم الغلبة على يثرب أولاً، فحاربهم العرب حتى صاروا ذوي النفوذ فيها والقوة، وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على أعدائهم باسم نبي يُبعث قد قرب زمانه. ولما اختلفت كلمة العرب فيما بينهم وشُقَّت عصا الألفة، حالفوا اليهود على أنفسهم، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع، وآخر الأيام بينهم يوم بُعاث قتل فيه أكثر رؤسائهم ولم يبق إلا عبد اللهبن أُبَيّ ابن سلول من الخزرج، وأبو عامر الراهب من الأوس، ولذلك كانت عائشة تقول: كان يوم بُعاث يوماً قدَّمه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خطر ببال رؤساء الأوس أن يحالفوا قريشاً على الخزرج، فأرسلوا إياسَبن معاذ وأبا الحَيسر أنسَبن رافع مع جماعة يلتمسون ذلك الحلف في قريش، فلما جاؤوا مكة جاءهم رسول الله وقال: «هل لكم في خير مما جئتم له؟ أن تؤمنوا بالله وحده، ولا تشركوا
به شيئاً، وقد أرسلني الله إلى الناس كافة» ثم تلا عليهم القرآن، فقال إياسبن معاذ: يا قوم هذا والله خير مما جئنا له، فحصبه أبو الحيسر وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا، فسكت.
بدء إسلام الأنصار
ولما جاء الموسم تعّرَض رسول الله لنفر منهم يبلغون الستة، وكلهم من الخزرج وهم: أسعدبن زرارة، وعوفبن الحارث من بني النجار، ورافعبن مالك من بني زريق، وقُطْبةبن عامر من بني سَلِمة، وعقبةبن عامر من بني حَرَام، وجابربن عبد الله من بني عبيدبن عدي، ودعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تَعِدُكم به يهود فلا يَسْبِقُنَّكُمْ إليه، فآمنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل، وهذا هو بَدء الإسلام لعرب يثرب.