باب الحدود و التعزير و الصيالِ
كتاب فتح المعين للميباري في الفقه الشافعي
محتويات
باب الحدود
أولهاحدُّ الزِّنا، وهو أكْبَرُ الكبائِر، بَعْدَ القَتْلِ، وقيلَ هو مقدِمٌ عليه. (يُجْلَدُ) وجوباً (إمامٌ) أو نائِبهُ دونَ غيرهِما خلافاً للقَفَّال (حرّاً مكلفاً زنى) بإِيلاج حَشفةٍ أو قَدْرَها مِنْ فاقِدِها في فَرج آدمي حي قُبُل أو دُبُر ذَكَر أو أُنْثى مَع عِلْم تَحْريمِه، فَلا حَدَّ بِمُفاخذةٍ ومُساحَقَةٍ واسْتِمْناءٍ بيَدِ نفسِه أو غيرِ حَليلتهِ، بل يَعْزَّر فاعِلُ ذلك. ويُكره بنحو يَدِها كَتَمْكينِها مِنَ العَبَثِ بِذَكَرِهِ حتى يَنْزِلَ لأنهُ في معنى العَزْلِ، ولا بإِيلاج في فرجِ بهيمةٍ أو ميت، ولا يجب ذبح البهيمة المأكولة، خلافاً لمن وهم فيه، وإنما يُجْلَد من ذكر (مائة) من الجَلداتِ (ويُغْرّبُ عاماً) ولاءً لمسافَةِ قِصَرٍ فَأَكْثَر (إن كان) الواطىءُ أو الموطوءةُ حراً (بِكراً) وهو من لم يَطأ أو توطأ في نكاح صحيح (لا) إن زنى (مع ظنّ حلَ) بأن ادعاهُ وقد قرُبَ عَهْدهُ بالإِسْلام أو بَعُد عن أهْلِه (أو مع تحليل عالم) يعتدّ بخلافهِ لشبهةِ إباحتهِ وإن لم يقلدهُ الفاعلُ كنكاحٍ بلا ولي كمذهب أبي حنيفة، أو بلا شهودٍ، كمذهب مالك، بخلافِ الخالي عَنْهما، وإن نقل عن داود. وكنِكاحِ مُتْعة نظراً لخِلافِ ابن عباس ولَوْ مِن مُعْتَقِد تَحريمَه.
نعم: إن حَكَم حاكِمٌ بإِبْطالِ النِّكاحِ المُخْتَلِف فيهِ حَدٌّ لارْتِفاعِ الشُّبهة حينئذٍ قاله الماوردي، ويُحَدُّ في مُستَأْجَرةٍ للزِّنا بها إذ لا شُبِهة لعدمِ الإِعتدادِ بالعقدِ الباطلِ بوجهٍ، وقولِ أبي حنيفة أنه شبهة ينافيه الإِجْماعُ على عَدَم ثبوتِ النَّسبِ بذلك، ومِنْ ثَمَّ ضُعْفِ مُدْرِكِه ولم يراعِ خِلافهُ، وكذا في مبيحة لأن الإِباحة هنا لغوٌ ومحرمة عليه لتوثُّنٍ أو لنحَوِ بينونةٍ كبرى وإن كان قد تزوجها خلافاً لأبي حنيفةٍ لأنه لا عبرةَ بالعقدِ الفاسد، أما مجوسية تزوجها فلا يُحدُّ بِوَطْئِها للإخْتلاف في حلِّ نَكاحها، ولا يُحدُّ بإِيلاجٍ في قُبُل مملوكةٍ حُرِّمت عليه بنحو محرمية أو شرب لغيره فيها أو ثوثَّن أو تمجَّس ولا بإِيلاج في أمةٍ فرع ولو مستولدَةٍ لشُبْهة الملك فيما عدا الأخيرةِ وشبهةِ الإِعفافِ فيها، وأما حدُّ ذي رِقَ محصَّن أو بكرٍ ولو مبْعضاً فنصفُ حَدّ الحُرِّ وتغَريبِه فيجْلَد خمسين ويُغرَّبُ نصف عام، ويُحدُّ الرقيقَ الإِمامُ أو السَّيد (ويُرجَم) أي الإِمامُ أو نائبهُ بأن يأمر الناس ليحيطوا به فيرموهُ من الجوانب بحجارةٍ معتدلةٍ إن كان (محَصناً) رجلاً أو امرأةً حتى يموت إجماعاً لأنه رَجَمَ ماعِزاً والغامدية.
ولا يُجْلدُ مع الرَّجْم عِنْدَ جَماهير العُلماءِ، وتُعرَضُ عَليهِ تَوبَةً لِتَكونَ خاتِمَة أَمْرِه، ويُؤمَر بصلاةٍ دَخَلَ وقْتَها، ويُجابُ لِشُرْبٍ، لا أَكْل، ولِصَلاةٍ ركْعَتَيْنِ، ويَعْتَدُّ بقَتْلِهِ بالسيفِ، لكنْ فاتَ الوَاجب والمُحصَنُ مكلفٌ حرٌّ وطىءَ أو وُطِئت بِقُبُلٍ في نكاحٍ صحيح ولو في حيْض فلا إِحْصانَ لِصبَي أو مجنون أو قنّ وطىءِ في نكاح ولا لِمنْ وَطىءَ في مِلْكِ يمينٍ أو نكاحٍ فاسدٍ ثم زَنى (وأُخِّرَ) وجوباً (رَجمَ) كَقَوْد (لِوَضْعِ حَمْلٍ وفِطَام) لا لِمَرضٍ يُرْجى بَرْوهُ مِنْه وحرُّ وبَرد مفْرِطَيْن. نعم، يؤخَّر الجَلْد لهما ولِمَرضِ يُرجى بَرْوهُ مِنْهُ أو لِكَونِه حامِلاً لأن القَصْد الرَّدْعَ لا القَتْل (وَيثْبُتُ) الزنا (بإِقرارٍ) حقيقي مفصَّلٍ نظير ما في الشهادة ولو بإِشارة أخرس إن فهِمَهَا كُل أحَدٍ ولو مَرةٍ ولا يُشتَرطُ تكررَهُ أربعاً خلافاً لأبي حنيفة، (وبيّنة) فصلت بذكرِ المزني بها وكيفيةِ الإِدخالِ ومكانِه ووقتهِ كاشهد أنه أدَخْلَ حشَفَته في فرج فلانة بمحلِّ كذا وقتَ كذا على سبيل الزِّنا (ولو أقر) بالزنا (ثم رَجَع) عَن ذلكَ قَبْلَ الشروع في الحَد أو بَعْدَهُ بنحو كذبت أو ما زَنَيتْ. وإن قال بعد كذبَت في رجوعي أو كنت فاخَذتُ فظننتُه زِنا وإن شَهِد حالَهُ بكذبه فيما استَظهْرَهُ شيخنا بخلافِ ما أقررْتُ به لأنهُ مجردُ تَكْذيبٍ للبيَّنةِ الشاهدةِ به (سقَطَ) الحدُّ لأنه عرضَ لماعزٍ بالرجوعِ فلولا أنه لا يفيد لما عَرَضَ له به، ومن ثمَّ سُنَّ لَهُ الرجوعُ. وكالزِّنا في قبولِ الرجوعِ عنْه كلَّ حدّ لله تعالى كشرب وسرقة بالنسبة للقطع. وأَفْهم كلامَهُم أنهُ إذا ثَبَتَ بالبَيِّنة لا يتطَرَّق إليه رُجوعٌ وهو كذلك لكنه يتطرق إليه السُّقوط بغَيرهِ كدعوى زوجيَّةٍ ومُلْكِ أمَةٍ وظَنُّ كونِها حليلَةٍ، وثانيها حدّ القَذْفِ وهو من السبْع الموبقاتِ (وحدّ قاذفٍ) مكلفٍ مختارٍ ملتزم للأحكامِ عالمٌ بالتحريم (محصناً) وهو هنا مكلفٌ حرٌّ مسلمٌ عفيفٌ من زِنا وَوَطء دُبر حلِيلَتِه (ثمانَين) جلدة إن كانَ القاذفُ حراً وإلا فأربعين.
ويَحصُلُ القذفُ بزَنَيتُ أو يا زاني أو يا مخنَّثُ أو بِلُطَت أو لاطَ بِكِ فلانٌ أو يا لائِطٌ أو يا لوطي، وكذا بياقَحْبةَ، لامرأة، ومن صريح قذفِ المرأة أن يقول لابنها من زيد مثلاً لستَ ابنَهُ أو لستَ مِنْهُ لا قولَه لابْنِه لسْتَ ابْني وَلَوْ قالَ لِوَلَدِهِ أَوْ وَلَد غيرهِ يا ولدَ الزِّنا كان قَذْفاً لأمِّه (ولا يُحَدُّ أصل) لِقذْفِ فَرْع بل يُعزَّر كقاذِف غيرَ مُكلف. ولو شَهِدَ بزنا دون أرْبَعةٍ من الرجالِ أو نساءٍ أو عبيدٍ حُدَّوا ولو تَقَاذَفا لم يتقاصَّا، ولقاذِفٍ تَحليفُ مَقذوفِه أنه ما زنى قَطٌ. وسَقَط بِعَفْو من مَقْذوفٍ أو ووارِثه الحائز ولا يستقِل المقذوفُ باستيفاءِ الحدِّ، ولزَوْجٍ قَذَفَ زَوجَتهُ التي عُلِمَ زِناها وهي في نكاحِه ولو بظن ظناً مؤكداً مع قرينة، كأن رآها وأجنبياً في خلوة، أو رآه خارجاً من عندها مع شيوع بين الناس بأنه زنى بها، أو مع خبر ثقة أنه رآه يزني بها أو مع تكرر رؤيته لهما كذلك مرّات، ووجب نفي الولد إن تيقن أنه ليس منه وحيثُ لا ولَدَ ينفيهِ فالأَوْلى له الستر وعَلَيْها، وأن يُطلقها إِنْ كرِهَها، فإِن أحبَّها أمسَكَها، لما صحَّ: "أن رَجُلاً أتى النبيَّ فقالَ امرَأتي لا تردُّ يدَ لامِس، فقال طلِّقها، قال: إنِّي أُحِبُّها، قال أمْسِكْها".
[فرع]: إذا سَبَّ شَخْصٌ آخرَ فَلِلآخَرِ أن يَسُبَّه بِقَدْرِ ما سَبَّهُ مما لا كَذِبَ فيهِ ولا قذْف: كيا ظالِم ويا أحْمَقُ. ولا يجوزُ سَبُّ أبيهِ وأمهِ وثالثها حدّ الشّربُ (ويَجْلِدُ) أي الإِمامُ أو نائِبَهُ (مكلفاً) مُخْتاراً (عالماً) بِتَحْريمِ الخَمْرِ (شَرِبَ) لِغَيْرِ تَداوٍ (خَمراً) وَحَقيتَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أصْحابِنا المُسْكِرُ مِنْ عَصيرِ العِنَبِ وإِنْ لم يُقذَفْ بالزَّبدِ فتحْرِيمُ غيرِها قياسيّ: أي بِفَرضِ عَدَمِ وُرُودِ ما يأتي، وإلا فسيُعلم مِنْهُ أن تَحريمَ الكُلِّ مَنْصوصٌ علَيْهِ، وعِنْدَ أَقَلَّهُم كل مُسْكِرٍ، ولكنْ لا يكفُرَ مُسْتَحِلّ المسْكِر منْ عَصيرِ غيرِ العِنَبِ للخلاف فيهِ، أي من حيثُ الجنْسِ، لحلِّ قليله على قولِ جماعة. أما المسْكِرُ بالفِعْلِ فهوَ حَرامٌ إِجْماعاً، كما حكاهُ الحَنَفيَّةُ فضلاً عن غيرهِمْ بخلافِ مُسْتَحِلِّهِ من عَصِيرِ العِنَبِ الصَّرفِ الذي لم يُطْبَخ ولو قَطْرةً لأنه مُجْمِعٌ عليهِ ضروريٌّ وَخَرجَ بالقيودِ المذكورَةِ فيهِ أضدادُها فلا حدَّ على مَنْ اتَّصَفَ بِشَيءٍ مِنْهَا من صَبِيً ومجنَون ومُكْرَهٍ وجاهلٍ بِتَحْرِيمِهِ أو بِكَونِهِ خمْراً إِن قَرُبَ إسْلامَهُ أو بَعُدَ عن العُلماءِ. وَلا عَلى مَنْ شَرِبَ لتَداوٍ، وإن وُجِدَ غَيرُها، كما نَقَلَهُ الشيخان عن جماعَةٍ، وَإِنْ حَرُمَ التَّداوِي بها.
[فائدة]: كلُّ شرَابٍ أسْكَرَ كثيرُهُ مِنْ خَمرٍ أو غَيْرِها حَرُمَ قَليلَهُ وكثيرُه، لخبر الصحيحين: "كلُّ شرابٍ أسْكَرَ فَهُوَ حَرامٌ" وخبر مسلم: "كلُّ مُسْكِرٍ خَمْر، وكلُّ خَمْرٍ حَرامْ" ويحدّ شاربَه وإن لم يَسْكَر: أي مُتعَاطيه. وخرج بالشَّرابِ ما حَرُمَ مِنْ الجامِدَاتِ فلا حدَّ فيها، وإنْ حَرُمَت وأسْكَرَت، بَلْ التعزيرُ: ككَثيرِ البَنْجِ والحشيشَةِ والأَفْيونِ ويُكْرَهُ أكْلُ يَسيرٍ مِنْها من غيرِ قَصْدِ المداومَةِ، ويُباحُ لحاجَةِ التَّداوي (أرَبعينَ) جَلْدَة (إنْ كانَ حُراً) ففي مُسْلِمٍ عن أنَس: "كانَ يَضْرُبُ في الخَمْرِ بالجَريدِ والنِّعالِ أرْبَعينَ جَلْدةٍ" وخَرَجَ بِالحُرِّ الرَّقيقَ ولو مُبْعِضاً، فيجُلَدُ عِشْرينَ جَلْدةٍ، وإنما يَجْلدُ الإِمامُ شارِبَ الخَمْرِ إنْ ثَبُتَ (بإِقْرَارِهِ أو شَهادَةِ رَجُلَينِ) لا بريحِ خَمْرٍ وهَيْئَةِ سُكْرٍ وقَيْءٍ وحَدَّ عثمان رضي الله عنه بالقَيْء اجْتِهادٍ لهُ. ويُحدُّ الرقيقُ أيضاً بعلم السيِّد دونَ غَيْرِه.
[تتمة]: جزمَ صاحبُ الإِسْتِقْصاء بِحَلِّ إسْقائِها للبَهائِم، وللزركشي احْتمالُ أنها كالآدمي في حُرمَةِ إِسْقائَها لها، ورابعها قَطْعُ السَّرِقة. (ويَقْطَعُ) أي الإِمامُ وجوباً بعد طلبِ المالِكِ وثُبوتِ السِّرقةِ (كوعَ يمينِ بالغٍ) ذكراً كانَ أو أنثى (سرَقَ) أي أخذَ خِفْيةً (رُبْعَ دينارٍ) أي مِثْقالٍ ذَهَباً مَضْروباً خالِصاً وإن تَحصَّلَ مِن مَغْشوشٍ (أو قيمَتَهُ) بالذهَبِ المضْروبِ الخالِص وإن كانَ الرُّبعُ لجَماعةٍ فلا يقطعُ بكونِه رُبُعَ دينارٍ سبيكة أو حِلياً لا يُساوي رُبعاً مَضْروباً (من حِرزٍ) أي مَوْضِعِ يُحْرَزُ فيه مثلُ ذلكَ المسروق عرفَاً ولا قطعَ بما للسَّارِق فيه شِرْكة ولا بِملْكِه وإن تعلَّقَ به نحوُ رهْنٍ، ولو اشْتَرَكَ اثنانِ في إخراجِ نصابٍ فقط لم يُقْطعْ واحدٌ مِنهما. وخرجَ بسرقِ ما لو اخْتَلَسَ مُعْتمِداً الهَرَبَ أو انْتَهَبَ مُعْتَمِداً القُوَّة فلا يُقْطَعُ بِهما لخبر الصحيح به ولإِمكانِ دَفْعِهم بالسُّلطان وغَيْرِه، بِخلاف السَّارِقِ لأَخْذِهِ خِفْيَةً فَشُرِعَ قَطْعُه زَجْراً (لا) حالَ كونِ المالِ (مغْصوباً) فلا يُقْطع سارِقَهُ من حِرْزِ الغاصِبِ وإن لم يعْلَمْ أنه مغصوب لأن مالِكَه لم يرضَ بإِحْرَازِهِ بهِ (أو) حالَ كوْنِه (فيه) أي في مكانٍ مغصوبٍ فلا قَطْعَ أيضاً بِسَرِقَةٍ منْ حرزٍ مغصوبٍ لأن الغاصِبَ ممنوع من الإحرازِ به بخلافِ نحو مستأجِرٍ ومعارٍ ويختلفُ الحِرزُ باختلافِ الأموالِ والأحوالِ والأوقاتِ فحرزُ الثَّوبِ والنقدِ الصَّندوقِ المقْفَلِ والأمْتِعةِ الدكاكينَ وثم حارس ونومٌ بمسْجِدٍ أو شارعٍ على متاعٍ ولو بتوسُّدِه حرزٍ لهُ لا إن وضَعه بقرْبه بلا مُلاحِظٍ قوي يمنعُ السارِقَ بقُوةٍ أو اسْتِغاثةٍ أو انْقَلَبَ عنه ولو بقلْبِ السَّارِقِ فليسَ حِرزاً له (ويقْطَعُ بمالِ وَقْفٍ) أيْ بِسَرِقةِ مالٍ موقوفٍ على غيره (و) مالِ (مَسْجِدٍ) كبابه وسارِيَتِه وقِنْديلِ زينَةٍ (لا) بِنَحْوِ (حُصُرِهِ) وقناديلَ تُسْرَجُ وهو مُسْلِمٌ لأَنَّها أُعِدَّتْ للإِنْتفاعِ بِها (ولا بِمالِ صَدقةٍ) أي زكاةٍ (وهو مُستحقٌ لها) بوصفِ فَقْرٍ أو غَيْرِه ولو لم يكُن له فيهِ حقٌ كغني أخذ مالَ صَدَقةٍ وَلَيْسَ غارِماً لإِصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ ولا غازِياً قُطِعَ لانَتِفاءِ الشُّبْهةِ (و) لاَ بِمَالِ (مَصَالِحَ) كَبَيْتِ المالِ وإنْ كانَ غنياً لأن لهُ فيهِ حَقاً لأن ذلِكَ قد يُصْرَفُ في عِمارَةِ المسَاجِدِ والرِّباطاتِ فينْتَفِعُ بِه الغَنِيُّ والفَقيرِ مِنَ المُسْلمِين
(و) لا بمالِ (بعض) من أصل أو فِرْعٍ (وسَيِّد) لِشُبْهةِ اسْتِحقاق النَّفقةِ في الجُملة (والأظهَر قَطْعُ أحَدِ الزَّوجين بالآخرِ) أي بِسَرِقَة مالِه المُحَرز عَنْهُ (فإِن عادَ) بعدَ قَطْعِ يُمناهُ إلى السَّرِقة ثانياً (ف) تُقْطَعُ (رجْلَهُ اليُسْرى) من مِفصل السَّاقِ والقَدَمِ (ف) إِن عادَ ثالثاً فتُقْطعُ (يدهُ اليسرى) من كوعِها (ف) إِن عادَ رابِعاً فتُقْطَعُ (رِجْلَهُ اليُمْنى ثم) إِن سَرَقَ بَعدَ قطعْ ما ذُكِرَ (عُزِّرَ) ولا يُقتَل وما رُوِيَ من أنه قَتَله منسوخ أو مُؤوَّلٌ بقتْلِهِ لاسْتِحلالٍ بل ضَعَّفَهُ الدارقطني وغيره، وقال ابن عبد البر أنهُ منكر لا أَصْلَ له. ومنْ سرَقَ مِراراً بلا قطْع لم يْلزمْهُ إلا حدَ واحد على المعتمد فتكفي يمينَه عن الكلِّ لاتحادِ السَّبب فتداخلتْ (وتَثْبتُ) السَّرقة (برَجُلَيْنِ) كسائرِ العقوباتِ غيرِ الزنا وإقرارٍ منْ سارِقٍ بعد دعْوى عليه مع تفْصيلٍ في الشهادَةِ والإِقرارِ بأن تُبيِّن السرقة والمسْروقَ منه وقدرَ المسروقِ والحرز بتعيينهِ (و) تثْبتُ السرِقة أيضاً خِلافاً لما اعتمدَهُ جمعٌ (بيمين ردِّ) من المدَّعى عليه على المدعي لأنها كإِقرارِ المدعى عليه (وقَبْلَ رُجوعِ مقرَ) بالنِّسبَةِ لِقَطْعٍ بِخلافِ المالِ فلا يُقْبَلُ رجوعُه فيهِ لأنهُ حَقُّ آدَميّ (ومن أقرَ بقعوبةٍ لله تعالى) أي بموجِبِها كَزِنا وسَرِقَةٍ وشُرب خَمْرٍ ولو بعدَ دعوى (فلقاضِ) أي يجوزُ لهُ، كما في الروْضةِ وأصْلِها، لكنْ نَقَلَ في شَرح مُسْلم الإِجْماعِ على نَدْبِه، وحكاهُ في البَحْرِ عن الأَصْحابِ وقَضِيةِ تَخْصِيصهم القاضي بالجوازِ حُرْمَتَهُ على غَيره. قال شيخنا: وهو مُحتملٌ، ويُحْتَمَلُ أن غيرَ القاضي أَوْلى مِنْهُ لامْتناعِ التَّلقينِ عَلَيْهِ (تَعريضٌ) له (برجُوعٍ) عنِ الإقْرارِ أوْ بالإِنْكارِ فيقولُ لعَلَّكَ فأَخذْتَ أو أخَذْتَ من غيرِ حِرْزٍ أو ما عَلِمْتَهُ خَمْراً لأنه عَرَّضَ لماعِزَ وقال لِمَنْ أقرَّ عِنْدَهُ بالسَّرِقَةِ ما إخالُكَ سرَقْتَ وخرج بالتَّعريض التصريح كارْجِع عنه أو اجْحَدْهُ فيأْثم به لأنهُ أَمَرَ بالكَذِبِ ويَحْرُمُ التَّعريضُ عندَ قِيامِ البَيِّنة.
وَيجوزُ للقاضي أيضاً التَّعريضُ للشُّهود بالتَّوقّفِ في حدِّ الله تعالى إنْ رَأى المصْلَحَةَ في السَّتْرِ، وإلا فلا، وبِه يُعْلَمُ أنهُ لا يجوزُ لَهُ التَّعرُضُ ولا لَهُمْ التَّوقُّف إن ترتَّب على ذلك ضَياعُ المسْروقِ أو حدِّ الغَيْرِ كحدِّ القَذف.
[خاتمة]: في قاطِع الطَّريقِ لو عَلِمَ الإِمامُ قوماً يخُيفونَ الطريقَ ولم يأخُذوا مالاً ولا قَتَلوا نَفْساً عَزَّرهُم وجُوباً بحَبْسٍ وغيرهِ وإن أخذ القاطِعُ المالَ ولم يقتُل قطعت يده اليمنَى ورجلهُ اليُسرى، فإِن عادَ فرِجْلُهُ اليمنى ويَدَه اليسرى، وإن قَتل قُتِلَ حتماً وإن عَفا مُسْتَحِقّ القَوْد وإن قَتَل وأخَذ نصاباً قُتِل ثم صلِّب بعد غسْله وتَكْفينِه والصلاةِ عليه ثلاثة أيام حتماً ثم ينزل، وقيل يبقى وجوباً حتى يتهرّى ويسيل صديده، وفي قول يصْلَبُ حياً قليلاً ثم ينزل فيقتل.
فصل في التعزير
(ويُعزَّرُ) أي الإِمامُ أو نائِبهُ (لمعصِيةٍ لا حَدّ لها ولا كَفَّارَةَ) سواءً كانت حقاً لله تعالى أم لآدمي كمباشَرةِ أجنبيَّة في غيرِ فرجٍ وستّ ليس بقذف وضرب لغير حق (غالباً) وقد يُشْرَعُ التعزيرُ بلا معْصِية كمن يكتسبُ باللهوِ الذي لا معصيةَ فيهِ، وقد ينَتفي مع انتفاء الحدِّ والكفارة: كصغيرةٍ صدرت ممن لا يُعرفُ بالشرّ لحديثٍ صححه ابن حبان: "أقِيلوا ذوي الهيئاتِ عثرايَهم إلا الحدود" وفي رواية: "زلاَّتَهَم" وفسرهم الشافعي رضي الله عنه بمن ذُكر، وقيل: هم أصحابُ الصغائر، وقيل: مَنْ يندمُ على الذنبِ ويتوبُ منه. وكقتلِ من رآه يزني بأهلهِ على ما حكاه ابن الرفعة لأجل الحميةِ والغضب، ويحلُّ قتلُه باطناً. وقد يجامعُ التعزيرُ الكفارةُ كمجامع حليلتَهُ في نهارِ رمضان ويحصلُ التعزيرُ (بضربٍ) غير مُبرحٍ أو صفعٍ وهو الضربُ بجمع الكفِ (أو حبسٍ) حتى عن الجمعةِ أو توبيخٍ بكلام أو تغريبٍ أو إقامةٍ من مجلس ونحوها مما يراها المعزَّرُ جنساً وقداًر لا بحلقِ لحيةٍ. قال شيخُنا: وظاهرُ حرمةِ حلقِها وهو إنما يجيءُ على حرمتهِ التي عليها أكثر المتأخرين أما على كراهتِهِ التي عليها الشيخان وآخرون فلا وجهَ للمنعِ إذا رآهُ الإِمام. انتهى. ويجب أن ينقصَ التعزيرُ عن أربعينَ ضربةٍ في الحرِّ وعن عشرينَ في غيرهِ (وعُزر أب) وإن علا وأَلحقَ به الرافعي الأمُّ وإن عَلَتْ (ومأذُونه) أي من أذَن لهُ في التعزيرِ كالمعلمِ (صغيراً) وسفيهاً بارتكابِهما ما لا يليقُ زجراً لهما عن سيءِ الأخلاقِ وللمعلمِ تعزيرُ المتعلمِ منهُ (و) عزر (زوجٍ) زَوجتَهُ (لحقِّهِ) كنشوزِها لا لحقِّ الله تعالى وقضيتُه أَنه لا يضرُّ بها على تركِ الصلاة. وأفتى بعضُهم بوجوبهِ. والأوجه كما قال شيخنا جوازهُ، وللسيد تعزيرُ رقيقهِ لحقِّهِ، وحقِّ اللَّهِ تعالى وإنما يُعَزَّر من مرَّ بضرب غير مبرح، فإِن يَفِد تعزيره إلا بمبرح تُرك لأنه مُهلكٌ وغيره لا يفيد. (وسُئِلَ) شيخنا عبدِ الرحمن بن زياد رحمه الله تعالى عن عبدٍ مملوكٍ عصى سيدَه وخالف أمرَه ولم يخدمهُ خدمة مثله. هل لسيدِه أن يضربَه ضرباً غير مبرح أم ليسَ له ذلك؟ وإذا ضَربه سيدَهُ ضرباً مبرحاً، ورفع به إلى أحد حكام الشريعة، فهل للحاكم أن يمنَعه عن الضربِ المبرحِ أم ليس له ذلك؟ وإذَا مَنعَهُ الحاكمُ مثلاً ولم يمتنع، فهل للحاكمِ أن يبيعَ العبدَ ويسلمَ ثمنَهُ إلى سيدهِ أم ليسَ له ذلك؟ وبماذا يبيعَهُ، بمثل الثمنِ الذي اشتراهُ بِهِ سيدُه، أو بما قاله المقوّمون، أو بما انتهت إليهِ الرغباتُ في الوقت؟ (فأجاب) إذا امتنع العبدُ من خدمةِ سيدهِ الخدمةَ الواجبة عليهِ شرعاً فللسيدِ أن يضربَه على الإمتناعِ ضرباً غير مُبرحٍ إن أفاد الضَربُ المذكورُ، وليس له أن يضربَه ضرباً مُبرحاً، ويمنعُهُ الحاكمُ من ذلك، فإِن لم يمتنعْ منَ الضرب المذكورِ فهوَ كما لو كلَّفهُ منَ العملِ ما لا يطيق، بل أولى إذ الضرب المبرح ربما يؤدي إلى الزهوقِ بجامعِ التحريم. وقد أفتى القاضِي حسين بأنهُ إذا كلَّفَ مملوكهُ ما لا يطيقُ أنه يباعُ عليه بثمنِ المثلِ، وهوَ ما انتهت إليهِ الرغبات في ذلكِ الزمان والمكان. انتهى.
فصلٌ في الصيالِ
وهو الإستطالةُ والوثوبُ على الغيرِ (يجوزُ) للشخص (دفعُ) كلِّ (صائلٍ)، مسلمٍ وكافرٍ، مكلفٍ وغيره (على معصوم) من نفسٍ أو طرفٍ أو منفعةٍ أو بضعٍ ومقدماته كتقبيلٍ ومعانقةٍ، أو مالٍ وإن لم يُتموّل على ما اقتضاه إطلاقهم كحبةِ برَ، أو اختصاصٍ كجلدِ ميتةٍ سواءً كانت للدافعِ أم لغيرهِ وذلكَ للحديثِ الصحيح أن: "من قُتلَ دونَ دمِهِ أو مالِهِ أو أهلِهِ فهو شَهيدٌ" ويلزمُ منهُ أن له القتلُ والقتال: أي وما يسيري إليهما كالجرحِ (بل يجبُ) عليهِ إن لم يخَفْ على نفسهِ أو عضوِهِ الدفع (عن بضعٍ) ومقدَماته ولو من غير أقاربهِ (ونفسٍ) ولو مملوكةٍ (قصدها كافرٌ) أو بهيمةٌ أو مسلمٌ غير محقونِ الدم كزانٍ محصنٍ، وتاركُ صلاةٍ، وقاطعُ طريقٍ تحتم قتلُه، فيحرم الإستسلامُ لهم فإِن قصدَها مسلمٌ محقونُ الدم لم يجب الدفعُ، بل يجوزُ الإستسلامُ له، بل يسنُّ للأَمرِ بهِ ولا يجبُ الدفعُ عن مالٍ لا رَوحَ فيه لنفسهِ (وليدفعِ) الصائلِ المعصوم (بالأخف) فالأخف (إن أمكنَ) كهربٍ فزجرٍ بكلام فاستغاثةٍ أو تحصن بحصانة فضرب بيده فَبِسوطٍ فبعصا فقطعٍ فقتلٍ لأن ذلك جُوِّزَ للضرورةِ ولا ضرورةَ للأثقل مع إمكان الأخف، فمتى خالفَ وعدل إلى رتبةٍ مع إمكان الإِكتفاءِ بدونها ضمن بالقَودِ وغيره.
نعم: لو التحم القتالُ بينهما واشتدَّ الأمرُ عن الضبطِ سقطَ مراعاةُ الترتيبِ ومحلُ رعايةِ الترتيبِ أيضاً في غيرِ الفاحشةِ فلو رآهُ قد أَولَج في أجنبيةٍ فلهُ أن يبدأَهُ بالقتلِ وإنِ اندفعَ بدونهِ لأنهُ في كلِ لحظةٍ مواقعٌ لا يُستدركُ بالأناةِ قاله الماوردي والرَوياني والشيخ زكريا. وقالَ شيخُنا: وهو ظاهر في المُحْصَنِ، أما غيرُه فالمتجهُ أنهُ لا يجوزُ قتلهُ إلا إن أدّى الدفعُ بغيرهِ إلى مضي زمنٍ وهو متلبسٌ بالفاحشة. انتهى. وإذا لم يمكن الدفعُ بالأخفّ كأن لم يجد إلا نحو سيفٍ فيضربُ به، أما إذا كانَ الصائلُ غير معصومٍ فله قتلهُ بلا دفعٍ بالأخف لعدمِ حرمتهِ.
[فرع]: يجبُ الدفعُ عن منكرٍ كشرب مسكرٍ وضربِ آلةِ لهوٍ وقتلِ حيوانٍ ولو للقاتلِ. (ووَجَبَ ختانٌ) للمرأةِ والرجلِ حيث لم يولدا مختونينِ لقولهِ تعالى: {أن اتبع ملةَ إبراهيم} ومنها الختان، إختتنَ وهو إبنُ ثمانينَ سنةٍ، وقيل واجبٌ على الرجالِ، وسنةٌ للنساءِ. ونُقلَ عن أكثرِ العلماءِ. (ببِلوغٍ) وعقلٍ إذ لا تكليفَ قبلَهما فيجبُ بعدهما فوراً. وبحثَ الزركشيُّ وجوبَهُ على وليٍ مميزٍ وفيهِ نظر. فالواجبُ في ختانِ الرجلِ قطعُ ما يغطي حَشْفَتَهُ حتى تنكشفَ كلها، والمرأةِ قطعُ جزءٍ يقعُ عليه الإسمُ من اللحمةِ الموجودةِ بأعلى الفرجِ فوق ثقبةِ البولِ تُشبهُ عُرفَ الديكِ وتسمى البظر بموحدة مفتوحة فمعجمة ساكنة ونقلَ الأردبيلي عن الإِمام ولَو كان ضعيفَ الخِلقةِ بحيث لو خُتنَ خِيفَ عليهِ لم يُختنْ إلا أن يَغلُبَ على الظنّ سلامتَهُ، ويندبُ تعجيلُهُ سابعَ يومِ الولادةِ للإِتِّباعِ، فإِن أُخر عنه ففي الأربعين، وإلا ففي السنةِ السابعةِ لأنها وقتُ أمرهِ بالصلاةِ ومَن ماتَ بغيرِ خِتانٍ لن يُختنْ في الأصحِ. ويُسنُّ إظهارُ ختانِ الذكرِ وإخفاءُ خِتانِ الأُنثى، وأمَا مؤنةِ الختانِ في مالِ المختونِ ولو غيرَ ملَّف، ثم على مَنْ تلزمُهُ نفقتُهُ. ويجبُ أيضاً قطعُ سرةِ المولودِ بعدَ ولادتِهِ بعدُ نحوَ ربطِها لتُوقف إمساكِ الطعامِ عليه.
(وحرمَ تثقيبُ) أنفٍ مطلقاً (وأذنُ) صبيّ قطعاً، وصبِيةٍ على الأوجهِ لتعليقِ الحلَقِ كما صرحَ به الغزالي وغيرُه لأنهُ إيلامٌ لم تدعُ إليهِ حاجةٌ وجوزهُ الزركشي واستدلَّ بما في حديثِ أمِّ زرعٍ في الصحيح، وفي فتاوى قاضيخان مِنَ الحنفيةِ أنهُ لا بأسَ بهِ لأنهم كانوا يفعلونَهُ في الجاهليةِ فلمْ يُنكِرْ عليهم رسولُ الله، وفي الرعايةِ للحنابلةِ يجوزُ في الصبيةِ لغرضِ الزينةِ. وَيُكرهُ في الصبي. انتهى. ومقتضى كلامُ شيخنا في شرح المنهاج جوازُهُ في الصبيةِ لا الصبي لما عُرِفَ أنهُ زينةٌ مطلوبةٌ في حقهنَّ قديماً وحديثاً في كلِّ محلّ. وقد جوّزَ اللَّعِبَ لهنَّ بما فيهِ صورةٌ للمصلحةِ، فكذا هذا أيضاً. والتعذيبُ في مثلِ هذهِ الزينةِ الداعيةِ لرغبةِ الأزواجِ إليهنَّ سهل محتملٌ ومغتفَرٌ لتلكَ المصلحةِ. فتأملْ ذلكَ فإِنهُ مهمٌّ.
[تتمة]: مَنْ كانَ مع دابةٍ يضمَنُ ما أتلَفَتْهُ ليلاً ونهاراً. وإنْ كانتْ وحدَهَا فأتَلَفَتْ زرعاً أو غيرَهُ نهاراً لم يضمَنْ صاحبُهَا.أو ليلاً ضَمَنَ إلا أن لا يُفرِّطَ في ربطِهَا. وإتلافُ نحوِ هرّةٍ طيراً أو طعاماً عَهدَ إتلافها ضمنَ مالِكُها ليلاً ونهاراً إن قصَّرَ في ربطِهِ، وتُدفعُ الهرّةُ الضاريَةُ على نحوِ طيرٍ أو طعامٍ لتأكُلَهُ كصائلٍ برعايةِ الترتيبِ السابقِ. ولا تقتلُ ضاريةً ساكنةً خلافاً لجمعٍ لإِمكانِ التحرزِ عن شرِّها.