باب في الإعتكاق
كتاب فتح المعين للميباري في الفقه الشافعي
محتويات
باب في الإعتكاق
هُوَ إزالةُ الرقِّ عنِ الآدمِي والأصلُ فيهِ قولهُ تعالى: {فَكُّ رَقبةٍ} وخَبرُ الصحيحينِ أنهُ قالَ: "مَنْ أعتقَ رقبةً مؤمنةً وفي روايةٍ امرأً مسلماً أعتقَ اللَّهُ بكلّ عضوٍ منها عضواً من أعضائِهِ منَ النارِ حتى الفِرجَ بالفرجِ" وَعتقُ الذكرِ أفضلُ. ورويَ أنَّ عبدَ الرحمنِ بن عوفٍ رضي الله عنهُ أعتقَ ثلاثينَ ألفَ نَسمةٍ أي رقبةٍ وختمنا كالأصحابِ ببابِ العَتقِ تفاؤلاً (صحَّ عتقُ مطلقِ تصرفٍ) له ولايةً ولو كافراً فلا يصحُّ من صبيٍ ومجنونٍ ومحجورٍ بسفهٍ أو فلسٍ ولا من غيرِ مالكٍ بغير نيابةٍ: (بنحو أعتقتُكَ أو حَررتُكَ) كَفكَكْتُكَ وَأَنتَ حرٌ أو عَتِيقٌ وبكنايةٍ مَعَ نيةٍ كلا مُلكَ أو لا سبيلَ لي عليكَ أو أَزلْتُ ملكي عنكَ وَأَنتَ مولاي وكَذا يا سيدي على المُرجَّح وقولُهُ أنتَ إبني أو هَذا أو هُو إبني أو أبي أو أمي إعتاقٌ إنْ أمكنَ مِنْ حيثُ السنِّ وإن عرفَ نسبُهُ مؤاخذةً لهُ بإقرارِهِ أو يا ابني كنايةً فلا يُعتقُ في النداءِ إلا إن قَصَدَ بهِ العتقُ لاختصاصِهِ بأنهُ يُستعملُ في العادة كثيرَ الملاطفةِ وحسنَ المعاشرةِ كما صرحَ بهِ شيخُنَا في شرحِ المنهاجِ والإِرشادِ وليسَ من لفظِ الإِقرارِ بهِ قولُه لا عتق لعبدِ فلانٍ لأنهُ لا يصلحُ موضُوعُهُ لإِقرارٍ ولا إنشاءٍ
وإنْ استعملَ عرفاً في العتقِ كما أفتى به شيخُنَا رحمهُ اللَّهُ تعالى (ولو بعوضٍ) أي معَهُ فلو قالَ أعتقتُكَ على ألفٍ أو بعتُكَ نفسَكَ بألفٍ فقبلَ فوراً عُتقَ ولزمهُ الأَلفُ في الصورتينِ والولاءُ للسيدِ فيهِمَا (ولو أعتقَ حاملاً) مملوكةً لَهُ هيَ وحَملهَا (تَبعَهَا) أي الحملُ في العتقِ وإنِ استثناهُ لأنهُ كالجزءِ منها، ولو أعتقَ الحملَ عتقَ إنْ نفختْ فيهِ الروحُ دونَها، ولو كانتْ لرجلٍ والحملُ لآخرَ بنحو وصيةٍ لم يُعتقْ أحدُهُما بعتق الآخَر (أو) أَعتقَ (مشتركاً) بينه وبينَ غيرِهِ أي كلَّهُ (أو) أعتقَ (نصيبَهُ) منهُ كنصيبي منكَ حرٌّ (عُتِقَ نصيبُهُ) مطلقاً (وسَرَى الإِعتاقُ) مِنَ مُوسرٍ لا مُعسرٍ لما أيسرَ بهِ منْ نصيبِ الشريكِ أو بعضِهِ ولا يمنعُ السرايةَ دينٌ مستغرقٌ بدونِ حجرِ واستيلادِ أحدِ الشريكينِ الموسرِ يسري إلى حصةِ شريكِهِ كالعتقِ وَعَلَيه قيمة نصيبِ شريكِهِ وحصتُهُ من مَهرِ المثلِ لا قيمةَ الولدِ أي حِصَتهُ ولا يسري التدبيرُ (ولو مَلكَ) شخصٌ (بعضَهُ) من أصلٍ أو فرعٍ وإن بعدَ (عُتِقَ عليهِ) لخبرِ مسلمٍ.
وخرجَ بالبعضِ غيرُهُ كالأخِ فلا يُعتقُ بملكٍ (ومَنْ قالَ لعبدِهِ أنتَ حُرٌ بعد موتي) أو إذا متُّ فأنتَ حُرٌّ أو أَعتقتُكَ بعدَ موتي وكذا إذا متُّ فأنت حرامٌ أو مسيبٌ مَعَ نيةٍ (فهو مُدبرٌ يُعتقُ بَعدَ وفاتِهِ) مِنْ ثلثِ مالِهِ بَعدَ الدَّيْنِ (وبَطَلَ) أي التدبيرُ (بنحوِ بيعٍ) للمدبرِ فلا يَعُودُ وإنْ ملكَهُ ثانياً وَيَصحُّ بيعُهُ (لا برجوعٍ) عنه (لفظاً) كفسختُهُ أو عقصتُهُ ولا بإِنكارٍ للتدبيرِ ويجوزُ لهُ وطءُ المدبرةِ ولو وَلدتْ مدبرةٌ ولداً مِنْ نكاحٍ أو زنا لا يثبتُ للولدِ حكمُ التدبيرِ. فلو كانت حاملاً عندَ موتِ السيدِ فيتبعُها جَزماً، ولو دبرَ حاملاً ثبتَ التدبيرُ للحملِ تبعاً لها إن لم يَستثنِهِ وإن انفصلَ قبلَ موتِ سيدِهَا لا إنْ أبطلَ قبلَ انفصالِهِ تدبيرها والمدبرُ كعبدٍ في حياةِ السيدِ. ويصحُّ تدبيرُ مكاتبٍ وعكسهِ، كما يصحُّ تعليقُ عتقِ مكاتبٍ وَيُصدقُ المدبرُ بيمينٍ فيما وُجدَ معهُ وقالَ كسبتَهُ بعدَ الموتِ وقالَ الوارثُ بل قبلَهُ لأنَّ اليدَ لهُ (الكتابةُ) شرعاً عقدُ عتقٍ بلفظِها معلقٌ بمالٍ منجمٍ بنجمينِ فأكثرَ وهي (سُنَّةٌ) لا واجبةٌ وإن طلبَها الرقيقُ كالتدبيرِ (بطلبِ عبدٍ أمينٍ مكتسبٍ) بما يفي مؤنتَهُ ونجومَهُ فإِن فُقدَتْ الشروطُ أو أحدُها فمباحةٌ (وشُرطَ في صحتِها لفظٌ يُشعرُ بها) أي بالكتَابةِ (إيجاباً كَكاتبتُكَ) أو أنتَ مكاتبٌ (على كذا) كمائةٍ (منجماً مَعَ) قولِهِ (إذا أديتَهُ فأنتَ حرٌّ وقبولاً كقبلتُ) ذلكَ
(و) شُرطَ فيها (عوضٌ) مِنْ دَينٍ أو منفعةٍ. (مؤجلٌ) هنا ليحصلَهُ ويؤديهِ (منجمٌ بنجمينٍ فأكثرَ) كما جرى عليهِ أكثرُ الصحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم ولو في مُبعضٍ (مَعَ بيانِ قدرِهِ) أي العوضِ (وصِفَتِهِ) وعددِ النجومِ وقسطِ كلِ نجمٍ (ولزمَ سيداً) في كتابةٍ صحيحةٍ قبلَ عتقٍ (حطَّ متموّلٍ منهُ) أي العَوضِ لقولهِ تعالى: {وآتوهُم من مالِ اللَّهِ الذي آتاكم} فُسِّرَ الإِيتاء بما ذكرَ لأنَّ القصدَ مِنهُ الإِعانةُ على العتقِ وكونُهُ ربعاً فسبعاً أولى (ولا يَفسخُها) أي يجوزُ فسخُ السيدِ الكتابةَ (إلا إنْ عجزَ مُكاتَبٌ عن أداءِ) عندَ المحلِ لنجمٍ أو بعضِهِ (أو امتنَعَ عنهُ) عندَ ذلكَ مَعَ القدرةِ عليهِ (أو) غابَ عندَ ذلكَ وإن حَضَرَ مالُهُ أو كَانتْ غيبةُ المكاتبِ دونَ مسافةِ القصرِ فله فَسخُهَا بنفسِهِ وبحاكمٍ متى شاءَ لتعذرِ العوضِ عليهِ وليسَ للحاكمِ الأداءُ مِنْ مالِ المكاتبِ الغائبِ (ولَهُ) أي للمكاتبِ (فَسخٌ) كالرهنِ بالنسبةِ للمرتهنِ فلهُ تركُ الأداءِ والفسخِ وإنْ كانَ مَعَهُ وفاءٌ (وَحرِمَ عليهِ تمتعٌ بمكاتبةٍ) لإختلالِ ملكِهِ ويجبُ بوطئِهِ لها مهرٌ لا حدٌّ والولدُ حرٌّ (ولهُ) أي للمكاتبِ (شراءُ إماءٍ لتجارةٍ لا تزوجٍ إلا بإذنِ سيدِهِ ولا تَسرّ) ولو بإِذنِهِ يَعني لا يجوزُ وطءُ مملوكتَهُ وما وقعَ للشيخينِ في موضعٍ مما يقتضي جوازه بالإِذنِ مبنيٌ على الضعيفِ أن القنَّ غَيرَ المكاتبِ يُملكُ بتمليكِ السيدِ. قالَ شيخُنَا: ويظهرُ أنهُ ليسَ لهُ الإستمتاعُ بما دونَ الوطءِ أيضاً ويجوزُ للمكاتِبِ بيعٌ وشراءٌ وإجارةٌ لا هبةٌ وصدقةٌ وقرضٌ بلا إذنِ سيدِهِ.
[فرع]: لو قالَ السيدُ بعدَ قبضِهِ المالَ كنتُ فسختُ الكِتابةَ فأنكرَ المكاتبُ صدقَ بيمينِهِ لأنَّ الأصلَ عدَمِ الفسخِ وعلى السيدِ البينةَ. ولو قالَ كاتبتُكَ وأنا صبيٌّ أو مجنونٌ أو محجورٌ عليّ فأنكرَ المكاتبُ حلفَ السيدُ إنْ عرفَ لهُ ذلكَ وإلا فالمكاتبُ لأنَ الأصلَ عدمُ ما ادعاهُ السيدُ (إذا أحبلَ حرٌّ أمتَهُ) أي مَنْ لَهُ فِيها ملكٌ وإن قلَّ ولو كانتْ مزوّجةً أو محرّمةً لا إنْ أحبلَ أمةَ تركة مدينٍ وارثٍ معسرٍ (فولَدتْ) حياً أو ميتاً أو مضغةً مصوّرةً بشيءٍ مِنْ خلقِ الآدميينَ (عُتقتْ بموتِهِ) أي السيدُ من رأسِ المالِ مُقدماً على الديونِ والوصايا وإنْ حبلتْ في مرضِ موتِهِ (كولدِها) الحاصل (بنكاحٍ أو زنا بعدَ وَضعِهَا) ولداً للسيدِ فإِنهُ يُعتقُ مِنْ رأسِ المالِ بموتِ السيدِ وَإِنْ كانت أمُّهُ قبلَ ذلكَ (ولَهُ وطءُ أمّ ولدٍ) إجماعاً واستخدامُها وَإجارتُهَا وكذا تزويجُهَا بغيرِ إذنِها (لا تمليكُهَا) لغيرِهِ ببيعٍ أو هبةٍ فَيحرمُ ذلكَ ولا يصحُّ وكذا رهنُها (كولدِها متابعٌ لها) في العتقِ بموتِ السيدِ فلا يصحُّ تمليكُهُ مِنْ غيرِهِ كالأمّ بلْ لو حكمَ بهِ قاضٍ نقضَ على ما حَكاهُ الروياني عَنِ الأصحابِ وتصحُّ كتابتُها وبيعُهَا مِنْ نفسها ولو ادعى ورثةُ سيدِها مالاً لهُ بيدِها قبلَ موتِهِ فادَّعَتْ تلفَهُ أي قبلَ الموتِ صُدّقتْ بيمِينِها كما نقلَهُ الأذرعيُ فإِنْ ادعتْ تلفَهُ بعدَهُ لم تصدقْ فيهِ كما قالَهُ شيخنا رحمهُ اللَّهُ تعالى رحمةً وَاسِعةً وأَفتى القاضي فِيمَنْ أقرَّ بِوطءِ أَمتِهِ فادعتْ أنَّها أَسقطتْ مِنهُ ما تصيرُ بهِ أمُّ ولدٍ بأنها تُصدقُ إن أمكنَ ذلكَ بيمينِها فإِذا ماتَ عُتقتْ أَعتقَنَا اللَّهُ تعالى مِنَ النارِ، وَحَشَرَنا في زمرةِ المُقرَّبينَ الأخيارِ الأبرارِ وأسكَنَنَا الفردَوسَ مِنْ دارِ القرارِ، وَمَنَّ عليَّ في هذا التأليفِ وغيرِهِ بقبولِهِ وعمومِ النفعِ بهِ وبالإِخلاصِ فيهِ ليكونَ ذخيرةً لي إذا جَاءتِ الطامةُ وسبباً لرحمةِ اللَّهِ الخاصةِ والعامةِ. الحمدُ للَّهِ حمداً يوافي نعمَهُ ويكافىءُ مَزيدَهُ. وصلى اللَّهُ وسلمَ أَفضلَ صلاةٍ وأكملَ سلامٍ على أشرفِ مخلوقاتِهِ محمدٍ وآلِهِ وأصحابِهِ وأزواجِهِ عَددَ معلوماتِهِ ومدادَ كلماتِهِ وحسبُنا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكيلِ وَلا حَولَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ العليِّ العظيمِ.
يقولُ المؤلفُ عَفَا اللَّهُ عنهُ وعَنْ آبائِهِ ومشايخِهِ: فَرغتُ منْ تبييضِ هذا الشرحِ ضحوةَ يومِ الجُمعَةِ الرابعِ والعشرينِ مِنْ شهرِ رَمضانَ المعظَّمِ قدرُهُ سنةَ اثنتينِ وثمانينَ وتسعمائةٍ وأرجو اللَّهَ سُبحانَهُ وتَعالى أنْ يقبلَهُ وأنْ يعمَّ النفعَ بِهِ ويَرزقنا الإِخلاصَ فيهِ وَيُعيذَنا بهِ من الهاويةِ، ويدخلنا به في جنةٍ عاليةٍ، وأنْ يرحَم امرءاً نظرَ بعينِ الإنصافِ إليهِ، ووقفَ على خطأٍ فأطلعني عليهِ أو أصلحَهُ الحمدُ للَّهِ ربِ العالمينَ. اللهمَّ صلّ وسَلم على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ كلما ذكركَ وذِكْرِهِ الذاكرونَ، وَغَفَلَ عن ذكرِكَ وذِكرِه الغافلونَ. وعلينا معهُمْ بِرَحمتِكَ يا أرحَمَ الراحمينَ.