باب في الوصية
كتاب فتح المعين في الفقه الشافعي
محتويات
باب في الوصية
هي لغة الإيصال: من وصى الشيء بكذا وصله به لان الموصي وصل خير دنياه بخير عقباه.
وشرعا تبرع بحق مضاف لما بعد الموت.
وهي سنة مؤكدة إجماعا وإن كانت الصدقة بصحة فمرض أفضل فينبغي أن لا يغفل عنها ساعة: كما صرح به الخبر الصحيح [البخاري رقم: 2738, مسلم رقم: 1627] : "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" أي: ما الحزم أو المعروف شرعا إلا ذلك لان الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت.
وتكره الزيادة على الثلث إن لم يقصد حرمان ورثته وإلا حرمت.
تصح وصية مكلف حر مختار عند الوصية فلا تصح من صبي ومجنون ورقيق ولو مكاتبا لم يأذن له السيد ولا من مكره والسكران كالمكلف وفي قول تصح من صبي مميز.
لجهة حل: كعمارة مسجد ومصالحه وتحمل عليهما عند الإطلاق: بأن قال أوصيت به للمسجد ولو غير ضرورية عملا بالعرف ويصرفه الناظر للأهم والأصلح باجتهاده.
وهي للكعبة وللضريح النبوي تصرف لمصالحهما الخاصة بهما
كترميم ما وهي من الكعبة دون بقية الحرم وقيل في الأولى لمساكين مكة.
قال شيخنا: يظهر أخذا مما قالوه في النذر للقبر المعروف بجرجان صحة الوصية كالوقف لضريح الشيخ الفلاني وتصرف في مصالح قبره والبناء الجائز عليه ومن يخدمونه أو يقرؤون عليه.
أما إذا قال للشيخ الفلاني ولم ينو ضريحه ونحوه: فهي باطلة.
ولو أوصى لمسجد سيبني: لم تصح وإن بني قبل موته إلا تبعا وقيل تبطل فيما لو قال أردت تمليكه.
وكعمارة نحو قبة على قبر نحو عالم في غير مسبلة.
ووقع في زيادات العبادي: ولو أوصى بأن يدفن في بيته بطلت الوصية.
وخرج بجهة حل: جهة المعصية كعمارة كنيسة وإسراج فيها وكتابة نحو توراة وعلم محرم.
وتصح لحمل موجود حال الوصية يقينا فتصح لحمل انفصل وبه حياة مستقرة لدون ستة أشهر من الوصية أو لأربع سنين فأقل ولم تكن المرأة فراشا لزوج أو سيد وأمكن كون الحمل منه لأن الظاهر وجوده عندها لندرة وطئ الشبهة وفي تقدير الزنا إساءة ظن بها نعم: لو لم
تكن فراشا قط لم تصح الوصية قطعا لا لحمل سيحدث وإن حدث قبل موت الموصي: لأنها تمليك وتمليك المعدوم ممتنع فأشبهت الوقف على من سيولد له نعم إن جعل المعدوم تبعا للموجود كأن أوصى لأولاد زيد الموجودين ومن سيحدث له من الأولاد صحت لهم تبعا.
ولا لغير معين فلا تصح لأحد هذين هذا إذا كان بلفظ الوصية فإن كان بلفظ أعطوا هذا لأحدهما: صح لأنه وصية بالتمليك من الموصى إليه.
وتصح لوارث للموصي مع إجازة بقية ورثته بعد موت الموصي وإن كانت الوصية ببعض الثلث ولا أثر لإجازتهم في حياة الموصي: إذ لا حق لهم حينئذ.
والحيلة في أخذه من غير توقف على إجازة أن يوصي لفلان بألف: أي وهو ثلثه فأقل إن تبرع لولده بخمسمائة أو بألفين كما هو ظاهر فإذا قبل وأدى للابن ما شرط عليه أخذ الوصية ولم يشارك بقية الورثة الابن فيما حصل له ومن الوصية له إبراؤه وهبته والوقف عليه.
نعم لو وقف عليهم ما يخرج من الثلث على قدر نصيبهم نفذ من غير إجازة فليس لهم نقضه.
والوصية لكل وارث بقدر حصته كنصف وثلث لغو لأنه يستحقه
بغير وصية ولا يأثم بذلك.
وبعين هي قدر حصته: كأن ترك ابنين وقنا ودارا قيمتهما سواء فخص كلا بواحد صحيحة إن أجازا.
ولو أوصى للفقراء بشيء لم يجز للوصي أن يعطى منه شيئا لورثة الميت ولو فقراء كما نص عليه في الأم. وإنما تصح الوصية بأعطوه كذا وإن لم يقل من ما لي أو وهبته له أو جعلته له أو هو له بعد موتي في الأربعة وذلك لان إضافة كل منها للموت صيرتها بمعنى الوصية.
وبأوصيت له بكذا وإن لم يقل بعد موتي لوضعها شرعا لذلك فلو اقتصر على نحو وهبته له: فهو هبة ناجزة. أو على نحو ادفعوا إليه من مالي كذا أو أعطوا فلانا من مالي كذا: فتوكيل يرتفع بنحو الموت وليست كناية وصية.
أو على جعلته له: احتمل الوصية والهبة فإن علمت نيته لأحدهما وإلا بطل.
أو على ثلث مالي للفقراء لم يكن إقرارا ولا وصية للفقراء.
قال شيخنا: ويظهر أنه كناية وصية.
أو على هو له فإقرار.
فإن زاد من مالي فكناية وصية.
وصرح جمع متأخرون بصحة قوله لمدينة إن مت فأعط فلانا ديني الذي عليك أو ففرقه على الفقراء ولا يقبل قوله في ذلك بل لا بد من بينة به.
وتنعقد بالكناية: كقوله عينت هذا له أو ميزته له أو عبدي هذا له.
والكتابة كناية فتنعقد بها مع النية ولو من ناطق إن اعترف نطقا هو أو وارثه بنية الوصية بها.
ولا يكفي هذا خطي وما فيه وصيتي.
وتصح بالألفاظ المذكورة من الموصي مع قبول موصى له معين محصور إن تأهل وإلا فنحو وليه بعد موت موص ولو بتراخ.
فلا يصح القبول كالرد قبل موت الموصي لان للموصي أن يرجع فيها فلمن رد قبل الموت القبول بعده ولا يصح الرد بعد القبول.
ومن صريح الرد: رددتها أو لا أقبلها ومن كنايته: لا حاجة لي بها وأنا غني عنها.
ولا يشترط القبول في غير معين كالفقراء بل تلزم بالموت ويجوز الاقتصار على ثلاثة منهم ولا يجب التسوية بينهم.
وإذا قبل الموصى له بعد الموت بأن به أي بالقبول الملك له
في الموصي به من الموت: فيحكم بترتب أحكام الملك حينئذ من وجوب نفقة وفطرة والفوز بالفوائد الحاصلة وغير ذلك.
لا تصح الوصية في زائد على ثلث في وصية وقعت في مرض مخوف لتولد الموت عن جنسه كثيرا إن رده وارث خاص مطلق التصرف لأنه حقه فإن كان غير مطلق التصرف فإن توقعت أهليته عن قرب: وقف إليها وإلا بطلت.
ولو أجار بعض الورثة فقط: صح في قدر حصته من الزائد وإن أجاز الوارث الأهل فإجازته تنفيذ للوصية بالزائد.
والمخوف: كإسهال متتابع وخروج الطعام بشدة1 ووجع أو مع دم من عضو شريف كالكبد دون البواسير أو بلا استحالة وحمى مطبقة وكطلق حامل وإن تكررت ولادتها لعظم خطره ومن ثم كان موتها منه شهادة وبقاء مشيمة والتحام قتال بين متكافئين واضطراب ريح في حق راكب سفينة وإن أحسن السباحة وقرب من البر.
وأما زمن الوباء والطاعون فتصرف الناس كلهم فيه محسوب من الثلث وينبغي لمن ورثته أغنياء أو فقراء أن لا يوصي بزائد على ثلث والأحسن أن ينقص منه شيئا
----
.1 في نسخة: وخروج الطعام بلا استحالة هضم أو كأن يخرج بشدة ومضمون الزيادة سيرد بعد.
----
ويعتبر منه أي الثلث أيضا عتق علق بالموت في الصحة أو المرض وتبرع نجز في مرضه كوقف وهبة وإبراء.
ولو اختلف الوارث والمتهب: هل الهبة في الصحة أو المرض؟ صدق المتهب بيمينه لان العين في يده.
ولو وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث.
أما المنجز في صحته فيحسب من رأس المال كحجة الإسلام وعتق المستولدة ولو ادعى الوارث موته في مرض تبرعه والمتبرع عليه شفاءه وموته من مرض آخر أو فجأة فإن كان مخوفا صدق الوارث وإلا فالآخر.
ولو اختلفا في وقوع التصرف في الصحة أو في المرض صدق المتبرع عليه لأن الأصل دوام الصحة فإن أقاما بينتين قدمت بينة المرض.
فرع لو أوصى لجيرانه فلأربعين دارا من كل جانب فيقسم حصة كل دار على عدد سكانها أو للعلماء
فلمحدث يعرف حال الراوي قوة أو ضدها والمروي صحة وضدها ومفسر يعرف معنى كل آية وما أريد بها وفقيه يعرف الأحكام الشرعية نصا واستنباطا والمراد هنا من حصل شيئا من الفقه بحيث يتأهل به لفهم باقيه
وليس منهم نحوي وصرفي ولغوي ومتكلم ويكفي ثلاثة من أصحاب العلوم الثلاثة أو بعضها.
ولو أوصى لا علم الناس اختص بالفقهاء أو للقراء لم يعط إلا من يحفظ كل القرآن عن ظهر قلب أو لأجهل الناس صرف لعباد الوثن فإن قال من المسلمين فمن يسب الصحابة.
ويدخل في وصية الفقراء والمساكين وعكسه.
ويدخل في أقارب زيد كل قريب وإن كان بعد لا أصل وفرع ولا تدخل في أقارب نفسه ورثته.
وتبطل الوصية المعلقة بالموت ومثلها تبرع علق بالموت سواء كان التعليق في الصحة أو المرض فللموصي الرجوع فيها كالهبة قبل القبض بل أولى ومن ثم لم يرجع في تبرع نجزه في مرضه وإن اعتبر من الثلث برجوع عن الوصية بنحو نقضتها كأبطلتها أو رددتها أو أزلتها.
والأوجه صحة تعليق الرجوع فيها على شرط لجواز التعليق فيها فأولى في الرجوع عنها.
وبنحو هذا لوارثي أو ميراث عني سواء أنسي الوصية أم ذكرها.
وسئل شيخنا عما لو أوصى له بثلث ماله إلا كتبه ثم بعد مدة أوصى له بثلث ماله ولم يستثن: هل يعمل بالأولى أو بالثانية فأجاب بأن الذي يظهر العمل بالأولى لأنها نص في إخراج الكتب والثانية محتملة إنه ترك الاستثناء فيها لتصريحه به في الأولى وأنه تركه إبطالا له والنص
مقدم على المحتمل.
وبنحو بيع ورهن ولو بلا قبول وعرض عليه وتوكيل فيه.
ونحو غراس في أرض أوصى بها بخلاف زرعه بها.
ولو اختص نحو الغراس ببعض الأرض اختص الرجوع بمحله.
وليس من الرجوع إنكار الموصي الوصية إن كان لغرض.
ولو أوصى بشيء لزيد ثم أوصى به لعمرو فليس رجوعا بل يكون بينهما نصفين ولو أوصى به لثالث كان بينهم أثلاثا وهكذا قاله الشيخ زكريا في شرح المنهج.
ولو أوصى لزيد بمائة ثم بخمسين فليس له إلا خمسون لتضمن الثانية الرجوع عن بعض الأولى قاله النووي.
مطلب في الإيصاء وتنفع ميتا من وارث وغيره صدقة عنه ومنها وقف لمصحف وغيره وبناء مسجد وحفر بئر وغرس شجر منه في حياته أو من غيره عنه بعد موته.
ودعاء له إجماعا وصح في الخبر أن الله تعالى يرفع درجة العبد في الجنة باستغفار ولده له [مسلم رقم: 1631, ابن ماجه رقم: 3660, مسند أحمد رقم: 8540, الدارمي رقم: 3464] وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [53 سورة النجم الآية: 39] عام مخصوص بذلك وقيل منسوخ.
ومعنى نفعه بالصدقة أنه يصير كأنه تصدق قال الشافعي رضي الله عنه وواسع فضل الله أن يثيب المتصدق أيضا ومن ثم قال أصحابنا: يسن له نية الصدقة عن أبويه مثلا فإنه تعالى يثيبهما ولا ينقص من أجره شيئا.
ومعنى نفعه بالدعاء حصول المدعو به له إذا استجيب واستجابته محض فضل من الله تعالى أما نفس الدعاء وثوابه فهو للداعي لأنه شفاعة أجرها للشافع ومقصودها للمشفوع له نعم دعاء الولد يحصل ثوابه نفسه للوالد الميت لان عمل ولده لتسببه في وجوده من جملة عمله كما صرح به خبر: "ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث" ثم قال: "أو ولد صالح" أي مسلم "يدعو له" [مسلم رقم: 1631] حمل دعاءه من عمل الوالد.
أما القراءة فقد قال النووي في شرح مسلم [المقدمة] المشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل ثوابها إلى الميت وقال بعض أصحابنا يصل ثوابها للميت بمجرد قصده بها ولو بعدها وعليه الأئمة الثلاثة واختاره كثيرون من أئمتنا واعتمده السبكي وغيره فقال: والذي دل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرآن إذا قصد به نفع الميت نفعه وبين ذلك.
وحمل جمع عدم الوصول الذي قاله النووي على ما إذا قرأ لا بحضرة الميت ولم ينو القارئ ثواب قراءته له أو نواه ولم يدع.
وقد نص الشافعي والأصحاب1 على ندب قراءة ما تيسر عند الميت والدعاء عقبها أي لأنه حينئذ أرجى للإجابة ولان الميت تناله بركة القراءة: كالحي الحاضر.
قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع:
اللهم أوصل ثواب ما قرأته أي مثله فهو المراد وإن لم يصرح به لفلان لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي فماله أولى.
ويجري هذا في سائر الأعمال من صلاة وصوم وغيرهما. [راجع الصفحات 38, 272]
----
.1 هو كذلك في الأذكار رقم: 845, وفي المجموع 5/258 أن هذا قول الأصحاب وفي رياض الصالحين رقم: 947 أن هذا قول الشافعي.
----