أدلة من قال بتصويب المجتهدين للجويني
كتاب الإجتهاد للجويني
محتويات
- أدلة من قال بتصويب المجتهدين
- فصل فيما ذهب بعض اصحاب ابي حنيفة
- فصل في القول بالاشبه وذكر اختلاف الناس فيه
- فصل في تقابل وجهين من الاجتهاد في ظن المجتهد
- العودة إلي الصفحة الرئيسية من كتاب الإجتهاد
أدلة من قال بتصويب المجتهدين
وأما أدلة القائل بتصويب المجتهدين فقد ذكر القاضي طرقا في الدليل وقد تأملتها فرأيت بعضها يفتقر في الثبوت الى بعض وكلها في التحقيق اركان دلالة واحدة فرأيت ان اركب منها دلالة واستقصي فيها وجوه الكلام على السبيل التي اشبعها القاضي فنقول لمخالفينا الحق الذي ادعيتم اتحاده عند الله تعالى لا يخلون اما ان تزعموا انا
كلفنا العثور عليه واما ان تزعموا انه لم يتعلق به حكم تكليف فان زعمتم انا لم نكلف العثور عليه فوجوده وعدمه في حق المكلف بمثابة واحدة اذ ليس هو حقا عليه وهذا القسم مما لا يقول الخصم به فلا فائدة في طلب الاطناب فيه
فان زعموا ان الذي هو حق عند الله تعالى قد كلفنا العثور عليه والعمل بموجبه وهو مذهب القوم فهذا باطل لاصلين نمهدهما
احدهما اجماع المسلمين قاطبة على ان كل مجتهد مأمور بالعمل على قضية اجتهاده فان غلب على ظن احد المجتهدين في واقعة الحل وغلب على ظن الاخر التحريم فلا يسوغ للمحرم الاخذ بغير موجب اجتهاده ولو حاد عنه عصى وانتسب الى الماثم فاذا تقرر باطلاق الأمة كون كل مجتهد مؤاخذ بالعمل بقضية اجتهاده فلا يخلون اما ان يكون ما عمل به حقا عند الله تعالى واما ان لا يكون كذلك فان كان حقا عند الله تعالى فهو الذي يلتمسه ويجب على هذا الاصل كون كل مجتهد من المجتهدين مصيبا
وان زعموا انه يجب عليه العمل ظاهرا ويجوز ان يكون منهيا عنه عند الله تعالى فهذا باب من الجهالة لا يرضى المحققون سلوكه فان الامة اجمعت على ان كل مجتهد مأمور بالعمل بقضية اجتهاده حتى لو مال عن ذلك انتسب الى المأثم وان تغير اجتهاده في الثاني فكيف تجمع الامة على وجوب ما يجوز كونه منهيا عنه وهل هو الا التناقض الذي ادعوه علينا في صدر شبههم فهذا تمهيد احد الاصلين
وأما الاصل الثاني فهو ان نقول اذا قدرتم ورود العمل بموجب الاجتهاد حكما هو الحق فلا يخلون اما ان تزعموا انه مما يعلم والى العلم به سبيل وهو نصب عليه دليل واما ان تقولوا هو مما امرنا بالعلم به ولا دليل يؤدي اليه واما ان تقولوا ما كلفنا العلم به اصلا فان زعمتم انا كلفنا العلم به واليه صار معظم المخالفين وزعموا ان عليه ادلة منصوبة لو تمسك بها الناظر لافضت به اليه فهذا باطل من اوجه اقربها ان الادلة في المجتهدات الحكمية مضبوطة الاوصاف وليست تقتضي علما لذواتها بخلاف ادلة العقول فانها لو اقتضت علما لذواتها
لاقتضته من غير نصب وقد استقصينا القول في ذلك في احكام القياس فاذا بطل تنزلها منزلة الادلة العقلية في اقتضائها العلم لذواتها دل على انها انما نصبت امارات شرعا ثم نعلم انها في قضية الشرع ليست مما يقطع بها اذ منها خبر الواحد ولا يسوغ القطع بنقله ومنها طرق الاقيسة ولا يسوغ ايضا القطع باصابة المستنبط لها على منهج اصل مخالفينا فانا يستقيم كونها مفضية الى العلم مع التشكك والاسترابة في اصولها وهذا ما لا جواب عنه فبطل من هذا الوجه ما ادعوه من انا كلفنا العلم بالحق ونصب عليه الدليل المفضي اليه
ومما يبطل ادعاء العلم ما ذكره القاضي من ان الصحابة ومن بعدهم من التابعين ما زالوا يتكلمون في مسائل الاجتهاد وكل منهم يزعم ان كل مجتهد متبع لاجتهاده ولا يسوغ له الاضراب عنه وكان كل واحد منهم لا يقطع بأن الذي تمسك به هو الحق والكل مدعوون اليه فان لم يصل اليه فقد أخطأ الحق وأكثر ما كان يدعيه المجتهد منهم غلبة الظن وترجيح الامارات واما القطع فلم يصر اليه احد منهم وكذلك كل علم
مقطوع به فثبت بذلك ثبوتا واضحا انتفاء العلم في المجتهدات اذ لو كنا كلفنا اصابته لما ذهب عنه من فرطنا ولو ذهبوا عنه كانوا متفقين على خلاف الحق ولا تجتمع الامة على ضلاله والذي يحقق لك ما ذكرنا ان احدا ما كان يؤثم اصحابه بالعدول عن الحق فلو كان كان الوصول الى الحق متصورا وهو واجب ولكان من مال عنه وحاد عن نصبه تاركا لواجب يقدر على الوصول اليه فلما لم يؤثم بعض الصحابة بعضا في المجتهدات وكذلك علماء عصرنا لا يؤثم بعضهم بعضا في المجتهدات على انهم قالوا من حكم الواجب ان يعصي المكلف بتركه والذي يحقق ذلك ان الناس لما افترقوا فيما يليق بالديانات دعوا للحق طوعا او كرها او قهرا وذلك نحو مخالفة الخوارج
وخروجهم على الامام الحق الى غير ذلك فهذا عقد الدلالة على الذين قالوا انا كلفنا في المجتهدات العلم ونصب لنا عليه الدليل فان قالوا انا كلفنا العلم ولم ينصب عليه دليل يوصل اليه المتمسك به فهذا خرق لاجماع الامة وذلك انهم اجمعوا على ان المكلف انما يكلف العلم فيما يتصور فيه الاستدلال المفضي الى العلم على ان ارباب التحقيق قالوا في احكام النظر ان العلم ينقسم الى الضروري والكسبي فاما الضروري فلا يفتقر في حصوله الى دليل ولكنه يحصل من فعل الله تعالى بدءا غير مقدور للعبد وما هذا سبيله لا يجوز ان يتعلق التكليف به اذ التكليف انما يتعلق بما يدخل تحت المقدور فاما الكسبي من العلوم فلا يسوغ حصوله مقدورا الا ان يكون مدلولا اذ لو لم نقل ذلك ادى الى بطلان ارتباط النظر بالعلم وهذا مما يستقصي في غير هذا الفن على انه مجمع عليه من القوم فبطل بما ذكرناه اجمع تقدير علم في الواقعة سوى الذي يعلم في ظاهر الامر وتبين ان الحق ما يؤدي اليه اجتهاد كل مجتهد
وقد وجه المخالفون على اصل واحد مما ذكرنا اسئلة والدلالة
تستقل دون ذلك الاصل وذلك انهم سألونا اسئلة في تمسكنا في ان الصحابة لم يؤثم بعضهم بعضا ونحن نذكرها ونتفصى عنها ان شاء الله تعالى على انا لا نحتاج الى هذا الاصل في عقد الدلالة وفيما عداه غنية ولكن لا يتوجه عليه شيء من اسئلة الخصم فمما سألوه ان قالوا بم تنكرون على من يزعم ان بعضهم كان يؤثم بعضا فلم ادعيتم الاجماع في ذلك وما دليلكم عليه
والجواب عن ذلك من وجهين احدهما ان نعلم قطعا ان ائمة الصحابة كانوا يختلفون في المسائل ثم يعظم بعضهم بعضا ولا يستجيز اطلاق اللسان في اصحابه بل تنزيه عن كل شين على انهم كانوا لا يعصون على ما لا يجوز الاعصاء عليه كيف وقد كانوا يوجبون على كل مجتهد ان يؤخذ بموجب اجتهاده وهذا ثابت قطعا في مذاهبهم ومذاهب اهل عصرنا فانى يستقيم مع ذلك الحكم بالتأثيم ثم نقول ان بعد عليكم امر الصحابة فاجماع اهل العصر يغنيكم فان احدا منهم لا يؤثم العلماء في المجتهدات بل يسوغ لكل مجتهد ان يتبع اجتهاده بعد ان لا يألوا جهدا
فان قالوا قد اشتهر عن اصحاب الرسول عليه السلام التناكر والتغليظ في القول في المجتهدات واشتهر ايضا عنهم الانتساب الى الخطأ ونسبته فمما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه انه قال في توريث الجد مع الاخ الا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل اب الاب ابا وقال في العول من شاء باهلته والذي احصى رمل عالج عددا لم يجعل في المال نصفا وثلثين أخرجه الحاكم في المستدرك
والمباهلة هي الملاعنة من قوله نبتهل أي نلتعن وروي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه قال في قصة المرأة التي ارسل اليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسولا ينهاها عن الفجور وكانت ترتقي سلما فاجهضت جنينها لما بلغتها الرسالة فاشار بعض الصحابة على عمر رضي الله عنه بأنك مؤدب فلا غرم عليك فقال علي رضي الله عنه عند ذلك ان اجتهدوا فقد اخطأوا وان لم يجتهدوا فقد غشوك ارى عليك الدية وهذا تصريح من علي رضي الله عنه بتخطئتهم
وباع زيد بن ارقم عبدا له بيع العينة فقالت عائشة رضي الله عنها الا اخبروا زيد بن أرقم انه ابطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ان لم يتب ونهى عمر بن الخطاب عن المغالاة في المهر وهو يخطب فقامت اليه امرأة فقالت مالك تحجر علينا في خيرة الله فقال عمر صدقت وكل الناس افقه من عمر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله فاعترف على نفسه بالخطأ واشتهر عن الصحابة في المجتهدات تسمية الخطأ على انفسهم
فقال أبو بكر رضي الله عنه في كثير منها ان اصبت فمن الله وان أخطأت فمن نفسي أخرجه البهقي وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق إن اصبت فمن الل وان اخطأت فمن الشيطان أخرجه أبو داود وهذا القبيل قد اشتهر عنهم اشتهارابين ولا معنى للخطأ في المجتهدات مع القول بتصويب المجتهدين فهذا ما تمسكوا به من الاثار واول ما نفاتحهم به ان نقول كيف يستقيم منكم حمل عادات الصحابة وشيمهم على حلاف ما اجمع عليه اهل العصر وقد اجمع اهل العصر قاطبة على ان مسائل الاجتهاد لا يجري فيها التأثيم وانما يجري التأثيم في ان يخالف الرجل موجب اجتهاده وكيف يسوغ مع هذا الاجماع ان يقع التاثيم في الصحابة مع تنزههم عما يشينهم ويحطهم عما فضلهم الله به فتعين بعد ذلك عليهم وعلينا تتبع ما ذكروه من الاثار بالتأويل والذي يوضح ذلك ان ما نقلوا فيه تغليظ القول مختلف فيه وقد اتفق اهل العصر على انه لا يجري فيه التغليظ مع كونه مختلفا فيه
ومما ذكر فيه التغليظ بيع العينة وقد اتفق المسلمون على انه من باع على الوجه المختلف فيه لا يحبط جهاده مع الرسول صلى الله عليه و سلم ومما يؤثر فيه التغليظ مسائل الجد اذ روي عن علي رضي الله عنه انه قال من اراد ان يقتحم جراثيم جهنم فليتكلم في الجد برأيه وهذا متروك الظاهر من وجهين احدهما ان التكلم في الجد لابد منه
والثاني ان الخلاف فيه لا يحل محل تقحم الجراثيم فقد اندفع عنا ما ادعوه من التأثيم احتجاجا اذ قد بينا افتقار الخصم الى التأويل وازالة الظاهر ثم الكلام على ما ذكروه من الاثار من اوجه احدها ان نقول انها احاد ولا تكاد ان تبلغ مبلغ القطع والذي تمسكنا به من اجماع اهل العصر في ترك التأثيم واجماع الصحابة قطعي لا ريب فيه والوجه الثاني من الكلام ان نقول ان صح التأثيم وتغليظ القول في بعض هذه الصور فذلك لان المغلظ المؤثم اعتقد ان الذي جرى الكلام فيه ليس من المجتهدات وحسبه من القطعيات ولذلك غلظ القول والامر على خلاف ما قدروه فاما الذين يتفقون على كونه مجتهدا فيجمعون على ترك التأثيم فيه
فان قالوا فكيف حسب ابن عباس مسألة العول قطعية قلنا فلسنا نضمن عصمة ابن عباس ولا عصمة من هو اجل منه من اصحابه وغرضنا من مساق هذا الكلام ان نصرف التغليظ عن المجتهدات فتدبره فاما ما تمسكوا به من الاثار المنطوية على الانتساب الى الخطأ والنسبة اليه فليس يليق بما اصلناه من كفهم عن التأثيم ولكن تمسكوا به بدءا
فنقول لا معتصم فيها فانها آحاد وهي مع ذلك عرضة للتأويل واما ما تعلقوا به من النقل من قول بعضهم إن أخطأت فمن نفسي فمعناه ان أخطأت نصا لم يبلغني وليس المعنى به الخطأ فيما كلف
وما روي عن عمر رضي الله عنه من الاعتراف بالخطأ في المغالات في المهر فهو على وجهه فان ظاهر نهيه رضي الله عنه في خلال الخطبة على ملأ من الصحابة ينبىء عن الزجر والردع وفيه الافضاءالى تحريم المباح مع مهابة عمر رضي الله عنه في القلوب فلما صدر منه النهي المطلق رأى استدراكه والاعتراف على نفسه
وما روي عن علي رضي الله عنه فهو بصدد التأويل ايضا فانه قال ان اجتهدوا فقد اخطأوا معناه فقد أخطأوا وجه الرأي الذي أبديته ورأيته وليس المعنى أنهم أخطأوا ما كلفوا فهذا وجه ما تمسكوا به من الاثار وقد تحررت الدلالة التي عضدناها
والاولى عندنا إذا خضنا في الاستدلال ان نقسم الكلام على قسمين فنقول تصويب المجتهدين عندك مما يستحيل المصير اليه عقلا او هو مما يمتنع شرعا فان قال هو مما يستحيل عقلا فقد ألحق جائزا بالمحالات فان الذي صار اليه المصوبون لو قدر ورود الشرع به لم يستحل فان الرب تعالى لو قال آيات أحكامي على المكلفين غلبات ظنهم فمن غلب على ظنه شيء فالعمل بموجبه حكمي عليه فهذا لا يعد من المستحيلات
فان عادوا وتمسكوا في تحقيق الاستحالة بما ادعوه من طرق المناقضات فالجواب عنها هين على ما سبق
وان زعموا ان ذلك لا يستحيل عقلا وانما يمتنع سمعا فنقيم عليهم الدلالة التي سبقت حينئذ وانما رأينا هذا التقسيم لان المخالفين يتسرعون الى ادعاء استحالة تصويب المجتهدين عقلا حتى اذا سلكوا هذا المنهج هان الكلام عليهم وان ردوا الامر الى الشرع تمسكنا بالدلالة السابقة نحو الكلام على القائلين بأن المجتهد مأمور بالعثور على الحق وان المصيب من المجتهدين واحد وبقي الكلام علينا في ثلاثة فصول
احدها في الرد على من قال كل مجتهد مصيب في اجتهاده والثاني تفصيل القول في الاشبه والثالث القول بالتخيير
اذا قلنا بتصويب المجتهدين عند تقابل الامارات
فصل فيما ذهب بعض اصحاب ابي حنيفة
ذهب بعض اصحاب ابي حنيفة الى ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده وأحدهما مصيب في الحكم والثاني مخطىء فيه ويؤثر ذلك عن ابي حنيفة ويحكى عن المزني وغيره من اصحاب الشافعي مثله وذكر القاضي للشافعي نصوصا دالة على الاخذ فيها بهذا المأخذ وأول ما نفاتح به القوم ان نقول هل يكلف المجتهد العثور على الحق المطلوب بالاجتهاد فلا يخلون عند ذلك اما ان يقولوا لا يتعين على المجتهد الا الاجتهاد فأما العثور على الحق فلا يكلف فان سلكوا هذا المسلك فقد افصحوا بمذهبنا فانهم صوبوا كل مجتهد فيما كلف على ان عبارتهم بشعة جدا فانهم اثبتوا حكما لا يتعلق به التكليف وهذا مردود باتفاق فان الاحكام في المجتهدات وغيرها من الشرعيات يتعلق التكليف بها اجماعا اذ من المستحيل ثبوت تحريم وتحليل وايجاب وندب من غير ان يتعلق به تكليف مكلف فان قالوا ان المجتهد مامور بالاجتهاد والعثور على الحق كما قال الاولون
فيقال لهم فهل على الحق دليل فان قالوا اجل قيل لهم وكيف يكون المجتهد مصيبا في إجتهاده وهو لم يتمسك بما يفضي به الى الحق اما بان حاد عن الدلالة فلم يتعلق بها او فرط فلم يكمل النظر فيها فلا يستقيم مع هذا الاصل القول بان المجتهد ادى ما كلف في اجتهاده
وان قالوا ان بعض ما اتى به من الاجتهاد فقد ادى ما كلف فيه ولكن لم يتممه فنقول فما يؤمنه انه لم يسلك طريق النظر في الدلالة ولم يضع نظره اولا الا في شبهة فمع تجويز ذلك كيف يطلقون القول بتصويبه في الاجتهاد على ان الاجتهاد مما لا يتبعض فاذا لم يكمل لم يصح شيء منه فانه يطلب لغيره ويتنزل منزلة الصلاه يؤدي بعضها ثم يطرأ عليها ما يبطلها على انا نقول بعد ما بينا تناقضهم نتمسك عليهم بالادلة القاطعة التي لا مخلص منها بان نقول اليس كل مجتهد مأمورا بان يعمل بموجب اجتهاده مأثوما بالانكفاف عنه عاصيا بتركه وهذا حقيقة الوجوب ولا موجب الا الله فكيف يتحقق مع ذلك ان يأمره بشيء ويعصيه بتركه ويجوز ان يكون منهيا عما امر به فهل هذا الا تناقض لا يستريب فيه ذو عقل
فان قالوا فالذي ذكرتموه يبطل عليكم بما لو اجتهد وعمل بموجب اجتهاده ثم تبين له انه أخطأ نصا فإنه كان مأمورا بموجب اجتهاده ثم تبين له انه كان مخطئا وهذا ما يعدونه من اعظم القوادح فيما تمسكنا به فنقول اذا لم يفرط المجتهد في الطلب وشدة البحث عن النصوص ولم يتمكن من العثور عليه فحكم الله تعالى عليه موجب اجتهاده قطعا ويتنزل منزلة من لم يبلغه الناسخ للحكم فيكون مخاطبا على الاصح بموجب المنسوخ الى ان يبلغه الناسخ فاذا صددناهم عن ذلك ضاق عليهم كل مسلك واستمر لنا ما طردناه من الدليل
فصل في القول بالاشبه وذكر اختلاف الناس فيه
ذهب طائفة من العلماء الى ان كل مجتهد مصيب ولا يكلف الا العمل بما ادى الى اجتهاده ويكون هو مأمورا عند وضع الاجتهاد بطلب الاشبه عند الله تعالى ولكن يعمل بقضية اجتهاده ولم يقل بالاشبه الا المصوبون واليه مال عيسى بن ابان والكرخي في بعض رواياته وهو الذي ارتضاه محمد بن الحسن ثم اذا روجعوا في الاشبه اختلفت اجوبتهم في بيانه فذهب بعضهم الى الكف عن بيانه وهذا نهاية الغي فان ما ذكروه ان كان مجهولا عندهم يستحيل اعتقاده وان كان معلوما فبأي بينة وذهب بعضهم الى ان الاشبه عند الله تعالى اولى طرق الشبه في المقاييس والعبر ومثلوا ذلك بان قالوا اذا الحق القائس الارز بالبر بوصف الطعم أو بوصف القوت او الكيل فأحد هذه الاوصاف اشبه عند الله تعالى
واقرب في التمثيل والمجتهد يكلف نفسه بالاجتهاد العثور عليه ثم لا عليه ان أخطأه وذهب آخرون في تفسير الاشبه الى ان قالوا الاشبه عند الله تعالى هو الذي لو ورد النص تقديرا لما ورد الا به فنقول لهم اذا صوبنا المجتهدين واوجبنا على كل واحد يتبع موجب اجتهاده وجعلنا كل واحد على حق عند الله تعالى فلا معنى لتقدير الاشبه مع ذلك
على انا نقول لهم هل يكلف المجتهد العثور على الاشبه ام لا يكلف ذلك فان لم يكلف العثور عليه فكيف يجب طلبه مع ان المجتهد يعتقد انه لا يكلف العثور عليه وان قلتم انه يجب العثور عليه فاذا لم يعثر عليه الا واحد من المجتهدين وجب تخطئة الباقين وهذا خوض في المذهب الاول الذي ابطلناه
اذا لا فصل بين تقدير الاشبه ولا دليل يوصل اليه على ان ما عولوا عليه يهدم المصير الى الاشبه فانه يستحيل الجمع بين قول القائل يجب على كل مكلف ان يعمل بموجب اجتهاده ويعصي بتركه ويجوز ان يكون الامثل له غيره والاشبه عند الله تعالى ترك ما يعصيه بتركه ثم نقول ما ذكرتموه في الاشبه لا معنى له فانكم ان عنيتم انه مشابهة الفرع
الاصل في اوصاف الذوات فهذا مستحيل في طرق اجتهاد الشرعيات فان الشيء يقاس على خلافه كما يقاس على مثله فلا يعول في العبر الشرعية على تماثل الاوصاف الذاتية عقلا عن اقتضاء الحكم وكونه اولى به فهذا محال وقد قدمنا في ابطاله ما فيه كفاية
قلنا ان شيئا من هذه الاوصاف لا يدل عقلا على الاحكام وان عنوا بالاشبه ان الرب تعالى نصب وصفا من الاوصاف علما دون غيره فكيف تقولون مع ذلك بتصويب المجتهدين وهذا ما لا مخلص له منه ثم نقول لم يؤثر عن القائلين بالاشبه الا المقالات الثلاث التي حكيناها احدها الكف عن التفسير وهو يورط في الجهالة والثاني التفسير باولى وجوه القياس وهو باطل فان الاولى لا يخلو اما ان يكون اولى عقلا وهو باطل واما ان يكون اولى بمعنى انه علم على الحكم دون غيره فهو الحق دون غيره اذا وما سواه خطأ ولا معنى للاشبه سوى ما قلناه فان فسروا الاشبه بانه الذي لو ورد النص لم يرد الا به فنقول فقولوا ان من أخطأه مع انه وجب عليه طلبه فهو مخطىء
فان قالوا لا نجعله مخطئا لانه لم يرد به النص قلنا فلا تجعلوه الاشبه لانه لم يرد به النص فانه لا معنى لكونه اشبه يرجع الى ذاته انما يكون اشبه بنصب صاحب الشريعة اياه علما على الحكم فاذا لم ينصبه لم يكن لكونه اشبه معنى
فاذا استدل القائلون بالاشبه بنكتة واحدة على المصوبين فقالوا لا بد للمجتهد من مطلوب ولا يتصور طلب من غير مطلوب وقد منعتم ان يمون المطلوب علما وانكرتم ان يكون الله تعالى حكم معين في الحادثة او امارة منصوبة على الحكم يتعين العثور عليها
فاذا ابطلتم مع ذلك الاشبه فما الذي تطلبونه وهذا اعظم سؤال على المصوبين وربما يوضحون ذلك بالاجتهاد في القبلة فيقولون من خفيت عليه دلالة القبلة فهو مامور بطلبها ثم انما نكلفه ان يصلي الى الجهة التي ادى اجتهاده اليها ولكن يتأسس اجتهاده على طلب القبلة ثم يعمل بقضيتها ولكن يكلف سوى قضية اجتهاده وكذلك قولنا في الاشبه
والجواب عن ذلك ان نقول هذا الذي ذكرتموه لا يصح منكم اولا فان معولكم فيما ذكرتموه على ان الطلب من غير مطلوب لا يتحقق وهذا ينعكس عليكم مع قولكم بان العثور على المطلوب لا يجب فاذا لم توجبوا العثور على المطلوب وعلم كل مجتهد ذلك من نفسسه فأي معنى لوجوب الطلب
ثم نقول بم تنكرون على من يزعم ان المطلوب بالاجتهاد غلبة الظن فمهما غلب بطريق الاجتهاد على ظن المجتهد ضرب من الحكم فغلبة ظنه انه حكم الله تعالى عليه فان قالوا مجرد غلبة الظن لا ينتصب آية وفاقا حتى تقع غلبة الظن عن اجتهاده والاجتهاد ينبغي ان ينبني على قصد مطلوب ويستحيل ان يكون مطلوب المجتهد غلبة الظن بل يطلب شيئا ويغلب على ظنه انه اصابه فيكون ذلك غلبة ظن صادرة عن اجتهاده المتعلق بمطلوبه وانتم اذا لم تثبتوا مطلوبا اصلا فلا يتقرر اجتهاد قلنا سبيل التوصل الى غلبة الظن ما نذكره الان وهو أن المرأ المجتهد يعلم ان الصحابة رضوان الله عليهم تمسكوا باعتبار العلل وغلبة الاشباه وحكموا بما يخطر لهم من قضاياها فيسلك المجتهد مسلكهم مع انه يعتقد عدم تعيين حكم محقق او مقدر فمهما قدر نفسه سالكا مسلكهم في الحادثة الواقعة فيغلب على ظنه عند ذلك موجب اجتهاده فقد وضح
وجه التوصل الى غلبة الظن من غير تقدير الاشبه كما صرتم اليه ومن غير تقدير الحق الكائن كما صار اليه الاولون
فصل في تقابل وجهين من الاجتهاد في ظن المجتهد
فان قال القائل اذا اجتهد المجتهد فتقابل في ظنه وجهان من الاجتهاد ولم يترجح احدهما على الاخر وهما متعلقان بحكمين متنافيين فما قولكم في هذه الصورة قلنا اما من زعم ان المصيب واحد فقد اختلفت اقوالهم في هذه الصورة فذهب بعضهم الى انه يقلد عالما غيره قطع بأحد وجهي اجتهاده وذهب احزون الى انه لا يقلد عالما ولا ياخذ باجتهاد نفسه ولكن يتوقف ويصمم على طرق الترجيح وان تضيق الامر فقد اختلف مانعوا التقليد عند ذلك فذهب ذاهبون الى جواز التقليد عند ذلك في هذه الحالة وان منعوها في غيرها من الاحوال وذهب اخرون الى انه لا يقلد ولكن يعمل باحدهما وسنستقصي القول في ذلك في كتاب التقليد ان شاء الله عز و جل
واما المصوبون فقد خير بعضهم ومنع بعضهم القول بالتخيير وصار إلى التوقف او التقليد وزعم انه حكم الله تعالى عليه قطعا قال القاضي والصحيح في ذلك عندنا ما صار اليه شيخنا وهو ان المجتهد يتخير في الاخذ بأي الاجتهادين شاء والدليل عليه بطلان التقليد على ما نوضحه فاذا بطل التقليد وقد اوضحنا بما قدمناه ان كل مجتهد مصيب وقد استوى في حقه الاجتهادان فلا سبيل الى الاخذ بما شاء الا بضيق الوقت فنزل الحكمان في حقه منزلة الكفارة في حق الحالف
فان قال قائل ففي المصير الى التخيير خرق الاجماع وذلك انه اذا نقل عن الصحابة قولان في المسألة فاجتهد فيهما المجتهد وتقاوم الاجتهادان في حقه فلو صار الى التخيير كان قولا ثالثا والدليل عليه ان من صار الى ايجاب رقبة في حادثة مع من صار الى ايجاب الكسوة لا يوافقان من خير بينهما فان المخير يسلك مسلكا سوى مسلكهما فمن هذا الوجه لزم اختراع قول ثالث والذي يحقق ذلك ان التخيير من الاحكام المعدودة في مراتب احكام الشريعة ويتميز به بعض الكفارات عن بعض قلنا هذا الذي ذكرتموه ينقلب عليكم على وجه لا تجدون عنه محيصا فانا نقول اذا تقابل الاجتهادان وتضيق الحكم ولم يجد المجتهد من يقلده فما قولكم في هذه الصورة فيضطرون الى القول بانه
يأخذ باحدهما ويلزمهم في هذه الصورة ما الزمونا فان قالوا يتوقف فكيف يمكنهم ذلك وقد صور عليهم التضييق ومنع التخيير باجماع على ان للخصم ان يقول التوقف حكم ثالث ثم نقول لسنا نقول ان التخيير يثبت حكما في حق المجتهد حتى يعتقد انه حكم ثالث ولكن ياخذ باحدهما فيوافق من شاء من المختلفين في العصر الماضي وهو كالمستفتي يتصدى له مفتيان متساويان في كل الاوصاف وفتواهما له مختلفتان فياخذ بفتوى احدهما ولا يكون ذلك تخييرا فوضح الانفصال عما الزمونا
فان قالوا اليس معولكم على غلبة الظن في كل ما قدمتموه فاذا تقابل الاجتهادان فقد خلت المسألة عن غلبة الظن
قلنا اذا تقابل الاجتهادان فتقابلهما امارة في اثار غلبة ظن التخيير وهذا واضح فافهمه وقد انقضى الكلام في تصويب المجتهدين