السنة السابعة والسنة الثامنة من الهجرة النبوية
كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للخضري
محتويات
- السنة السابعة
- غزوة خيبر
- زواج صفية
- النهي عن نكاح المتعة
- رجوع مهاجري الحبشة
- فتح فدك
- صلح تيماء
- فتح وادي القرى
- إسلام خالد ورفيقيه
- سرية 1
- سرية 2
- سرية 3
- سرية 4
- عمرة القضاء
- زواج ميمونة
- السنة الثامنة
- سرية 1
- سرية 2
- سرية 3
- غزوة مؤتة
- سرية 4
- سرية 5
- غزوة الفتح الأعظم
- غزوة حنين
- غزوة الطائف
- عمرة الجعرانة
- سرية 7
- سرية 8
- سرية 9
- سرية 10
- العودة الي الصفحة الرئيسية من كتاب نور اليقين
السَّنَة السَّابعة
غزوة خَيبر
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز لغزو يهود خيبر، الذين كانوا أعظم مُهَيِّجٍ للأحزاب ضد رسول الله في غزوة الخندق، والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضد رسول الله كما قدّمنا ذلك في قصة كعببن الأشرف. وقد استنفر رسولُ الله لذلك مَنْ حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية، وجاء المخلَّفون عنها ليؤذَن لهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تخرجوا معي إلا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئاً»، وأمر منادياً ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولَّى على المدينة سِبَاعَبن عُرْفُطَةَ الغفاري. وكان معه من أزواجه أُمّ سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ارفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم».
وكانت حصون خيبر ثلاثة، منفصلاً بعضها عن بعض، وهي: حصون النَّطَاة، وحصون الكَتيبة، وحصون الشَّق، والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصَّعْب، وحصن قُلَّةٍ، والثانية حصنان: حصن أُبيّ، وحسن البريء، والثالثة ثلاثة حصون: حصن القَمُوص، وحصن الوَطِيْح، وحصن السُّلاِلم، فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النَّطاة، وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل، وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا، فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة. ولما رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع، ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة، وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً، وفيه مات محمودبن مسلمة أخو محمدبن مسلمة، وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين، حتى إذا كانوا في الليلة السادسة، ظفر حارس الجيش، وهو عمربن الخطاب، بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمَّنْتُموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم.d فقالوا: دُلَّنَا فقد أَمَّنَّاك، فقال: إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب، وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشَّق، وسيخرجون لقتالكم غداً، فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت فيه منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصن فتفتحه من يومك، فقال عليه الصلاة والسلام لمحمدبن مسلمة: «سأُعطي الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّانه» فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمربن الخطاب: ما تمنيت الإمارة إلا ليلتئذ.
فلما كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام عن عليبن أبي طالب فقيل له: إنه أرمد، فأرسل مَنْ يأتيه به، ولما جاء تَفَلَ في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء، ثم أعطاه الراية، فتوجه مع المسلمين للقتال، وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البِرَاز فقتله عليٌّ، ثم خرج مَرْحَبٌ، وهو أشجع القوم، فألحقه برفيقه، فخرج أخوه ياسر، فقتله الزبيربن العوّام، ثم حملَ المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم، وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه وهو حصن الصَّعْبِ، وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر، ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصَّعْب، فقاتل عنه اليهود قتالاً شديداً حتى رد عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباببن المنذر ومن معه وقاتلوا قتالاً شديداً حتى هزموا اليهود، فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن، فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام فأمر عليه الصلاة والسلام منادياً يقول: «كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئاً».
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن قُلَّةٍ، فتبعهم المسلمون، وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه، وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود، فمنعوها عنهم، فخرجوا، وقاتلوا قتالاً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشَّقِّ، فتبعهم المسلمون وبدؤوا بحصن أُبَيّ، فخرج أهله، وقاتلوا قتالاً شديداً أبلى فيه أبو دجانة الأنصاري بلاءً حسناً حتى تمكن من دخول الحصن عَنْوةً، ووجد المسلمون فيه أثاثاً كثيراً ومتاعاً وغنماً وطعاماً، وهرب المنهزمون منه إلى حصن البريء، فتمنعوا به أشد التمنّع، وكان أهله أشدّ اليهود رمياً بالنبل والحجارة حتى أصاب رسول الله بعض منه، فنصب المسلمون عليه المنجنيق فوقع في قلب أهله الرعب، وهربوا منه من غير عناء شديد، فوجد فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار، فقال عليه الصلاة والسلام: «اغسلوها واطبخوا فيها».
ثم تتبّع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكتيبة، وبدأوا بحصن القَموص، فحاصروه عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليبن أبي طالب، ومنه سُبيت صفية بنت حُييّبن أخطب، ثم سار المسلمون لحصار حصني الوطيح والسُّلالِم، فلم يقاوم أهلهما بل سلّموا طالبين حقن دمائهم، وأن يخرجوا من أرض خيبر بذراريهم لا يصطحب الواحد منهم إلا ثوباً واحداً على ظهره، فأجابهم رسول الله إلى ذلك، وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية، ووجدوا صحفاً من التوراة فسلّموها لطالِبيها.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بقتل كنانةبن الربيعبن أبي الحُقَيق لأنه أنكر حُلِيَّ حُيَيّبن أخطب، وقد عثر عليها المسلمون، فوجدوا فيها أساور ودمالج وخلاخيل وقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزمرد وغير ذلك.
هذا، والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رجلاً، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً، وفي هذه الغزوة أهدت إحدى نساء اليهود كُرَاع شاة مسمومة لرسول الله، فأخذ منها مضغة، ثم لَفَظَها حيث أُعلم أنها مسمومة، وأكل منها بِشْربن البراء فمات لوقته، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجيء له بالمرأة التي فعلت هذه الفعلة، فسألها عن سبب ذلك فأجابت: قلت إن كان نبيّاً لن يضرّه، وإن كان كاذباً أراحنا الله منه، فعفا عنها عليه الصلاة والسلام.
زواج صفية
وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصلاة والسلام صفية بنت حييّ، سيد بني النضير، وأصدقها عِتْقَهَا، وقد أسلمت رضي الله عنها، فشرفت بأُمومة المؤمنين.
النهي عن نكاح المتعة
ونهى عليه الصلاة والسلام ــــ وهو بخيبر ــــ عن نكاح المتعة، وهي: النكاح لأجلٍ وقد كان حلالاً في الجاهلية، واستعمل في بدء الإسلام حتى حرّمه الشرع في هذه السنة، ونهى كذلك عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية فأكفأ المسلمون قدورها بعد أن نضجت ولم يطعموها.
رجوع مهاجري الحبشة
وحين رجوع المسلمين من خيبر قدِم من الحبشة جعفربن أبي طالب ومعه الأشعريون: أبو موسى وقومه، بعد أن أقاموا فيها نحواً من عشر سنين آمنين مطمئنين، وفرح عليه الصلاة والسلام بمقدمهم فرحاً عظيماً، وأعطى للأشعريين من مغانم الحصون المفتوحة صلحاً، وكان مع جعفر أُمُّ حَبيبة بنت أبي سُفيان أُمّ المؤمنين. وقدم في هذا الوقت على النبي عليه الصلاة والسلام الدوسيون إخوان أبي هريرة رضي الله عنه وهو معهم، فأعطاهم أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتح فَدَك
وبعد تمام الفتح، أرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يطلب من يهود فَدَك الانقياد والطاعة، فصالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم، ويتركوا الأموال. وكانت أرض فدك هذه لرسول الله خاصّة يُنفق منها على نفسه، ويعول منها صغيربن هاشم ويزوج منها أَيِّمَهُمْ.
صلح تيماء
ولما بلغ يهود تيماء ما فعله المسلمون بيهود خيبر صالحوا على دفع الجزية، ومكثوا في بلادهم آمنين مطمئنين.
فتح وادي القُرى
ثم دعا عليه الصلاة والسلام يهودَ وادي القرى إلى الاستسلام فأبوا وقاتلوا، فقاتلهم المسلمون، وأصابوا منهم أحد عشر رجلاً، وغنموا منهم مغانم كثيرة، خَمَّسها عليه الصلاة والسلام، وترك الأرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر ما يُخرجون منها، وكذلك صنع بأرض خيبر، وكان يرسل إليهم عبد اللهبن رواحة لتقدير الثمر، وكان تقديره شديداً عليهم، فأرادوا أن يرشوه، فقال لهم: يا أعداء الله تعطوني السُّحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إيّاكم وحبيّ إياه على ألاّ أعدل.
هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شر عدو كان يتربص بهم الدوائر، مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق. ورجع المسلمون مؤيدين ظافرين.
إسلام خالد ورفيقيه
وأعقب هذه الغزوة وهذا الفتح المبين إسلام ثلاثة طالما كانت لهم اليد الطولى في قيادة الجيوش لحرب المسلمين وهم: خالدبن الوليد المخزومي، وعمروبن العاص السهمي، وعثمانبن طلحة العبدري، فسُرّ بهم عليه الصلاة والسلام سروراً عظيماً، وقال لخالد: «الحمد لله الذي هداك، قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوت ألاّ يسلمك إلا إلى خير» فقال: يا رسول الله ادعُ الله لي أن يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يقطع ما قبله».
سرية 1
وفي شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من هوازن بتُربَة يظهرون العداوة للمسلمين، فأرسل لهم عمربن الخطاب في ثلاثين رجلاً، فسار إليهم. ولما بلغهم الخبر تفرقوا فلم يجد بها عمر أحداً، فرجع.
سرية 2
ثم أرسل بشيربن سعد الأنصاري لقتال بني مرّة بناحية فَدَاك، فلما ورد بلادهم لم يرَ منهم أحداً، فأخذ نَعَمَهم وانحدر إلى المدينة، أما القوم فكانوا في الوادي، فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيراً ليلاً وهو راجع فتراموا بالنبل، ولما أصبح اقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قُتِل غالبُ المسلمين، وجُرِحَ بشير جرحاً شديداً حتى ظن أنه مات، ولما انصرف عنه العدو تحامل حتى جاء إلى رسول الله وأخبره الخبر.
سرية 3
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام غالببن عبد الله الليثي إلى أهل المِيْفَعَة في مائة وثلاثين رجلاً، فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضاً وأسروا آخرين، وفي أثناء الحرب طارد أُسامةبن زيد رجلاً من المشركين، ولما رأى المشرك الموت في يد أُسامة تشهَّد فظن أُسامة أن عدوه إنما قال ذلك تخلصاً فقتله.
ولما رجع المسلمون إلى المدينة، وأُخبر رسول الله بفعلة أُسامة قال: «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلاّ الله، فكيف تصنع بلا إله إلاّ الله؟» قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل، قال عليه الصلاة والسلام: «فهلاّ شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فقال: يا رسول الله استغفر لي. قال عليه الصلاة والسلام: «فكيف بلا إله إلاّ الله؟» فما زال يكررها حتى تمنى أُسامة أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم، وأنزل الله في ذلك في سورة النساء: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( } (النساء: 94)، ثم أمر عليه الصلاة والسلام أُسامة أن يعتق رقبة كفارة لأنه قتل خطأ.
سرية 4
وفي شوال بلغه عليه الصلاة والسلام أن عُيينةبن حصن واعدَ جماعة من غطفان كانوا مقيمين قريباً من خيبر بأرض اسمها يُمْن وجُبَار للإغارة على المدينة، فأرسل لهم بشيربن سعد في ثلاثمائة رجل، فساروا إليهم يكمنون النهار، ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم، فأصابوا نَعَماً كثيرة، وتفرق الرِّعاء فأخبروا قومهم ففزعوا ولحقوا بعُلْيا بلادهم، ولم يظفر المسلمون إلا برجلين أسلما، ثم رجعوا بالغنائم إلى المدينة.
عمرة القضاء
لما حالَ الحول على عمرة الحديبية خرج عليه الصلاة والسلام بمن صُدّ معه فيها ليقضي عمرته، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري، وساق معه الهدي ستين بَدَنَةً، وأخرج معه السلاح حذراً من غدر قريش، وكان معه مائة فرس عليها محمدبن مسلمة، وعلى السلاح بشيربن سعد، وأحرم عليه الصلاة والسلام من باب المسجد المدني، ولما انتهى إلى ذي الحُلَيفة قدَّم الخيل أمامه، فقيل: يا رسول الله حملت السلاح، وقد شرطوا ألاّ تحمله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لا ندخل الحرم به ولكن يكون قريباً منّا، فإن هاجَنا هائج فزعنا له» فلما كان بمرِّ الظَّهران قابله نفرٌ من قريش، ففزعوا من هذه العدّة، وأسرعوا إلى قومهم فأخبروهم فجاءه فتيان منهم وقالوا: والله يا محمد ما عُرفت بالغدر صغيراً ولا كبيراً، وإنّا لم نحدث حَدَثاً فقال: «إنّا لا ندخل الحرم بالسلاح» ولما حان وقت دخوله مكة خرج أهلوها كارهين رؤية المسلمين يطوفون بالبيت، فدخل عليه الصلاة والسلام وأصحابه متوشحين سيوفهم من ثَنيَّة كَدَاء وأمامه عبد اللهبن رواحة يقول: لا إله إلاّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. وطاف عليه الصلاة والسلام بالبيت وهو على راحلته، واستلم الحجر بِمِحْجَنِهِ، وأمر أصحابه أن يسرعوا ثلاثة أشواط إظهاراً للقوة لأن المشركين قالوا: سيطوف اليوم بالكعبة قوم نهكتهم حُمَّى يثرب، فقال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة» واضطبعَ عليه الصلاة والصلام بردائه، وكشف عضده اليمنى شأن الفتوّة، وفعل مثله المسلمون، وقد أتم المسلمون طوافهم بالبيت آمنين محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرِين كما رأى عليه الصلاة والسلام في منامه.
زواج ميمونة
وتزوج صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج عمه حمزةبن عبد المطلب شهيد أُحُد، وخالة عبد اللهبن العباس ــــ وهي آخر نسائه زواجاً ــــ ولم يدخل بها إلا بعد الخروج من مكة حيث كان بِسَرِف. ولما خرج عليه الصلاة والسلام أمر الذين كان تركهم لحراسة الخَيل بالذهاب ليطوفوا ففعلوا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فرحاً مسروراً بما حَبَاه الله من تصديق رؤياه.
السَّنَة الثامِنَة
سرية 1
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوِّح، وهم قوم من العرب يسكنون بالكَدِيد، فسار القوم حتى إذا كانوا بقُدَيدٍ التقوا بالحارثبن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء، وكان خصماً لدوداً فأسروه، فقال لهم: ما جئت إلا للإسلام، فقالوا له: إن تكن مسلماً لن يضرك رباط ليلة وإلا استوثقنا منك، ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني الملوّح فاستاقوا النَّعَم والشاء، وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما لا قبل لهم به، ولكن منّ الله على المسلمين، فأرسل سيلاً شديداً حالَ بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون نَعَمَهم تُساق وهم لا يقدرون على ردّها.
سرية 2
ولما رجع غالب إلى المدينة ظافراً أرسله عليه الصلاة والسلام في مائتي رجل ليقتصّ من بني مرّة بفدك ــــ وهم الذين أصابوا سرية بشيربن سعد ــــ فساروا حتى إذا كانوا قريباً من القوم خطب غالب فيمن معه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أُوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمراً فإنه لا رأي لمن لا يُطاع. ثم آخى بين الجند، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق أحد منكم زميله، وإيّاكم أن يرجع الرجل منكم فأقولَ له: أين صاحبك؟ فيقول: لا أدري، فإذا كبَّرت فكبّروا، فلما أحاطوا بالعدو، وكبّر كبّروا، وجرّدوا السيوف فلم يفلت من عدوهم أحد، واستاقوا نَعَمَهُمْ، فكان لكل واحد من الغزاة عشرة أبعِرة.
سرية 3
وفي ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام كعببن عُمير الغفاري إلى ذات أطلاح ــــ من أرض الشام ــــ في خمسة عشر رجلاً، فوجدوا جمعاً كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا وقاتلوا، وكانوا أكثر عدداً، فاستشهد المسلمون عن آخرهم إلا رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا، وأتى بالخبر إلى رسول الله، فَشَقَّ عليه، وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم، فبلغه أنهم تحوَّلوا من منزلهم فعدل عن ذلك.
غزوة مُؤْتَة
جهَّز عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى جيشاً للقصاص ممن قتلوا الحارثبن عمير الأزدي، رسوله إلى أمير بُصرى، وأمَّر عليهم زيدَبن حارثة، وقال لهم: «إن أُصيب فالأمير جعفربن أبي طالب، فإن أُصيب فعبد اللهبن رواحة». وكان عدّة الجيش ثلاثة آلاف، فساروا وشيَّعهم عليه الصلاة والسلام، وكان فيما وصّاهم به: «اغزوا باسم الله فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً ولا بصيراً فانياً، ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً».
ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا مُؤْتة مقتل الحارثبن عمير، وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعاً عظيماً، منهم ومن العرب المتنصِّرة. فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه: أيرسلون لرسول الله يطلبون منه مَدداً أم يقدمون على الحرب؟ فقال عبد اللهبن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد ولا بقوة ولا بكثرة، ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور وإما الشهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. ومضوا للقتال، فلقوا هذه الجموع المتكاثرة، فقاتل زيدبن حارثة رضي الله عنه حتى استشهد، فأخذ الراية جعفرُبن أبي طالب وهو يقول:
يا حبَّذا الجَنَّةُ واقْتِرَابُهاطيِّبَةٌ وباردٌ شَرابُهاوالرومُ روم قد دَنا عذابُهاكافرةٌ بعيدةٌ أنسابُهاعليَّ إذ لاقيتُها ضرابُها ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، فأخذ الراية عبد اللهبن رواحة فتقدم ثم تردد بعض التردّد، فقال يخاطب نفسه:
أقسمتُ يا نفسُ لتنزِلنَّهطائعةً أو لَتكْرَهِنَّهْإن أجلبَ الناسُ وشدّوا الرَّنَّهما لي أراكِ تكرهين الجنَّهْ؟قد طال ما قد كنتِ مُطمئنَّههل أنتِ إلا نُطفة في شَنَّه؟ ثم اقتحم بفرسه المعمعة، ولم يزل يقاتل ــــ رضي الله عنه ــــ حتى استشهد، فهمَّ بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء، فقال لهم عقبةبن عامر: يا قوم يُقتل الإنسان مقبلاً خير من أن يقتل مدبراً، فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالدبن الوليد، وبهمَّته ومَهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع، إذ ما تفعل ثلاثة آلاف بمائة وخمسين ألفاً؟ فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتالاً شديداً، وفي غده خالف ترتيب العسكر، فجعل الساقة مقدمة، والمقدمة ساقة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، فظنَّ الروم أن المَدَد جاء للمسلمين فرعبوا.
ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى مُؤتة، ثم مكث يناوش الأعداء سبعة أيام ثم تحاجز الفريقان لأن الكفار ظنوا أن الأمداد تتوالى للمسلمين، وخافوا أن يجرّوهم إلى وسط الصحارى حيث لا يمكنهم التخلّص وبذلك انقطع القتال، وقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ــــ وكانت عينا رسول الله تذرفان ــــ ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين، فأمره أن ينهاهنّ، فذهب الرجل ثم أتى فقالت: قد نهيتهنّ فلم يُطِعْنَ، فأمره فذهب ثانياً، ثم جاء فقال: والله لقد غلبننا، فقال له عليه الصلاة والسلام: «احْثُ في أفواههنّ التراب».
ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم: يا فُرّار، فقال عليه الصلاة والسلام: «بل هم الكُرَّار». ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراهم أن ذلك من مكايد الحرب، وأثنى على خالد في مهارته.
سرية 4
وفي جمادى الآخرة بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القُرى ليُغيروا على المدينة، فأرسل لهم عمروبن العاص في ثلاثمائة رجل من سَراة المهاجرين والأنصار، ثم أمدّه بأبي عبيدةبن الجراح في مائتين من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، فلحقوا عَمْراً قبل أن يصل إلى القوم، وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو، فأنكر عليه عمربن الخطاب، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله علينا رئيساً لمعرفته بالحرب أكثر منّا فلا تعصه، فامتثل.
ولما حلُّوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق الأعداء منهزمين، فجمعوا غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم، ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين، وبينما هم في الطريق أدركت عمروبن العاص جنابة في ليلة باردة، فلما أصبح قال: إن أنا اغتسلت هلكت والله يقول: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) ثم تيمم وصلى، ثم أمر بالسير حتى إذا وصلوا إلى المدينة قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يسأل عن أنباء سفرهم كما هي عادته، فأخبروه بما نقموه من عمروبن العاص من نهيهم عن إيقاد النار، ونهيهم عن اتباع العدو، وصلاته جنباً، فسأله عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقال: منعتهم من إيقاد النار لئلا يرى العدو قلّتهم فيطمع فيهم، ونهيتهم عن اتباع العدو لئلا يكون له كمين، وصلّيت جنباً لأن الله يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) وإن أنا اغتسلت هلكت، فتبسم عليه الصلاة والسلام وأثنى على عمرو خيراً.
سرية 5
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام أبا عبيدة عامربن الجراح في ثلاثمائة فارس لغزو قبيلة جُهَينة التي تسكن ساحل البحر، وزوّد عليه الصلاة والسلام هذا الجيش جراباً من التمر، فساروا حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو، وقد فني زادهم حتى أكلوا الخَبَط، وهو ورق السَّمُر، يبلُّونه بالماء ويأكلونه إلى أن تقرّحت أشداقهم، وكان في القوم الكريم ابن الكريم قيسبن سعدبن عبادة فنحر لهم ثلاث جزر في كل يوم جزور. وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر فنهاه رئيسه أبو عبيدة، لأن قيساً كان أخذ تلك الجزر بدين على أبيه، فخاف أبو عبيدة ألاّ يفي له أبوه بما استدان، فقال قيس: أترى سعداً يقضي ديون الناس، ويطعم في المجاعة، ولا يقضي ديناً استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ ولما يئسوا من لقاء عدوهم رجعوا إلى المدينة، فقال قيسبن سعد لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نُهيت.x
غزوة الفتح الأعظم
إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، ولا تَنقاد البلاد حتى تنقاد مكة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشاً في الحديبية وهو سيد من وَفَّى. ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، فقد علمتَ أن قبيلة خُزاعة دخلت في عهد رسول الله، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور الإسلام، فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر يتغنى بهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم على مسمع من رجل خزاعي، فقام هذا وضربه، فحرّك ذلك كامن الأحقاد، وتذكر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم، واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرّاً بالعدّة والرجال، ثم توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفداً برياسة عمروبن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلما حَلُّوا بين يديه، وأخبروه، قال: «والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه».
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيانبن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد، ويزيد في المدة، فركب راحلته، وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه فقال: يا بنيّة أرغبتِ به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج من عندها، وأتى النبي في المسجد، وعرض عليه ما جاء له، فقال له عليه الصلاة والسلام: «هل كان من حَدَث؟» قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: «فنحن على مدتنا وصلحنا». ولم يزد عن ذلك. فقام أبو سفيان، ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده، فلم يجد منهم مُعيناً، وكلهم قالوا: جِوارنا في جِوار رسول الله، فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئاً، فاتهموه بأنه خانهم واتَّبع الإسلام، فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجهز للسفر، وأمر أصحابه بذلك، وأخبر الصدّيق بالوجهة، فقال له: يا رسول الله أوَ ليس بينك وبين قريش عهد؟ قال: «نعم، ولكن غدروا ونقضوا». ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة». فقدم جمع من قبائل أسلم وغِفار ومُزَينة وأشجع وجُهينة، وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر، فتعلم قريش فتستعد للحرب، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يُقيم حرباً بمكة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحُرمتها، فدعا مولاه جلّ ذكره وقال: «اللهمّ خُذِ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها» فقام حاطببن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدراً، وكتب كتاباً لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جُعْلٍ، فأعلم الله رسوله ذلك، فأرسل في أثرها عليّاً والزبير والمقداد وقال: «انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب فخذوه منها». فانطلَقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب فقالوا: لتخرِجنّ الكتاب أو لنُلقينّ الثياب، فأخرجته من عِقَاصِها، فأتوا به رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت حليفاً لقريش ولم أكن من أَنْفُسِها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما إنه قد صدقكم». فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطَّلع على من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، وفي ذلك أنزل
الله في سورة الممتحنة: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ(1)
ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابنَ أُم مكتوم، وكانت عدّة الجيش عشرة آلاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه وهما: ابن عمه أبو سفيانبن الحارثبن عبد المطلب شقيق عبيدةبن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد اللهبن أبي أميةبن المغيرة شقيق زوجه أُم سلمة، وكانا يريدان الإسلام، فقبلهما عليه الصلاة والسلام، وفرح بهما شديد الفرح، وقال: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ} (يوسف: 92). ولما وصل عليه الصلاة والسلام الكَدِيد رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضاً، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباسبن عبد المطلب مهاجراً بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة
ولما وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة آلاف نار، وكانت قريش قد بلغهم أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدرى وجهته، فأرسلوا أبا سفيانبن حرب وحكيمبن حزام وبُدَيلبن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عَرَفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عَرَفة فقال بديلبن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: «احبس أبا سفيان عند خَطْم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين»، فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبةً كتيبة على أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول: ما لي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامِل رايتها سعدبن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليومَ تُستَحلُّ الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يومُ الذِّمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبيربن العوام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد. فقال عليه الصلاة والسلام: «كذبَ سعد، ولكن هذا يوم يُعظِّم الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة». ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحَجُون، وأمر خالدبن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كُدًى، ودخل هو من أعلاها من كَدَاء ونادى مناديه: «مَن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». وهذه أعظم منّة له، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، وآذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم ــــ وإن تعلقوا بأستار الكعبة ــــ منهم: عبد اللهبن سعدبن أبي سَرْح الذي أسلم، وكتب لرسول الله الوحي، ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمداً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول كل جيد ومنهم عِكرمةبن
أبي جهل وصفوانبن أمية، وهبَّاربن الأسود، والحارثبن هشام، وزهيربن أبي أمية، وكعببن زهير، ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان، وقليل غيرهم، ونهى عن قتل أحد سوى هؤلاء إلا من قاتل، فأما جيش خالدبن الوليد فقابله الذُّعرُ من قريش يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقُتل من جيشه اثنان، ودخلها عَنْوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصادف مانعاً وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحنٍ على الرحل تواضعاً لله وشكراً له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تَمَسُّ الرَّحْل، وأسامةبن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل الحَجُون موضع رايته، وقد نصبتْ له هناك قبة فيها أُمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلاً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح، حتى بلغ البيت، وطاف سبعاً على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذا ذاك ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول: «جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ وما يُبْدِىءُ الباطِلُ وما يُعيدُ» ثم أمر بالآلهة فأخرجت من البيت وفيها صورة إسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قطّ». وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة. وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلا قليلاً. ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية.
العفو عند المقدرة
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وكبَّر في نواحيها، ثم خرج إلى مقام إبراهيم، وصلّى فيه ركعتين، ثم شرب من زمزم، وجلس في المسجد، والناس حوله، والعيون شاخصة إليه، ينتظرون ما هو فاعل بمشركي قريش الذين آذوه، وأخرجوه من بلاده وقاتلوه، ولكن هنا تظهر مكارم الأخلاق التي يلزم أن يتعلم منها المسلم، أن يكون رضاه وغضبه لله لا لهوى النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهبوا فأنتم الطُّلقاء». ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال:
وإذا كان القَطْعُ والوصلُ للهتساوى التَّقريبُ والإقصاءولو أنَّ انتقامه لهوى النفسِ لدامتْ قطيعةٌ وجفاءُقام لله في الأمور فأرضى اللهمنه تباينٌ ووفاءُفعُله كله جميل وهل ينضحُ إلا بما حواهُ الإناءُ؟ ثم خطب عليه الصلاة والسلام خطبةً أبان فيها كثيراً من الأحكام الإسلامية، منها: ألاّ يُقتَل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملَّتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، والبينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد الصبح والعصر، ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر، ثم قال: «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نَخْوة الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء، والناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)
أما الذين أهدر رسول الله دمهم فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فمنهم من حقّت عليه كلمة العذاب فقتل، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم، فعبد اللهبن سعدبن أبي سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمانبن عفان، وطلب منه أن يستأمن له رسول الله، فغيبه عثمان حتى هدأ الناس، ثم أتى به وقال: يا رسول الله قد أمنته فبايعه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام مراراً ثم بايعه، فلما خرج عثمان وعبد الله قال عليه الصلاة والسلام: «أعرضتُ عنه ليقومَ إليه أحدكم فيضرب عنقه»، فقالوا: هلاّ أشرتَ إلينا؟ فقال: «لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين».
وأما عكرمةبن أبي جهل فهربَ، فخرجتْ وراءه زوجته وبنتُ عمه أُمّ حكيم بنت الحارثبن هشام، وكانت قد أسلمت يوم الفتح، وقد أخذت له أماناً من رسول الله فلحقته، وقد أراد أن يركب البحر، فقالت: جئتك من عند أبرّ الناس، وخيرهم، لا تهلك نفسك، وإني قد استأمنته لك فرجع، ولما رآه عليه الصلاة والسلام وثب قائماً فرحاً به، وقال: «مرحباً بمن جاءنا مهاجراً مسلماً» ثم أسلم رضي الله عنه، وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل عداوة عاداه إيّاها فاستغفر له، وكان رضي الله عنه بعد ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على الإسلام.
وأما هبَّاربن الأسود فهرب، واختفى، حتى إذا كان رسول الله بالجِعِرَّانة جاءه مسلماً، وقال: يا رسول الله هربتُ منك وأردتُ اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل، فقال عليه الصلاة والسلام: «قد عفوتُ عنك».
وأما الحارثبن هشام، وزهيربن أبي أمية المخزومي، فأجارتهما أم هانىء بنت أبي طالب، فأجاز عليه الصلاة والسلام جِوارها، ولما قابل رسولُ الله الحارثَبن هشام مسلماً قال له: «الحمد لله الذي هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام» وقد كان بعد ذلك من فُضَلاء الصحابة.
وأما صفوانبن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عُميربن وهب الجُمحي وقال: با نبي الله إن صفوانَ سيد قومه، هرب ليقذف نفسه في البحر فَأَمِّنْهُ فإنك قد أمّنت الأحمر والأسود، فقال عليه الصلاة والسلام: «أدرك ابن عمك فهو آمن» فقال: أعطني علامة، فأعطاه عِمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان، قال له: فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس، وأَحلم الناس، وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزُّه عزُّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة علامة الأمان، فرجع إلى رسول الله، وقال له: إن هذا يزعم أنك أمَّنتني؟ قال: «صدق» قال: أمهلني بالخيار فيه شهرين، قال: «أنت بالخيار فيه أربعة أشهر» ثم أسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه.
وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أَسلمت، وجاءت إلى رسول الله فرحبَ بها وقالت له: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أَصبح اليوم أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزوا من أهل خبائك.
وفود كعببن زهير
وأما كعبُبن زهير فلما ضاقت به الأرض، ولم يجد له مجيراً، جاء المدينة بعد أن قدمها رسولُ الله من مكة فأسلم وأنشد قصيدته التي يقول فيها:
وقالَ كلُّ صديقٍ كنتُ آملُهُلا أُلْهَيَنَّكَ إني عنكَ مشغولُفقلتُ: خَلُّوا سبيلي لا أبا لكمُفكلُّ ما قَدَّر الرحمانُ مفعولُكلُّ ابن أنثى وإن طالتْ سلامتُهُيوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُنُبِّئتُ أَن رسولَ اللهِ أوعدنيوالعفو عند رسولِ الله مأمولُمهلاً هداكَ الذي أعطاك نافلةَ القرآن فيها مواعيظٌ وتفصيلُ وقال فيها مادحاً:
إنَّ الرسولَ لسيفٌ يُستضاءُ بهمُهنَّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ ولما قال هذا البيت خلع عليه الرسول بردته.
وأما وحشي قاتل حمزة فكذلك أسلم، وحسن إسلامه، وقبله عليه الصلاة والسلام، وقد جاءه ابنا أبي لهب عتبة ومعتب فأسلما وفرح بهما عليه الصلاة والسلام.
وكان من الذين اختفوا سهيلبن عمرو، فاستأمن له ابنه عبد الله فأمنه عليه الصلاة والسلام، وقال: «إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهلُ الإسلام». فلما بلغت هذه المقالة سُهيلاً قال: كان والله بَرّاً صغيراً، برّاً كبيراً، ثم أسلم بعد ذلك.
بيعة النساء
هذا، ولما تمت بيعة الرجال بايعه النساء، وكنّ يبايعن على ألاّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين بيهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجهلنّ، ولا يعصين الرسول في معروف.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام بلالاً أن يؤَذِّنَ على ظهر الكعبة، وهذا بدء ظهور الإسلام على ظهر البيت الكريم، فلا عجب أن اتخذ المسلمون هذا اليوم عيداً يحمدون فيه الله حَقَّ حمده على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم.
وأقام عليه الصلاة والسلام بمكة بعد فتحها تسعة عشر يوماً يقصر فيها الصلاة، وولى عليها عَتَّاب بنَ أَسيد، وجعل رزقه كل يوم درهماً، فكان عَتَّابٌ رضي الله عنه يقول: لا أشبعَ الله بطناً جاع على درهم كُلَّ يوم.
هدم العُزَّى
وفي الخامس من مُقامه عليه الصلاة والسلام بمكة أرسل خالدبن الوليد في ثلاثين فارساً لهدم هيكل العُزّى ــــ وهي أكبر صنم لقريش، وكان هيكلها ببطن نَخْلة ــــ فتوجه إليها خالد وهدمها.
هدم سُوَاع
وأرسل عليه الصلاة والسلام عمروبن العاص لهدم سواع ــــ وهو أعظم صنم لهذيل ــــ وهيكله على ثلاثة أميال من مكة، فذهب إليه وهدمه.
هدم مناة
وبعث سعدَبن زيد الأشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة، وهي صنم لكلب وخزاعة. وهيكلها بالمُشَلَّلِ، وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُدَيْد. فتوجهوا إليها وهدموها.
غزوة حُنين
بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الأوثان، دانت للإسلام جموعُ العرب ودخلوا فيه أفواجاً. أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما حَمِيَّةُ الجاهلية، واجتمع الأشرافُ منهم للشورى، وقالوا: قد فرغَ محمد من قتال قومه ولا ناهية له عنّا، فَلْنَغْزُه قبل أن يغزونا. فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولّوا رياستهم مالكَبن عوف النَّصْري، فاجتمع له من القبائل جموعٌ كثيرة، فيهم بنو سعدِبن بكر، الذي كان رسول الله مسترضعاً فيهم، وكان في القوم دُرَيْدبن الصِّمَّة المشهور بأصالة الرأي، وشدة البأس في الحرب، ولتقدم سنِّه لم يكن له في هذه الحرب إلا الرأي، ثم إن مالكبن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءَهم وذراريهم وأموالهم، فلما علم ذلك دُريد سأل مالكاً عن السبب، فقال: سقتُ مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فقال دريد: وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورُمحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك، فلم يقبلْ مالك مشورته، وجعل النساءَ صفوفاً وراء المقاتلة، ووراءهم الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، كيلا يفر أحد من المقاتلين.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه أجمع رأيه على المسير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألف غازٍ، منهم ألفان من أهل مكة، والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة، وخرج أهلُ مكة ركباناً ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضعفٍ يرجون الغنائم، وخرج في الجيش ثمانون من المشركين، منهم صفوانُبن أمية، وسُهيلبن عمرو، ولما قرب الجيش من معسكر العدو صَفَّ عليه الصلاة والسلام الغزاةَ، وعقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لعليّبن أبي طالب، ولواء الخزرج للحُبَاببن المنذر، ولواء الأوس لأسيدبن حضير، وكذلك أعطى ألوية لقبائل العرب الأخرى. ثم ركب عليه الصلاة والسلام بغلته ولبس درعين والبيضة والمِغفر.
هذا، وقد أُعْجب المسلمون بكثرتهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً، فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستتراً في شِعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنّة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتَ على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيانبن الحارث وأخوه ربيعةبن الحارث ومعتبُبن أبي لهب، وكان العباس آخذاً بلجام البغلة، وأبو سفيان آخذاً بالركاب، وكان عليه الصلاة والسلام ينادي: «إليَّ أيّها الناس» ولا يلوي عليه أحد، وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت. أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالإسلام والذين لم ينزعوا عنهم رِبْقَةَ الشرك فمنهم من فرح، ومنهم من ساءه هذا الإدبار، فقال أبو سفيانبن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال أخ لصفوانبن أمية: الآن بطل السحر. فقال له صفوان ــــ وهو على شركه ــــ: اسكت فَضَّ الله فاك، والله لأَنْ يَرُبَّني رجل من قريش خير من أن يَرُبَّني رجل من هوازن. ومرّ عليه رجل من قريش وهو يقول: أبشر بهزيمة محمدٍ وأصحابه فوالله لا يجبرونها أبداً، فغضب صفوانُ وقال: ويلك أتبشرني بظهور الأعراب؟ وقال عكرمةبن أبي جهل لذاك الرجل: كونهم لا يجبرونها أبداً ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء، إن أُديل عليه اليوم فإن العاقبة له غداً، فقال سهيلبن عمرو: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنّا كنا على غير شيء، وعقولنا ذاهبة، نعبد حجراً لا يضرّ ولا ينفع.H وبلغت هزيمة بعض الفارّين مكة، كل هذا ورسول واقف مكانه يقول:
أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْأَنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ثم قال للعباس: ــــ وكان جَهْوَرِيَّ الصوت ــــ «نادِ بالأنصار يا عباس» فنادى: يا معشر الأنصار يا أصحاب بيعة الرضوان فأسمعَ مَنْ في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبَّيك لبَّيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عِنان بعيره فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين. فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمُّ الصوتَ حتى اجتمع حولَ رسول الله جمع عظيم منهم. وأنزل الله سكينته على رسوله، وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم يروها، فكرَّ المسلمون على عدوهم يداً واحدة فانتكث فتل المشركين. وتفرقوا في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيراً من المحاربين، وهرب من هرب، وجُرح في هذا اليوم خالدبن الوليد جراحاتٍ بالغة، وأسلمَ ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوهُ من عناية الله بالمسلمين.
هذا، والذي حصل في هذه الغزوة درس مهم من دروس الحرب، فإن هذا الجيش دخله أخلاط كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد بالإسلام، هؤلاء سِيَّان عندهم نصرُ الإسلام وخذلانه، ولذلك بادروا لأول صدمة إلى الهزيمة، وكادت تتم الكلمة على المسلمين لولا فضل الله، فلا ينبغي أن يكون في الجيش إلا من يقاتل خالصاً مخلصاً من قلبه ليكون مدافعاً حقاً عن دينه، فلا تميل نفسه إلى الفرار خشية مما أعدّه الله للفارّين من أليم العقاب.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام بجمع السبي والغنائم، وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، فجمع ذلك كله بالجِعرَّانة. أما المشركون فتفرقوا ثلاث فرق: فرقة لحقت بالطائف، وفرقة لحقت بنخلة، وفرقة عسكرت بأوطاس.
سرية 6
فأرسل عليه الصلاة والسلام لهذه الفرقة أبا عامر الأشعري في جماعة منهم أبو موسى الأشعري، فسار إليهم وبدَّدهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم. وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلَّف على الغزاة ابن أخيه أبا موسى، فرجع ظافراً منصوراً.
غزوة الطائف
وسار عليه الصلاة والسلام بمن معه إلى الطائف ليجهز على بقية حياة ثقيف ومن تجمع معهم من هوازن، وجعل على مقدمته خالدبن الوليد، ومرّ عليه الصلاة والسلام بحصن لمالكبن عوف النَّصري فأمر بهدمه. ومرَّ ببستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه، فأرسل إليه أن اخرج وإلا حَرَّقنا عليك بستانك، فامتنع الرجل فأمر عليه الصلاة والسلام بحرقه. ولما وصل المسلمون إلى الطائف وجدوا الأعداء قد تحصَّنوا به وأدخلوا معهم قوتَ سنتهم، فعسكر المسلمون قريب الحصن. فرماهم المشركون بالنَّبل رمياً شديداً حتى أُصيب منهم كثيرون بجراحات منهم عبد اللهبن أبي بكر، وقد طاوله جرحه حتى أماته في خلافة أبيه، ومنهم أبو سفيانبن حرب فُقئت عينه. وقد مات بالجراحات اثنا عشر رجلاً من المسلمين. ولما رأى رسول الله أن العدو متمكّن من رميهم ارتفع إلى محل مسجد الطائف الآن، وضربَ لأُمّ سلمة وزينب قبتين هناك، واستمر الحصارُ ثمانية عشر يوماً، كان فيها يُنادي خالدبن الوليد بالبِراز فلم يجبه أحد، وناداه عبد ياليل ــــ عظيم ثقيف ــــ لا ينزل إليك منّا أحد، ولكن نقيم في حصننا، فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعاً حتى نموت عن آخرنا، فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يُنْصَب عليهم المنجنيق فَنُصِبَ. ودخل جمع من الأصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار حتى أرجعوهم. فأمر عليه الصلاة والسلام أن تقطع أعنابهم ونخيلهم، فقطع المسلمون فيها قطعاً ذريعاً، فناداه أهل الحصن، أن دعها لله وللرحم، فقال: «أدعها لله
وللرحم» ثم أمر مَنْ ينادي بأن كلَّ من ترك الحصن ونزل فهو آمن، فخرج إليه بضعة عشر رجلاً. ولما رأى عليه الصلاة والسلام أن تمنُّع ثقيف شديد، وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفلبن معاوية الديلي في الذهاب أو المقام، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته، وإن تركته لم يضرّك. فأمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل، وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف، فقال: «اللهمّ اهدِ ثقيفاً وائت بهم مسلمين».
تقسيم السبي
ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى الجِعِرَّانة حيث ترك السبي فأحصاه، وخمَّسه، وأعطى منه شيئاً كثيراً لأُناس ضعف إسلامهم يتألَّفُهم بذلك. وأعطى أُناساً لم يسلموا ليُحَبِّبَ إليهم الإسلام، ومن الأولين: أبو سفيان أعطاه أربعين أُوقية من الذهب ومائة من الإبل، وكذلك ابناه معاوية ويزيد، فقال له: بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب. ومنهم حكيمبن حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده فأعطاه، ثم استزاده فأعطاه مثلها، وقال: «يا حكيم إنّ هذا المال خَضِرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَع، واليدُ العُليا خير من اليدِ السُّفلى» فأخذَ حكيم المائة الأولى وتركَ ما عداها، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أُفارق الدنيا، فكان الخلفاء بعد رسول الله يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه من بيت المال فلا يأخذه. وأعطى عليه الصلاة والسلام عُيَيْنَةَبن حصن مائة من الإبل، وكذلك الأقرعَبن حابس، والعباسبن مِرداس، وأعطى صفوانَبن أمية شِعْباً مملوءاً نَعَماً وشاءً كان رآه يرمقه، فقال له: «هل يعجبك هذا؟» قال: نعم، قال: «هُوَ لك» فقال صفوان: ما طابت بمثل هذا نفسُ أحد، وكان سبب إسلامه. وكان عليه الصلاة والسلام يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب وجمعها على الدين القويم، وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى جَعل من الصدقات قسماً للمؤلفة قلوبهم، وقد عاد ذلك بفائدة عظمى، فإن كثيرين ممّن أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا أُشربوا في قلوبهم حُبَّ الإسلام صاروا بعدُ من أجلاّء المسلمين، وأعظمهم نفعاً، كصفوانبن أمية، ومعاويةبن أبي سفيان، والحارثبن هشام وغيرهم.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام زيدبن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم وقسّمه على الغزاة بعد أن اجتمع إليه الأعراب، وصاروا يقولون له: اقسم علينا، حتى ألجؤوه إلى شجرة، فتعلق رداؤه، فقال: «ردّوا ردائي أيها الناس، فوالله إن كان لي شجر تهامة نَعَماً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذوباً» ثم قام إلى بعيره، وأخذ وَبرةً من سَنَامِه، وقال: «أيّها الناس والله ما لي من غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخُمُس، والخُمُسُ مردود عليكم، فأدّوا الخِياطَ والمِخْيَطَ، فإن الغُلول يكون على أهله عاراً وشناراً وناراً يوم القيامة» فصار كل من أخذ شيئاً من الغنائم خِلسة يردُّه ولو كان زهيداً، ثم شرَع يقسم فأصابَ الرجلَ أربعة من الإبل وأربعون شاة، والفارس ثلاثةُ أمثال ذلك، فقال رجل من المنافقين: هذه قسمة ما أُريد بها وجهُ الله، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمرّ وجهه، وقال: «ويحك مَنْ يعدلُ إذا لم أعدل؟» فلم يؤدّه غضبه أن ينتقم لنفسه، حاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك، بل لم يزدْ على أن نصحَ وحذَّر، وقال له عمر وخالدبن الوليد: دعنا يا رسول الله نضربْ عنقه، فقال: «لا لعلّه أن يكون يُصلي» فقال خالد: وكم من مصُلَ يقولُ بلسانه ما ليس في قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أُومر أن أُنَقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أَشُقَّ عن بطونهم».
ولما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا لقريش وقبائل العرب، وتركَ الأنصار غضب بعضُهم حتى قالوا: إن هذا لهو العجبُ يُعطي قريشاً، ويتركنا وسيوفنا تقطرُ من دمائهم فبلغه ذلك، فأمر بجمعهم وليس معهم غيرهُم. فلما اجتمعوا قال: «يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألّفَ الله بين قلوبكم بي؟ إن قريشاً حديثو عهد بكفر ومصيبة، وإني أردتُ أن أخْبُرهم وأتأَلَّفَهم، أغضبتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لشيء قليل من الدنيا ألَّفْتُ به قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يُزَلْزَل؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهبَ الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناسُ شِعْباً وسلك الأنصار شِعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصارَ، وأبناءَ الأنصار». فبكى القوم حتى اخْضَلَّتْ لحاهم، وقالوا: رضينا برسولِ الله قسماً وحظاً، ثم انصرفَ عليه الصلاة والسلام وتفرقوا.
وفود هوازن
وبعد بضع عشرة ليلة جاءه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن يرأسهم زهيربن صرد وقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمّات والخالات، وهنّ مَخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله وقال زهير: إن في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، ثم قال أبياتاً يستعطفه بها:
امننْ علينا رسولَ الله في كرمفإنك المرءُ نرجوه وننتظرُامننْ على نسوةٍ كنت تَرْضَعُهاإذ فوك مملوءة من مَخْضِها الدِّرَرُإنا لنشكر للنعماء إن كفرتوعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخرإنّا نؤمِّل عفواً منك نلبسههدى البرية أن تعفو وتنتصرفألبس العفو من قد كنت تَرْضَعُهُمن أُمهاتك إن العفوَ مشتهر فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحبّ الحديث إليَّ أَصْدَقُهُ، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال. وقد كنت انتظرتكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون». فقالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئاً، اردُدْ علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحبّ إلينا ولا نتكلم في شارة ولا بعير، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا صلّيت الظهر فقوموا، وقولوا: نحن نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله بعد أن تظهروا إسلامكم، وتقولوا: نحن إخوانكم في الدين» ففعلوا. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيتُ أن أردّ عليهم سبيهم، فمن أحبّ أن يُطِّيبَ بذلك فليفعل، ومن أحبّ منكم أن يكون على حَظِّه حتى نعطيَه إياه من أول ما يُفِيءُ الله علينا فليفعل»، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وامتنعَ من ذلك جماعة من الأعراب، كالأقرعبن حابس، وعيينةبن حصن، والعباسبن مِرداس، فأخذه الرسولُ منهم قرضاً، وأمر صلى الله عليه وسلم بأن تُحْبَس عائلةُ مالكبن عوف النصري رئيس تلك الحرب بمكة عند عمتهم أُمّ عبد اللهبن أمية. فقال له الوفد: أولئك ساداتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أُريد بهم الخير» ثم سأل عن مالك فقالوا: هرب مع ثقيف، فقال: «أخبروه أنه إن جاءني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل» فلما بلغ ذلك مالكاً نزل من الحصن خُفْية حتى أتى رسول الله بالجِعِرَّانة، فأسلم وأحرز ماله، واستعمله عليه الصلاة والسلام على مَنْ أسلم من
هوازن.
عمرة الجعِرَّانة
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر فأحرم من الجعرانة، ودخل مكة بليل، فطاف، واستلم الحجر، ثم رجع من ليلته، وكانت إقامته بالجعرانة ثلاثَ عشرة ليلة، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل، فسار الجيش آمناً مطمئناً حتى دخل المدينة لثلاثٍ بقين من ذي القعدة.
وغزوة حنين هي التي فرّق الله بها جموعَ الشرك، وأدالَ دولته، وأفقد سَراةَ أهله، فإن هوازن لم تترك وراءها رجلاً تمكِّنه الحرب إلا ساقته، ولم تترك لها بعيراً ولا شاة إلا جاءت به معها، فأراد الله إعزاز الإسلام بخذلان أعدائه وأخذ أموالهم، فانكسرت حِدّة المشركين، ولم يبق فيهم مَنْ يمانع أو يدافع، ولذلك يمكننا أن نقول: إن انكسار هوازن كان خاتمة لحروب العرب، فلم يبقَ فيهم إلا فئات قليلة يسوقهم الطيش إلى شهر السلاح، ثم لا يلبثون أن يغمدوا السيوف حينما تظهر لهم قوة الحق الساطعة.
سرية 7
ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أرسل قيسبن سعد في أربعمائة ليدعو صُداء ــــ قبيلة تسكن اليمن ــــ إلى الإسلام، فجاء إلى رسول الله رجل منهم، فقال: يا رسول الله إني جئتك وافداً عمّن ورائي، فاردد الجيشَ وأنا لك بقومي، فأمر عليه الصلاة والسلام بردّ الجيش.
وفود صُدَاء
وخرج الرجل إلى قومه فقدم بخمسة عشر رجلاً منهم، فنزلوا ضيوفاً على سعدبن عبادة، ثم بايعوا رسول الله على الإسلام، وقالوا: نحن لك على من وراءنا من قومنا، ولما رجعوا فشا فيهم الإسلام، وقدم على رسول الله منهم مائة في حجة الوداع.
سرية 8
ثم أرسل عليه الصلاة والسلام بشربن سفيان العدوي إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقات أموالهم، فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من أداء ما فُرِضَ عليهم، فلما علم بذلك رسول الله أرسل إليهم عيينةبن حصن في خمسين فارساً من الأعراب، فجاءهم وحاربهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً، وإحدى وعشرين امرأة، وثلاثين صبياً، وتوجه بالكل إلى المدينة، فأمر عليه الصلاة والسلام بجعلهم في دار رَمْلَة بنت الحارث.
وفود تميم
فجاء في أثرهم وفد تميم، وفيه عُطاردبن حاجب، والزّبرقانبن بدر، وعمروبن الأهتم، فجلسوا ينتظرون الرسول، فلما أبطأ عليهم نادَوا من وراء الحجرات بصوت جَافٍ: يا محمد اخرج إلينا نفاخرك، فإن مدحنا زَيْن، وإن ذمَّنا شَيْن، فخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، وقد تأذى من صياحهم، وفيهم نزل في أوائل سورة الحجرات: إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(5)
سرية 9
ثم بعث عليه الصلاة والسلام الوليدبن عقبةبن أبي مُعَيط لأخذ صدقات بني المصطلق، فلما علموا بقدومه خرج منهم عشرون رجلاً متقلدين سلاحهم احتفالاً بقدومه ومعهم إبل الصدقة، فلما نظرهم ظنهم يريدون حربه لما كان بينه وبينهم من العداوة في الجاهلية، فرجع مسرعاً إلى المدينة، وأخبر الرسول أن القوم ارتدّوا ومنعوا الزكاة، فأرسل لهم خالدبن الوليد لاستكشاف الخبر، فسار إليهم في عسكره خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤذّنهم يؤذّن بالصبح، فأتاهم خالد فلم يرَ منهم إلا طاعة، فرجع وأخبر الرسول، فأرسل عليه الصلاة والسلام لهم غير الوليد لأخذ الصدقات، وفي الوليد نزل في أوائل الحجرات: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)
سرية 10
ثم بلغ رسول الله أن جمعاً من الحبشة رآهم أهل جُدَّةَ في مراكبهم يريدون الإغارة عليها، فأرسل لهم علقمةبن مُجَزِّز في ثلاثمائة، فذهب حتى وصل جُدَّةَ، ونزل في المراكب ليدركهم، وكان الأحباش متحصنين في جزيرة هناك، فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا، ولم يلقَ المسلمون كيداً، فرجع علقمة بمن معه. ولما كان بالطريق أذن لِسَرعان القوم أن يتعجلوا، وأمر عليهم عبد اللهبن حُذافة السَّهْمي، وكان فيه دعابة، فأوقد لهم في الطريق ناراً، وقال لهم: ألستم مأمورين بطاعتي؟ قالوا: نعم، قال: عزمت عليكم إلا ما تواثبتم في هذه النار، فقال بعضهم: ما أسلمنا إلا فراراً من النار، وهمَّ بذلك بعضهم، فمنعهم عبد الله، وقال: كنت مازحاً. فلما ذكروا ذلك لرسول الله، قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».