شمائل النبي محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام
كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للخضري
محتويات
- شمائله عليه السلام
- نظافة جسمه وطيب ريحه ص
- وفور عقله ص
- فصاحة لسانه ص
- كلامه وفصاحته ص
- شرف نسبه، وكرم بلده ص
- قدره ومنزلته ص
- الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة
- الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره ص
- شجاعته ص
- حياؤه ص
- حسن عشرته وأدبه ص
- شفقته ورأفته ص
- وفاؤه وصلته الرحم ص
- تواضعه ص
- عدله ص وأمانته، وعفته، وصدق لهجته
- وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته
- زهده ص في الدنيا
- خوفه ص من ربه، وطاعته له، وشدة عبادته
- العودة الي الصفحة الرئيسية من كتاب نور اليقين
شمائله عليه الصَّلاة والسَّلام
منح الله سبحانه نبيّنا صلى الله عليه وسلم من كمالات الدنيا والآخرة ما لم يمنحه غيره ممّن قبله أو بعده، ولا بدّ أن نأتي لك في هذا الباب بنبذة يسيرة من محاسن صفاته، وأحاسن آدابه، لتكون لك أنموذجاً تسير عليه، حتى تكون على قدم نبيّك صلى الله عليه وسلم، فتستحق الحمد في الدنيا والذخر في الأخرى.
فاعلم ــــ أرشدني الله وإياك، وهدانا للصراط السوي ــــ أن خصال الجلال والكمال في البشر نوعان: ضروري دنيوي: اقتضته الجِبلَّة، وضرورة الحياة، ومكتسبٌ ديني: وهو ما يُحمد فاعله ويُقَرِّبُ إلى الله زلفى.
فأما الضروري: فما ليس للمرء فيه اختيار ولا اكتساب مثل ما كان في جبلَّته عليه الصلاة والسلام من كمال الخِلْقة، وجمال الصورة، وقوة العقل، وصحة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، والأعضاء، واعتدال الحركات، وشرف النسب، وعزّة القوم، وكرم الأرض، ويلحق به ما تدعو ضرورة الحياة إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه.
أما المكتسبة الأخروية: فسائر الأخلاق العليّة والآداب الشرعية من الدين، والعلم، والحِلم، والصبر، والشكر، والعدل، والزهد، والتواضع، والعفو، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحُسن الأدب، والمعاشرة، وأخواتها وهي التي يجمعها حُسن الخُلق.
فإذا نظرت ــــ رعاك الله ــــ إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة، وفي جبلَّة الخِلقة، وجدته عليه الصلاة والسلام حائزاً لجميعها، محيطاً بشتات محاسنها. فأما الصورة وجمالها وتناسب أعضائه في حُسنها، فقد جاءت الآثار الصحيحة والمشهورة الكثيرة بذلك من أنه صلى الله عليه وسلم كان: أزهر اللون، أدعج، أنجل، أشكَل، أهدب الأشفار، أبلج أزج أقنى أفلج مدور الوجه واسع الجبين كث اللحية تملأ صدره، سواءَ البطن عظيم الصدر، عظيم المنكبين، ضخم العِظام، عَبْل العضدين والذراعين والأسافل، رَحْب الكفَّين والقدمين، سائل الأطراف، أنورَ المُتَجَرَّد، دقيق المسرُبة، رَبْعة القدِّ، ليس بالطويل البائِن، ولا القصير المتردِّد، ومع ذلك فلم يكن يُماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طالَه صلى الله عليه وسلم، رَجِل الشعر، إذا افترَّ ضاحكاً افتر عن مثل سَنا البرق، وعن مثل حبِّ الغمام، وإذا تكلم رُئِي كالنُّور يخرجُ من بين ثناياه، أحسن الناس عُنُقاً، ليس بِمُطَهَّمٍ، ولا مُكَلْثَمٍ، متماسِك البدن، ضرب اللَّحم.c قال البراءبن عازب: ما رأيتُ من ذي لِمَّةِ سوداء، في حلّة حمراء، أحسن من رسُول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة: ما رأيتُ شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وإذا ضحك يتلألأ في الجُدُر. وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. وقال علي في آخر وصفه له: من رآه بَديهة هَابَهُ، ومن خالطهُ معرِفةً أحبَّه، يقول ناعِتُهُ: لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
نظافة جسمه وطيب ريحه
وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرَقه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد، فكان قد خصَّه الله تعالى في ذلك بخصائص لم توجد في غيره، ثم تممها بنظافة الشرع. قال عليه الصلاة والسلام: «بُنِي الدين على النظافة». وقال أنس: ما شَممت عنبراً قط، ولا مسكاً، ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن جابربن سمرة، أنه عليه الصلاة والسلام مسح خَدَّه، قال: فوجدت ليده بَرداً وريحاً كأنما أخرجها من جُؤنة عطار. قال غيره: مَسَّها بطيب أو لم يمسَّها. يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، يضع يده على رأس الصبي، فيُعرف من بين الصِّبيان
بريحها، وروى البخاري في تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ في طريق فيتبعه أحد إلا عُرِف أنه سلكه من طيبه.
وفُور عقلهِ
وأما وفُور عقلهِ صلى الله عليه وسلم، وذكاء لُبِّه، وقوةُ حواسه، وفصاحةُ لسانه، واعتدالُ حركاته، وحسن شمائله، فلا مِرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمَّل تدبيره أمْرَ بواطن الخلق، وظواهرهم، وسياسته للعامة والخاصة، مع عجيب شمائله وبديع سِيَره فضلاً عمّا أفاده من العلم، وقرّره من الشرع، دون تعلّم سابق، ولا ممارسة تقدَّمتْ، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتَرِ في رُجْحان عقله، وثُقُوب فهمه لأول بديهة.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وبذلك فُسِّر قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ(219)
فصاحةُ اللسان
وأما فصاحةُ اللسان، وبلاغة القول، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحلِّ الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أُوتي جوامِع الكَلِم، وخُصَّ ببدائعِ الحكم، وعُلِّم ألسنةَ العرب، فكان يُخاطِب كل أمةٍ منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويُباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله. من تأمل حديثه وسيرَه علم ذلك وتحقَّقه. وليس كلامه مع قريش ككلامه مع أقيال حضرموت، وملوك اليمن، وعظماء نجد. بل يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته من الألفاظ، وما انتهجته من طرق البلاغة ليُبَيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وليحدِّث الناس بما يعلمون.
كلامه وفصاحته ص
وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحكمه المأثورة، فقد ألَّفَ النَّاسُ فيها الدواوين، وجُمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يُوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة، كقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم». وقوله: «الناس كأسنان المشط»، و«المرء مع من أحَبّ»، و«لا خير في صُحبة مَنْ لا يرى لك ما ترى له»، و«الناس معادن»، و«ما هلك امرؤ عرف قدره»، و«المستَشَار مؤتمن»، و«رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم». وقوله: «أسلِم تَسلم، وأسلم يُؤتِك الله أجرك مرتين»، و«إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسِنُكُم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يَألفون ويُؤلفون». وقوله: «لعلّه كان يتكلم بما لا يعنيه، أو يبخل بما لا يغنيه»، وقوله: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً». ونهيه عن «قيل وقال، وكثرة السُّؤال، وإضاعة المال، ومَنْعٍ وهاتِ، وعقوق الأمهات، ووأد البنات»، وقوله: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بِخُلق حسن»، و«خير الأمور أوساطها». وقوله: «أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما»، وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة». وقوله في بعض دعائه: «اللهمّ إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شَعْثي، وتُصلح بها غائبي، وتُزكي بها عملي، وتُلهمني بها رُشدي، وتردّ بها أُلْفَتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهمّ إني أسألك الفوز في القضاء، ونُزُل الشهداء، وعيشَ السعداء، والنصر على الأعداء». إلى غير ذلك مما رَوَتهُ الكافّة عن الكافّة عن مقاماته، ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته، ومخاطباته، وعهوده، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يُقاس بها غيره، وحاز فيها سَبْقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ. وقد قال أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: «وما يمنعني؟ وإنما أُنْزل القرآن بلساني، لسانٍ عربي مُبين». وقال
مرة أخرى: «أنا أفصح العرب بيدَ أني من قريش، ونشأت في بني سعد». فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإِلهي الذي مددُهُ الوحي الذي لا يُحيط بعلمه بشر.
شرف نسبه، وكرم بلده ص
وأما سروّ نسبه، وكرم بلده، ومنشئه، فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، ولا بيان مُشكلٍ، ولا خفي منه. فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمها، وأشرف العرب، وأعزّهم نفراً من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة، أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده. وقد قدّمنا لك في أول الكتاب ما فيه الكفاية في هذا المقام.
قدره ومنزلته ص
أما ما تدعو إليه ضرورة الحياة، فمنه ما الفضل في قلته، ومنه ما الفضل في كثرته، ومنه ما تختلف الأحوال فيه، فالأول: كالغذاء والنوم، ولم تَزَل العرب والحكماء قديماً تتمادح بقلتهما، وتذم بكثرتهما، لأن كثرة الأكل والشرب دليلٌ على النَّهَم والحرصِ، والشَّرَهِ وغلبةِ الشهوةِ، مسببٌ لمضار الدنيا والآخرة، جالبٌ لأدواء الجسد، وخُثارة النفس، وامتلاء الدماغ. وقلته دليلٌ على القناعة، وملك النفس. وقمع الشهوة، مُسَبِّبٌ للصحة، وصفاء الخاطر، وحدّة الذهن، كما أن النوم دليل على الفسولة والضعف، وعدم الذكاء والفطنة، مسبّبٌ للكسل، وعادة العجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب وغفلته وموته. وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ من الأكل والنوم بالأقل، وحضَّ عليه قال صلى الله عليه وسلم: «ما ملأَ ابنُ آدمَ وعاءً شَرّاً من بطنهِ، حسبُ ابن آدمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كان لا محالةَ، فَثُلُثٌ لطعامهِ، وثلثٌ لشرابهِ، وثلثٌ لِنَفَسِهِ». ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعاً قطّ، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً ولا يتشهَّاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قَبلَ، وما سقوه شرب. وفي صحيح الحديث: «أما أنا فلا آكل متكئاً» والاتِّكَاء: هو التَّمكنُ للأكل، والتقعدُدُ في الجلوس له، كالمتربّع وشبهه، من تمكُّن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفِزِ مُقْعِياً، ويقول: «إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبدُ»، وكذلك نومه كان قليلاً، ومع ذلك فقد قال: «إِنَّ عَيْنَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبي».
وأما ما الفضل في كثرته، فكالجاه، وهو محمودٌ عند العقلاء عادة، وبقَدْرِ جاهه عِظَمُهُ في القلوب، وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السلام: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ} (آل عمران: 45).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رُزِق من الحشمة، والمكانة في القلوب، والعظمة قبل النبوّة عند الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته، كما ذكرنا ذلك مِراراً، وقد كان يبهتُ ويفرق لرؤيته مَنْ لم يره، كما روي عن قَيْلَةَ أنها لما رأته أُرْعِدَتْ من الفَرَق فقال: «يا مسكينة عليكِ السكينة». وفي حديث أبي مسعود، أن رجلاً قام بين يديه فأُرْعِدَ، فقال له عليه الصلاة والسلام: «هوِّن عليك فإني لست بملك».
وأما عظيم قدره بالنبوّة، وشريف منزلته بالرسالة، وإنافة رتبته بالاصطفاء والكرامة في الدنيا، فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم.
وأما ما تختلف فيه الحالات في التمدح به، والتفاخر بسببه والتفضيل لأجله، ككثرة المال، فصاحبه على الجملة معظَّم عند العامّة لاعتقادها تَوَصُّلَهُ به إلى حاجته، وتمكّنه في أغراضه، وإلا فليس فضيلة في نفسه، فمتى كان بهذه الصورة، وصاحبه مُنفقاً له في مهماته، ومهمات من قصده وأَمَّلَهُ، يصرفه في مواضعه، مشترياً به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة في القلوب. كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البرّ، وأنفقه في سبل الخير، وقَصد بذلك الله تعالى والدار الآخرة، كان فضيلة عند الكل بكل حال، ومتى كان صاحبه مُمْسكاً له، غير موجهه وجوهه، حريصاً على جمعه، عادت كثرته كالعدم، وَكان مَنْقَصَة في صاحبه، ولم يقفْ به على جَدَدِ السلامة، بل أوقعه في وَهْدة رذيلة البخل، ومذمّة النذالة، فالتمدح بالمال ليس لذاته بل للتوصّل به إلى غيره، وتصريفه في مُتَصَرَّفاته، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم أُوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد، وأُحِلَّت له الغنائم، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجُلب إليه كثير من أخماسها وَجِزْيَتِها وصدقاتها، وهاداه جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهماً بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرني أن لي أُحُداً ذهباً يبيت عندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لِدَيْني».
وأتته دنانير مرة فقسَّمها، وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتى قام فقسمها، وقال: «الآن استرحت».
ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله، واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشَّمْلَة، والكساء الخشن، والبُرْد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب، ويرفعُ لمن لم يحضر، فأنت ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاز فضيلة المال بالزهد فيه، وإنفاقه على مستحقيه.
الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة
وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة والآداب الشريفة وهي المسماة بحسن الخُلق فجميعها قد كانت خلق نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على الانتهاء في كمالها، والاعتدال إلى غايتها حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)
فأصل فروعها، وعنصُر ينابيعها، ونقطة دائرتها: العقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرّع عن هذا ثقوب الرأي، وجودة الفطنة، والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب، ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحُسن السياسة والتدبير، واقتناء الفضائل، وتجنُّب الرذائل، وقد بلغ عليه الصلاة والسلام منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، يعلمُ ذلك من تَتَبَّعَ مجاري أحواله، واطّراد سيره، وطالعَ جوامع كَلِمه، وحُسن شمائله، وبدائع سِيَره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسِيَر الأمم الخالية وأيامها، وضرب الأمثال، وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع، وتأصيل الآداب النفيسة، والشيم الحميدة، إلى فنون العلوم التي اتَّخذ أهلها كلامه فيها قدوة وإشاراته حجة، كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون تعليم ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبي أميّ لا يعرف شيئاً من ذلك، حتى شرح الله صدره، وأبان أمره وعلَّمه. وبحَسَب عقله كانت معارفه عليه الصلاة والسلام إلى سائر ما علَّمه الله، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان، وعجائب قدرته، وعظيم ملكوته قال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113).
الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره ص
وأما الحلم والاحتمال والعفو مع القدرة، والصبر على ما يكرهه، فمما أدّب الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ(199) وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ} (لقمان: 17). وقال: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22). وقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ(43)
قالت عائشة رضي الله عنها: «ما خُيِّر عليه الصلاة والسلام في أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تُنْتَهك حرمة الله، فينتقم لله».
ولما فعل به المشركون ما فعلوا في أُحُد، وطُلب منه أن يدعو عليهم قال: «اللهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين آذوه، واستهزؤوا به، وأخرجوه من دياره هو وأصحابه، ثم قاتلوه، وحرّضوا عليه غيرهم من مشركي العرب، حتى تمالأَ عليه جمعهم، ثم لما فتح الله عليه مكة ما زاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطُّلقاء». وعن أنس: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام وعليه بُرد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده». ثم قال: «ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي» قال: لا، قال: «لِمَ؟» قال: لأنك لا تكافىء بالسيئةِ السيئةَ، فضحك عليه الصلاة والسلام، ثم أمر أن يُحمل له على بعير شعيرٌ، وعلى الآخر تمرٌ.
قالت عائشة: ما رأيت رسول الله منتصراً من مَظْلمَةٍ ظلمها قطُّ، ما لم تكن حُرْمَةً من محارم الله تعالى، وما ضربَ بيده شيئاً قطُّ إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضربَ خادماً ولا امرأة، فصلى الله تعالى عليه، وأقرَّ عينه باتباع المسلمين سنّته.
وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يُوازى في هذه الأخلاق الكريمة، ولا يُبارى. وصَفَهُ بهذا كل من عرفه، قال جابر رضي الله عنه: ما سُئل عليه الصلاة والسلام عن شيء فقال: لا. وقال ابن عباس: كان عليه الصلاة والسلام أجودَ الناس بالخير، وأجودَ ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة. وقالت خديجة في صفته عليه الصلاة والسلام مخاطبة له: إنك تحمل الكَلَّ، وتكْسِبُ المعدوم.
وحَسْبُك شاهداً في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ردِّ السبي إليها، وما فعله يوم تقسيم السبي من إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم الأعطية. وقد استوفينا ذلك في موضعه.
وحُمل إليه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفاً، فوضعها على حصير وأخذ يقسمها فما قام حتى فرغ منها.
وجاءه رجل فسأله فقال: «ما عندي شيء، ولكن ابتعْ عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه» فقال له عمر: ما كلَّفَكَ الله ما لا تقدرُ عليه، فكره ذلك عليه الصلاة والسلام، فقال له رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخفْ من ذي العرش إقلالاً، فتبسم عليه الصلاة والسلام وعُرِفَ البشرُ في وجهه وقال: «بهذا أُمِرتُ».
والأخبار بجوده وكرمه عليه الصلاة والسلام كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه.
شجاعته ص
ومنها الشجاعة والنجدة، فكان عليه الصلاة والسلام منهما بالمكان الذي لا يُجهل، قد حضر المواقف الصعبة، وفرّ الكُمَاةُ والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يَبْرَح، ومُقْبل لا يُدبر، ولا يتزحزح، وما من شجاع إلا أُحصيت له فرّة، وحفظت عنه جولة، سواه. وحسبك ما فعله في حُنَيْنٍ وأُحُد مما ذكرناه مستوفى.
وقال ابن عمر: ما رأيتُ أشجعَ ولا أنجدَ ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليٌّ: إنّا كنّا إذا اشتد البأسُ، واحْمرَّت الحَدَقُ اتقينا برسول الله، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدو منه، ولقد رأيتُني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً. وقال أنس: كان عليه الصلاة والسلام أشجعَ الناس، وأحسنَ الناس، وأجودَ الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلةً، فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت، فتلقاهم عليه الصلاة والسلام راجعاً، قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، والسيف في عنقه، وهو يقول: «لن تُراعوا».
حياؤه ص
وأما الحياء والإغضاء، فكان عليه الصلاة والسلام أشدَّ الناس حياءً، وأكثرهم عن العورات إغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان عليه الصلاة والسلام أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها. وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه.
وكان عليه الصلاة والسلام لطيفَ البَشَرة، رقيقَ الظاهر، لا يُشَافِهُ أحداً بما يكرهه، حياءً وكرمَ نفس. قالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام إذا بلغه عن أحدٍ ما يكرهه لم يقلْ: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ بل يقول: «ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا؟». ينهى عنه ولا يُسَمِّي فاعِله، وقالت رضي الله عنها: لم يكن عليه الصلاة والسلام فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
حسن عشرته
وأما حسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه مع أصناف الخلق، فمما انتشرت به الأخبار الصحيحة، قال علي رضي الله عنه: كان عليه الصلاة والسلام أوسعَ الناس صدراً، وأصدقَ الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. وكان عليه الصلاة والسلام يؤلِّفهم، ولا ينفِّرهم، ويكرم كريم كلِ قوم ويولِّيه عليهم، ويحْذَر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي على أحد منهم بشره، ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه. من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكونَ هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخُلُقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء، بهذا وصفه ابن أبي هالة. وكان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظَ ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤيس منه، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159). وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34).
وكان عليه الصلاة والسلام يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كُراعاً، ويكافىء عليها، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم، ويحادثهم، ويلاعب صبيانهم، ويجلسهم في حِجره، ويجيب دعوة الحر والعبد، والأمة والمسكين، ويعُود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر. وقال أنس: ما التقم أحد أُذن النبي يحادثه فنحَّى رأسه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحِّي رأسه، وما أخذ أحدٌ بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر.
وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يُرَ قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه حتى يُضَيِّقَ بهما على أحد، يُكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويُكَنِّي أصحابه، ويدعوهم بأحبِّ أسمائهم تكرمةً لهم، ولا يقطعُ على أحد حديثه، حتى يتجوَّزَ فيقطعه بنهي أو قيام، وكان أكثرَ الناس تبسماً، وأطيبهم نفساً، ما لم يُنزل عليه قرآن، أو يعظ، أو يخطب.
شفقته ورأفته ص
وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه الله بها في قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128). وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ(107)
روي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه، ثم قال: «أأحسنت إليك؟» قال الأعرابي: لا، ولا أجملتَ. فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كُفُّوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه، وزاده شيئاً، ثم قال: «أأحسنت إليك؟» فقال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنك قلتَ ما قُلتَ، وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببتَ فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ، حتى يذهبَ ما في صدورهم عليك» قال: نعم، فلما كان الغد ــــ أو العشي ــــ جاء فقال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه فزعمَ أنه رضي أكذلك؟» قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: «مثلي ومثلُ هذا مثل رجل له ناقة شردتْ عليه، فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها، حتى جاءتْ واستناختْ، وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيثُ قال الرجلُ ما قال فقتلتموه دخل النار». وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يُبَلِّغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر». وكان يسمعُ بكاء الصبي فيتجوَّزُ في صلاته. وعن ابن مسعود كان عليه الصلاة والسلام يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
وفاؤه وصلته الرحم ص
وأما خلقه عليه الصلاة والسلام في الوفاء، وحسن العهد، وصلة الرحم، فروي عن عبد اللهبن أبي الحمساء قال: بايعت النبي عليه الصلاة والسلام ببيع قبل أن يُبعث، وبقيتْ له بقية، فوعدته أن آتِيَهُ بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه، فقال: «يا فتى، لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك». وكان إذا أُتيَ بهدية، قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة». وكان عليه الصلاة والسلام يَصِل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. ووفدَ عليه وفد، فقامَ يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم». وفي حديث خديجة: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق.
تواضعه ص
وأما تواضعه عليه الصلاة والسلام، على علو منصبه ورفعة رتبته، فكان أشدَّ الناس تواضعاً، وأقلّهم كِبراً، وحسبك أنه خيِّر بين أن يكون نبيّاً ملكاً، أو نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وخرج عليه الصلاة والسلام مرة على أصحابه متوكئاً على عصا، فقاموا، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعَظِّم بعضهم بعضاً». وقال: «إنما أنا عبدٌ، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد». وكان يركب الحمار ويُرْدِفُ خلفه، ويعود المساكين، ويُجالس الفقراء، ويُجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تُطْروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وحج عليه الصلاة والسلام على رَحْلٍ رثِّ، وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال: «اللهمّ اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة» هذا وقد فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجه ذلك مائة بَدَنة. ولما فُتحت عليه مكة، ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كادَ يَمَسُّ قادمته تواضعاً لله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: دخلتُ السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوازن: «زن وأرجح»، ثم قال: فوثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلها، فجذب يده، وقال: «هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم»، ثم أخذ السراويلَ فذهبتُ لأحمله قال: «صاحبُ الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله».
عدله ص وأمانته، وعفته، وصدق لهجته
وأما عدله عليه الصلاة والسلام، وأمانته، وعفّته، وصدق لهجته، فكان آمنَ الناس، وأعدل الناس، وأعفّ الناس، وأصدقهم لهجة منذ كان، اعترف له بذلك محادُّوه وأعداؤه، وكان يُسَمَّى قبل نبوّته الأمين، وقد قدّمنا ذلك في سيرته عليه الصلاة والسلام قبل النبوّة. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ما لمست يدُهُ يدَ أمرأة قطّ لا يملك رقّها. قال أبو العباس المُبَرِّد: قسَّم كسرى أيامه، فقال: يوم الريح يَصْلح للنوم، ويومُ الغيم للصيد، ويوم المطر للهو والشرب، ويومُ الشمس للحوائج. ولكن نبيّنا عليه الصلاة والسلام جزَّأ نهاره ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصّة على العامّة، ويقول: «أبلغوا حاجة مَنْ لا يستطيعُ إبلاغي، فإن من أبلغ حاجة مَنْ لا يستطيعُ إبلاغها آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر». وكان عليه الصلاة والسلام لا يأخذ أحداً بذنب أحد، ولا يصدق أحداً على أحد.
وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته
وأما وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته، وحسن هديه. فكان عليه الصلاة والسلام أوقرَ الناس في مجلسه، لا يكادُ يُخرِج شيئاً من أطرافه، وكان إذا جلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبياً. وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة. يُعرض عمّن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسماً، وكلامه فَصْلاً، لا فضول ولا تقصير، وكان ضَحِكُ أصحابه عنده التبسم توقيراً له، واقتداء به. مجلسه مجلسُ حلم وحياء وخير وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تُؤْبنُ فيه الحُرَمُ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير. وقال ابن أبي هالة: كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكّر. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يُحَدّثُ حديثاً لو عدّه العاد لأحصاه، وكان يُحِبّ الطِّيب، والرائحة الحسنة، ويستعملهما كثيراً، ويحضّ عليهما. ومن مروءته صلى الله عليه وسلم نهيه عن النفخ في الطعام والشراب والأمر بالأكل مما يلي، والأمر بالسِّواك وإنقاء البراجم والرواجب (مفاصل الأصابع من ظاهر الكف وباطنها).
زهده ص في الدنيا
وأما زهده عليه الصلاة والسلام في الدنيا فقد قدّمنا لك فيه ما فيه الكفاية، وحسبك شاهداً على تقلُّلِهِ من الدنيا، وإعراضه عن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، أنه توفي عليه الصلاة والسلام، ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله. وهو يدعو ويقول: «اللهمّ اجعلْ رزقَ آل محمد قوتاً». وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله. وقالت: ما ترك عليه الصلاة والسلام ديناراً، ولا درهماً، ولا شاة، ولا بعيراً، ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي. وقال: «إني عُرض عليّ أن تُجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا يا ربّ أجوعُ يوماً، وأشبع يوماً. فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك»، وقالت عائشة: إن كنّا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً، إن هو إلا التمر والماء. وعن أنس: ما أكل عليه الصلاة والسلام على خُوانٍ، ولا في سُكُرُّجَةٍ، ولا خُبِزَ له مُرَقَّق، ولا أرى شاة سميطاً قطّ.
وفي حديث حفصة: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته مِسْحاً نثنيه ثنيتين، فينام عليه، فثنيناه ليلة بأربع، فلما أصبح، قال: «ما فرشتم لي؟» فذكرنا له ذلك فقال: «ردّوه بحاله فإن وَطَاءَتَهُ منعتني الليلة صلاتي».
وقالت عَائشة: لم يمتلىء جوف النبي عليه الصلاة والسلام شبعاً، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى. وإن كان ليظلُّ جائعاً يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه. ولو شاء ربّه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغدَ عيشها. ولقد كنتُ أبكي رحمة له مما أرى به، وأمسحُ بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلَّغْتَ من الدنيا بما يقوتُك، فيقول: «يا عائشة ما لي وللدنيا، إخواني من أُولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فَقَدِمُوا على ربهم فأكرم مآبهم، وأجزلَ ثوابهم. فأجدني أستحي إن ترفَّهْتُ في معيشتي أن يُقَصَّرَ بي غداً دونهم، وما من شيء هو أحبُّ إليّ من اللحوق بإخواني وأخلاّئي». قالت: فما أقام بعدُ إلا شهراً حتى توفي صلواتُ الله عليه وسلامه.
خوفه ص من ربه، وطاعته له، وشدة عبادته
وأما خوفه ربه، وطاعته له، وشدّة عبادته، فعلى قدر علمه بربه. ولذلك قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكَيتم كثيراً» «أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أَطَّتْ ــــ صَوَّتت ــــ السماءُ وحُقَّ لها أن تَئِطَّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكَيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى. لوددت أني شجرة تعضد».
وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تَرِمَ قدماه، فقيل له: أَتَكَلَّفُ هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً». وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيمةً، وأيُّكُم يطيق ما كان يطيق؟ وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم. وقال عوفبن مالك: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فاستاكَ، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه فاستفتح البقرة، فلا يمرّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه، يقول: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة»، ثم سجد، وقال مثل ذلك. ثم قرأ (آل عمران) ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك. وقال بعضهم: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، وفي وصف ابن أبي هالة: كان متواصلَ الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة.
وعن علي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنّته فقال: «المعرفةُ رأس مالي، والعقلُ أصل ديني، والحبُّ أساسي، والشوقُ مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزنُ رفيقي، والعلمُ سلاحي، والصبرُ ردائي، والرضا غنيمتي، والعجزُ فخري، والزهدُ حِرفتي، واليقينُ قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرّة عيني في الصلاة، وثمرة فؤادي في ذكره، وغمِّي لأجل أمتي، وشوقي إلى ربي» فجزاه الله من نبي عن أمته خيراً، ورحم الله عبداً تأمل في هذه الشمائل الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى الله عنه، فنسألك اللهمّ التوفيق لما فيه الخير بمنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.