القول في تقليد الصحابي
كتاب الإجتهاد للجويني
محتويات
- القول في تقليد الصحابي
- القول في صفة العالم الذي يسوغ له الفتوى في الاحكام
- القول في صفة المستفتي وما عليه من الاجتهاد
- فصل في جواز تقليد العالم مع وجود الأعلم
- العودة إلي الصفحة الرئيسية من كتاب الإجتهاد
القول في تقليد الصحابي
وهل ينتصب قوله حجة وذكر الاختلاف فيه اختلف العلماء في قول الصحابي المجتهد فذهب الشافعي في القديم الى انه حجة يجب على المجتهدين من اهل سائر الاعصار التمسك به ثم قال لهم انما يكون حجة اذا لم تختلف الصحابة ولكن نقل قول واحد عن واحد ولم يظهر خلاف فيكون حينئذ حجة وان لم ينتشر وقال في بعض اقواله اذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم فالتمسك بقول الخلفاء اولى وهذ كالدليل على انه لم يسقط الاحتجاج باقوال الصحابة لاجل الاختلاف وقال في بعض اقواله القياس الجلي يقدم على قول الصحابي وقال في موضع اخر ان قول الصحابي مقدم على القياس
واجمعوا ان قول الصحابي لا يكون حجة على الصحابي والظاهر من المذاهب انهم اذا اختلفوا يسقط الاحتجاج باقوالهم فنبدأ بما تمسك به القائلون بان قول الصحابي حجة فمما استدلوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فنقول لهم انما عني بالسنة الامر فيها بلزوم الطاعة للخلفاء
والتحضيض على الانقياد والطاعة باقصى الجهد فان زعموا ان الامر بالاقتداء عام فما ذكروه ساقط من وجهين
احدهما انا لا نقول بالعموم والثاني ان الحديث غير منطو على صيغة عموم فإن السنة ليس فيها قضية عموم بل هي لفظة محتملة والدليل على ذلك انه صلى الله عليه و سلم لو كان يريد الاحتجاج بقول الصحابي على ما يعتقده المخالفون لما خصص الخلفاء بالذكر فلما اراد بما قاله الطاعة خصصه بالخلفاء
ومما استدلوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فنقول لهم بما تنكرون على من يزعم انه اراد بذلك امر العوام في عصره بالاقتداء بالعلماء فان قالوا ان اللفظة عامة قيل لهم ونحن لا نقول بالعموم على انكم خصصتم اللفظ في حق الصحابة بعضهم مع بعض والذي يوضح بطلان احتجاجهم ان اللفظة منبئة عن تخيير والدليل على ذلك انه صلى الله عليه و سلم قال بأيهم اقديتم اهتديتم
وهذا في الظاهر ينبىء عن اختلافهم في المسألة الواحدة ثم يخير المجتهد في الاخذ بقول ايهم شاء ولو اختلفوا لسقط الاحتجاج بقولهم عند مخالفينا فسقط استدلالهم من كل وجه وربما يتمسكون بجمل من الظواهر يؤول مرجعها الى ما ذكرناه وربما يتمسكون بطرق من المعنى فيقولون ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم شاهدوا الوحي والتنزيل ومواقع الخطاب وشهدوا قرائن الاحوال فلا يصدر القول منهم مع ورود الشرع باحسان الظن بهم الا وهو الحق وهذا الذي ذكروه لا طائل تحته فانهم مع ما ذكرناه بصدد الزلل لم يقم حجة قاطعة على الاستدلال بقولهم ولا يدل العقل على ذلك ايضا فلم يبقى فيما ذكروه معتصم ودليلنا في هذه المسألة هو الذي قدمناه في المسألة الاولى في منع التقليد فأطردها على وجهها وقد اعتبر بعض المعتبرين بما اذا اختلف الصحابة واعتبر بعضهم
ذلك بقول الصحابة بعضهم على بعض والاولى التعويل على النكتة التي قدمناها فإنك اذا قست على صورة الخلاف لم يسلم قياسك اذ يقول المخالف لا استبعاد في نصب قول الصحابي علما وحجة شرعا من غير اختلاف فإذا ظهر اختلافهم لم ينتصب حجة والجمع بينهما ضرب من الطرد والاحسن ان اردت التمسك بهذا الفصل ان تورده مستفصلا مستغرقا ولا يستدل به بدءا فقلما تستقيم للخصم طريق من الطرق وقد اطنب القاضي في كلام بعض مخالفينا على بعض ومن احكم ما قلناه هان عليه ما سواه
القول في صفة العالم الذي يسوغ له الفتوى في الاحكام
اجمعوا على انه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم ان يفتي وانما يحل له الفتي ويحل للغير قبول قوله في الفتوى اذا استجمع اوصافا منها ان يكون عالما بطرق الادلة ووجوهها التي منها تدل والفرق بين عقليها وسمعيها ويكون عالما بقضايا الخطاب ما يحتمل منه وما لا يحتمل ووجوه الاحتمال والخصوص والعموم والمجمل والمفسر والصريح والفحوى والجملة الجامعة كما فرضه القاضي من هذا القبيل ان يكون عالما باصول الفقه وقد حددنا اصول الفقه بما يتميز به عن سائر الفنون ومما يشترط في المجتهد ان يكون عالما بالآيات المتعلقة بالاحكام من كتاب الله تعالى ولا يشترط حفظ ما عداها من الآيات
ومما يشترط ان يحيط من سنن الرسول صلى الله عليه و سلم بما يتعلق بالاحكام حتى لا يشذ منها الا الاقل ولا نكلفه الاحاطة بجميعها فان ذلك مما لا ينضبط ومما يشترط ان يكون ذا دراية في اللغة والعربية ولا يشترط ان يحيط بمعظمها وفاقا فان الاحاطة بمعظم اللغة والعربية يستوعب العمر وهذه رتبة لم يدعها أئمة اللغة والعربية وايضا فانما يشترط من اللغة والعربية قدر ما يتوصل به الى معرفة الكتاب والسنة ولا يجزىء ان ياخذ تفسير الايات والاخبار تقليدا بل يشترط ان يتدرب في اللغة والعربية بحيث يكون منها على ثقة وخبرة
ومما يشترط ان يكون عالما بمطاعن الاخبار المتعلقة بالاحكام ولا يشترط ان يجمع علم الحديث بل يجزىء ان يحيط علما بما قاله أئمة الحديث في الاخبار المتعلقة بالاحكام ومما يشترط ان يحيط علما بمعظم مذاهب السلف فانه لو لم يحط بها لم يأمن من خرق الاجماع في الفتاوي
ثم يشترط بعد ذلك ان يكون ورعا في دينه وقد ذكر القاضي في خلال كلامه ما يدل على ان التبحر في فن الكلام شرط في استجماع اوصاف المجتهدين قلت ولست ارى ذلك شرطا اذا الأئمة في الاعصار الخالية ما زالوا يفتون في الحوادث وكانوا لا يشتغلون بطرق حجاج المتكلمين وقد اشار الاستاذ ابو اسحق الى قريب مما ذكره القاضي وما
صار اليه الفقهاء قاطبة عدم اشتراط ذلك
القول في صفة المستفتي وما عليه من الاجتهاد
اجمع العلماء على ان العامي لا يجب عليه سبر طرق الادلة في احاد المسائل فإنه لا يبلغ الى ذلك الا بأن يستجمع اوصاف المجتهدين ولو كلفنا الناس اجمع ان يبلغوا انفسهم رتبة المفتين لانقطعوا عن اسباب المعايش وافضى ذلك الى امتناع الطلب على الطلبة ايضا فاذا ثبت انه لا يجب عليهم الاجتهاد في احاد المسائل وانما فرضه الرجوع الى قول المفتي فهل عليه ان يجتهد في اعيان المفتين
ذهب بعض المعتزلة الى انه لا يجب عليه شيء من الاجتهاد وهذا اجتراء منهم على حرق الاجماع فان الامة مجمعة على ان من عنت له حادثة لم يسغ له ان يستفتي فيها كل من يلقاه فلو نفينا وجوب الاجتهاد جملة افضى ذلك الى تجويز الاستفتاء من غير فحص وتنقير عن احوال المفتين وهذا تورط في مراغمة الاتفاق فاذا وضح بما قدمناه وجوب ضرب من الاجتهاد فمبلغه ان يسأل عن احوال العماء حتى اذا تقرر لديه بقول الاثبات والثقات ان الذي يستفتي منه بالغ مبلغ الاجتهاد فيستفتي حينئذ ثم ردد القاضي جوابه فقال لو قال قائل اذا اخبره بذلك عدلان مهتديان الى ما يخبران عنه فله الاجتزاء باخبارهما كان ذلك محتملا ولو قال قائل انه لا يستفتي الا من استفاضة الاخبار عن بلوغه مبلغ الاجتهاد كان ذلك محتملا والى الجواب الاخير مال القاضي والمسألة على الاحتمال كما تراها
فصل في جواز تقليد العالم مع وجود الأعلم
اذا لم يكن في البلدة التي فيها المستفتي الا عالم واحد فيقلده ولا يكلف الانتقال عنه وان جمعت البلدة العلماء وكل منهم بالغ مبلغ الاجتهاد فقد ذهب الفقهاء الى ان الواجب عليه ان يقلد الاعلم منهم ولا يسوغ له تقليد من عداه وهذا غير صحيح والسديد أن له ان يقلد من شاء منهم والذي يحقق ذلك ان الذي ثبت في شرائط المفتي ما قدمناه فاذا اتصف المرء به ساغ تقليده ولم يثبت في اصول الشريعة رعاية ما يزيد على الشرائط الذي قدمناها والذي يوضح الحق في ذلك ان الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا الى الفاضل والمفضول وكان الصديق رضي الله عنه افضلهم في مذهب اهل الحق ثم لم يكلفوا المستفتين ان لا يستفتوا غيره بل لم يجمعوا السائلين على احد تعيينا منهم وتخصيصا فوضح بذلك انه لا يتعين على المستفتي التعرض للاعلم
فلو قال قائل فجوزوا على ما ذكرتموه امامة المفضول قلنا هذا خوض منكم في غير هذا الفن وقد اقمنا فيما نحن فيه اوضح دلالة فما وجه تمسككم بالامامة وذهب بعض من لاحظ له في الاصول الى ان المستفتي يأخذ باثقل الاجوبة ويغلظ الامر على نفسه اذا تعارضت اجوبة العلماء اذ الحق ثقيل وهذا تحكم من هذا القائل لان الثقل ليس علامة للصحة فرب ثقيل باطل ورب سمح صحيح كيف وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم بعثت بالحنفية السمحاء
فإن قال قائل فلوا تعارض فتوتان في تحريم وتحليل فبم يأخذ المستفتي قلنا يأخذ بأسبقهما اليه فان بدرا من عالمين جميعا اخذ بأيهما شاء