كتاب كاشفة السجا شرح سفينة النجا للنووي الجاوي
محتويات
فصل: في بيان مفتاح الجنة
(فصل): في بيان مفتاح الجنة. وهي كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص وكلمة النجاة، وقد ذكرت في القرآن في سبعة وثلاثين موضعاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: (ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق) كائن (في الوجود إلا الله) أي لا يستحق أن يذل له كل شيء إلا الله قوله: إلا الله بالرفع بدل من محل لا مع اسمها لأن محلها رفع بالابتداء عند سيبويه أو بدل من الضمير المستتر في خبر لا المحذوف والتقدير لا إله موجود أو ممكن بالإمكان العام إلا الله أو بالنصب على الاستثناء، ولا يصح جعله بدلاً من محل اسم لا لأن لا لا يعمل في المعارف كذا قال شيخنا يوسف، قال السنوسي واليوسي: والمنفي في لا إله إلا الله المعبود بحق في اعتقاد عابد نحو: الأصنام والشمس والقمر وذلك أن المعبود بباطل له وجود في نفسه في الخارج ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلاً ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقاً فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا ينفى لأن الذوات لا تنفى، وكذا من حيث وجوده في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلاً إذ كونه معبوداً بباطل أمر محقق لا يصح نفيه وإلا كان كاذباً وإنما ينفى من حيث وجوده في ذهن الكافر بوصف كونه معبوداً بحق فلم ينف في لا إله إلا الله إلا المعبود بحق غير الله فالاستثناء متصل وليس المنفي أيضاً المعبود بباطل في ذهن الكافر لأنه الله تعالى والقصد بهذه الجملة الرد على من يعتقد الشركة (وفضائلها) لا تحصى منها قوله صلى الله عليه وسلّم: "من قال لا إله إلا الله ثلاث مرات في يومه كانت له كفارة لكل ذنب أصابه في ذلك اليوم" وعن كعب الأحبار رضي الله عنه أوحى الله تعالى إلى موسى في التوراة لولا من يقول لا إله إلا الله لسلطت جهنم على أهل الدنيا. قال السحيمي: أفضل الأشياء الإيمان وهو قلبي،
وأفضل الكلام كلام الله وأفضله القرآن، وأفضل الكلام بعده لا إله إلا الله فهي أفضل من الحمد على الصحيح لأنها تنفي الكفر. وقال بعضهم: إن كلمة لا إله إلا الله اثنا عشر حرفاً فلا جرم أي فلا بد أنه وجب بها اثنتا عشرة فريضة سنة ظاهرة وسنة باطنة؛ أما الظاهرة فالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، وأما الباطنة فالتوكل والتفويض والصبر والرضا والزهد والتوبة. قوله: والجهاد، أي القتال في سبيل الله لإقامة الدين وهذا هو الجهاد الأصغر، وأما الجهاد الأكبر فهو مجاهدة النفس وقوله التوكل، هو ثقة القلب بالوكيل الحق تعالى بحيث يسكن عن الاضطراب عند تعذر الأسباب ثقة بمسبب الأسباب. وعن أويس القرني أنه قال: لو عبدت الله عبادة أهل السموات والأرض لا يقبل الله منك حتى تكون آمناً بما تكفل الله من أمر رزقك وترى جسدك فارغاً لعبادته. قال تعالى: فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} ((5) المائدة:23) وقال صلى الله عليه وسلّم: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً أي تذهب بكرة وهي جياع وتروح بطاناً أي وترجع عشية وهي ممتلئة الأجواف، فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق، والمعنى: لو اعتمدتم على الله في ذهابكم ومجيئكم وتصرفكم وعلمتم أن الخير بيده لم تنصرفوا إلا غانمين سالمين ولأغناكم التوكل على الله عن الادخار كالطير لكنكم اعتمدتم على قوتكم وكسبكم وهذا ينافي التوكل. وروي عن بعض العلماء أن أشد الخلق توكلا الطير وطمعاً النمل، وليس المراد بالتوكل ترك الكسب بالكلية.
وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي فقال: هذا رجل جهل العلم فقد قال صلى الله عليه وسلّم: ان الله جعل رزقي تحت ظل رمحي أي الرمح سبب لتحصيل الرزق، ومراده أن معظم الرزق كان من الغنائم وإلا فقد كان يأكل من جهات أخرى غير الرمح ذكره السحيمي. قوله التفويض، هو التسليم لله في جميع أموره وهو أعلى من التوكل، قال الغزالي: وهو إرادة أن يحفظ الله عليك مصالحك فيما لا تأمن فيه من الخطر وضد التفويض الطمع. قوله: الصبر، وهو حبس النفس على المشاق وعن الجزع.
قال العلقمي: الصبر حبس النفس على كريه تتحمله وعن لذيذ تفارقه. قوله الرضا، هو غنى القلب بما قسم، وقال العلماء: الرضا ترك السخط والسخط ذكر غير قضاء الله تعالى بأنه أولى به وأصلح فيما لا يتيقن إصلاحه وفساده. روي أنه تعالى قال: من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليتخذ رباً سوائي. قوله: الزهد، هو أن لا يكون بما في أيدي الناس أوثق منه بما عند الله وليس الزهد هو ترك الحلال وإضاعة المال. وفي الحديث: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده" فقوله من سره بهاء الضمير معناه من أحب كما قاله السيد أحمد دحلان. وفي مختصر منهاج العابدين روي: ركعتان من رجل عالم زاهد قلبه خير وأحب إلى الله تعالى من عبادة المتعبدين إلى آخر الدهر أبداً وسرمداً. قوله: والتوبة، ولها ثلاثة أركان: الأول الإقلاع عن الذنب فلا يصح توبة المكاس مثلاً إلا إذا أقلع عن المكس. والثاني: الندم على فعلها لوجه الله تعالى فلا تصح توبة من لم يندم أو ندم لغير وجه الله تعالى كأن ندم لأجل مصيبة حصلت له. والثالث: العزم على أن لا يعود إلى مثلها أبداً فلا يصح توبة من لم يعزم على عدم العود وهذا إن لم تتعلق المعصية بالآدمي فإن تعلقت به فلها شرط رابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه تفصيلاً لا إجمالاً.
[فائدة] قال الغزالي: وجملة الأمر أنك إذا برأت قلبك من الذنوب كلها بأن توطنه على أن لا تعود إلى ذنب أبداً وتندم على ما مضى وتقضي الفوائت بما تقدر عليه وترضي الخصوم بما أمكنك بأداء واستحلال وترجع إلى الله تعالى في ما تخشى في إظهاره هيجان فتنة بالتضرع إلى الله ليرضيه عنك تذهب فتغسل ثيابك وتصلي أربع ركعات وتضع جبهتك بالأرض في موضع خال ثم تجعل التراب على رأسك وتمرغ وجهك في التراب بدمع جار وقلب حزين وصوت عال، وتذكر ذنوبك واحداً واحداً ما أمكنك وتلوم نفسك عليها وتقول: أما تستحين يا نفس؟ أما آن لك أن تتوبي؟ ألك طاقة بعذاب الله سبحانه؟ ألك حاجة؟ وتذكر من هذا كثيراً وتبكي ثم ترفع يديك إلى الرب الرحيم سبحانه وتقول: إلهي عبدك الآبق رجع إلى بابك عبدك العاصي رجع إلى الصلح عبدك المذنب أتاك بالعذر فاعف عني بجودك وتقبل مني بفضلك وانظر إلي برحمتك اللهم اغفر لي ما سلف من الذنوب واعصمني فيما بقي من الأجل فإن الخير كله بيدك وأنت بنا رؤوف رحيم. ثم تدعو دعاء الشدة وهو: يا مجلي عظائم الأمور، يا منتهى همة المهمومين، يا من إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون أحاطت بنا ذنوبنا وأنت المدخور لها مدخوراً لكل شدة كنت أدخرك لهذه الساعة فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، ثم تكثر من البكاء والتذلل وتقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ولا تشتبه عليه الأصوات يا من لا تغلطه المسائل، ولا تختلف عليه اللغات يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك إنك على كل شيء قدير، ثم تصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وتستغفر ربك لجميع المؤمنين وترجع إلى طاعة الله جل جلاله فتكون قد تبت توبة نصوحاً وصرت طاهراً من الذنوب ولك من الأجر والرحمة ما لا يحصى والله الموفق.
[فرع] حكي أن ابن أبي رأى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له: ادع بهذا الدعاء وقدمه في أول دعائك ثم تدعو بعده بما شئت يستجاب لك به، ومن دعا به قوي إيمانه وهو هذا: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم لا مضل لمن هديت ولا هادي لمن أضللت ولا مشقي لمن أسعدت ولا مسعد لمن أشقيت، ولا معز لمن أذللت ولا مذل لمن أعززت، ولا رافع لمن خفضت ولا خافض لمن رفعت، اللهم اهدنا لما أمرتنا ووفِّ لنا بما ضمنت لنا من خيري الدنيا والآخرة، وقوِّ يقيننا فيما رجيتنا وانصرنا على أعدائنا في الظاهر والباطن، وأسألك اللهم بما سألك به خليلك إبراهيم عليه السلام من النور واليقين، وما سألك به سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلّم من النصر والتوفيق إنك حميد مجيد.
[فائدة] وفي الحديث: ما أصاب عبداً هم أو غم أو حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك نافد فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وغمه وأبدله مكانه فرجاً أي وسعاً وخلاصاً. قوله: استأثرت به، أي انفردت بالاسم من غير مشارك لك فيه. قوله: ربيع قلبي، أي مطر قلبي. قوله: جلاء حزني، بفتح الجيم وبالمد أي كشف حزني. قوله: همي، الهم أول المشقة أو ما يصيب الشخص من مكروه الدنيا والآخرة والغم والحيرة والإشكال أو الكرب وهو ما شق عليه حتى ملأ صدره غيظاً، وقيل الهم ما تعلق بالماضي والغم ما تعلق بالمستقبل وقال الشرقاوي: الهم ما يتعلق بما يكون في المستقبل، والحزن ما يتعلق بما كان في الماضي اهـ.