كتاب بغية المسترشدين باعلوي الحضرمي علي المذهب الشافعي
محتويات
- باب القضاء
- وجوب الحكم بالراجح ونقض الحكم وانعزال الحاكم وحكم الخطوط
- الحكم بالصحة والحكم بالموجب
- القضاء على الغائب ونحوه وحكم أمواله
- القسمة
- االعودة إلي كتاب بغية المسترشدين باعلوي الحضرمي
باب القضاء
[فائدة]: حكم العرف والعادة حكم منكر ومعارضة لأحكام الله ورسوله، وهو من بقايا الجاهلية في كفرهم بما جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بإبطاله، فمن استحله من المسلمين مع العلم بتحريمه حكم بكفره وارتداده، واستحق الخلود في النار نعوذ بالله من ذلك اهـ فتاوى بامخرمة. ومنها يجب أن تكون الأحكام كلها بوجه الشرع الشريف، وأما أحكام السياسة فما هي إلا ظنون وأوهام، فكم فيها من مأخوذ بغير جناية وذلك حرام، وأما أحكام العادة والعرف فقد مرّ كفر مستحله، ولو كان في موضع من يعرف الشرع لم يجز له أن يحكم أو يفتي بغير مقتضاه، فلو طلب أن يحضر عند حاكم يحكم بغير الشرع لم يجز له الحضور هناك بل يأثم بحضوره اهـ.
(مسألة: ب): تولية القضاء أي الحكم بين الناس فرض كفاية، يعني قبوله من متعددين صالحين من الإمام أو مأذونه أو من أهل الحل والعقد أو بعضهم برضا الباقين عند فقد الإمام بإيجاب، كوليتك أو قلدتك القضاء، وقبول لفظاً فوراً في الحاضر، وعند بلوغ الخبر في غيره، نعم اكتفى بعضهم بعدم الردّ، ولا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن قاض اهـ.
وعبارة ي: إذا لم يكن للبلد سلطان ولا ذو شوكة نافذ التصرف، لزم أهل الحل والعقد أن يولوا القضاء صالحاً له حسب الزمان والمكان، ويلزمهم الاجتماع على من يولونه، فلو خالف بعضهم فإن انحاز المولون بجانب نفذت توليتهم في جانبهم فقط تفريقاً للصفة إلا نفذت في الكل، إذ المراد بأهل الحل والعقد من يتيسر اجتماعهم، فالممتنع حينئذ لم يتيسر اجتماعه فلا يقدح في التولية، ولا يشترط كون المولين المذكورين نافذي التصرف، بل ولا بصفات العدالة حيث لم يمكن ذلك، بخلاف ما لو صدرت التولية من سلطان أو ذي شوكة، فلا بد أن يكون نافذ التصرف ومن اجتماع أرباب الشوكة فيما لو تعددت، وإلا لم تصح إلا إن استقل بعضهم بجانب فتصح في جانبه فقط، والفرق أن من شأن ذوي الشوكة قلتهم فيسهل اجتماعهم بخلاف غيرهم،
ويشترط الإيجاب في التولية لا القبول على الراجح ويستفيد ما خص به، نعم إن قال: وليتك قضاء بلد كذا استفاد جميع ما يصلح للقاضي فيها، ووليتك كعادة من قبلك استفاد جميع ما صحت التولية فيه لمن قبله، ولا يكفي قول المولي هذا القاضي أو فلان القاضي وإن نوى به التولية اهـ. قلت: وقوله لا القبول خلاف ما مر عن ب، وقوله: وإلا نفذت في الكل الخ خالفه أيضاً ب ش وعبارتهما نصب نفسه للحكم بين الناس من غير تولية، أو ولاء أهل البلد من غير إذن الإمام مع وجوده، أو قال له ذو الشوكة: توسط بين الناس مجرداً عن نية التولية أو بها ولم يقبل بناء على اشتراط القبول لم يصح كونه قاضياً، كما لو قلده بعض أهل البلد بغير رضا الباقين، نعم إن قلده أحد جانبي البلد صح في حقهم فقط، وإن توسط برضا الخصمين كان محكماً وحكمه معروف، أو بغير رضاهما فحكمه باطل، وقال الروياني: يفسق.
(مسألة: ش): محل ولاية الحاكم ما عين له ونهي عن الحكم خارجه، فيحكم بمحل لا يقصر فيه المسافر، فإن أطلق التولية كاقض بموضع أو في موضع أو محل أو جهة كذا دخل المعين، وما دلت القرينة العرفية على إرادته من بساتين ومزارع وقرى حول ذلك المحل دون ما تدل عليه القرينة.
(مسألة: ي): الذي يظهر أن الإيصاء بالقضاء من قاض لآخر لا ينفذ ولا تنعقد به ولاية القضاء، لما صرحوا به من أن جهات تولية القضاء إنما نصب الإمام الأعظم أو ذي الشوكة أو أهل الحل والعقد فقط، بل إن لم يأذن له من ولاه في الإيصاء لم يصح جزماً، إذ لم يعهد في الشريعة أن من ولي أمراً بتولية غيره أن يولي غيره بإذن موليه إلا الإمام الأعظم، فما في الأنوار والعباب من قياس القاضي عليه ضعيف، إذ منصب الإمامة أعلى وأقوى من منصبه لاستقلاله، ولهذا لا ينعزل بالفسق، وتنفذ أحكامه ولو متغلباً، ويجوز له الاستخلاف مطلقاً، ولا ينعزل نوابه بموته بخلاف القاضي في الكل اهـ. قلت: وقوله بخلاف القاضي الخ نعم في عزل نوابه تفصيل يعلم من كلام التحفة وهو أنه إن قال: استخلف عني لم ينعزل بعزله وإن قال عنك أو أطلق انعزل اهـ.
(مسألة: ب): ونحوه ي: شرط القاضي كونه أهلاً للشهادة مجتهداً عارفاً بأحكام الكتاب والسنة والقياس، ولسان العرب لغة ونحواً وصرفاً وبلاغة، وأقوال العلماء، نعم قال ابن الصلاح: اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعي المطلق، ولا يجوز له العدول عن نص إمامه، فإن ولى السلطان ولو كافراً أو ذو الشوكة شخصاً غير أهل للقضاء كمقلد جاهل وعبد وامرأة وفاسق لكن مع علمه بفسقه فيما يظهر، قاله ابن حجر وجزم بعدم الفرق نفذت توليته للضرورة إن وافق الصواب، وإن كان ثم مجتهد عدل على المعتمد لئلا تتعطل مصالح العباد، أما لو لم يكن ثم صالح بأن تعذر أو تعسر نفذت تولية المقلد والفاسق قطعاً ولو من غير ذي الشوكة، لكن يتعين تقديم الأمثل فالأمثل، ولا ينعزلان حينئذ بزوال الشوكة اهـ. زاد ب : ويلزم قاضي الضرورة وهو من فقد فيه بعض الشروط بيان مستنده في سائر أحكامه إن لم يمنع موليه من بيانه، ومثله المحكم بالأولى فلا ينفذ قولهما، حكمنا بكذا من غير بيان لضعف ولا يتهما.
(مسألة؛ ش): القضاة المنصوبون من ولاة الشوكة إن تأهلوا للقضاء فذاك وإلا نفذ حكمهم للضرورة ولو فسقة، نعم يجب على ذي الشوكة مراعاة الأقل فسقاً عند عمومه كنظيره من الشهود، وحينئذ فإن حكم بموجب الكتاب والسنة والإجماع فهو عاص من حيث فقد بعض الشروط وهو العدالة، وإنما لم ينظروا إليه من حيث تنفيذ الأحكام للضرورة وهو تعطيل الأحكام، وإن حكم بما ينقض فيه قضاء القاضي فلا شك في عدم نفوذه وزيادة فسقه، لا سيما إن أكل الرشوة وانهمك في المظالم، ولا يكفر إلا إن استحل مجمعاً على تحريمه معلوماً من الدين بالضرورة.
(مسألة: ي ش): تعارض في القضاء فقيه فاسق وعامي دين، فإن كان فسق الفقيه لحق الله تعالى اتجه تقديمه، أو بنحو الظلم والرشا فالدين أولى ويراجع العلماء.
(مسألة: ك): تشترط العدالة في نائب الحاكم كما تشترط فيه وفي نحو الوصي وينعزلون بالفسق، وإن لم يعزلوا لزوال الأهلية لكن محله عند تيسر غيرهم، فلو عدمت العدالة تعين تقديم أقلهم فسقاً، إذ لا سبيل لجعل الناس فوضى، وبحث في التحفة في قاض فاسق ولاه ذو شوكة مع علمه بفسقه أنه لا يؤثر إلا طروّ مفسق أقبح لأن موليه قد لا يرضى به.
(مسألة: ي): إذا صحت ولاية الحاكم لم يجز عزله إلا لظهور خلل، ككثرة الشكوى منه، أو ظن ضعفه، أو زوال هيبته من القلوب، أو لمصلحة كوجود أفضل منه، وكذا مساويه ودونه، وفي توليته تسكين فتنة أو جمع كلمة، فيجوز حينئذ للإمام كذي الشوكة وأهل الحلّ والعقد عزله، فإن لم يكن خلل ولا مصلحة حرم ونفذ من الإمام وذي الشوكة لا من أهل الحلّ والعقد، لأن ما أبيح لضرورة يقدّر بقدرها، ولا يجوز الاعتراض على القاضي بحكم أو فتوى إن حكم بالمعتمد أو بما رجحوا القضاء به، بل يجب منع المعترض الجاهل غير المتأهل للقضاء، والفتوى عن الخوض في مسائل العلم، وتعزيره إن لم يمتنع، وإشهار أمره، فإن صدر الاعتراض عن متأهل لم يعزر لأنه لم يقل ذلك إلا لشبهة قامت عنده، نعم إن عرف الوالي عناده ولدده وأنه لا مطلب له إلا إبطال الأحكام الشرعية بلا شبهة زجره عن ذلك بعد مراجعة العلماء الورعين، لأن كلام هذا العالم كقيام بينتين، فالحكم بتجهيله من غير شهادة بذلك غلط.
(مسألة: ك): طلب للحكم بينه وبين آخر فامتنع أثم ولم يكفر لكن يعزره الحاكم، ونقل في التحفة أنه لا يجب الحضور إلا بطلب الحاكم لا الخصم إلا إن قال: لي عليك كذا فاحضر، لا إن قال: بيني وبينك خصومة، قال: وله وجه ولا إن وكل غيره فلا يجب الحضورحينئذ.
(مسألة: ش): امتنع القاضي من سماع دعوى ثابتة أو سمع، ولم يطلب من المدعى عليه الخروج منها من غير عذر أثم، ولا يحكم بفسق لاحتمال أن له عذراً وإن لم يبينه، وإذا امتنع عن الحكم بعد وجود مقتضيه بلا عذر دخل في حيز كاتم العلم الموعود بالإلجام إذ هو من كتم الفتوى.
[فائدة]: يحرم على القاضي تلقين المدّعي الدعوى والمدعى عليه الإقرار والإنكار، وتجريه على اليمين، والشاهد على الشهادة، ومنعه منها وتشكيكه فيها، وتعليمه كيفية الشهادة لقوّة التهمة، فإن فعل اعتد بذلك، قاله في النهاية، وبحث في التحفة أن محله في شاهد مشهور بالورع والديانة وإلا لم يعتد بشهادته حينئذ.
(مسألة: ش): اشترى حانوتاً وأقام حجة بين يدي القاضي وسجل له بها، ثم ادعى آخر أنه ملكه وأن البائع باع ما لا يملكه، وأتى بالمشتري إلى القاضي المذكور، فأظهر للقاضي السجل الذي بخطه فمزقه وقال: هذا باطل، فإقدام القاضي على تمزيق الخط حرام، ويلزمه غرم قيمته إن كان له قيمة، وإن رأى ما يوجب التعزير على المشتري، إذ لا يجوز عندنا بإتلاف المال على المعتمد، ولو أخذه القاضي منه وأعطاه المدعي من غير حجة، فإن أقرّ بأنه انتزعه ظلماً فهو آثم بذلك، ويخشى عليه سوء الخاتمة، ولا يحل لمدعيه أخذه، وإن قال: أنا أعلم أنه له وقد حكمت بعلمي فليس لمشتريه اعتراض عليه، ولا يرجع بثمنه على البائع لدعواه أن القاضي ظلمه، والمظلوم لا يرجع على غير ظالمه، بخلاف ما لو أخذه المدعي منه ببينة فيرجع، ولا تقبل دعوى الجور ومتابعة الهوى على القاضي لأنه نائب الشرع، نعم له بعد عزله إقامة بينة عليه تشهد أنه حكم بصحة البيع المذكور عند قاض آخر أو محكم بشرط رضاهما بحكم المحكم إلى فراغه.
(مسألة: ي): أرزاق القضاة كغيرهم من القائمين بالمصالح العامة من بيت المال، يعطى كل منهم قدر كفايته اللائقة من غير تبذير، فإن لم يكن أو استولت عليه يد عادية ألزم بذلك مياسير المسلمين، وهم من عنده زيادة على كفاية سنة، ولا يجوز أخذ شيء من المتداعيين، أو ممن يحلفه أو يعقد له النكاح، قال السبكي: فما وقع لبعضهم من الأخذ شاذ مردود متأوّل بصورة نادرة بشروط تسعة، ومعلوم أنه لا يجوز العمل بالشاذ.
وجوب الحكم بالراجح ونقض الحكم وانعزال الحاكم وحكم الخطوط
(مسألة: ب): ليس للقاضي أو المفتي العدول عن نص إمامه، فينقض حكم كل من خالف إمامه، وألحق به في التحفة حكم غير متبحر، بخلاف المعتمد عند أهل مذهبه، ونقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز الحكم بخلاف الراجح في المذهب، واعتمده المتأخرون كابن حجر و (م ر) وابن زياد والخطيب والمزجد وأبي مخرمة وأبي قشير والأشخر وغيرهم، وصرّح به السبكي بل جعله من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، لأنه أوجب على المجتهدين أن يأخذوا بالراجح، وأوجب على غيرهم تقليدهم فيما يجب عليهم العمل به، نص على ذلك في التحفة والنهاية والمغني، ومعلوم أن المذهب نقل يجب أن يتطوّق به أعناق المقلدين حتى لا يخرجوا عنه، وإن اتضحت مدارك المخالفين، وحينئذ لا يجوز لحاكم ولا مفت العدول عن مرجح الشيخين النووي والرافعي ما لم يجمع من بعدهم على أنه سهو وأتى به، بل لا يجوز العدول عن مرجح ابن حجر و (م ر) بل عن التحفة والنهاية، وإن خالف بقية كتبهما، كما نقل الكردي عن نص شيخه الشيخ سعيد سنبل، ونقل أيضاً عن السيد العلامة عبد الرحمن بلفقيه، أنه إذا اختلف ابن حجر و (م ر) وغيرهما من أمثالهما فالقادر على النظر والترجيح يلزمه ذلك،
وأما غيره فيأخذ بالكثرة، إلا إن كانوا يرجعون إلى أصل واحد ويتخير بين المتقاربين، قال: فتأمل قوله وغيرهما الخ، وكيف لا يجوز الإفتاء بكلام الشيخ زكريا والخطيب اهـ. وذكر نحوه في (ي) وزاد: فالحق أن غير المتأهل كقضاة الزمان يتخير بين هؤلاء وكابن زياد وأبي مخرمة والمزجد وأضرابهم بشرط مجانبة الهوى والطمع، والأولى بالمفتي أن ينظر، فإن كان السائل من الأقوياء الآخذين بالعزائم أفتاه بالأشد، وإن كان من الضعفاء فبالعكس، ويقال مثله في القاضي ما لم يشرط عليه لفظاً أو عرفاً القضاء بقول معين منهم، وتعارضهم في البحوث كتعارضهم في النقول، نعم الغالب أن أهل مصر يعتمدون كلام (م ر) وغيرهم من سائر البلاد كلام ابن حجر، وحينئذ إن كان حكم الحاكم وقع بالمعتمد واجتمعت فيه الشروط ارتفع الخلاف ظاهراً إجماعاً وباطناً على المعتمد كما في التحفة والنهاية، وكذا بالمرجوح الذي رجح المتأخرون القضاء به للضرورة، كولاية الفاسق، وكون الرشد صلاح الدنيا فقط، وقبول شهادة الأمثل فالأمثل لعموم الفسق في الثلاث، فلا ينقض قضاؤه بشرطه، ويرتفع فيها الخلاف أيضاً كما قاله أبو مخرمة والأشخر وغيرهما.
(مسألة: ي): حكم حاكم من أهل المذاهب الأربعة بحكم مذهبه، والحال أنه مخالف لمذهبه المحكوم له أو عليه نفذ ظاهراً، وكذا باطناً إن كان ظاهر الأمر كباطنه، ولو في محل اختلاف المجتهدين على المعتمد، ولزم العمل بمقتضاه مطلقاً، وصار الأمر متفقاً عليه، ومن ثم حل للشافعي طلب الحكم من الحنفي بشفعة الجوار وإن لم يقلد أبا حنيفة، لأن من عقيدة الشافعي أن النفوذ باطناً يستلزم الحل، وجاز لقاض شافعي إمضاء ما أنهي إليه من أحكام مخالفيه.
(مسألة: ج): صيغة بيع كتبها الحاكم وصورتها: باعت فلانة كذا حال كونها رشيدة على أولادها بعد صحة رشادتها شرعاً، فاستمرت يد المشتري على البيع، وشهد شاهدان بأن القاضي ثبت عنده ذلك، فعلى الحاكم الثاني المشهود عنده بذلك الحكم به، وإن لم يسم الحاكم الأوّل شهود رشادة الأم، ولم يقل ثبت لديّ رشادتها، هذا إن كان عدلاً عارفاً بشروط الحكم والثبوت لا غالب قضاة الزمان، وإذا لزم الحكم بذلك لم تثبت دعوى الأولاد عدم رشادة الأم، بل ولا إقرارها بذلك لحكم الحاكم بها، والقاضي في هذا الزمان ليس عليه إلا الحكم بظواهر الأمور، وخصوصاً إذا انضم إلى ذلك قرائن الأحوال، كعدالة المشتري وتحرجه عن الحرام، وشرائه بحضرة القاضي، والحكم بصحة الرشادة، وشهادة الشهود بذلك فلا ريبة حينئذ.
(مسألة: ش): حكم الحاكم في مسألة ذات عول بعدمه نقض حكمه، أي أظهر هو وغيره وجوباً إبطاله، إذ ليس بصحيح حتى ينقض، لما صرح أئمتنا أنه لا يجوز العمل أي فضلاً عن القضاء والإفتاء، بخلاف ما رجحه الأئمة الأربعة، بل نقل ابن الصلاح الإجماع على ذلك، وقد اتفق الأربعة وغيرهم على ثبوت العول، وحكي منعه عن ابن عباس، وفي غير الأكدرية عن زيد رضي الله عنهم، مع أن الذي استقر عليه رأي جمهور المتأخرين أن القاضي المقلد لو حكم بمرجوح مذهبه فضلاً عن الخارج عنه نقض، كما قاله صاحب العباب والسبكي، بل جعله من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى يستحق فاعله أن يكون أحد القاضيين الهالكين المتوعدين بالنار في الحديث الصحيح، ولو حكم بصحة الوصية للوارث من غير إجارة، فإن كان يرى ذلك كزيدي ولاه ذو شوكة نفذ وإلا فلا، نعم لو فرض أن نحو القاضي له أهلية الترجيح ورأى ترجيح غير الراجح في مذهبه بدليل جيد جاز ونفذ حكمه به لا بالشاذ منه مطلقاً وإن ترجح عنده، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه وإن لم يخرج عن المذاهب الأربعة، فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد في أهل هذا الزمان، وهذا في زمنه، فما ظنك بهذا الزمان الذي لم يقم أهله بحق التقليد فضلاً عن الاجتهاد.
(مسألة: ج): أعتق عبداً ووعده بجارية أو ثمنها، فلما دخل بعض البنادر طلب العتيق الجارية، فاشترى المعتق جارية وأعطاه إياها، فبقيت بيد العتيق يتصرف فيها حتى مات السيد عن ابن، ومات الابن عن ورثة، ثم مات العتيق، فادعى ورثة الابن على وارث العتيق أن الجارية تركة السيد، وادعى وارث العتيق أنها تركة مورثه، وأقام شاهدين عند الحاكم بما ذكر، فقال الحاكم للشاهدين: أتشهدان بأن السيد تلفظ بصيغة نذر أو هبة حال الإعطاء؟ فقالا، لا. فقال: هي تركة السيد، فحكمه بذلك باطل من ثلاثة أوجه: أوّلها أن الحكم لم تتقدمه دعوى صحيحة، إذ شرطها ذكر الانتقال إليهم، فلا بد هنا من التصريح في الدعوى بأن السيد مات وخلفها تركة ومات ابنه وخلفها تركة أيضاً وإلا صارت الدعوى لغيرهم فلا تسمع. ثانيها: الظاهر أن مستند القاضي قول الشاهدين: لا نشهد أن السيد تلفظ بصيغة نذر ونحوه، وهو شهادة على نفي غير محصور وهي غير مقبولة. ثالثها: أن القاضي عكس قالب الحكم، فجعل البينة على صاحب اليد وهو الداخل، والأصل في حقه اليمين، فلا يعدل عنها ما دامت كافية، وإنما البينة على المدعي وهو الخارج، بل لو تعارضت البينتان لم تسمع بينة الداخل إلا بعد بينة الخارج، والظاهر في هذه الجارية أنها ملك العتيق ووارثه، ودعوى ورثة السيد عدم انتقال ملك مورثهم خلاف الظاهر فلا تسمع، نعم لو ادعوا أن العتيق غصب الجارية مثلاً وأن مورثهم مات وهي تركة سمعت.
[فائدة]: قال الشيخ محمد باسودان: وقفت على حكم صدر من بعض القضاة في مال مشترك بين أخوين شائع ذائع حكم به لأحدهما فأبطلته ونقضته لأمور: الأوّل إجماله الحكم من غير شروطه المعتبرة، وقد نص في التحفة والنهاية على صحة إجمال الحاكم إلا إن كان ثقة وأتى به الآن. الثاني: حكمه بأن المدعي لا يستحق ما ادعى به، فهذا من الغلط الفاحش الذي لا يتعقل، فحقه أن يقول لم يثبت ما ادعى به. الثالث: أن اليمين التي حلفها المدعى عليه لم تكن بطلب الخصم فلا يعتدّ بها حينئذ، لأن شرطها طلب الخصم وتحليف القاضي والموالاة ومطابقة الإنكار. الرابع: تهوره في تعليله في رد شهادة المرقيين بقرب المسافة مع أن المدعي حاضر لديه، فمن حقه أن يحلفه يمين التكملة بعد شهادة شاهده الأصيل الحاضر لديه، وتعليله رد شهادة الأصيل بكونه لا يعرف المشهود به وهو لا يشترط معرفته للمشهود به كما صرحوا به. الخامس: صدور الحكم بغير حضور الخصم، وهذا مما يخل بالحكم ويبطله، لأنه من شروط الحكم كما صرح به في التحفة اهـ.
(مسألة: ب): ادعى قطعة أرض من بئر ملك للمدعى عليه مرتبة يده عليها من القطعة المذكورة فأنكره، ثم اتفقا بحضرة رجل يدعي المعرفة أنه متى أتى المدعي بعدلين أن يقبلهما، ثم أتى المدعي بخط من رجل ذكر فيه أن القطعة ليست من البئر المذكورة ولا أعلم لمن هي، فتنازعا ثم حضر الرجل المتوسط وقال: قد شهد عندي فلان لحراث فاسق بترك الصلاة وغيرها وهذا الخط مقبول، وفصل بينهما بإعطاء القطعة لمدعيها ففعله هذا قبيح بطل من أربعة أوجه وهي: أنه لا يصح حكم فضولي من غير تحكيم لفظاً وقبول، وأن الشهادة بالخط من غير حضور الشاهد باطلة، بل لو شهد هنا بما ذكره في خطه لم يكف، لأنه لم يثبت للمدعي حقاً في الأرض، وأن شهادة الفاسق غير مقبولة، وإن قلنا بالمختار من قبول شهادة الأمثل فالأمثل عند عموم الفسق، إذ ليس هذا من الأماثل، وأنه لا بد لصحتها وصحة الحكم بها من حضور الخصم الغير المتعزز والمتواري.
(مسألة: ش): لا يثبت بالخط إقرار ولو فرض أنه خط المقر، أو قاض موثوق به على المرجح في المذهب، فلو حكم قاض بالخط في نحو دين نقض حكمه، لأن جواز اعتماد الخط قول شاذ، فحينئذ للمدين الرجوع على المدعي وكذا على القاضي، وإن كان المدعي موسراً حاضراً بالبلد.
(مسألة: ك) لا يحتج بقوائم القسامة الممهورة بمهر القاضي حيث لم تشهد بما فيها بينة، بل لا يجوز العمل بها لنفس كاتبها أو شاهد أو قاض إذا لم يتذكر الواقعة بتفصيلها، وبه يعلم أن فائدة كتابة نحو الحجج والقوائم والتمسكات إنما هو لتكون سبباً لتذكر ما فيها بالتفصيل، حتى يجوز الحكم والشهادة عليه لا غير اهـ. وعبارة س : ليس للقاضي أن يقبل الشهادة أو يحكم بمجرد خط من غير بينة مطلقاً عن التفصيل، بكونه خطه أو خط موثوق به أم لا، احتياطاً للحكم الذي فيه إلزام الخصم مع احتمال التزوير، هذا مذهب الشافعي الذي عليه جمهور أصحابه، ولنا وجه أنه يجوز للحاكم إذا رأى خطه بشيء أن يعتمده إذا وثق بخطه ولم تداخله ريبة، وأشار الإصطخري إلى قبول الخط من حاكم إلى حاكم آخر من غير بينة، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز أن يحكم بخطه إذا عرف صحته وإن لم يتذكر، قال الماوردي وهو عرف القضاة عندنا:
ولا بأس بترجيح الوجه القائل باعتماد خطه إذا كان محفوظاً عنده ولم تداخله ريبة، ومثل خطه على هذا الوجه خط غيره، لأن المدار على كونه ظن ذلك ظناً قوياً مؤكداً، فمتى وجد أنيط الحكم به من غير فرق بين خطه وخط غيره، ومذهب الحنابلة جواز الشهادة بخطه إذا وثق به وإن لم يتذكر الواقعة. وحكي عن الحسن وسوار القاضي وعبد الله العنبري أن للقاضي إذاكان يعرف خط الكاتب وختمه له أن يقبله، وحكاه في المهذب عن أبي ثور والإصطخري وأبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك، وقال في الخادم: وقد عمت البلوى بالحكم بصحة الخط من غير ذكر تفاصيله، فإن كان عن تقليد المذهب الشافعي فممنوع اهـ، وسبيل الاحتياط لا يخفى اهـ، وعبارة ي: لا يجوز لحاكم أن يحكم بمجرد الخط وإن جوّزنا الحلف عليه بشرطه، كما عليه الشيخان ورجحه المتأخرون، إذ ليس ذلك بحجة شرعية إذ القاضي لا يحكم إلا حيث يشهد،
والأصل في الشهادة اعتماد اليقين أو الظن القوي القريب من العلم المشار إليه بالظن المؤكد، بخلاف الحلف يكتفى فيه بمجرد الظن على المعتمد، والفرق أن بابهما أضيق من باب الحلف وخطرهما أعظم، مع قوله عليه الصلاة والسلام: "على مثلها" يعني الشمس، "فاشهد"، فعلم بذلك أن القاضي أو الشاهد لو رأى خطه وفيه حكمه أو شهادته لا يجوز له أن يحكم أو يشهد معتمداً عليه، وإن كان محفوظاً عنده حفظاً تاماً مقطوعاً أنه لا يمكن تزويره أو شيء منه، بل وإن قطع بذلك حتى يتذكر الواقعة لضعف دلالته، ومثل خطه خط غيره المجرّد عن القرائن المفيدة للعلم أو الظن القريب، وما نقل عن الإمام مالك من جواز الشهادة والحكم بالخط فشاذ، بل قد ثبت رجوعه عنه، نعم مرّ في الصوم عن باجمال جواز اعتماد خط الحاكم الثقة الذي لا يعرف تهوّره في قبول شهادة الفاسق، قال: وهو الذي انشرح به الصدر بالمصادقة وعليه العمل لانتفاء التهمة.
الحكم بالصحة والحكم بالموجب
(مسألة: ب ش): الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب، احتياج الأوّل إلى ثبوت الملك واليد إلا في الإقرار فثبوت اليد فقط، ولا يحتاج إليهما الثاني، فحينئذ الأوّل يتضمن الثاني ولا عكس، فالحاصل أن الحكم إما أن يرد على نفس المسألة المختلف فيها مطابقة، فليس لحاكم يرى خلافه نقضه إجماعاً، كما لو حكم شافعي لمن تزوّج امرأة بعد أن قال لها: إن نكحتك فأنت طالق ثلاثاً ببطلان التعليق، فليس لحنفي الحكم بصحته، ووقوع الطلاق بوجود الصفة، وإما أن يرد عليها تضمناً كحكمة بعد نكاح ذلك المعلق بموجبه، فكذلك أيضاً على المعتمد، بناء على أن الحكم بالموجب كالحكم بالصحة في تناول الآثار المختلف فيها، إذ الحكم بالموجب صحيح، ومعناه الصحة مصوناً عن النقض، كالحكم بالصحة لكنه دونه في الرتبة، فظهر أن الحكم بالصحة التي هي المطلوبة بالذات حكم بالمطلوب مطابقة، وأن الحكم بالموجب حكم بها التزاماً والمطابقة أقوى، فحينئذ إذا لم يوجد الشرط المعتبر في الصحة وهو ثبوت الملك واليد امتنع الحكم بالصحة وجاز بالموجب، وإن وجد أوجب الحكم بها لكونه أحوط، زاد (ب): والحاصل أن الحكم بالصحة يتضمن الحكم بالموجب ولا عكس، وذلك لأن الحكم بالموجب يستدعي أهلية المتصرف، وصحة صيغته أي من حيث ذاتها لا خصوص هذه الصيغة، وكل منهما رافع للخلاف، ويزيد الحكم بالصحة على ذلك كون التصرف صادراً في محله: أي يكون حكماً بصحة هذه الصيغة بخصوصها، مثل من وقف على نفسه وحكم بموجبه حنفي كان حكماً منه، بأن الواقف أهل للتصرف وأن صيغة وقفه صحيحة، فلا يحكم بإبطالها من يرى الإبطال كشافعي، وليس حكماً بصحة وقفه على نفسه أي بصحة هذه الصيغة بخصوصها، والحكم بالصحة حكم بذلك، فلمن يرى الإبطال نقضه فتأمل.
وقال القليوبي: الحكم بالموجب يستلزم الصحة، ويتناول الآثار الموجودة والتابعة، والحكم بالصحة يتناول الموجودة فقط، لكنه أقوى من حيث استلزامه الملك، وأما الآثار المترتبة، فإن اتفق عليها فواضح وإلا فشرط صحة الحكم بها، ومنع المخالف من نقضها أن يكون قد دخل وقتها، كما لو حكم حنفي بموجب التدبير، ومن موجبه منع بيعه عنده، فليس لشافعي رفع إليه الإذن في بيعه، فإن لم يدخل وقتها حين الحكم فهو إفتاء لا حكم منه، كما لو علق طلاق أجنبية على نكاحه لها وحكم حنفي بموجبه، فإذا عقد بها ذلك المعلق كان للشافعي الحكم باستمرار النكاح، لأن وقوع الطلاق على سبب لم يوجد حال النكاح، قاله العراقي، وفي شرح شيخنا خلافه، وقد يستوي الحكم بالصحة والموجب، كما لو حكم حنفي بالنكاح بلا ولي أو بشفعة الجوار، أو الوقف على النفس، أو شافعي بإجارة الجزء الشائع من نحو دار، وقد يفترقان كمسألة التدبير، فللشافعي الحكم بصحة بيعه إن حكم الحنفي بالصحة لا بالموجب، وكما لو حكم شافعي ببيع دار لها جاز، فللحنفي الحكم بالموجب لأنه للاستمرار والدوام، وما لو حكم مالكي في القرض فيمتنع على الشافعي أن يحكم بالرجوع في عينه إن حكم بالموجب لا بالصحة اهـ، وإذا أراد القاضي أن لا ينسب إليه في الواقعة شيئاً قال: حكمت بما تقتضيه البينة، فيه، إن صحيحاً فصحيح، وإن فاسداً ففاسد.
القضاء على الغائب ونحوه وحكم أمواله
(مسألة): لا تسمع دعوى ولا بينة، ولا ينفذ حكم على غائب بالبلد ولو بعد الدعوى بحضور الغائب وهو ممن يتأتى حضوره كمن بمسافة عدوى فما دونها، وهي التي يرجع الخارج إليها بعد الفجر إلى موضعه أوّل الليل، يعني ما ينتهي إليه سفر الناس غالباً، بل لا بدّ من إحضاره لئلا يشتبه على الشهود أو ليدفع عن نفسه إن شاء، ولأنه ربما يقرّ فيغني عن البينة والنظر فيها، أو يمتنع الشهود إن كانوا كذبة حياء أو خوفاً، نعم إن اضطرّ الشهود إلى السفر فوراً ولم يتيسر إحضار المدعى عليه جاز سماع البينة في غيبته للضرورة، وإن أمكن أن يشهد على شهادته، كما لو قام بالشاهد عذر منعه من الأداء فيرسل الحاكم من يشهد على شهادته أو يسمعها هو محل عدم سماع البينة كما ذكر، إن لم يتغلب أو يتوار المدعى عليه ولو لزعمه جور الحاكم، وإلا فتسمع ويحكم بعد ثبوت ذلك، وإن لم يحلفه يمين الاستظهار على المعتمد تغليظاً عليه وإلا لامتنع الناس كلهم، فإن لم يكن للمدعي بينة جعل الآخر في حكم الناكل، فيحلف المدعي يمين الرد ثم يحكم له، لكن لا بدّ من تقديم النداء بأنه إن لم يحضر جعل ناكلاً، قاله في التحفة.
(مسألة: ش): حكم حنفي على غائب لم ينفذ، وإذا ورد على حنفي أبطله، إذ لا ينفذ القضاء على الغائب عندهم ما لم يكن القاضي له أهلية الترجيح، ولم يشرط عليه التزام مذهبه فلا ينقض حينئذ، وإن ورد على شافعي دعاهما إلى الصلح، فإن لم يتيسر فإلى الدعوى ليسمع البينة فيحكم، فإن لم يتمكن أخبر المدعي بأن حكم الحنفي هذا غير صحيح لأنه خلاف معتقده، وقياس المذهب إمضاؤه من الحنفي، لأن حكم الحاكم في مسائل الخلاف يرفعه ويصير مجمعاً عليه.
(مسألة: ك): إذا غاب المدين إلى مسافة العدوى، وهي التي لا يرجع منها الخارج إليها بعد طلوع الفجر إلى أوائل الليل، سمعت الدعوى عليه كما لو كان حاضراً ولو بالبلد وتوارى أو تغلب فلم يحضر مجلس الحكم فيحكم عليهم بعد ثوبت ذلك بعلمه إن كان يعلم ذلك، وإلا فبينته ولو شاهداً ويميناً مع يمين الاستظهار مطلقاً عند (م ر) واستثنى في التحفة المتواري والمتعزز تغليظاً عليهما، ثم يقضيه من ماله إن كان له ثم مال، وإلا فإن كان سأله الإنهاء إلى قاضي بلد الغائب وجب، فينهي إليه سماع البينة ليحكم له بها، ثم يستوفي له الحق، أو ينهي حكمه إن حكم ليستوفي الحق.
(مسألة: ش): مات وعليه دين وله مال بمحمل ولاية القاضي ووارثه فوق مسافة العدوى، فلذي الدين الدعوى عند الحاكم بأن مورث فلان الغائب مات ولي عليه كذا، ويقيم البينة بذلك، فيسمعها الحاكم سواء نصب مسحراً ينكر علم الوارث أم لا، إذ ليس نصبه شرطاً، ثم يحلفه يمين الاستظهار وجوباً بأنه لم يستوف دينه ولا أبرأه منه ثم يوفيه من التركة، ولوارث على حجته يوم يحضر، فإن كان الوارث حاضراً أو بمسافة عدوى بمحل ولاية الحاكم فالدعوى حقيقة، إنما هي على الميت، لكن لا تسمع لا في وجه الوارث الكامل وولي غيره فيزيد لصحة الدعوى مع ما مر، وأنه يعني الوارث حصل في يده من التركة ما يفي بديني أو بعضه ويبينه، وأنه يعلم الدين ويقيم بينة المال، ويحلفه الحاكم يمين الاستظهار إن طلبها الوارث، فإن جهلها عرفه الحاكم بأن له اليمين، فإن سكت حكم بالبينة، ولا أثر لطلبها بعد الحكم حتى لو غاب المدعي حينئذ ووكل بقضاء الدين، فليس للوارث الامتناع لطلب اليمين لسقوطها، بخلاف ما لو غاب قبل أن يصرح الوارث بالإسقاط، فله الامتناع حتى يحلف، وليس هذا كغائب، وكّل حاضراً إذا لم تتوجه إليه اليمين، بخلاف هذا فإن اليمين توجهت إليه قبل غيبته.
(مسألة: ش): أرادت إثبات طلاق زوجها الغائب لم تسمع دعواها ولا بينتها، لأن من شرط الدعوى كونها ملزمة، ودعواها على غائب لا يريد معاشرتها، والخلوة بها لا إلزام فيها، بل وإن صرحت بأنها تخاف أن يتعرض لها على الأصح كدعوى الإبراء من غائب، نعم الحيلة في إثبات طلاقها من زوجها الغائب أن تواطىء رجلاً على أن يتزوّجها، وتطلب من القاضي أن يزوّجها منه، وتدعي طلاق زوجها الأوّل وتثبته، فيحكم لها بأنها مطلقة منه بعد تحليفها يمين الاستظهار فيثبت الطلاق، وإن بدا للمواطىء أن لا يتزوّجها بعد، لانبناء ذلك الحكم على دعوى وشهادة صحيحتين.
(مسألة: ش): أقرّ شخص عند موته بأن جميع ما بيد رقيقه في السفر ملكه أي الرقيق، وليس له فيه حق وأشهد على ذلك، فأراد المقرّ له إثبات ذلك لدى الحاكم ليسجل له به لم تسمع دعواه في الأصح، إذ لا إلزام فيها، كدعوى الإبراء أو الطلاق أو الإكراه في الإقرار على غائب، نعم له أن يحتال فينصب مسخراً يدعي ديناً الميت، وأن له على فلان أي المقرّ له كذا، أو في يده أعيان، ويطلب من القاضي خلاص دينه مما في يد المقرّ له، فيدعي أن ما بيده ملكه، وأن لا دين للميت عليه، وأنه أقرّ قبيل موته بما ذكره ويقيم البينة، فيحكم له بصحة الإقرار، ثم للوارث تحليفه إن أقرّ الميت عن حقيقة، كما أن لمدّعي الإبراء والإكراه نصب مسخر بالحوالة عليه من المبرىء أو المقر له، فيثبت الإبراء والإكراه ويحكم له به.
(مسألة: ش): إذا ثبت على الغائب أو المفلس دين، فإن كان في ماله جنسه أوفاه الحاكم منه، وإلا باع ماله بنظر المصلحة كالوكيل، وله البيع من أهل الدين ومعاوضتهم حيث جازت بأن لم يكن دين سلم.
(مسألة: ش): يجوز للحاكم بيع مال الغائب إذا طالت غيبته ولم تمكن مراجعته، هذا إن كان حيواناً خيف نقصه أو كثرت نفقته، وتعين البيع طريقاً لذلك، وإلا فإجارته أولى، كغير حيوان خيف تلفه أو تلف معظمه بشرط أن يبيعه حالاً من نقد البلد إن أمكن، وإلا فنسيئة من موسر أمين، ويرتهن ما يفي بالثمن إن لم يخف تلف الرهن وإلا تركه، إذ قد يرفعه لحنفي يرى سقوط الدين بتلف الرهن، وأن يقصر الأجل ما أمكن، قال بعضهم: وأن يشهد.
(مسألة: ش): الحاصل في قبض الحاكم دين الغائب، أن المدين إن كان له غرض سوى براءة ذمته، كمكاتب يريد العتق، وراهن يريد فك المرهون، ووارث يريد فك التركة، وضامن يريد فك ضمانه، وشفيع يريد تسلم الشقص، وجب على الحاكم قبض الدين وإلا لم يجز له قبضه، لأن الأصلح للغائب الذي صيرته الغيبة كالمحجور في مراعاة مصلحته ترك الدين في ذمة المقرّ المليء، إذ هو خير من صورته أمانة بيد الحاكم، وخرج بهما الجاحد والمعسر، فيلزمه الأخذ منهما قطعاً، وحيث جوز قبض الحاكم فليودعه عند ثقة يرتضيه ولا يتركه عنده للتهمة، وهذا في القاضي الثقة. أما غيره فلا يجوز إقباضه، ولا يبرأ بذلك المدين، ولا يحصل مقصوده من فك رهن ونحوه.
(مسألة: ش): غاب شخص غيبة طويلة ولم يعلم موته ولم يحكم به، وخيف الاستيلاء على نحو أرضه من ظالم لم يكن لوارثه بفرض موته الدعوى على الظالم، إذ ليس مالكاً ولا نائباً عنه وإن احتمل موته، لأن الأصل بقاء الحياة، ولا يقاس بمخاصمة المستأجر والمرتهن إذ لهما حق المنفعة، فإذا ثبت موته طالب وارثه الغاصب بالعين وأقصى أجره، ويكفي قول البينة كانت ملك مورثه ولا نعلم له مزيلاً، نعم إن علم قاضي ذاك المحل ملك الغائب منع المستولي عليها، وله تأجيرها مع مراعاة مصلحة الغائب كيلا تضيع المنافع، لأنا نعلم أنه يرضى بحفظ ماله، فإن لم يعلمه جاز له على المعتمد أن ينصب من يدعي له على الغاصب ويسمع البينة.
القسمة
(مسألة: ي): قسمة المشترك إما إفراز وهو ما كان مستوي الأجزاء صورة وقيمة مثلياً كان أو متقوماً، أو تعديل وهو مختلفهما صورة أو قيمة أو هما معاً، أو ردّ وهو ما احتاج مع الاختلاف إلى رد مال أجنبي، ويجبر في الأوليين إن وجد النفع المقصود من المقسوم لطالبها فقط لا عكسه، كما لا يجبر في الأخيرة مطلقاً، وحينئذ لو اقتسما أرضاً نصفين ثم بان الغلط بزيادة أحد النصيبين بنحو الرّبع في الذرع، فإن كان القسمة إفرازاً بأن جعل في مقابلة القطعة أخرى تساويها صورة وقيمة، ثم ظهر خلاف ذلك، أجبرهم الحاكم أم لا. أو تعديلاً مجبراً عليها بشرطه وامتنع أحدهما فحكم عليه الحاكم بالإجابة فعدلت بما يساويها في القيمة، ثم بان أنها تزيد على عديلتها عند القسمة، بان بطلان القسمة في الصورتين، لكن في تينك القطعتين فقط لا في كل المال، سواء ذكر ذرعها عند القسمة أم لا، وإن كانت تعديلاً ولم يلزمهم بها الحاكم، بل اتفقا اختياراً على القسمة أو رداً مطلقاً فصحيحة، ثم إن ذكر ذرعها عند القسمة ثبت الخيار لمن حصل عليه النقص منهما، وإن لم يذكر الذرع عندها فلا خيار، وإن كثر التفاوت إذ هما بيع، ولا يؤثر فيه الغلط على الأصح، وثبوت النقص إما بإقرارهما أو بعدلين أو علم القاضي أو اليمين المردودة.
[فائدة]: الأظهر أن قسمة المشتبهات إفراز لا مدخل للرّبا فيها لا بيع، ويدل له أنه قرر قسمة اللحم رطباً، ومن ذلك قسمة الرطب والعنب على الشجر أو في الأرض كيلاً، ولا يضر تعلق الزكاة بها فيزكي كل حصته، وكذا في الحبوب، ولا يتوقف جلّ حقه وتصرفه فيه على إخراج الآخر ما عليه، اهـ فتاوى بامخرمة، ووافقه البكري في جواز قسمة اللحم، وخالفه ابن حجر فقال: لا تجوز قسمته إلا وزناً بعد نزع ما يمنع معرفة الأنصباء وإن اعتيد قسمته جزافاً، واتفق الأخيران على عدم صحة قسمة المشويّ مطلقاً، اهـ اختصار المرعى الأخضر لابن قاضي.
(مسألة): لا تجوز قسمة الوقف من الملك إلا إن كانت إفرازاً، وإن كان فيها رد من أرباب الوقف، بخلاف ما لو كان بيعاً فتمتنع مطلقاً، كما لو كان فيها رد من المالك، كما في التحفة والنهاية، نعم نقل في القلائد اختيار الجواز مطلقاً عن البحر قال: لتداعي بقاء الشيوع إلى الخراب، واختاره في الحلية وابن الصلاح والروضة للضرورة، وقال في العباب: وحيث جازت أي القسمة أجبر صاحب الوقف بطلب المالك ولا عكس، وتلزم في حق المتقاسمين لا باقي البطون، وتمتنع قسمة الوقف بين أهله وإن كانت إفرازاً، فإن جرت وحكم بها من يراه لم ينقض اهـ.
(مسألة: ج): اقتسم الورثة وحجة الإسلام باقية بذمة الميت بأن استطاع في حياته، فإن كانت القسمة إفرازاً صحت، ثم تباع الأنصباء وتصرف في الحجة إن لم يوف الورثة من غيرها، وإن كانت تعديلاً أو رداً فهي بيع، فيفرق بين أن يعلموا وجوب الحجة فتبطل أو لا فتصح إن أخرجوها وإلا نقضت، وهذا كدين ظهر بعدها، كما أفتى به أبو مخرمة.
(مسألة: ك): عين بئر بين شخصين، طلب أحدهما قسمتها أجبر الآخر إن أمكن بأن وسعت وأمكن أن يبني فيها فتجعل بئرين، لكل واحدة بياض يقف فيه المستقي ويلقي فيه ما يخرج منها، كما تثبت الشفعة في ذلك وإلا فلا.
(مسألة: ش): المشترك على جهة الشيوع كل جزء منه مشترك بين أهله بحسب الاستحقاق، لا يمكن اختصاص أحد الشركاء منه بشيء حتى تقع قسمة صحيحة تمتاز بها الأنصباء بأن يقاسم الشريك أو يغيب فيقاسم الحاكم بعد طلبها، نعم أفتى القفال بأنه لو امتنع من قسمة المتماثل فللشريك أخذ حصته بلا قاض، وقيل يجوز الانفراد بالقسمة في المتشابهات مطلقاً، فعليه يجوز لبقية الشركاء إذا خافوا أخذ متغلب حصة شريكهم قبل القسمة تقليد هذا القول لئلا يتبعهما الشريك بحصته، لكن لو رفعهما إلى قاض شافعي لزمه الحكم بالراجح من بطلان تلك القسمة، ولو طلب أحد الشريكين القسمة لزم الآخر إجابته بشروطها المعروفة، فإن لم يجتمع لم يلزمه وينتفعان مهايأة أو يؤجران العقار ويقتسمان أجرته.
(مسألة): طلب أحد الشريكين قسمة الأرض المشتركة، وأن تكون حصته بجانب أرضه الخاصة أخبر الآخر، كما قاله ابن حجر و (م ر) والخطيب تبعاً للبكري، وقال أبو مخرمة: لم يجبر الشريك على إعطاء الحصة المناسبة لشريكه، وفرق بينها وبين أسّ الجدار المشترك.
(مسألة: ي): القسمة إن وقعت على وفق الشرع، كما لو اختلف في مال الزوجين فقسم على التفصيل الآتي في الدعوى من تقديم البينة ثم اليد ثم من حلف ثم جعله أنصافاً عند عدم ما ذكر فصحيحة، وإن وقعت على خلاف الشرع بغير تراض بل بقهر أو حكم حاكم فباطلة إفرازاً أو تعديلاً أو رداً، لأنها مقهور عليها فلا رضا، والقهر الشرعي كالحسي، وهذا كما لو وقعت بتراض منهما مع جهلهما أو أحدهما بالحق الذي له، لأنها إن كانت إفرازاً فشرطها الرضا بالتفاوت، وإذا كان أحدهما يعتقد أن حقه الثلث لا غير وله أكثر شرعاً فهو لم يرض بالتفاوت، إذ رضاه بأخذ الآخر شيئاً من حقه ما يكون إلا بعد علمه بأنه يستحقه، وإن كانت تعديلاً أو رداً فكذلك أيضاً لأنهما بيع وشرطه العلم بقدر المبيع، وقد أفتى أبو مخرمة بعدم صحة البيع فيما لو باع الورثة أو بعضهم التركة قبل معرفة ما يخص كلاًّ حال البيع وإن أمكنهم معرفتها بعد، وإن وقعت بتراضيهم ولم يكن فيهما محجور مع علمهما بالحكم لكن اختارا خلافه صحت في غير الربوي مطلقاً، وفيه إن كانت القسمة إفرازاً، لأن الربا إنما يتصوّر جريانه في العقود دون غيرها كما في التحفة، وإن كان ثم محجور، فإن حصل له جميع حقه صحت وإلا فلا.