كتاب بغية المسترشدين باعلوي الحضرمي علي المذهب الشافعي
محتويات
الشهادات
(مسألة: ش): لا خفاء أن كتمان الشهادة بلا عذر كبيرة ووعيدها شديد وهي قسمان: إما شهادة حسبة فيجب على متحملها أداؤها فوراً إذا ترتب على تأخيرها مفسدة، بل إن تأخر بلا عذر فسق وخرج عن أهلية الشهادة، إذ من رأى رجلاً وامرأة مجتمعين على ظاهر الزوجية وعلم طلاق ذلك الرجل لها، أو رأى تصرفات مشتري أرض وعلم وقفيتها وما بها من البائع لها قبل البيع ولو بإقرار الزوج والبائع بذلك فلم يبادر بالشهادة فقد فسق بكتمان الشهادة، وترك إزالة المنكر بلسانه الذي هو مقدوره، وردت شهادته لاعترافه بالفسق على نفسه، والشاهد متى اعترف بالجرح قبل الحكم ردت شهادته وإن لم يفسر ما هو مجروح به، نعم يعذر في التأخير بنحو نسيان وجهل، وينبغي للحاكم أن يستفصل عاصياً مشهوراً بالعدالة، إذ ربما ظن ما ليس بمفسق مفسقاً، فإن لم يقر لم يحكم بفسقه بمجرد التأخير، لاحتمال أن له عذراً كنسيان أو جهل، بل لا يسأل عن سبب التأخير حيث لم يرتب الحاكم فيه، وأما شهادة غير حسبة فإن كان من له الشهادة بتحمل الشاهد فلا حرج في التأخير إلى طلب ذي الحق بل في المبادرة بها، وهذا محمل ذمه في الحديث الصحيح، وإن لم يكن عالماً فعلى المتحمل إعلامه ليتمكن من طلبه للشهادة في وقتها، وهو أو شهادة الحسبة محمل حديث: "خير الشهود من أدى شهادته قبل أن يسألها" عملاً بالروايتين.
شروط الشاهد
(مسألة): من شروط الشاهد التيقظ وضبط ألفاظ المشهود عليه بحروفها من غير زيادة ولا نقص، ولا تجوز الشهادة بالمعنى، ولا تقاس بالرواية لضيقها، ولأن المدار هنا على عقيدة الحاكم لا الشاهد، فقد يحذف أو يغير ما لا يؤثر عند نفسه ويؤثر عند الحاكم، نعم يجوز التعبير بأحد الرديفين عن الآخر حيث لا إبهام، قاله في التحفة والنهاية. قال ع ش: قوله بالمعنى أي فلو كانت صيغة البيع مثلاً من البائع بعت، ومن المشتري اشتريت فلا يعتد بالشهادة إلا إذا قال: أشهد أن البائع قال: بعت، والمشتري قال: اشتريت، بخلاف ما لو قال: أشهد أن هذا المشتري هذا من هذا فلا يكفي فتنبه له فإنه يغلط فيه كثيراً اهـ.
(مسألة: ي): يشترط في الشاهد برؤية الهلال وغيرها لدى الحاكم الإسلام، والتكليف والحرية والرشد والنطق والبصر والعدالة والذكورة والمروءة وهي ترك ما يزري بفاعله عرفاً، يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والأفعال، فمن المخلّ بها إدامة ترك تسبيحات الصلاة وترك الوتر والرواتب، وإدامة تأخير الصلاة عن أول وقتها، ونتف إبط وأنف، ومد رجل بحضرة الناس، وتكرر نتف لحية عبثاً وغيرها، والعدالة ترك جميع الكبائر وغلبة الطاعات للصغائر، فمن ارتكب كبيرة وهي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وقلة الديانة فهو فاسق غلبت طاعاته معاصيه أم لا، ومن أصر على صغيرة أو صغائر داوم عليها أم لا، أو أكثر من الصغائر ولو من غير إصرار، فإن غلبت طاعاته معاصيه بالنسبة لتعدد صور الطاعات والمعاصي فعدل، وإن غلبت المعاصي أو استويا ففاسق اهـ. وعبارة ب: وبالجملة فقد تعذرت العدالة في زماننا، لأن الفسق قد عم العباد والبلاد، كما قاله الإمام الغزالي والغزي، فلينظر المنصف في نفسه وبلده بل في قطره، هل يجد أحداً من أهل عصره لم يرتكب كبيرة أصلاً ولم يصر على صغيرة؟ فلو لم يكن من الكبائر إلا الوقيعة في العلماء بنحو غيبة أو نميمة أو سعاية عند ظالم أو الاستماع إليها والرضا بها التي صارت كالفاكهة في مجالس الخاصة والعامة من غير أن يروا به بأساً لكفى بها مفسقاً، وإن غلبت طاعاته للإجماع على أنها كبيرة، وكالكبر والحسد والرياء والعجب، وأما الصغائر فلا تدخل تحت الحصر، ولو لم يكن منها إلا الإصرار على نظر الأجنبيات ومصافحتهن والخلوة بهن، ومجالسة الفساق إيناساً لهم المألوف لكفى.
(مسألة: ك): كل من ارتكب كبيرة فهو فاسق لا يصح منه ما تتوقف صحته على العدالة، كولاية عقد النكاح والقضاء والشهادة، ومن الكبائر ترك تعلم ما تتوقف عليه صحة ما هو فرض عليه من المسائل الظاهرة لا الخفية، إذ العوام لا يكلفون بمعرفتها وإلا تساوى العلماء والجهال، فإن أتى بسائر ما تتوقف عليه صحة العبادة، رجح ابن حجر أنه غير كبيرة لصحة عبادته مع ترك تعلمه، وما أفتى به الشيخ زكريا من عدم قبول شهادة من لم يعرف نحو الأركان والشروط يحمل على ما إذا لم يعلم ذلك ويخلّ به اهـ. وعبارة ب ي ش: إذا حكمنا بفسق الشخص ردت شهادته في النكاح وغيره، نعم أفتى بعضهم بقبول شهادة الفاسق عند عموم الفسق، واختاره الإمام الغزالي والأذرعي وابن عطيف دفعاً للحرج الشديد في تعطيل الأحكام، لكن يلزم القاضي تقديم الأمثل فالأمثل، والبحث عن حال الشهادة، وتقديم من فسقه أخف أو أقل على غيره، زاد ش: ويجوز تقليد هؤلاء في ذلك للمشقة بالشرط المذكور، على أن أبا حنيفة قال: ينفذ حكم الحاكم بشهادة الفاسق إذا لم يجرّب عليه الكذب، فيجوز تقليده أيضاً عند شدة الضرورة، بل جوّز النكاح برجل وامرأتين، كما جوّزه هو وأبو ثور بشهادة الفاسقين، وهو رواية عن أحمد، ولو اطلع الحاكم على فسق الشاهد باطناً لم يعمل به، إذ هو مأمور بالحكم بالظاهر، لأن الإلهام ليس بحجة عند الجمهور، وزاد ب: ويجوز تقليد المذكورين، بل هو المتعين في هذا الزمان لفقد العدالة لكن بالنسبة للضروريات كالأنكحة، بخلاف نحو الأهلة فلا ضرورة فيها، وقضاة الزمان لا يراعون هذا الشرط، بل يقبلون شهادة الفاسق مطلقاً، فحينئذ لا يترتب عليها حكم اتفاقاً، ومن هنا تعلم تحتم معرفة فن الفلك على أهله لا بالنظر إلى أصله، بل لما يترتب على شرب نهله وعلله، وزاد ي: ومحل وجوب تحري الأمثل فالأمثل في الشهادة الاختيارية كالنكاح، ومع هذا فلنا قول أنه لا تشترط العدالة فيه مطلقاً، وإذا تأملت عقود أكثر أهل الزمان وجدتها لا تصح إلا على هذا القول، أما الاضطرارية كالغصب والسرقة فالشرط فيه أن يكون معروفاً بالصدق غير مشهور بالكذب، فيجب على الحاكم كمال البحث، فإذا غلب على قلبه صدقه قبله، ولو لم نقل بهذا لتعطلت الحقوق.
[فائدة]: لا يأثم من شهد لبعضه أو على عدوّه أو مع فسقه بما يعلمه ولا المشهود له أيضاً، كما اختاره ابن عبد السلام، لأنه لم يحمل الحاكم على باطل بل على إيصال حق إلى مستحقه اهـ إمداد. وتردد في الفتح المجمع عليه ثم اختار الجواز إن كان لإنقاذ نحو بضع أو عضو.
(مسألة): تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، وعليه كغيرها من القرابة غير الأصول والفروع وإن بعدوا، فلا تقبل شهادتهم للمشهود عليه في غير النكاح، وتجوز منهم على الأصل والفرع.
(مسألة: ي): ضابط التشبه المحرم من تشبه الرجال بالنساء وعكسه ما ذكروه في الفتح والتحفة والإمداد وشن الغارة، وتبعه الرملي في النهاية هو أن يتزيا أحدهما بما يختص بالآخر، أو يغلب اختصاصه به في ذلك المحل الذي هما فيه.
(مسألة: ك): التصفيق باليد وضرب الدف والرقص وضرب الصنج في حال الذكر ليس بمطلوب لا سيما حال القراءة، إلا إن غلبه الحال وخرج عن الاختيار فلا لوم عليه، ونقل ابن حجر عن الطرطوشي ما حاصله: أن مذهب السادة الصوفية أن الرقص وضرب الدف والشبابة بطالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وأما الرقص والتواجد فأوّل من أحدثه أصحاب السامري حين اتخذ لهم العجل فقاموا يرقصون ويتواجدون، وإنما كان مجلس رسول الله مع أصحابه كأن على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة المسلمين اهـ. وما ذكره من التصفيق ما بعده فقد اختلف في تحريمه، أما التصفيق باليد خارج الصلاة من الرجل فقال (م ر) بحرمته حيث كان للهو أو قصد به التشبه بالنساء، ومال ابن حجر إلى كراهته ولو بقصد اللعب، وأما الضرب بالدف فصرح ابن حجر بأن المعتمد حله بلا كراهة في عرس وختان وغيرهما وتركه أفضل، وأما الرقص بلا تكسر وتثنّ فالذي اعتمده ابن حجر أنه مكروه ونقل عن بعض أصحابنا حرمته إن أكثر منه أما ما هو بتكسر وتثنّ فحرام مطلقاً حتى على النساء، كما صرح به في كف الرعاع، وأما ضرب الخشب بعضه على بعض فقد نقل سم حرمته كالضرب بالصفافتين وهما قطعتا صفر تضرب إحداهما على الأخرى ويسمى الصنج، وأفتى ابن حجر بحرمة ضرب الأقلام على الصيني وضرب قطعة منه على الأخرى، وبالجملة فكل ذلك إما حرام أو مكروه أو خلاف الأولى.
(مسألة: ش): ساومه رجل في بضاعة وهو يعلم مماطلته فقال له: قد بعتها ولم يبق عندي شيء، فليس من الكذب المحرم كجحد نحو الوديع الأمانة خوفاً عليها من ظالم، بل قد يجب وينبغي أن يورّي بأن يقصد بما عندي شيء أي حضرني إذ في المعاريض مندوحة كما في الحديث، ولا إثم عليه في هذا الكذب الصوري، ولا يستحق إثم الخيانة الواردة في الحديث.
(مسألة: ك): للتوبة ثلاثة شروط: الندم على الفعل، والإقلاع في الحال، والعزم على عدم العود، ويزيد حق العباد برد المظالم إليهم، فيلزمه تمكين المستحق من العقوبة أو استحلاله إلا أن لا يمكن ذكره لأدائه إلى مفاسد لا يمكن تداركها، كزناه بحليلته فتبقى المظلمة بعنقه فيجبرها بالحسنات، كما يجبر مظلمة الميت والغائب بذلك، وأما حقوق الله تعالى كالزنا وشرب الخمر فالأولى في ذلك التوبة والستر على نفسه، بل وإنكار فعل ذلك بالشروط المذكورة اهـ. وعبارة ي: زنى بامرأة مزوجة أو اغتابها أو لاط بشخص اشترط في توبته إعلام الزوج بالزنا واللواط وبما اغتابها به وإحلاله، واستحلال أقارب المزني بها أو الملوط به، إذ لا شك في أن الزنا وللواط إلحاق عار وأيّ عار بالأقارب، وتلطيخ لفراش الزوج، فوجب استحلال الجميع، نعم إن خشي فتنة كما هو الغالب تضرع إلى الله تعالى في أن يرضيهم وأكثر لهم من الدعاء، ولا وجه للاستحلال حينئذ، ولا يكفي الاستحلال من غير تبيين، وقيل يبرأ مع الإبهام، ورجحه في الروضة، ووافقه الحليمي وغيره، ويتعين ذلك عند خشية الضرر كما قاله في الإحياء.
شروط الشهادة وشهادة الحسبة
(مسألة: ب): ونحوه ك: ليس للشاهد تحمل الشهادة بالخط وإن اعترف به المشهود عليه حتى يقرأ عليه الكتاب أو يقول: أنا عالم بما فيه ولا يكفي هذا خطي وما فيه وصيتي مثلاً. زاد ك: وقال المروزي: يكفي الإشهاد عليه مبهماً اهـ. وفي ش: ولنا وجه أنه يجوز للشاهد إذا رأى خطه بشيء أن يعتمده إذا وثق به ولم تدخله ريبة، وهو مذهب الحنابلة قالوا: وإن لم يتذكر الواقعة، قال الماوردي: ولا بأس بترجيحه إذا كان الخط محفوظاً عنده ومثله خط غيره، إذ المدار على كونه ظناً مؤكداً.
(مسألة: ش): أقام المدعي بينة بأن العين التي اشتراها المدعى عليه من فلان ملكه، ولم يذكر الشاهد أن مستنده تصرفه فيها ولا علمه القاضي قبلت، بخلاف ما لو صرح الشاهد باستناد شهادته لما ذكر أو علمه القاضي، وأولى منه بطلانها بأن مورث المدعي كما يشركه إياها أي يعامله عليها بالمخابرة أو يأذن له في عمارتها لعدم تصريحه بالملك، إذ المخابر والمعير يحتمل أن يكونا مالكي المنفعة فقط.
(مسألة: ك) يكفي في الشهادة قول الشاهد: أشهد أن هذا مال فلان الآن، وإن كان مستنداً في شهادته لحالة سابقة كما هو مقرر، نعم لو شهد بملك أمس ولم يتعرض للحال لم يكف حتى يقول: ولم يزل ملكه، أو لا أعلم له مزيلاً، وقد تسمع الشهادة مع استناد الملك إلى زمن سابق، وإن لم يتعرّض للملك حالاً، كأن شهدت بينة بإقرار المدعى عليه أمس بالملك للمدعي فيستدام حكم الإقرار وإن لم تضر بالملك حالاً، إذ لولاه لبطلت فائدة الأقارير، أو أنها أرضه زرعها، أو دابته نتجت في ملكه، أو هذا الغزل من قطنه، أو الطير من بيضه أمس، أو بأن هذا ملكه أمس اشتراه من المدعى عليه، أو أقرّ له به، أو ورثه أمس، إلى آخر ما أطال به في التحفة.
[فائدة]: يجب على شهود النكاح ضبط التاريخ بالساعات واللحظات، ولا يكفي بيوم الجمعة مثلاً، بل لا بد أن يزيد عليه بعد طلوع الشمس بلحظة مثلاً، لأن النكاح يتعلق به إلحاق الولد بستة أشهر ولحظتين من حين العقد، فعليهم ضبط التاريخ لذلك اهـ سم.
(مسألة: ش): ادعى على آخر أنه وقعت يده على قدر معلوم من الذهب المسبوك، وأقام شاهدين شهدا أن المدعى عليه وقعت يده على دارهم قدر هذا المبلغ، لم تقبل الشهادة لمباينتها الدعوى، نعم إن رجعا فشهدا على وفق الدعوى قبلت، كما أفتى به القفال فيما لو شهد أحد الشاهدين بالبيع والآخر بالإقرار به لم تلفق، فإن رجع أحدهما وشهد بما شهد به الآخر قبل، إذ يجوز أن يحضر الأمرين سواء كان رجوعه في ذلك لمجلس أو في مجلس آخر.
(مسألة: ج) إذا شهد العدلان على من عرفا نسبها واسمها وهي منتقبة قبلت شهادتهما وصحت وجاز التحمل، بل لا يجوز لهما كشف نقابها حينئذ، ومحل عدم جواز التحمل على المنتقبة حيث كان الاعتماد على صوتها فقط، وله الاعتماد على قول عدل: إن هذه فلانة وإن لم يعرف نسبها، والفتوى والعمل على ذلك.
(مسألة: ي): شرط شهادة الاستفاضة في نحو النسب جزم الشاهد لا نحو أسمع الثقات أو استفاض عند الناس إلا إن ذكره لقوّة الخبر، فلو كانت امرأة تنسب إلى رجل يقال له عقيل، ورجل ينسب إلى أخيه أحمد، فإن شهد اثنان بأن أحمد شقيق عقيل شقيق له غيره من ذكور أخوته المعقبين ذكراً ودرجاً، نسب المرأة إلى عقيل والذكر إلى أحمد وجزما بالشهادة كما ذكر، كان وليها الأقرب من ذرية أحمد المذكور، ويجوز للشاهد الجزم بالشهادة، وإن كان مستنده السماع والاستفاضة، لكن إن سمع من جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب وحصل الظن القوي بصدقهم ولم يعارض المشهود به ما هو أقوى كإنكار المنسوب إليه ولم يسمع طعن أحد فيما شهد به، نعم إن دلت قرينة على كذب الطاعن لم يؤثر طعنه، وإذا جزم الشاهد بما تجوز به الشهادة بالتسامع لم يلجئه الحاكم إلى بيان مستنده إلا إن كان عامياً فيلزمه سؤاله لجهله بشروطها اهـ. وفي ش عن العمراني: أنه لا عبرة ببينة النسب ما لم تذكر كيفية الإدلاء إلى المنتسب إليه، فلا يكتفي بكونه قريبه فقط.
(مسألة: ي): ضابط شهادة الحسبة كل حق لله تعالى، أو كل حق مؤكد لا يتأثر برضا الآدمي، كما قاله في التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): باعا أرضاً ثم شهدت بينة حسبة بإقرار البائعين بوقفيتها منذ أزمنة حكم ببطلان البيع، وإن لم يبادر الشهود بعد علمهما بالبيع، إذ ربما كان تأخيرهما لعذر، فحينئذ يرجع المشتري بثمنه على البائع ثم تركته، ويلزمه أجرة المثل مدة بسطه على الأرض، بخلاف ما لو اعترف الشهود بالتأخير بلا عذر، فلا ينفذ حكم الحاكم بالبطلان بل ينقض، إذ هم حينئذ فسقة ما لم ير هو جواز شهادة الفاسق، كما أن محل قبول هذه الشهادة أيضاً إن شهدا بإقرار البائعين المذكورين بأنها وقف فقط، وكذا وقف فلان ولم تستند للاستفاضة، إذ لا بد في هذه من سماع لفظ الواقف ورؤيته، لا بأنها وقف علينا أو على آل بالحاف مثلاً وهم هم، فلا يثبت بهاتين الوقف، ولو اتفق أن شهود الوقف وجدوا شهوداً أيضاً في بعض مساطير الملك بتلك الأرض لم يقدح في شهادتهما بالوقفية حتى يقرّا بما هو مناقض للشهادة فيقدح حينئذ، ما لم يرجعا فيشهدا بالوقف معتذرين في شهادتهما بالبيع بنحو نسيان، كما أن من اشترى شيئاً من ذلك المال لا تقبل شهادته بالوقف ما لم يعتذر بذلك أيضاً لاعترافه بالملك فيه لبائعه، لأن إقدامه على العقد متضمن للاعتراف باجتماع شرائطه، وكما أن من أمه من الموقوف عليهم لا تقبل شهادته بذلك أيضاً للتهمة، بخلاف نحو أخته لضعف التهمة، كمن شهد بمال لمورثه ولو مريضاً.
(مسألة: ش): شهادة الحسبة نوعان: متمحض حق لله تعالى كالزنا حيث لم تسغ الدعوى به، فالشهادة به لا تكون إلا حسبة لأنها غير مسبوقة بدعوى وطلب من مدّع، بل شهادة الشاهد احتساباً، إي طلباً للثواب وحمية لدين الله تعالى، فلا يؤثر فيها رضا أحد، وغير متمحض كالزنا حيث ادعاه القاذف والطلاق، فإن سبقت الشهادة الدعوى كان حسبة، وإن تأخرت وطلبها المدعي فغير حسبة، فمن ثم لو شهدت أمّ برضاع بين بنتها ومن تزوّجت به أو ابنان بأن أمهما أرضعت زوجها، أو شهد على امرأة بأنها زوجة ابنه قبلت الشهادة حيث سبقت الدعوى لكونها حينئذ حسبة، فإن سبقتها الدعوى والطلب من البنت في الأولى والأم في الثانية والابن في الثالثة لم تسمع لخروجها عن الحسبة حينئذ.
الشهادة على الشهادة ورجوع الشاهد
(مسألة: ش): شهادة الفرعين عن الأصل الذي استرعاهما محكوم بصحتها حتى يظهر قادح، لكن إن كان معهما شاهد آخر أصل فلا بد من تأخر شهادتهما عن استشهاده، كمن وجد ماء لا يكفيه فلا يتيمم حتى يستعمله، وشرط قبول شهادة الفرع الذي تحمل شهادة غيره عدم حضور الشاهد الأصل، سواء من تحمل عنه وغيره، لأن شهادة الأصل أقوى من شهادة الفرع من حيث ثبوث الحق وقلة الخلل، وهذا بخلاف الرواية لأن بابها أوسع، والوكالة حيث يتصرف الوكيل لحضور الموكل، لأنه ربما يعجز عن تحصيل مقصوده، ولا ترجيح بشهادة الأصل عند تعارض البينتين وإن صدق عليها بأنها أقوى، إذ كل ثبت بحجة شرعية نظير ما لو كان متوضىء ومتيمم لا يلزمه القضاء يصح الاقتداء اهـ بكل منهما مع أن طهارة المتوضىء أقوى.
(مسألة: ش): شهد الشاهد بخلاف الدعوى لم تسمع، فإن شهد بعد ذلك على وقفها سمعت، ولا يكون ما صدر منه قادحاً فيه، ويحصل رجوع الشاهد عن شهادته برجعت عن شهادتي أو صرفت نفسي عنها أو شهادتي باطلة لا أبطلتها أو فسختها أو رددتها، إلا إن أراد بأبطلتها مثلاً أنها باطلة في نفسها، وقضية كلامهم أن إنكار أصل الشهادة كقوله لا أشهد بذلك أو لا أعلمه ليس برجوع، كإنكار البيع والزوجية والطلاق وهبة الفرع، إذ يحمل على نسيان أو عذر أو محض كذب.
الدعوى والبينات
[فائدة]: نظم بعضهم شروط الدعوى فقال:
لكل دعوى شروط ستة جمعت ** تفصيلها مع إلزام وتعيين
إن لا تناقضها دعوى تغايرها ** تكليف كل ونفي الحرب للدين
اهـ باجوري.
(مسألة): حاصل مسألة الظفر أن يكون لشخص عند غيره عين أو دين، فإن استحق عيناً بملك أو بنحو إجارة أو وقف أو وصية بمنفعة أو بولاية، كأن غصبت عين لموليه وقدر على أخذها فله في هذه الصور أخذها مستقلاً به إن لم يخف ضرراً ولو على غيره، وإن لم تكن يد من هي عنده عادية كأن اشترى مغصوباً لا يعلمه، وفي نحو الإجارة المتعلقة بالعين يأخذ العين ليستوفي المنفعة منها، والمتعلقة بالذمة يأخذ قيمة المنفعة، ويقتصر على ما يتيقن أنه قيمة تلك المنفعة، فإن خاف من الأخذ المذكور مفسدة وجب الرفع إلى القاضي وإن استحق عند غيره ديناً، فإن كان المدين مقراً باذلاً طالبه به، ولا يحل له أخذ شيء، بل يلزمه رده ويضمنه إن تلف، ما لم يوجد شرط التقاص أو مقراً ممتنعاً أو منكراً ولا بينة للظافر، وكذا إن كان له بينة في الأصح أخذ جنس حقه من ماله ظفراً، وكذا غير جنس حقه ولو أمة إن فقد الجنس للضرورة، نعم يتعين أخذ النقد إن أمكن، ولو كان المدين محجوراً عليه بفلس أو ميتاً عليه دين لم يأخذ إلا قدر حقه بالمضاربة إن علمها وإلا احتاط، ومحل أخذ المال المذكور إن كان الغريم مصدقاً أنه ملكه وإلا لم يجز أخذه، ولو ادعى المأخوذ منه على الظافر أنه أخذ من ماله كذا جاز جحده والحلف عليه، وينوي أنه لم يأخذ من ماله الذي لا يستحق الأخذ منه،
وإذا جوزنا الأخذ ظفراً فله بنفسه لا بوكيله، إلا لعجز كسر باب ونقب جدار للمدين ليتوصل للأخذ ولا ضمان كالصائل، نعم يمتنع الكسر في غير متعد لنحو صغر وفي غائب معذور وإن جاز الأخذ، ثم إن كان المأخوذ من جنس حقه وصفته ملكه بنفس الأخذ، أو من غير جنسه أو أرفع منه صفة باعه ولو بمأذونه لا لنفسه ومحجوره بإذن الحاكم إن تيسر، بأن علمه الحاكم أو أمكنه إقامة بينة بلا مشقة ومؤنة فيهما، واشترى جنس حقه وملكه وهو أعني المأخوذ من الجنس أو غيره، مضمون على الآخذ بمجرد أخذه بأقصى قيمة، ولا يأخذ فوق حقه إن أمكن الاقتصار على قدر حقه، فإن لم يمكن جاز ولا يضمن الزائد، ويقتصر على بيع قدر حقه إن أمكن أيضاً، ويرد الزائد لمالكه، ولو لم يمكنه أخذ مال الغريم جاز له أخذ مال غريم بالشرط المذكور وهو جحده أو امتناعه أو مماطلته، لكن يلزمه إعلام غريمه بالأخذ حتى لا يأخذ ثانياً، ولا يلزمه إعلام غريم الغريم، إذ لا فائدة فيه إلا إن خشي أن الغريم يأخذ منه ظلماً، وله إقامة شهود بدين قدر برىء منه ولم يعلموه على دين آخر، كما يجوز جحد من جحده إذا كان على الجاحد مثل ما له عليه أو أكثر فيحصل التقاصّ، وإن لم توجد شروطه للضرورة، فإن نقص ماله جحد بقدر حقه، اهـ ملخصاً من التحفة والنهاية.
(مسألة: ش): شرط الدعوى كونها ملزمة، فلو ادعى بيتاً بيد آخر أنه كان لمورثه وأنه وارثه وأقام بينة كذلك لم تصح، إذ لا يلزم من كونه لمورثه بقاء ملكه إلى الموت حتى يورث عنه، فلا بد لصحتها أن يقول: إن هذا البيت ملكي ورثته من فلان، وخصمي يمنعني منه، ويقيم البينة على وفق مقاله، فيحكم له به ما لم يقم ذو اليد بينة بالملك وإلا رجحت، فلو قال المدعي: كان لمورثي إلى أن مات وتركه ميراثاً ولا وارث له سواي وأقام بينة بذلك صرحت بأنها من أهل الخبرة الباطنة حكم به على النص، فإن لم يقل ذلك ولم يعلم الحاكم انحصار الإرث في المدعي لم يحكم به حتى يثبته فينزع من ذي اليد، ولا يلزم البينة ذكر اليد وسببها.
(مسألة: ش): شرط الدعوى كونها معلومة إلا في مسائل معروفة، فلو ادعى حصة مجهولة في بيت لم تسمع، فإن عينها كربع سمعت على من بيده البيت وهو مشتريه الأخير فيما إذا تعددت ملاكه، ولا يقدح في الدعوى إقرار المدعي بأن الحصة مرهونة عند غير المشتري، وإن كانت اليد فيه للمرتهن لو فرض ثبوته فهو مخير بين أن يقول: ويلزمك تسليمها إليّ، وبين قوله: إن لي في هذا البيت كذا، كأن رهنها مورثي من فلان، ويدك عليها عادية فيلزمك ردها إليّ، فتسمع دعواه لأن يد المرتهن كيده، فإذا شهدت بينة بما ادعاه حكم له بها وبأنها مرهونة ممن أقر له إن لم يكذبه، وحينئذ يرجع المشتري على البائع بما خص تلك الحصة من الثمن إن أجاز، وبكله إن فسخ لتفريق الصفقة، فإن ادعى الحصة المذكورة على البائع، فإن كذبه وحلف فذاك، وإن صدقه أو نكل فحلف المدعي المردودة، فإن كان قبل لزوم البيع بطل فيها وسقط مقابله من الثمن وخير المشتري أو بعده غرم للمدعي قيمة الحصة، وإن لم يقبض الثمن من المشتري على المعتمد، ولا يقبل إقراره في حق المشتري، لأن إقرار الشخص غير مقبول فيما يضر غيره في تصرف سابق، وإن أقر البائع المذكور برهنها يعني الحصة لغير المدعي، فإن قال: كانت مرهونة ففكت فلغو، أو عند فلان بمائة لُغي إقراره بالرهن إن لم يصدقه المرتهن، ولزمته المائة للمقر له إن لم يكذبه ما لم يثبت أداءها ببينة أو باعتراف المقر له أو نكوله عن اليمين البت، ونكول وارثه من نفي العلم، وحلف هو المردودة أو بشيء لزمه تفسيره بما يمكن أن يرهن فيه وإن قل، ولا يقدح إقرار البائع بالرهن كما تقرر في صحة بيع البيت ما لم يدع أن له ديناً، وأن تلك الحصة مرهونة عنده بالدين رهناً سابقاً على البيع ويثبت بذلك، أو يقر له المشتري أو ينكل فيحلف هو المردودة، ولا رجوع للمشتري حينئذ لانفساخ البيع أثر إقراره، فلا يوجب له حقاً على غيره، فلو ادعى المشتري إذن المرتهن في البيع حينئذ، فإن ثبت بحجة وإلا حلف أنه لم يأذن.
(مسألة: ش): اشترى بيتاً من آخر وقبضه، فادعى ثالث على المشتري أنه ملكه أو ملك مورثه إلى أن مات ولا يعلم له مزيلاً، وأقام بينة كذلك حكم له به، ورجع المشتري على بائعه بثمنه، كما لو أقر له المشتري أو نكل فحلف المدعي المردودة، لكن لا رجوع للمشتري على البائع حينئذ لإقراره الصريح أو المنزل منزلته وهو يمين الرد، نعم إن أقر البائع بتعديه بالبيع رجع عليه.
(مسألة: ش): دعوى ملك العين المبيعة بعد قبضها لا يكون إلا على مشتريها لا بائعها، ولا تسمع دعوى العين على البائع، نعم لو أقر بها للمدعي حينئذ غرم قيمتها وإن لم يقبضه، فلو صالح البائع على بعضها مع الإنكار لم يصح ولو بحضرة قاض، بل أو مع الإقرار لما مر أنه لا أثر لإقراره بالنسبة لها، فلو استولى المدعي على شيء منها بمحض الصلح وجب ردعه، فإن عاند عزر، وكذا القاضي، قال الإمام مالك: القاضي أحق من أدب، قال ذلك في قضاة زمانه في صدر الإسلام فما ظنك الآن.
(مسألة ش): لا يشترط في دعوى النقد المغشوش ذكر قيمته بناء على الأصح من جواز المعاملة به، بل لو ادعى مائة كبير من البقش الزبيدية مثلاً قبلت دعواه وبينته، ثم إن كانت موجودة فليس له سواها، وإلا فله قيمتها وقت الطلب، فإن اتفقا عليها وإلا حلف الغارم.
(مسألة: ش): ادعى أرضاً غائبة لم تميز إلا بالحدود، فلا بد من ذكر حدودها الأربعة، نعم إن تميزت ببعضها كفى ذكره فقط، إذ شرط الدعوى كونها معلومة ملزمة غير مناقضة، فلو تردّد في حد مما لا تتميز إلا به في دعوى واحدة كقوله: يحدها من جهة كذا إما زيد وإما عمرو لم يصح، بخلاف ما إذا تميزت بغيره فلا يضر التردد فيه، إذ لو لم يذكره لم يضر للعلم بها دونه، ولو غلط فيه بما لا تتميز إلا به أيضاً كقوله: يحدها من جهة كذا زيد، وهي من تلك الجهة لا يحدها إلا عمرو، فلا نقول الدعوى غير صحيحة، لكن لو قال المدعى عليه: لا يلزمني تسليم هذه الأرض كان صادقاً وبحلفه بارّاً، ثم لو رجع المدعي وادعى تلك الأرض وحدها على الصواب سمعت دعواه لأنها غير الأولى، كما لو ادعى على زيد بعشرة مكسرة فأنكر وحلف، ثم ادعى عشرة صحيحة، فإن رجع قبل انقضاء الأولى ويمين المدعى عليه كقوله: يحدها قبلياً زيد، ثم قال: يحدها قبلياً عمرو لم يضر أيضاً، وإن كانت قبل مضي زمن يمكن انتقال الملك فيه، أو ذكره منفصلاً في مجلسين فيما يظهر لاحتمال سبق لسانه، ولأن ذكر الحدود ليس مقصوداً، بل لو كانت مشهورة كفي عن تحديدها.
(مسألة: ش): ادعى شخص في أرض معلومة بالاسم والحدود أنه ابتاع من مورث المدعى عليه عشرة معاود مشاعاً منها بخمس عشرة أوقية، وأقرض مالكها خمس عشرة أوقية، وارتهن بها في الأرض خمسة عشر معاود مشاعاً أيضاً، سمعت دعواه لصحة بيع المشاع ورهنه الدالّ على كونه معلوماً، ولا يلزمه تعيين محل البيع والرهن لعدم تصوره مع دعواه الإشاعة، بل يكفي تعيين الأرض، وحينئذ إن أقام بينة أو أقر له الوارث أو نكل فحلف المردودة ثبت، وإن حلف الوارث على نفي العلم فلا، ومن باب أولى لو حلف على البتّ.
[فائدة]: ادعى على من ذبح بعيره أنه دبحه حال حياته، وادعى الذابح موته، صدق مدعي الحياة كما أفتى به ابن حجر وأبو مخرمة، خلافاً لبايزيد اهـ من خط باوزير.
(مسألة: ش): سئل عن أرض فقال: كان مورثي باسطاً عليها ولا أعلم ترتيب يده بملك أو غيره، ثم ادّعى أنها ملك مورثه إلى أن مات وخلفها له سمعت دعواه بشرطها، ولا يقدح فيها قوله السابق، إذ يحتمل نسيانه أو جهله، بخلاف ما لو قال قبل: لم تكن ملك مورثي أو هي ملك فلان ثم ادعاها لمورثه، فلا تسمع دعواه إذ من أقرّ قبل الدعوى بشيء ووخذ بإقراره في المستقبل استصحاباً حتى يقول: هي ملكي انتقلت إليّ من المدعى عليه بنحو شراء كهبة، بخلاف ما لو انتزعت منه عين بحكم ثم ادعى بها على المنتزع، فتسمع دعواه وتقدّم بينته على بينته، لأنها بينة داخل لكون اليد كانت له.
(مسألة: ب ش): أحيا قطعة من أرض وترتبت يده عليها سنين، ثم ادعى آخر جميع الأرض، وأن المحيي بسط على بعضها من غير مسوّغ، فإن أقام بينة مؤرخة الإحياء بأن الأرض ومنها المدعي ملكه ورثها من آبائه مثلاً وليست مواتاً، بل لها آثار عمارة وأن يده مترتبة عليها بلا منازع، أو أقر له المدعى عليه أو رد اليمين فحلف هو المردودة، تبين أن يد المحيي عادية لكن لا إثم عليه لعذره، ويلزمه قلع ما فيها أو تبقيته بأجرة إن رضي المدعي، ولزمه إيضاً أقصى الأجر مدة بسطه، نعم إن أثبت المدعي بينة مطلقة لم يستحق أجرة على المحيي، لأن حكم الحاكم بالبينة المطلقة لا ينعطف على ما مضى، بل إن كان للمحيي فيها عمل كزبر وحرث زادت به قيمتها شاركه فيها بنسبة ما زادت به القيمة على الأصح، ولو ثبت أنها موات ملكها المحيي لترتب يده عليها.
(مسألة: ج): أرض موات في سفح جبل على أصلها من اشتباك الحصى بعضه بعضاً لم تعمر بالحرث قطعاً وبغيره ظناً، وأسفل منها أرض معمورة وقف على مسجد، فأحيا ذلك الموات شخص، ثم بعد مدّة ادعى قيم المسجد المذكور أنها من أرض الوقف المحددة بالجبل المكتوبة بخطوط النظار المعتبرين، سمعت دعواه بشرط أن لا يذكر مستنده وهو الخطوط المذكورة، وعمل الحاكم بما يقتضيه اجتهاده من الحكم بالشهادة أو القرائن القوية المعوّل عليها، ويجوز العمل على خط الوقفة في الحدود إذا اعتضد بمرجحات كاليد وعمل النظار، ما لم تعارض ذلك قرينة أقوى منها بضده، كأن توجد سقاية أو بئر حادثة في ذلك السفح موقوفة أيضاً فيتساقطان ويبقى الموات على أصل الإباحة، لا يقال إن نحو السقاية وضعت تعدياً لأنه خلاف الظاهر، أو أنه استؤجر لها الأرض لأن الوقف لا يوقف ثانياً، ولعل ما ذكر من التحديد بالجبل أنه لدخول بعض البقاع المعمورة إلى الجبل في غير هذا الموضع المحيا، إذ قد يتساهل في كتابة الصيغ، فإذا لم يتيقن عمارة الأرض حكم بأنها موات.
(مسألة: ب): لا يحكم للمدعي بما ادعاه إلا بعد ثبوت البينة وتعديلها، فلو ادعى غيبتها بعث الحاكم إلى قاضي تلك الجهة يستشهد الشهود وينهي شهادتهم بشرط، أو بعث هو أو المدعي من يشهد على شهادتهم، فيشهد بها عنده أخذاً من قولهم: إذا قام بالشاهد عذر مانع من الأداء جاز للحاكم أن يرسل من يشهد على شهادته، ولو طلب المدعى عليه الإمهال بعد الحكم ليأتي بدافع أمهل ثلاثاً، لكن بكفيل ثم بالترسيم من جهة الدولة إن خيف هربه ومكن من السفر ليحضر الدافع إن لم تزد المدة على الثلاث.
الحلف
(مسألة): طلب المدعي من المدّعى عليه يمين الإنكار مكن منها وإن كانت بينته حاضرة، إذ المقصود من تلك اليمين الرجاء ممن طلبت منه أن يقر بالمدعى فيسلم المدعي من إقامة البينة، وإلا فهي لا تحل حراماً ولا عكسه، بل العبرة بما في نفس الأمر، وللمدعي إقامة البينة بعد حلف خصمه فتسمع حينئذ، وإن قال قبل: لا بينة لي، وهذا بخلاف اليمين المردودة، وهي التي يحلفها المدعي بعد عرضها على الخصم ونكوله عنها فإنها كالإقرار، فلا تنفع بعدها إقامة البينة من المدعى عليه بأداء أو إبراء أو غيرهما لأن في جانبه اليمين، فإذا ردها على المدّعي فكأنه أقر له بما ادعاه فافهم.
[فائدة]: اشترى مائعاً وأحضر ظرفه فصب فيه المائع فوجد فيه فأرة فادعى كل أنها كانت في ظرف الآخر صدق البائع، سواء قال المشتري: كانت فيه عند البيع أم أطلق اهـ عماد الرضا.
(مسألة): قال لزوجته المريضة: أنا بريء من المهر، فقالت: نعم صح الإبراء، نعم إن ادعت هي أو وارثها أن الإبراء وقع وهي غائبة الحس، فإن ثبتت بينة بذلك لُغي، وإلا فإن عرف لها غيبة قبل صدقت بيمينها وإلا حلف هو وبرىء، لكن إن ماتت من ذلك المرض كان حكمه حكم الوصية للوارث إن ورثها.
[فائدة]: لزيد دراهم بذمة عمرو فتسلمها بحضرة أناس، ثم جاء بعد مدة ببعضها زيوفاً، فقال عمرو: ليست من دراهمي ولم يشهد الحاضرون بشيء صدق زيد بيمينه، فإن نكل حلف عمرو وبرىء اهـ فتاوى بامخرمة، وقد مرّ مثله في ج في القرض.
[فائدة]: من خط السيد العلامة قاضي تريم علوي بن سميعا: إذ ادعى ناظر وقف على آخر عيناً وقعت تحت يده من الوقف، فأنكر المدعى عليه وتوجهت عليه يمين الإنكار فردها على الناظر فهل يحلف الناظر أم لا؟ الجواب صرح العلماء في باب الدعوى بأن الناظر لا يحلف، بل يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر اهـ.
(مسألة: ج): مات عن أم وبنين ثم ماتت الأم، فادعى البنون أنها أوصت لهم بنصيبها في أبيهم، فإن أقاموا بينة وإلا حلف وارثه على نفي العلم.
(مسألة: ش): قال لورثته: اعتمدوا ما وجدتموه بخطي في دفتري فيما لي وعليّ، فما وجده الوارث بخط مورثه مما له، ولم يحتمل أنه قد أوفاه فله المطالبة به، والحلف مع شاهد أو اليمين المردودة اعتماداً على الخط الذي غلب على ظنه عدم تزويره، وما وجده مما عليه وجب عليه اعتماد ما لا يحتمل أنه أوفاه بعد ذلك، سواء كان مجموعاً بمحل أو متفرقاً، إذ المدار إنما هو على غلبة الظن أنه خط مورثه.
(مسألة: ك): كل من أخذ عيناً بإذن صاحبها لمصلحته يصدّق في دعوى التلف، والردّ على مالكها كلاً وبعضاً بيمينه، وذلك كوديع ووكيل ومقارض ولو فاسداً، وكذا مرتهن ومستأجر في التلف لا الردّ، إذ هما أخذا لغرض أنفسهما كالمستعير والغاصب، وخرج بالمالك دعوى الرد على وارثه، فلا يصدّق إلا ببينة كدعوى وارث الأمين الرد على المالك لأنهما لم يأتمناه على ذلك.
(مسألة: ب): ادعى على زوجة الميت أن الصوغة التي بيدها ملك مورثه، فأقرت بالبعض وأنه ملكها إياه بنحو نذر وسكت عن الباقي، فإن أقامت بينة بالنذر بما يثبت به المنال وإلا صدق الوارث بيمينه بنفي العلم وكان تركة، كما تصدق هي فيما لم تقر به بيمينها على البت أنه ملكها، إذ اليد دليل الملك ما لم يقم الوارث بينة أنه عارية أو أمانة لمورثه، ولو استعار مصاغاً فباعه، فإن أثبت صاحبه أنه ملكه أو أقر له المشتري، وحلف المدعي أنه لم يأذن في بيعه سلم ورجع المشتري على البائع، ولا عبرة بإقرار البائع بالعارية أو الغصب، إذ لا يؤخذ الشخص بإقرار غيره، ولأنه ربما كان حيلة ومكراً.
(مسألة: ي): ونحوه ك: وضعت الزوجة يدها على شيء من أموال الميت وادعت أنه لها، وادعى الوارث أنه تركة، أو اختلف الزوجان قبل الفرقة أو بعدها في الذي بيدهما، فإن أقر له صاحبه بما ادعاه، أو أقام هو بينة بمقتضى ما ادعاه حكم له بها، فإن لم تكن أو تعارضتا صدق ذو اليد بيمينه، فإن نكل حلف الآخر المردودة وأخذه، فإن نكل ترك لذي اليد، فإن لم تكن يد أو كانت لهما حلف كل منهما للآخر وقسم بينهما نصفين، إذ لا مرجح كما لو نكلا معاً، وإن حلف أحدهما فقط قضي له، ثم إن حلف البادىء على نفي استحقاق صاحبه النصف فعليه اليمين المردودة بعد نكول الآخر، وإن امتنع المبدوء وحلف الثاني كفته يمين واحدة، تجمع نفياً وإثباتاً، ووارث كل كهو، زاد ك: وإن صلح لأحدهما فقط قضى له به حيث لا بينة، ومجرد وضع الزوجة يدها بعد الموت لا يؤثر إذا لم تكن لها يد سابقة اهـ. قلت: وافقه ابن حجر في التحفة وخالفه في فتاويه.
تعارض البينات
(مسألة: ش): اشترى بيتاً فادعى آخر أنه ملكه وأقام بينة حكم له به، نعم إن أقام المشتري بينة بأنه اشتراه من البائع وهو مالك له حالة البيع قدمت ما لم تقل بينة المدعي: نشهد بأن البيت كان ملكه واليد له وإنما غصبه البائع مثلاً، وإلا قدمت لأنه ثبت بشهادتها أنه صاحب اليد، وأن يد الآخرين عادية، وهذا إن شهدت بينة المدعي بالملك، فإن شهدت باليد فلا أثر لها إذ قد تكون باستحقاق وقد لا، بل لو أقر المدعي عليه بأنه كان في يد المدعي لم يؤاخذ.
(مسألة: ش): ادعى دابة في يد شخص أنها ملكه ضاعت عليه يوم كذا، فادعى ذو اليد بأن الدابة التي ضاعت على المدعي ماتت، فإن كانت دعوى الخارج أن هذه دابتي فقط وأقام بينة حكم له بها ما لم يقم الداخل وهو ذو اليد بينة بالملك فتقدم لاعتضادها باليد، نعم إن شهدت بينة الخارج بالملك وأن يد الداخل غصب قدمت أيضاً، ولا تعارضهما بينة المدعى عليه بموت الدابة، إذ المدعاة معينة، وإن كانت دعواه وبينته أن هذه دابتي التي ضاعت عليّ يوم كذا ولم تضع لي دابة غيرها، فلذي اليد دعوى علمه بموتها وتحليفه على نفي العلم، فإن أقرّ أو نكل فحلف المردودة سقطت الدعوى، كما لو أقام بينة بموتها، لو رجع الخارج فادعى أنها ملكه فقط سمعت على التفصيل المتقدّم لأنها لم تناقض الأولى.
(مسألة: ش): ادعى دابة بيد آخر أنها ملكه ضاعت عليه منذ سنة وأقام بينة، فأقام ذو اليد بينة بأنها في يده منذ سنتين، قدمت الأولى إذ الشهادة باليد لا أثر لها، لأنها قد تكون بالملك وبغيره، نعم يثبت بها كونه ذا يد حتى إذا شهدت له بالملك تلك البينة أو غيرها قدمت على الشهادة بمجرد الملك، وعارضت الشهادة بالملك واليد حيث لم تشهد إحدى البينتين بأن يد الخصم يد غصب.
(مسألة: ش): متى أثبت الداخل بينة بالملك وأن يده ثابتة عليها بحق، فأثبت الخارج فانتقالها إليه بنحو شراء من الداخل أو مورثه، أو ممن انتقلت إليه من الداخل أو بأنها ملكه، وأن الداخل غصبها أو استعارها أو استأجرها أو استودعها قدمت بينته على الأصح، لأن معها زيادة علم وإن لم تشهد للخارج بالملك، بل تكون يد الداخل يد غصب فقط قدمت بينة الداخل.
(مسألة: ش): ادعى على آخر أن له عيناً مرهونة عنده بدين، فإن قال: هذه ملكي رهنتها في كذا عليّ أو على مورثي فمدّع للعين ومقرّ على نفسه بالدين، فإن أجابه الآخر بأن العين ملكي وليس لي عليك شيء بطل الإقرار للتكذيب، وإن قال: لي عليك هذا الدين أو سكت صحَّ الإقرار، وإن لم يقل عليّ أو على مورثي، فليس صريح إقرار لجواز ملك المرهون لغير الراهن كالمعار، وأما العين فمن أقام بينة فالملك له، ولا يثبت رهنها لتكذيب المدعى عليه، فإن أقام بينتين قدمت بينة ذي اليد لاعترافهما بأن اليد له، لكن لا تسمع بينته إلا بعد بينة مدعي الملك لقوة جانبه باليد واليمين، ومدعي الملك خارج والبينة في جانبه.
(مسألة: ش): ادعى كل من اثنين أنه أقرب إلى الميت قضي لمن أقام البينة، فإن أقاما بينتين فللبينة كيفية القرب، بل أفتى العمراني وغيره أنه لا عبرة ببينة النسب ما لم تذكر كيفية الإدلاء، فإن بينتا معاً أو أطلقتا فكما لو لم يقيما بينة، لكل الدعوى على الآخر أنه يعلم كونه أقرب، فإن حلف كل على نفي العلم أو نكلا ولم يحلفا المردودة أو حلفاها فكتعارض البينتين فيتساقطان إذ لا مرجح، وإن نكل أحدهما فحلف الآخر المردودة ثبت كونه أقرب، وعند عدم المرجح يقسم بينهما نصفين، ولا عبرة بيد أحدهما الباسطة بعد الموت للعلم بأن مستندها دعواه الأقربية.
(مسألة: ش): ادّعت امرأة على ميت النكاح، فإن كانت لأجل الصداق كفاها أن تقول: تزوّجني وصداقي إلى الآن عليه أو لأجل الإرث، فلا بد أن تزيد: ومات وأنا زوجته مثلاً، فإذا شهدت لها بينة على وفق الدعوى ثبتت الزوجية والإرث، فإن أثبت الوارث طلاقها منجزاً أو مغلقاً بصفة وجدت قبل الموت قدمت على بينة النكاح، ولا يكون تأخير الشهود الشهادة مفسقاً إذ قد يكون لعذر، أو أن الصفة المعلق عليها وجدت قبيل الموت، فإن أقر قبل الحكم بعدم العذر ردّت شهادتهما، نعم لها الدعوى على الوارث تعلمه بفسق الشهود بتأخير الشهادة بلا عذر، فإن حلف على نفي العلم وإلا حلفت بتاً واستحقت.
(مسألة): إذا تعارضت البينتان رجح من تميز منهما بقوة جانبه، ومنه أن تكون شهادة أحدهما بنقل الملك والأخرى باستصحابه، فتقدم الناقلة لزيادة علمها، وإنما يعتقد بنقل معين لسببه من شراء أو هبة، فإن لم يتعين كأن قالت: انتقل إليه بسبب صحيح لم يكف على خلاف فيه في الأصل، فالنقل كقتل ادّعاه وارث ميت وأقام به بينة فتقدم على بينة موت بفراش، وكبينة شراء على بينة ملك مطلق، وبينة مرض أو جرح أو جنون أو سفه أو إكراه أو إقراء أو يسار أو رقّ أو عتق، كل هذه على ضدها، ثم بيده ويد مقره وإن زالت بينة خارج، ثم شاهدان على واحد ويمين، ثم بسبق تاريخ وبنتاج، ثم بإضافة، ثم سقطتا كمطلقة ومؤرخة اهـ فتح.