محتويات
2 - الدس على العلوم الإسلامية
التفسير - الحديث - التاريخ - التصوف
لقد تعرض الإِسلام منذ انبثاق فجره إِلى خصوم أشداء، وأعداء ألِدَّاء حاولوا تقويض بنيانه، وتحطيم أركانه، عن طريق تشويه معالمه، ودس الأباطيل والخرافات في علومه، كما نرى ذلك في التفسير والحديث وفي التاريخ والتصوف.. وغيرها.
التفسير
أما التفسير: فكثيراً ما نقرأ في كتبه بعض الإِسرائيليات التي ليست إِلا أساطير كاذبة، وعقائد غير إِسلامية، نقلها إِلى الدين الإِسلامي اليهود الذين اعتنقوا الإِسلام غير مخلصين، أو مخلصين ولكن علقت بأذهانهم هذه الأساطير حين كانوا على دين اليهودية، فنقلوها عن كتب أنبيائهم التي دخلها التحريف والتغيير، وتقبَّلها بعض المسلمين على أنها صحيحة.
وقد وفق الله تعالى علماء المسلمين إِلى تمحيص هذه الإِسرائيليات وتنبيه المسلمين إِلى ضررها، وخصوصاً منها ما يضر بالعقيدة، كالإِخبار بأن أيوب عليه السلام مرض حتى ظهر الدود على جسده، وكنسبة المعاصي إِلى بعض الأنبياء، فقد زعموا أن داود عليه السلام عشق امرأة بعض جنوده، ثم أَرسلَ زوجَها لبعض المواقع الحربية لقتله، فقُتل وتزوجها. كما زعموا أن يوسف عليه السلام همَّ بامرأة العزيز هَمَّ فُحْشٍ وسوء، ولفَّقوا في ذلك قصصاً وحكايات لا تليق بمقام الرسل الكرام، الذين عصمهم الله من كل سوء وفاحشة.
فالواجب على كل مسلم نبذُ هذه الإِسرائيليات، والاعتماد على المصادر الإِسلامية الصحيحة الشهيرة.
الحديث
وأما الحديث: فلقد حاول الدسَّاسون المغرضون تشويه معالم الإِسلام عن طريق وضع أحاديث مكذوبة مفتراة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يقصدون بذلك تحطيم العقيدة، ودس الأفكار الهدَّامة؛ كالتجسيم والتشبيه والفوقية والجهة، وغير ذلك من العقائد الفاسدة.
كما وضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب ما أنزل الله بها من سلطان. وإِذا قيل لهم: لِمَ تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: “مَنْ كذب عليَّ متعمداً فليتبوأْ مقعده من النار”؟ [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في كتاب الإِيمان، والترمذي في كتاب العلم، وابن ماجه في أبواب السنة] قالوا: نحن نكذب له لا عليه. كما كان بعضهم يضع الحديث تقرباً إِلى الحكام، وتزلفاً إِلى الملوك، رغبة في مطمع دنيوي ومكسب مادي
ولكن الله تعالى قيَّض لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علماء مخلصين غيورين، محَّصوا تلك الأحاديث، وبينوا الصحيحة من الضعيفة، والموضوعة من الحسنة، والمشهورة من الغريبة، كالمُزّي والزين العراقي والذهبي وابن حجر وغيرهم [وقد جمع بعض العلماء الغيورين على الأحاديث النبوية كتباً بيَّنوا فيها الأحاديث الموضوعة منها: اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، وكشف الخفاء للعجلوني، وأسنى المطالب للحوت البيروتي].
التاريخ
وأما التاريخ: فقد كان ميداناً خصباً للدس والافتراءِ؛ حيث ألصق المضللون في تاريخ الإِسلام قصصاً وحوادث من نسيج خيالهم. حاولوا بذلك تشويه سيرة الخلفاء وملوك الإِسلام، كما نسبوا إِلى هارون الرشيد أُموراً غريبة منكرة، نجدها في أكاذيب ألف ليلة وليلة.
ولا يخفى ما أحدثه المضللون الصليبيون والمستشرقون ومَنْ لفَّ لَفَّهم في تاريخ الإِسلام من افتراءات وتُرَّهَاتٍ وأضاليل واضحة البطلان لم يقصدوا بها إِلا التهديم والتشكيك.
ولكن المؤرخين المسلمين المحققين كالذهبي، والطبري، وابن كثير، وابن الأثير، وابن هشام وغيرهم، قد دوَّنوا التاريخ الإِسلامي، وهذبوه ونفوا عنه الدخائل، وأخرجوه نقياً سليماً. فعلى طالب الحقيقة أن يعود إِلى هذه المراجع الصحيحة، كي يميز الخبيث من الطيب، والغث من السمين.
التصوف
وأما التصوف: فكغيره من العلوم الدينية، لم يَسْلم من الدس والتحريف من هؤلاء الدخلاء والمفترين.
فمنهم من أدخل في كتب الصوفية أفكاراً منحرفة، وعبارات سيئة ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم:
وما الكلبُ والخنزيرُ إِلا إِلهنا وما الربُّ إِلا راهبٌ في كنيسة
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تخرُجُ مِنْ أفوَاهِهِمْ إنْ يَقُولونَ إلا كَذِباً} [الكهف: 5].
ومنهم من أراد أن يفسد دين المسلمين بأشياء أُخر تمس عقائدهم؛ فنسب إِلى بعض رجال الصوفية أقوالاً تخالف عقيدة أهل السنة؛ كالقول بالحلول والاتحاد، وبأن الخالق عين المخلوق، والكون عين المكوِّن.
ومنهم من حاول تشويه تاريخ رجال الصوفية، ونزع ثقة الناس بهم، فدَسَّ في كتبهم حوادث وقصصاً من نسج خياله، فيها ارتكاب للمنكرات واقتراف للآثام والكبائر، كما نجد ذلك كثيراً في الطبقات الكبرى للإِمام الشعراني رحمه الله تعالى، وهو منها بريء كما سيأتي.
ومنهم المبشِّرون والمستشرقون، وأبواق الاستعمار الذين درسوا كتب السادة الصوفية، وكتبوا عنهم المؤلفات لأجل التحريف والتزوير والدس، يقصدون بذلك أن يطعنوا الإِسلام في صميمه، وأن يسلخوا روح الدين عن جسده، ولقد خُدع بهم أقوام أرادوا أن يفهموا التصوف من كتب هؤلاء المستشرقين، كأمثال [نكلسون الإِنكليزي، وجولد زيهر اليهودي، وماسينيون الفرنسي وغيرهم]، فوقعوا في أحابيلهم، وتسمَّمُوا من أفكارهم، وانجرفوا في تيار محاربة الصوفية. ولا أدري كيف يثق مسلم صادق بأقوال عدوه المخادع الماكر؟
ومنهم السُّذَّجُ الذين يصدقون هؤلاء وهؤلاء، فيعتقدون بهذه الأمور المدسوسة ويثبتونها في كتبهم. وكل هذا بعيد عن الصوفية والتصوف.
فإِن قال قائل: إِنَّ ما نسب إِلى الصوفية من أقوال مخالفة هي حقاً من كلامهم بدليل وجودها في كتبهم المطبوعة المنشورة.
نقول: ليس كل ما في كتب الصوفية لهم؛ لأنها لم تسْلم من حملات الدس والتحريف. وما أحوجنا إِلى تضافر جهود المؤمنين المخلصين لتنقية هذا التراث الإِسلامي الثمين ممَّا لحق به من دس وتحريف.
ولو ثبت بطريق صحيح عن بعض الصوفية كلام مخالف لحدود الشريعة فنقول: ليست كلمة فرد واحد حجة على جماعة، شعارها ومذهبها التمسك بالكتاب والسنة. حتى إِنهم ليقولون: إِن أول شرط الصوفي أن يكون واقفاً عند حدود الشريعة، وألا ينحرف عنها قيد شعرة. فإِذا هو تخطى هذا الشرط، ووصف نفسه بأنه صوفي، فقد اختلق لنفسه صفة ليست فيه وزعم ما ليس له.
وإِن من إِضاعة الوقت الثمين الانشغالَ بمثل هذه التُّرَّهَات والأباطيل المفتراة على هؤلاء القوم في هذه الأوقات التي يوجد ما هو أهم من المجادلة بها، فهي معروفة لدى الصوفية المحققين والعلماء المدققين. وعلينا أن نعرف أن التصوف ليس علماً نتلقاه بقراءة الكتب ومطالعة الكراريس، ولكنه أخلاق وإِيمان، وأذواق ومعارف، لا ينال إِلا بصحبة الرجال، الذين اهتدوا بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وورثوا عنه العلم والعمل والأخلاق والمعارف. وهو علم ينتقل من الصدر إِلى الصدر، ويفرغه القلب في القلب.
وهناك أقوام مغرضون، درسوا كتب السادة الصوفية وتتبعوا ما فيها من دس وتشويه وتحريف واعتبروها حقائق ثابتة، وارتكزوا عليها في حملاتهم العنيفة وتهجماتهم الشديدة على السادة الصوفية الأبرار. ولو أنهم قرأوا ما يعلنه رجال التصوف في جميع كتبهم من استمساكهم بالشريعة واعتصامهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتقيدهم بالمذاهب الإِسلامية المعتبرة، وتَبَنِّيهِمْ عقيدة أهل السنة والجماعة، كما بيناه آنفاً في بحث بين الحقيقة والشريعة، لأدركوا تماماً أن ما ورد في كتبهم مما يناقض هذا المبدأ الواضح والمنهج السوي، إِنما هو مؤول أو مدسوس.
وإِليك بعض أمثلة الدس المفتراة على الصوفية والعلماء في كتبهم:
يقول ابن الفراء في طبقاته نقلاً عن أبي بكر المروزي ومسدد وحرب إِنهم قد رووا الكثير من المسائل، ونسبوها للإِمام أحمد بن حنبل.. وبعد أن يفيض في ذكر هذه المسائل يقول:
(رجلان صالحان بُليا بأصحاب سوء: جعفر الصادق، وأحمد بن حنبل، أما جعفر الصادق فقد نسبت إِليه أقوال كثيرة، دونت في فقه الشيعة الإِمامية على أنها له، وهو بريء منها. وأما الإِمام أحمد، فقد نسب إِليه بعض الحنابلة آراء في العقائد لم يقل بها) [التصوف الإِسلامي والإِمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور ص82].
وسئل الإِمام الفقيه ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى ونفعنا به: في عقائد الحنابلة ما لا يخفى على شريف علمكم، فهل عقيدة الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كعقائدهم؟
فأجاب بقوله: (عقيدة إِمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنان المعارف متقلبه ومأواه، وأفاض علينا وعليه من سوابغ امتنانه، وبوأه الفردوس الأعلى من جنانه، موافقةٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة من المبالغة التامة في تنزيه الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً؛ من الجهة والجسمية وغيرها من سائر سمات النقص، بل وعن كل وصف ليس فيه كمال مطلق، وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إِلى هذا الإِمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشيء من الجهة أو نحوها فكذب وبهتان وافتراء عليه. فلُعن من نسب إِليه، أو رماه بشيء من هذه المثالب التي برأه الله منها، وقد بين الحافظ الحجة القدوة الإِمام أبو الفرج بن الجوزي من أئمة مذهبه المبرئين من هذه الوصمة القبيحة الشنيعة أن كل ما نسب إِليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان، وأن نصوصه صريحة في بطلان ذلك وتنزيه الله تعالى عنه، فاعلم ذلك، فإِنه مهم) [الفتاوى الحديثية لابن حجر المكي ص148].
وأما الإِمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد دُسَّ عليه كتاب نهج البلاغة أو أكثره، فقد ذكر الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة علي بن الحسين الشريف المرتضى أنه: (هو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، ومَنْ طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة، وبنَفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل) [ميزان الاعتدال للذهبي ج3 ص124].
وممن دُسَّ عليهم الإِمام الشعراني رحمه الله تعالى، وأكثر ما دُسَّ عليه في الطبقات الكبرى، ولقد أوضح ذلك في كتابه لطائف المنن والأخلاق فقال: (ومما مَنَّ الله تبارك وتعالى به عليَّ، صبري على الحسدة والأعداء، لما دسوا في كتبي كلاماً يخالف ظاهر الشريعة، وصاروا يستفتون عليَّ زوراً وبهتاناً، ومكاتبتهم فيَّ لِبابِ السلطان، ونحو ذلك. إِعلم يا أخي أن أول ابتلاء وقع لي في مصر من نحو هذا النوع، أنني لما حججْتُ سنة سبع وأربعين وتسعمائة، زَوَّر عليَّ جماعة مسألة فيها خرق لإِجماع الأئمة الأربعة، وهو أنني أفتيتُ بعض الناس بتقديم الصلاة عن وقتها إِذا كان وراء العبد حاجة، قالوا: وشاع ذلك في الحج، وأرسل بعض الأعداء مكاتبات بذلك إِلى مصر من الجبل، فلما وصلتُ إلى مصر، حصل في مِصْرَ رَجٍّ عظيم، حتى وصل ذلك إِلى إِقليم الغربية والشرقية والصعيد وأكابر الدولة بمصر، فحصل لأصحابي غاية الضرر، فما رجعتُ إِلى مصر إِلا وأجد غالب الناس ينظر إِليَّ شذراً، فقلت: ما بال الناس؟ فأخبروني بالمكاتبات التي جاءتهم من مكة، فلا يعلم عدد من اغتابني، ولاث بعرضي إِلا الله عز وجل.
ثم إِني لما صنفت كتاب البحر المورود في المواثيق والعهود، وكتب عليه علماء المذاهب الأربعة بمصر، وتسارع الناس لكتابته، فكتبوا منه نحو أربعين نسخة، غار من ذلك الحسدةُ، فاحتالوا على بعض المغفلين من أصحابي، واستعاروا منه نسخته، وكتبوا لهم منها بعض كراريس، ودسوا فيها عقائد زائغة ومسائل خارقة لإِجماع المسلمين، وحكايات وسخريات عن جحا، وابن الراوندي، وسبكوا ذلك في غضون الكتاب في مواضع كثيرة، حتى كأنهم المؤلف، ثم أخذوا تلك الكراريس، وأرسلوها إِلى سوق الكتبِيِّين في يوم السوق، وهو مجمع طلبة العلم، فنظروا في تلك الكراريس، ورأوا اسمي عليها، فاشتراها من لا يخشى الله تعالى، ثم دار بها على علماء جامع الأزهر، ممن كان كتب على الكتاب ومن لم يكتب، فأوقع ذلك فتنة كبيرة، ومكث الناس يلوثون بي في المساجد والأسواق وبيوت الأمراء نحو سنة، وأنا لا أشعر. وانتصر لي الشيخ ناصر الدين اللقاني، وشيخ الإِسلام الحنبلي، والشيخ شهاب الدين بن الجلبي، كل ذلك وأنا لا أشعر، فأرسل لي شخص من المحبين بالجامع الأزهر، وأخبرَني الخبرَ فأرسلت نسختي التي عليها خطوط العلماء، فنظروا فيها، فلم يجدوا فيها شيئاً مما دسه هؤلاء الحسدة، فسبُّوا من فعل ذلك، وهو معروف.
وأعرفُ بعض جماعة من المتهوِّرين، يعتقدون فيَّ السوء إِلى وقتي هذا، وهذا بناء على ما سمعوه أولاً من أُولئك الحسدة، ثم إِن بعض الحسدة، جمع تلك المسائل التي دُسَّت في تلك الكراريس وجعلها عنده، وصار كلما سمع أحداً يكرهني، يقول له: إِن عندي بعض مسائل تتعلق بفلان، فإِن احتجت إِلى شيء منها أطلعتك عليه، ثم صار يعطي بعض المسائل لحاسد بعد حاسد إِلى وقتي هذا، ويستفتون عليَّ وأنا لا أشعر، فلما شعرتُ، أرسلت لجميع علماء الأزهر أنني أنا المقصود بهذه الأسئلة، وهي مفتراة عليَّ، فامتنع العلماء من الكتابة عليها)[كتاب “لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج2. ص190ـ191].
وقد ذكر المؤرخ الكبير عبد الحي بن العماد الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه شذرات الذهب في أخبار من ذهب ترجمة الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى وبعد أن أثنى عليه، وذكر مؤلفاته الكثيرة، وأثنى عليها أيضاً قال فيه: (وحسده طوائف فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائغة، ومسائل تخالف الإِجماع، وأقاموا عليه القيامة، وشنَّعوا وسبُّوا، ورموه بكل عظيمة، فخذلهم الله، وأظهره الله عليهم وكان مواظباً على السنة، ومبالغاً في الورع، مُؤثِراً ذوي الفاقة على نفسه حتى بملبوسه، متحملاً للأذى، موزعاً أوقاته على العبادة؛ ما بين تصنيفٍ وتسليكٍ وإِفادة.. وكان يُسمَعُ لزاويته دوي كدوي النحل ليلاً ونهاراً، وكان يحيي ليلة الجمعة بالصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يزل مقيماً على ذلك، معظَّماً في صدور الصدور، إِلى أن نقله الله تعالى إِلى دار كرامته) [“شذرات الذهب في أخبار من ذهب” للمؤرخ الفقيه الأديب عبد الحي الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ. ج8. ص374].
وقال الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه اليواقيت والجواهر: (وقد دسَّ الزنادقة تحت وسادة الإِمام أحمد بن حنبل في مرض موته، عقائد زائغة، ولولا أن أصحابه يعلمون منه صحة الاعتقاد، لافتتنوا بما وجوده تحت وسادته) [اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للشيخ عبد الوهاب الشعراني ج1. ص8].
وكذلك ذكر الشيخ مجد الدين الفيروز أبادي صاحب القاموس في اللغة: أن بعض الملاحدة صنف كتاباً في تنقيص الإِمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأضافه إِليه، ثم أوصله إِلى الشيخ جمال الدين بن الخياط اليمني، فشنَّع على الشيخ أشد التشنيع، فأرسل إِليه الشيخ مجد الدين يقول له: (إِني معتقد في الإِمام أبي حنيفة غاية الاعتقاد، وصنفت في مناقبه كتاباً حافلاً وبالغتُ في تعظيمه إِلى الغاية، فأحرِقْ هذا الكتاب الذي عندك، أو اغسله، فإِنه كذب وافتراء عليَّ) [لطائف المنن والأخلاق للشعراني ج1. ص127].
وقال الفقيه الكبير أحمد بن حجر الهيثمي المكي رحمه الله تعالى: (وإِياك أن تغترَّ بما وقع في كتاب الغنية لإِمام العارفين، وقطب الإِسلام والمسلمين، الشيخ عبد القادر الجيلاني. فإِنه دسه عليه فيها مَنْ سينتقم الله منه، وإِلا فهو بريء من ذلك. وكيف تروج عليه هذه المسألة الواهية مع تضلعه من الكتابِ والسنةِ وفقهِ الشافعيةِ والحنابلةِ، حتى كان يفتي على المذهبين. هذا مع ما انضم لذلك من أن الله مَنَّ عليه من المعارف والخوارق الظاهرة والباطنة. وما أنبأ عنه ما ظهر عليه وتواتر من أحواله.. إِلى أن قال: فكيف يُتصور أو يُتوهم أنه قائل بتلك القبائح التي لا يصدر مثلها إِلا عن اليهود وأمثالهم ممن استحكم فيهم الجهل بالله وصفاته وما يجب له وما يجوز وما يستحيل. سبحانك هذا بهتان عظيم) [“الفتاوى الحديثية” لابن حجر ص149].
وكذلك دسوا على الإِمام الغزالي عدة مسائل في كتاب الإِحياء، وظفر القاضي عياض بنسخة من تلك النسخ فأمر بإِحراقها [“اليواقيت والجواهر” ج1. ص8].
قال الشعراني رحمه الله تعالى: (وممَّا دسُّوا على الغزالي، وأشاعه بعضهم عنه، قولهم عنه إِنه قال: [إِن لله عباداً لو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها، وإِن لله عباداً لو سألوه أن يقيم الساعة الآن لأقامها]. فإِن مثل ذلك كذب وزور على الإِمام حجة الإِسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يجب على كل عاقل تنزيه الإِمام عنه، لأنه يردُّ النصوص القاطعة الواردة في مقدمات الساعة، فيؤدي ذلك إِلى تكذيب الشارع صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وإِنْ وُجد ذلك في بعض مؤلفات الإِمام فذلك مدسوس عليه من بعض الملاحدة، وقد رأيت كتاباً كاملاً مشحوناً بالعقائد المخالفة لأهل السنة والجماعة، صنَّفه بعض الملحدين ونسبه إِلى الإِمام الغزالي، فاطلع عليه الشيخ بدر الدين ابن جماعة، فكتب عليه: كذبَ والله وافترى مَنْ أضافَ هذا الكتاب إِلى حجة الإِسلام) [“لطائف المنن والأخلاق” للشعراني ج1. ص127].
وقال أيضاً: (وكذلك دسوا عليَّ أنا في كتابي المسمى بالبحر المورود جملةً من العقائد الزائغة، وأشاعوا تلك العقائد في مصر ومكة نحو ثلاث سنين، وأنا بريء منها كما بَيَّنْتُ في خطبة الكتاب لمَّا غيرتها، وكان العلماء كتبوا عليه وأجازوه، فما سكنت الفتنة حتى أرسلت إِليهم النسخة التي عليها خطوطهم) [“اليواقيت والجواهر” ج1. ص8].
هذا وقد ملأ خصومُه الدنيا حوله حقداً وحسداً، وافتراء وكذباً وتضليلاً، لاسيما في كتبه المعروفة، وأشهرها الطبقات الكبرى.
فلو قارن المُنْصِفُ بين كلام الشعراني رحمه الله تعالى الذي يعلن فيه تمسك الصوفية بالشريعة، وقد مر بك في بحث بين الحقيقة والشريعة [انظر بحث بين الحقيقة والشريعة ص381 من هذا الكتاب] وبين كلامه في الطبقات الكبرى لرأى تبايناً ظاهراً، ولظهر له كذب ما في الطبقات.
وكذلك دسوا على الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى، قال الشعراني: (كان رضي الله عنه متقيداً بالكتاب والسنة، ويقول: كل مَنْ رمى ميزان الشريعة من يده لحظة هلك.. إِلى أن قال: وهذا اعتقاد الجماعة إِلى قيام الساعة، وجميع ما لم يفهمه الناس من كلامه إِنما هو لِعُلِّو مراقيه، وجميع ما عارض من كلامه ظاهر الشريعة وما عليه الجمهور فهو مدسوس عليه، كما أخبرني بذلك سيدي أبو طاهر المغربي نزيل مكة المشرفة، ثم أخرج لي نسخة الفتوحات التي قابلها على نسخة الشيخ التي بخطه في مدينة قونيه، فلم أر فيها شيئاً مما كنت توقفت فيه وحذفته حين اختصرت الفتوحات.. ثم قال الشعراني رحمه الله تعالى: إِذا علمت ذلك، فيحتمل أن الحسدة دسوا على الشيخ في كتبه، كما دسوا في كتبي أنا، فإِنه أمر قد شاهدته عن أهل عصري في حقي، فالله يغفر لنا ولهم آمين) [“اليواقيت والجواهر” للشعراني ج1 ص9].
ذكر الفقيه الحنفي صاحب الدر المختار أن: (من قال عن فصوص الحكم للشيخ محي الدين بن عربي، إِنه خارج عن الشريعة، وقدصنفه للإِضلال، ومَنْ طالعه ملحد، ماذا يلزمه؟ أجاب: نعم،فيه كلمات تباين الشريعة، وتكلف بعض المتصلِّفين لإِرجاعها إِلى الشرع، لكن الذي تيقنْتُه أن بعض اليهود افتراها على الشيخ قدس الله سره،فيجب الاحتياط بترك مطالعة تلك الكلمات. قال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى في حاشيته على الدر المختار عندقوله: [لكن الذي تيقنْتُه]: وذلك بدليلٍ ثبت عنده، أو لسببِ عدمِ اطلاعه على مراد الشيخ فيها، وأنه لا يمكن تأويلها، فتعيَّن عنده أنها مفتراة عليه، كما وقع للشيخ الشعراني أنه افترى عليه بعض الحساد في بعض كتبه أشياء مكفرة، وأشاعها عنه، حتى اجتمع بعلماء عصره، فأخرج لهم مسودة كتابه التي عليها خطوط العلماء فإِذا هي خالية عما افْتُرِيَ عليه. وقال ابن عابدين أيضاً عند قوله: [فيجب الاحتياط]: لأنه إِن ثبت افتراؤها فالأمر ظاهر، وإِلا فلا يفهم كلُّ أحد مرادَه فيها، فيُخشى على الناظر فيها من الإِنكار عليه، أو فهم خلاف المراد) [حاشية ابن عابدين ج3. ص303، وصاحب الدر المختار الشيخ محمد علاء الدين الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ].
ومن المدسوس على الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى أيضاً: القول بأن أهل النار يتلذذون بدخولهم النار، وأنهم لو أخرجوا منها، تعذبوا بذلك الخروج.
قال الشعراني رحمه الله تعالى: (وإِن وُجد نحو ذلك في شيء من كتبه فهو مدسوس عليه، فإِني مررت على كتاب الفتوحات المكية جميعه فرأيته مشحوناً بالكلام على عذاب أهل النار) [“الكبريت الأحمر” ص276 طبعة 1277. كذا في مجلة العشيرة المحمدية عدد محرم 1381 ص21].
وقال أيضاً: (كذب مَنْ دسَّ في كتاب الفصوص والفتوحات، أن الشيخ محي الدين بن عربي قال بأن أهل النار يتلذذون بالنار، وأنهم لو أُخرجوا منها لاستغاثوا، وطلبوا الرجوع إِليها، كما رأيت ذلك في هذين الكتابين. وقد حذفت ذلك من الفتوحات حال اختصاري لها. حتى ورد عن الشيخ شمس الدين الشريف، بأنهم دسوا على الشيخ في كتبه كثيراً من العقائد الزائغة التي نقلت عن غير الشيخ، فإِن الشيخ مِنْ كُمَّل العارفين بإِجماع أهل الطريق، وكان جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام، فكيف يتكلم بما يهدم شيئاً من أركان شريعته، ويساوي بين دينه وبين جميع الأديان الباطلة، ويجعل أهل الدارين سواء؟! هذا لا يعتقده في الشيخ إِلا من عزلَ عنه عقله. فإِياك يا أخي أن تصدق، من يضيف شيئاً من العقائد الزائغة إِلى الشيخ، واحمِ سمعك وبصرك وقلبك، وقد نصحتُك والسلام. وقد رأيت في عقائد الشيخ محي الدين الواسطي ما نصه: ونعتقد أن أهل الجنة والنار مخلدون في دارَيْهِما، لا يخرج أحد منهم من داره أبد الآبدين ودهر الداهرين.. قال: ومرادنا بأهل النار الذين هم أهلها من الكفار والمشركين والمنافقين والمعطِّلين، لا عصاة الموحدين فإِنهم يخرجون من النار بالنصوص) [“اليواقيت والجواهر” للشعراني ج2. ص205].
ويؤيد ما ذكرنا بأن هذا القول مدسوس على الشيخ محي الدين ما ذكره الشيخ نفسه في الباب الحادي والسبعين وثلثمائة من الفتوحات، عندما تغلق أبواب النار، كيف يصير أهلها كقطع اللحم حينما تغلي بهم النار ويصير أعلاهاأسفلها. وكذلك ما ذكره الإِمام الباجوري الشافعي في شرحه على جوهرة التوحيد: (وما يقال بتمرن أهل النار بالعذاب، حتى لو أُلْقُوا في الجنة لتألموا مدسوس على القوم [الصوفية] كيف وقد قال تعالى: {فذُوقُوا فَلَنْ نَزيدَكُم إلا عَذاباً} [النبأ: 30] [حاشية العلامة شيخ الإِسلام إِبراهيم الباجوري ص108].
فكيف يعتقد مسلم هذه العقيدة الفاسدة التي تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة؟ وقد نص على ذلك الشيخ محمد بن يوسف الكافي، بعد أن ذكر فريق الجنة، وأنهم مخلدون فيها ومنعمون، ذكر فريق أهل النار فقال: (وفريق السعير خالدون فيه أبداً، لا ينقطع عنهم ألم العذاب، وقال بعضهم: [ينقطع عنهم، وينقلب في حقهم استلذاذاً، بحيث لو عُرضت عليهم الجنة لأَبوْها، لما هم فيه من الاستلذاذ]. ومعتقد هذا كافر بلا شك ولا ريب، لتكذيبه الله تعالى في خبره: {إنَّ الذينَ كَفَروا وماتوا وهُم كُفَّارٌ أولئكَ عليهِم لعنَةُ اللهِ والملائكَةِ والناسِ أجمعينَ . خالدينَ فيها لا يخفَّفُ عنهُمُ العذابُ ولا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 161 -162]. وفي خبره أيضاً: {إنَّ الذينَ كفرُوا بآياتِنا سوف نُصْليهم ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودهُم بَدَّلْناهُم جُلوداً غيرها ليذوقوا العذابَ} [النساء: 56]. وغير ذلك من الآيات الدالة على استمرار عذابهم) [المسائل الكافية للشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي ص19].
ومما نسب إِلى الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى أيضاً افتراءً عليه القولُ: بسقوط التكليف.
يقول العلامة الشعراني رحمه الله تعالى: (وقد ذكر الشيخ محي الدين أنه لا يجوز لولي قط المبادرة إِلى فعل معصية اطلع من طريق كشفه على تقديرها عليه، كما لا يجوز لمن كُشف له أن يمرض في اليوم الفلاني من رمضان، أن يبادر للفطر في ذلك اليوم، بل يجب عليه الصبر حتى يتلبس بالمرض، لأن الله تعالى ما شرع الفطر إِلا مع التلَبُّس بالمرض أو غيره من الأعذار، قال: وهذا مذهبنا ومذهب المحققين من أهل الله عز وجل) [مجلة العشيرة المحمدية عدد محرم 1381 ص21].
ومما دُسَّ على العارف الكبير الشيخ إِبراهيم الدسوقي رحمه الله تعالى قوله: (أذن لي ربي أن أتكلم وأقول أنا الله، فقال لي: قل: أنا الله ولا تبالِ) وفي هذا من الشناعة والاجتراء، ما يغني عن الإِطالة [مجلة العشيرة المحمدية عدد محرم 1381 ص23].
ومما دُسَّ على رابعة العدوية رحمها الله تعالى، قولها عن الكعبة: [هذا الصنم المعبود في الأرض] [وقد عمد بعض المغرضين الدساسين إِلى تقصي جميع النصوص المدسوسة والمكذوبة على الصوفية ليتخذها ذريعة في حملته المغرضة، وتهجمه الشنيع على الصوفية بأسلوب مقذع وعبارات منحطة بعيدة عن أخلاق الإِسلام وصفات المؤمنين لا يدفعه إِلى ذلك إِلا حقد دفين وهوى نفسي ومآرب شخصية]. وهذا ابن تيمية نفسه يُكذِّب نسبة هذا القول إِليها ويبين أنه مدسوس ومكذوب عليها، فقد قال حين سئل عن ذلك: (وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت: إِنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة المؤمنة التقية، ولو قال هذا من قال لكان كافراً يستتاب، فإِن تاب وإِلا قتل، وهو كذب. فإِن البيت لا يعبده المسلمون؛ ولكنهم يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إِليه) [“مجموعة الرسائل والمسائل” لابن تيمية ج1 ص80ـ81].
ولو ذهبنا نستقصي ألوان التزييف في التاريخ الإِسلامي والتصوف لما وَسِعْتَنا هذه الرسالة، إِذ التصوف كان نصيبه من الدس والافتراء أعظم من غيره، لأن المزيفين أدركوا أن التصوف هو روح الإِسلام، وأن الصوفية هم قوته النافذة الضخمة وشعلته الوضاءة المشرقة، فأرادوا أن يطفئوا هذا النور. قال تعالى: {يُريدونَ لِيُطْفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهِم واللهُ مُتِمُّ نورِهِ ولو كَرِهَ الكافرونَ} [الصف: 8].
وإِننا لا ننسى أن الذي ساعد على الدس والتضليل والافتراء عدم الطباعة الفنية والمراقبة الشديدة في الماضي، كما هي عليه اليوم في عصرنا الحاضر من الطبع المنظم، ومن العقوبات القانونية لمن يتجرأ على طبع شيء من الكتب بغير إِذن مؤلفها، بخلاف عصر النسْخ للكتب الخطية، فقد كان الدساسون والكذابون يروجون كتباً فيها ما فيها من الدجل والكذب ما الله به عليم، ويُدخلون على كتب العلماء وخصوصاً الصوفية الدسائس والأباطيل.
ولكن الله تعالى - وله الحمد - قيَّضَ لهذا الدين رجالاً سهروا على تنقية الكتب الإِسلامية، وبيَّنوا المدسوس فيها من الصحيح.
ونحن بهذا الكتاب المتواضع نساهم في تنقية التصوف الإِسلامي مما علق به من دسائس وأمور دخيلة عليه، لنعيد له صفاءه وبريقه ولينتفع الناس من طاقاته الروحية ونفحته الإِيمانية في هذا العصر الذي خيَّمت عليه ظلمات المادية وآثام الإِباحية وتيارات الإِلحاد والوجودية..