محتويات
- الذكر المقيد والذكر المطلق
- ألفاظ الذكر وصيغه
- حكم الذكر بالاسم المفرد الله
- التحذير من ترك الذكر
- الحركة في الذكر
- الإنشاد والسماع في المسجد
- فوائد الذكر إجمالاً
- الذكر على قسمين: ذكر العامة، وذكر الخاصة
- دليل السبحة
- االعودة إلي كتاب حقائق عن التصوف لعبد القادر عيسى
الذكر المقيد والذكر المطلق
أما الذكر المقيد: فهو الذي ندبَنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيَّداً بزمان خاص أو مكان خاص؛ كالذكر بعد أداء كل صلاة، من تسبيح وتحميد وتكبير، وأذكار المسافر والآكل والشارب، وأذكار النكاح، وأذكار تقال عند الشدة ودفع الآفات والمصائب، وعند المرض والموت وما يتعلق بهما، وبعد صلاة الجمعة وليلتها، وعند رؤية الهلال، وإفطار الصائم، وأذكار الحج بأنواعها، وأذكار تقال في الصباح والمساء، وعند النوم والاستيقاظ، وأذكار الجهاد في سبيل الله، وأذكار متفرقة: عند صياح الديك، ونهيق الحمار، وأذكار عند رؤية مبتلى بمرض وغيره.
هذه نبذ قليلة من الأذكار المقيدة، وإن أردت استيعابها فارجع إلى كتب الأذكار.
وأما الذكر المطلق: فهو ما لم يقيد بزمان ولا مكان، ولا وقت ولا حال، ولا قيام ولا قعود، فالمطلوب من المؤمن أن يذكر ربه في كل حال حتى لا يزال لسانه رطباً بذكر الله، والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {فاذكُرُوني أذكُرْكُم} [البقرة: 152]. وقوله تعالى: {يُسَبِّحون الليل والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكُروا اللهَ ذكراً كثيراً وسَبِّحُوه بُكرة وأصيلاً} [الأحزاب: 41 -42]. وقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكراتِ أعدَّ اللهُ لهُمْ مغفِرَةً وأجراً عظيماً} [الأحزاب: 35]. وغيرها من الآيات التي تدعو إلى الإكثار من ذكر الله مطلقاً دون تقييد بزمان ومكان، كما أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى ذكر الله مطلقاً في جميع أحوالنا وأوقاتنا.
فقد روى عبد الله بن بسر رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبثُ به، قال: “لا يزالُ لسانُك رَطباً من ذكر الله” [رواه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث حسن].
وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه) [أخرجه مسلم في كتاب الطهارة وفي كتاب الفضائل، والترمذي في كتاب الدعوات، وأبو داود وابن ماجه في كتاب الطهارة].
وقد دعانا عليه الصلاة والسلام في أحاديثَ كثيرةٍ إلى أنواع من صيغ الذكر من تسبيح وتهليل وتكبير واستغفار، دون أن يحدد لها وقتاً معيناً، أو مناسبة خاصة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، وأمرَهُم بذكره في الأحوال كلها، فقال عز من قائل: {فاذْكُروا اللهَ قياماً وقعوداً وعلى جُنُوبِكُم} [النساء: 103]. وقال تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]. أي بالليل والنهار، وفي البر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال [“نور التحقيق” ص147]. وقد نهج الصوفية على هذا المنوال فذكروا الله في جميع أحوالهم وأطوارهم.
وكما أن الذكر منه مقيد بزمن، ومنه مطلق عن ذلك، فكذلك الذكر منه مقيد بعدد، ومنه مطلق عن العدد.
أما المقيد بالعدد فكالتسبيح دبر كل صلاة، وكالتحميد والتكبير...
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر” [رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يُسبح مائة تسبيحة فتُكتَب له ألفُ حسنة، أو تُحَط عنه ألفُ خطيئة” [رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الذكر والدعاء].
وعن الأغَرِّ بن يسار المُزَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة” [رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الذكر والدعاء].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو وعلى كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدلَ عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضلَ مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات ومسلم في كتاب الذكر].
يقول ابن علان في شرحه لهذا الحديث: (قال القاضي عياض: ذِكْرُ هذا العدد من المئة، وهذا الحصر لهذه الأذكار دليل على أنها غاية وحدٍّ لهذه الأجور، ثم نبَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: “ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه” إلى أنه يجوز أن يُزاد على هذا العدد، فيكون لقائله من الفضل بحسب ذلك لئلا يُظن أنها من الحدود التي نُهي عن اعتدائها، وأنه لا فضل للزيادة عليها كالزيادة على ركعات السنن المحدودة وأعداد الطهارة.
وبالغ آخرون فقالوا: إن الثواب الموعود به موقوف على العدد المذكور.
قال ابن الجوزي: وهذا غلط ظاهر، وقول لا يُلتفت إليه، بل الصواب أنه كما قال الشاعر: ومن زاد زاد الله في حسناته) [“الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية” ج1/ص209 للعلامة ابن علان الصديقي توفي سنة 1057هـ].
وأما الذكر المطلق عن العدد: فهو الذي وجهنا الله تعالى إلى الإكثار منه في جميع أحوالنا وأوقاتنا دون تقييده بعدد مخصوص، كما في قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]. وكلما علت همة المؤمن وزادت محبته لله تعالى أكثر من ذكره، لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
ولا بأس للمرشد الموجه أن يُرغِّبَ المريدَ بأعداد معينة من الأذكار ليرفع من همته ويشد من عزيمته، ويدفع عنه الإهمال والتقاعس، وحتى يكون من المكثرين من ذكر الله تعالى.
ألفاظ الذكر وصيغه
ذكرُ الله تعالى بجميع صيغه دواء لأمراض القلوب وعلل النفوس. فمن هذه الصيغ: لا إله إلا الله، ومنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار وبعض أسماء الله الحسنى، ومنها الاسم المفرد [الله]، وهكذا... وكل هذه الأدوية مستخرجة من صيدلية القرآن والحديث.
وبما أن صيغ الأذكار كثيرة متنوعة، ولكل صيغة تأثير قلبي خاص ومفعول نفسي معين، فإن مرشدي السادة الصوفية - أطباء القلوب وورَّاث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتوجيه والتربية - يأذنون لمريديهم بأذكار معينة تتناسب مع أحوالهم وحاجاتهم، وترقيهم في السير إلى رضوان الله تعالى، وذلك كما يعطي الطبيب الجسماني للمريض أنواعاً من الأدوية والعلاجات تتلاءم مع علله وأسقامه، ثم يبدل له الدواء حسب تقدمه نحو الشفاء، ولهذا لا بد للمريد السالك أن يكون على صلة بالمرشد، يستشيره ويذاكره، ويعرض عليه ما يجده في الذكر من فوائد روحية، وأحوال قلبية، وحظوظ نفسية، وبذلك يترقى في السير، ويتدرج في السمو الخُلقي والمعارف الإلهية.
حكم الذكر بالاسم المفرد [الله]
أما الذكر بالاسم المفرد [الله] فجائز بدليل قول الله تعالى:
{واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ وتبتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8]. وقوله تعالى: {واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ بكرةً وأصيلاً} [الدهر: 25].
وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب الفتن، وقال: حديث حسن، والإمام أحمد في مسنده]. فهذا اسم مفرد ورد ذكره مكرراً في هذا الحديث.
وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة على أحدٍ يقول: الله، الله” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب الفتن، وقال: حديث حسن، والإمام أحمد في مسنده]. قال العلامة علي القاري في شرح هذا الحديث: (أي لا يُذكَرُ الله فلا يبقى حكمة في بقاء الناس، ومن هذا يُعرَفُ أن بقاء العالم ببركة العلماء العاملين والعُبَّاد الصالحين وعموم المؤمنين، وهو المراد بما قال الطيبي رحمه الله: معنى حتى لا يُقالَ [الله، الله]: حتى لا يُذكَرَ اسمُ الله ولا يُعبَد) [“مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” لملا علي القاري ج5/ص226].
ثم إن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي رَغَّبَتْ في الذكر جاءت عامة ومطلقة لم تخصص ذكراً معيناً، ولم يرد نص شرعي يُحَرِّمُ الذكرَ بالاسم المفرد [الله].
ومن هنا يظهر خطأ بعض المتسرعين بالاعتراض على الذكر بالاسم المفرد بحجة أنه لم يَرِدْ به نص في الكتاب والسنة، مع أن النصوص المذكورة آنفاً ظاهرة جلية كما بينا.
واعترض بعضهم أيضاً على الذكر بالاسم المفرد بحجة أنه لا يؤلف جملة تامة مفيدة كما في قولنا: الله جليل
والجواب على ذلك: أن الذاكر بهذا الاسم المفرد لا يكلم مخلوقاً فلا يُشترط أن يكون كلامه تاماً مفيداً؛ لأنه يذكر الله سبحانه الذي هو عالم بنفسه مطلع على قلبه. ولقد نص جمهور العلماء على جواز الذكر بالاسم المفرد [الله]، وإليك بعض أقوالهم:
يقول العلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة عند شرح البسملة وبحثه عن لفظة [الله]: (روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة أنه [أي الله] اسم الله الأعظم، وبه قال الطحاوي، وكثير من العلماء وأكثر العارفين حتى إنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق الذكر به، كما في “شرح التحرير” لابن أمير حاج) [حاشية ابن عابدين ج1/ص5].
وقال العلامة الخادمي: (واعلم أن اسم الجلالة [الله] هو الاسم الأعظم عند أبي حنيفة والكسائي والشعبي وإسماعيل بن إسحق وأبي حفص وسائر جمهور العلماء، وهو اعتقاد جماهير مشايخ الصوفية ومحققي العارفين، فإنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق مقام الذكر باسم [الله] مجرداً. قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلِ اللـهُ ثُمَّ ذرهُمْ} [الأنعام: 91]).
وقال العلامة المحدث المناوي شارحاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه” [أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه]: (فهو مع من يذكره بقلبه، ومع من يذكره بلسانه، لكن معيته مع الذكر القلبي أتم، وخص اللسان لإفهامه دخول الأعلى بالأوْلى، لكن محبته وذكره لما استولى على قلبه وروحه وصار معه وجليسه. ولزوم الذكر عند أهل الطريق من الأركان الموصلة إلى الله تعالى، وهو ثلاثة أقسام: ذكر العوام باللسان، وذكر الخواص بالقلب، وذكر خواص الخواص بفنائهم عن ذكرهم عند مشاهدتهم مذكورهم، حتى يكون الحق مشهوداً لهم في كل حال.
قالوا: وليس للمسافر إلى الله في سلوكه أنفع من الذكر المفرد القاطع من الأفئدة الأغيارَ، وهو [الله] وقد ورد في حقيقة الذكر وتجلياته ما لا يفهمه إلا أهل الذوق) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج2/ص309].
وقال الإمام الجنيد رحمه الله: (ذاكر هذا الاسم [الله] ذاهب عن نفسه، متصل بربه، قائم بأداء حقه، ناظرٌ إليه بقلبه، قد أحرقت أنوار الشهود صفات بشريته) [“نور التحقيق” ص174].
وقال سيدي أبو العباس المرسي رحمه الله: (ليكن ذكرك [الله، الله]، فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، فبساطه العلم، وثمرته النور، وليس النور مقصوداً لذاته؛ بل لِما يقع به من الكشف والعيان، فينبغي الإكثار من ذكره، واختياره على سائر الأذكار، لتضمنه جميع ما في [لا إله إلا الله] من العقائد والعلوم والآداب والحقائق... إلخ) [“نور التحقيق” ص 174].
وقال العارف بالله ابن عجيبة: (فالاسم المفرد[الله] هو سلطان الأسماء، وهو اسم الله الأعظم، ولا يزال المريد يذكره بلسانه ويهتز به حتى يمتزج بلحمه ودمه، وتسري أنواره في كلياته وجزئياته... إلى أن قال: فينتقل الذكر إلى القلب ثم إلى الروح ثم إلى السر، فحينئذ يخرس اللسان ويصل إلى الشهود والعيان) [“تجريد ابن عجيبة على شرح متن الأجرومية” ص15].
فتمسَّكْ أيها المريد الصادق بذكر الاسم المفرد [الله] إذا كنت مأذوناً به من مرشد كامل، فإنه أسرع في قلع عروق النفس من منابتها من السكين الحاد.
وأما ما يراه المريد في أول سيره أثناء ذكره لهذا الاسم من حرارة وضيق فلأن نفسه لا حَظَّ لها من هذا الذكر، حيث إن هذا الاسم يزيل عالم الخلق من القلب ويفرغه من الأكوان.
لذا نرى المربين الكمل يأمرون مريديهم بذكر [لا اللهه إلا الله] في بادىء أمرهم، فإذا تمكن النفي والإثبات من قلوبهم نقلوهم إلى ذكر الاسم المفرد، وأوصوهم بملازمته ومجاهدة النفس على تحمل مرارته.
فإن لم يصبروا على هذه المرارة في ابتداء أمرهم وأهملوا ذكر الاسم المفرد وقفوا في سيرهم وحُرِموا خيراً عظيماً بسبب فساد عزيمتهم وضعف إرادتهم.
أما إذا عزموا على ذكر هذا الاسم وصبروا واستقاموا عليه انطبع هذا الاسم في قلوبهم وارتحلت عنهم الغفلة حتى يكون الاسم سارياً في عروقهم ممزوجاً بأرواحهم، ويكون المذكور تجاههم لا يغفلون إذا غفل الناس، وعندها يتحققون بمقام الإحسان الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه...”.
التحذير من ترك الذكر
لقد حذر الله تعالى عباده من ترك ذكره في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما حذر العارفون بالله من المربين المرشدين مريديهم من ترك الذكر كذلك.
أما في كتاب الله الكريم:
فقد قال تعالى: {ومَنْ يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقَيّضْ له شيطاناً فهو له قرين . وإنَّهم لَيَصُدُّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} [الزخرف: 36 -37].
وقال تعالى: {واذكر ربَّك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغُدُوِّ والآصالِ ولا تكُنْ مِنَ الغافلين} [الأعراف: 205].
وقال في ذم المنافقين: {ولا يذكرونَ اللهَ إلا قليلاً} [النساء: 142].
وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منْ قوم يقومون من مجلس لا يذكرون فيه الله إلا قاموا عن مثلِ جيفة حمار، وكان عليهم حسرةً يوم القيامة” [أخرجه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. كما في “الترغيب والترهيب” ج2/ص410].
- وعن عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كان عليه من الله تِرةً، ومن اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة، وما مشى أحدٌ ممشى لا يذكر الله فيه إلا كان عليه من الله ترة” [رواه أبو داود في سننه، والإمام أحمد وابن أبي الدنيا والنسائي وابن حبان في صحيحه واللفظ لأبي داود. والترة: النقص والتبعة والحسرة والندامة].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يُصلُّوا على نبيهم، إلا كان عليهم تِرةً فإن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم” [رواه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث حسن، وأبو داود في سننه].
- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها” [أخرجه الطبراني ورواه البيهقي بأسانيد أحدها جيد].
وأما ما ورد من أقوال العارفين:
فقد قال سهل: (ما أعلم معصية أقبح من ترك ذكر هذا الرب).
وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (من علامة النفاق ثقل الذكر على اللسان، فتب إلى الله تعالى يخفُّ الذكر على لسانك) [“روضة الناظرين” ص44].
كأنه اقتبس ذلك من وصف الله تعالى للمنافقين: {إنَّ المنافقين يُخادعون اللهَ وهو خادعُهُم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى يُراؤونَ الناسَ ولا يذكرونَ اللهَ إلا قليلاً} [النساء: 142].
وقيل: (لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن الذكر).
فعلى العاقل أن ينتبه من غفلته، وأن يسعى جاداً في إيقاظ قلبه بذكر ربه، متصفاً بصفة المؤمنين الذاكرين الله كثيراً، بعيداً عن صفة المنافقين الذي لا يذكرون الله إلا قليلاً.
الحركة في الذكر
الحركة في الذكر أمر مستحسن، لأنها تنشط الجسم لعبادة الذكر وهي جائزة شرعاً بدليل ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده والحافظ المقدسي برجال الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون بكلام لهم: محمد عبد صالح، فقال صلى الله عليه وسلم: “ماذا يقولون؟” فقيل: إنهم يقولون: محمد عبد صالح، فلما رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم، وأقرهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، فلما أقرهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبين أن هذا جائز.
وفي الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاهتزاز بالذكر لا يُسمى رقصاً محرماً، بل هو جائز لأنه ينشط الجسم للذكر، ويساعد على حضور القلب مع الله تعالى؛ إذا صحت النية. فالأمور بمقاصدها، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى.
ولنستمع إلى الإمام علي رضي الله عنه كيف يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو أراكة: (صلّيتُ مع علي صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأنَّ عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً، بين أيديهم كأمثال رُكَب المَعْزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا [أي تحركوا] كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تَنْبَلَّ - والله - ثيابُهم) [“البداية والنهاية في التاريخ” للإمام الحافظ المفسر المؤرخ إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى 774هـ. ج8/ص6. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في “الحلية” ج1/ص76].
ويهمنا من عبارة الإمام علي رضي الله عنه قوله: (مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح)، فإنك تجده صريحاً في الاهتزاز، ويُبطل قولَ من يدَّعي أنه بدعة محرمة، ويثبت إباحة الحركة في الذكر مطلقاً. وقد استدل الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله بهذا الحديث في إحدى رسائله على ندب الاهتزاز بالذكر، وقال: هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة شديدة في الذكر. على أن الرجل غير مؤاخذ حين يتحرك ويقوم ويقعد على أي نوع كان حيث إنه لم يأت بمعصية ولم يقصدها كما ذكرنا.
إلاَّ أن هناك جماعة من الدخلاء على الصوفية - نسبوا أنفسهم إليهم وهم منهم براء - شوَّهوا جمال حلقات الأذكار بما أدخلوا عليها من بدع ضالة، وأفعال منكرة، تحرمها الشريعة الغراء؛ كاستعمال آلات الطرب المحظورة، والاجتماع المقصود بالأحداث، والغناء الفاحش، فلم يَعُدْ وسيلةً عملية لتطهير القلب من أدرانه، وصلته بالله تعالى، بل صار لتسلية النفوس الغافلة، وتحقيق الأغراض الدنيئة.
ومما يُؤسَف له أن بعض أدعياء العلم قد تهجموا على حِلَقِ الذكر ولم يميزوا بين هؤلاء الدخلاء المنحرفين وبين الذاكرين السالكين المخلصين الذي يزيدهم ذكر الله رسوخاً في الإيمان، واستقامة في المعاملة، وسُموَّاً في الخلق واطمئناناً في القلب.
وهناك علماء منصفون قد ميَّزوا بين الصوفية الصادقين السائرين على قدم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبين الدخلاء المارقين، وأوضحوا حكم الله في الذكر، وعلى رأسهم العلاَّمة ابن عابدين في رسالته “شفاء العليل”، فقد ندد بالدخلاء على الصوفية، واستعرض بدعهم ومنكراتهم في الذكر وحذر منهم، ومن الاجتماع بهم، ثم قال: (ولا كلام لنا مع الصُّدَّق من ساداتنا الصوفية المبرئين من كل خصلة ردية ، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن أقواماً يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقتَ مذاقهم عذرتهم... ثم قال: (وبمثل ما ذكره الإمام الجنيد أجاب العلاَّمة النحرير ابن كمال باشا لمَّا استفتي عن ذلك حيث قال:
ما في التواجد إن حققتَ من حرج ولا التمايل إن أخلصتَ من باس
فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وَحُقَّ لمن دعاه مولاه أن يسعى على الراس
الرخصة فيما ذكر من الأوضاع، عند الذكر والسماع للعارفين الصارفين أوقاتهم إلى أحسن الأعمال، السالكين المالكين لضبط أنفسهم عن قبائح الأحوال، فهم لا يستمعون إلا من الإله، ولا يشتاقون إلا له، إن ذكروه ناحوا، وإن شكروه باحوا، وإن وجدوه صاحوا، وإن شهدوه استراحوا، وإن سرحوا في حضرات قربه ساحوا، إذا غلب عليهم الوجد بغلباته، وشربوا من موارد إرادته، فمنهم من طرقته طوارق الهيبة فَخَرَّ وذاب، ومنهم من برقت له بوارق اللطف فتحرك وطاب، ومنهم من طلع عليهم الحِبُّ من مطلع القرب فسكر وغاب، هذا ما عنَّ لي في الجواب، والله أعلم بالصواب). ثم قال أيضاً: (ولا كلام لنا مع من اقتدى بهم، وذاق من مشربهم، ووجد من نفسه الشوق والهيام في ذات الملك العلام، بل كلامنا مع هؤلاء العوام الفسقة اللئام...)[ مجموعة رسائل ابن عابدين - الرسالة السابعة - شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل للفقيه الكبير ابن عابدين ص172 - 173].
من هذا نرى أن ابن عابدين رحمه الله تعالى يبيح التواجد والحركة في الذكر، وأن الفتوى عنده الجواز، وأن النصوص المانعة التي ساقها في حاشيته المشهورة في الجزء الثالث تُحمل على ما إذا كانت في حِلَق الذكر منكرات: من آلات اللهو والغناء، والضرب بالقضيب، والاجتماع مع المرد الحسان، وإنزال المعاني على أوصافهم، والتغزل بهم، وما إلى ذلك من المخالفات.
ولم يتمسك المانعون المستندون إلى كلام ابن عابدين برأيهم؛ إلا لعدم إطلاعهم على كلامه في مجموعة الرسائل حيث فَرَّق - كما مرَّ - بين الدخلاء والصادقين، وأباح فيها التواجد للعارفين الواصلين، والمقتدين بهم من المقلدين، فراجع المصدرين يَبِنْ لك الحق.
ولا شك أن التواجد هو تكلف الوجد وإظهاره من غير أن يكون له وجد حقيقة، ولا حرج فيه إذا صحت النية كما قال العلامة ابن عابدين في حاشيته:
ما في التواجد إن حققت مِنْ حرج ولا التَّمايلِ إن أخلصت من باس
فإذا كان التواجد جائزاً شرعاً ولا حرج فيه كما نص عليه الفقهاء، فالوجد من باب أْولى. وما وَجْدُ الصوفية وتواجدهم إلا قبس مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هو مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة العلامة الكبير أحمد زيني دحلان رحمه الله يورد في كتابه المشهور في السيرة النبوية مشهداً من إحدى حالاتهم، ويعلق عليه فيقول: (وبعد فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين وهم ستة عشر رجلاً فتلقى النبي صلى الله عليه وسلم جعفر وقبَّل جبهته وعانقه وقام له - وقد قام لصفوان بن أُمية لما قدم عليه، ولعدي بن حاتم رضي الله عنهما - ثم قال صلى الله عليه وسلم: “ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟” وقال صلى الله عليه وسلم لجعفر: “أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي”، فرقص رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب، فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم رقصه، وجُعل ذلك أصلاً لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع) [“السيرة النبوية والآثار المحمدية” لزيني دحلان، على هامش السيرة الحلبية ج2/ص252. والحديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح].
وقال العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: {الذينَ يذكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهم} [آل عمران: 191]: (وعليه فيُحمل ما حُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أمَا قال الله تعالى: {يذكرون الله قياماً وقعوداً}؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أنّ مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها) [“روح المعاني” للعلامة محمود الألوسي ج4/ص140].
ولسيدي أبي مدين رضي الله عنه:
وقل للذي ينهَى عن الوجد أهلَه إذا لم تذق معنى شرابِ الهوى دعنا
إذا اهتزت الأرواحُ شوقاً إلى اللِّقا نعمْ ترقص الأشباح يا جاهلَ المعنى
أمَا تنظرُ الطيرَ المقفَّص يا فتى إذا ذكر الأوطان حنَّ إلى المغنى
يفرِّجُ بالتغريد ما بفؤاده فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى تهزْهزُها الأشواق للعالم الأسنى
أنُلزِمها بالصبر وهي مَشوقةٌ وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى
فيا حاديَ العشاق قم واشدُ قائماً وزَمْزم لنا باسم الحبيب وروِّحْنا
والخلاصة:
يُفهم مما سبق أن الحركة في الذكر مباحة شرعاً، هذا بالإضافة إلى أن الأمر بالذكر مطلق يشمل جميع الأحوال؛ فمن ذكر الله تعالى قاعداً أو قائماً، جالساً أو ماشياً، متحركاً أو ساكناً... فقد قام بالمطلوب ونفَّذَ الأمر الإلهي. فالذي يدَّعي تحريم الحركة في الذكر أو كراهتها هو المطالَب بالدليل، لأنه يخصص بعض الحالات المطلقة دون بعض بحكم خاص.
وعلى كلّ؛ فإن غاية المسلم في دخوله حلقات الأذكار قيامه بعبادة الذكر، وإن الحركة في ذلك ليست شرطاً، ولكنها وسيلة للنشاط في تلك العبادة وَتَشبُّهٌ بأهل الوجد إن صحت النية.
فتَشَبَّهوا إنْ لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبهَ بالكرام فلاحُ
الإنشاد والسماع في المسجد
- عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من الشعر حكمة” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب. ومسلم في كتاب الجهاد].
- وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل اللَّبن مع القوم في بناء المسجد وهم يرتجزون [قال ابن الأثير في “النهاية”: الرجز بحر من بحور الشعر معروف، ونوع من أنواعه يكون كل مصراع منه مفرداً، وتسمى قصائده أراجيز، فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر. ج2/ص70] ويقولون:
اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة
[رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب. ومسلم في كتاب الجهاد].
- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: “خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هُنَيْهاتِك؟ وكان عامر رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفرْ فداءٌ لك ما اقتضينا وثبِّتِ الأقدام إن لاقينا
وألْقيَنْ سكينةً علينا إنا إذا صِيحَ بنا أتينا
وبالصياح عَوَّلوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ هذا السائق؟” قالوا: عامر بن الأكوع، قال: “يرحمه الله”، فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لولا أمتَعْتنا به، فأصيبَ...” الحديث [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب. ومسلم في كتاب الجهاد].
- وعن سعيد بن المسيب قال: (مرَّ عمرُ في المسجد وحسان يُنشد، فلحِظَه عمر [أي نظر إليه نظرة إنكار]، فقال: كنت أُنشد وفيه من هو خير منك [يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم]، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال:
(أُنشِدُك بالله أسمعتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أجب عني، اللهم أيده بروح القدُس؟” قال: نعم) [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة. وأول الحديث “يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس”. ورواه مسلم في صحيحه في باب فضائل حسان بن ثابت].
- عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
“إن الله يؤيد حسانَ برُوح القدُس ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة وأول الحديث: “إن روح القدس...”].
يقول العلامة السفاريني شارح “منظومة الآداب”: (وفي رواية أبي بكر بن الأنباري، أن كعب بن زهير لما جاء تائباً وقال قصيدته المشهورة:
بانت سعادُ فقلبي اليومَ متْبولُ مُتَيَّمٌ إثرَها لم يُفْدَ مكبولُ
إلى أن وصل:
إن الرسول لسيفٌ يُستضاء به مُهنَّدٌ من سيوف الهند مسلولُ
رمى صلى الله عليه وسلم إليه بردة كانت عليه، وأن معاوية بذل فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفاً فأخذها منهم... إلى أن قال: تحصَّل من إنشاد قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعطائه صلى الله عليه وسلم البردة عدةُ سننٍ:
1 - إباحة إنشاد الشعر.
2 - استماعه في المساجد.
3 - الإعطاء عليه) [“غذاء الألباب” ص155].
ذكر الإمام الشاطبي في كتابه “الاعتصام”: (أن أبا الحسن القرافي الصوفي يروي عن الحسن البصري رحمه الله: أن قوماً أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماماً إذا فرغ من صلاته تغنَّى، فقال عمر رضي الله عنه: مَنْ هو؟ فذُكر الرجل، فقال: قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره، قال: فقام عمر رضي الله عنه مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا الرجل وهو في المسجد، فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال: يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأْتيك، وإن كانت الحاجة لله فأحق مَنْ عظمناه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: ويحك بلغني عنك أمر ساءني. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أَتَتَمجَّن في عبادتك؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسي. قال عمر: قلْها فإن كان كلاماً حسناً قلتُه معك، وإن كان قبيحاً نهيتُك عنه فقال:
وفؤادي كلما عاتبْتُه في مدى الهجران يبغي تعبي
لا أُراه الدهرَ إلا لاهياً في تماديه فقد برَّحَ بي
يا قرينَ السوء ما هذا الصِّبّا فَنِيَ العمرُ كذا في اللعب
وشباب بَانَ عني فمضى قبل أن أقضي منه أربي
ما أُرَجِّي بعده إلا الفَنا ضيَّقَ الشيبُ عليَّ مطلبي
ويْحَ نفسي لا أراها أبداً في جميلٍ لا ولا في أدب
نفسُ لا كنتِ ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي
فقال عمر رضي الله عنه:
نفسُ لا كنتِ ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي
ثم قال عمر رضي الله عنه: على هذا فليغنِّ مَنْ غنَّى) [“الاعتصام” للإمام الشاطبي ج1/ص220].
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (الشعر كلام؛ فحَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحه قبيح) [قال المحدث ابن حجر العسقلاني: (أخرج البخاري في “الأدب المفرد” من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً بلفظ: “الشعر بمنزلة الكلام فحَسَنُه كحَسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام” وسنده ضعيف وأخرجه الطبراني. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي رحمه الله، واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي. “فتح الباري في شرح صحيح البخاري” للمحدث ابن حجر العسقلاني ج10/ص443].
وقال العلامة النووي: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحاً للنبوة أو الإسلام، أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد ونحو ذلك من أنواع الخير) [“شرح صحيح مسلم” للإمام النووي كتاب فضائل الصحابة ج16/ص45].
وقال أبو بكر ابن العربي المالكي شارح سنن الترمذي: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع) [“تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي” ج2/ص276].
وأما الحداء فقد قال حجة الإسلام الغزالي في “الإحياء”: (لم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان الصحابة رضي الله عنهم، وما هو إلا أشعار تُؤَدّى بأصوات طيبة وألحان موزونة، ولم يُنْقَل عن أحد من الصحابة إنكاره) [“إحياء علوم الدين” لحجة الإسلام الغزالي ج2/ص242].
- وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “رويدَك يا أنجشة سَوْقك بالقوارير” قال أبو قلابة: يعني ضَعَفَة النساء) [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة].
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم حادٍ يقال له أنجشة، وكان حسن الصوت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أنجشُ رويدك لا تكسر القوارير”. قال قتادة: يعني ضَعَفَة النساء) [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب].
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: (قال ابن بطال: القوارير: كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تُساق حينئذ، فأمر عليه السلام الحادي بالرفق بالحداء، لأنه يحث الإبل حتى تسرع، فإذا أسرعت لم يُؤْمَن على النساء السقوطُ، وإذا مشت رويداً أمن على النساء السقوط... إلى أن قال: نقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة خلاف فيه، ومن منعه محجوج بالأحاديث الصحيحة.
ويلتحق بالحداء هنا الحداء للحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرِّض أهل الجهاد على القتال.
وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاءً عن الحداء والشعر والغناء، فقال: لا بأس به، ما لم يكن فحشاً.
وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكراً لله تعالى، وتعظيماً له، ووحدانيتَه، وإيثارَ طاعته، والاستسلامَ له فهو حسن مرغَّب فيه، وهو المراد من الحديث: “إنَّ من الشعر حكمة”. وما كان كذباً وفحشاً فهو مذموم... إلى أن قال: ومحصله: أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يُفعل في الحضرة النبوية، وربما التُمِس ذلك، وليس هو إلا أشعاراً توزن بأصوات طيبة، وألحان موزونة) [“فتح الباري شرح صحيح البخاري” للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني ج10/ص442. توفي سنة 852هـ].
وقال العلامة السفاريني في “منظومة الآداب”: (قال في الإقناع وغيره: ويباح الحداء الذي تساق به الإبل ونشيد الأعراب).
وقال السفاريني أيضاً: (المذهب الإباحة من غير كراهة لما تضافرت به الأخبار، وتظاهرت به الآثار من إنشاد الأشعار، والحداء في الأسفار، وقد ذكر بعض العلماء الإجماع على إباحة الحداء)[ “غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” للعلامة السفاريني ج1/ص145].
قال الفقيه خليل النحلاوي الدمشقي في كتابه “الحظر والإباحة”: الباب السبعون: الغناء وهو السماع. قال في “الفتاوي الخيرية” (ج2/ص167) - بعد نقل أقوال العلماء واختلافهم في مسألة السماع ـ: (وأما سماع السادة الصوفية رضي الله عنهم، فبمعزل عن هذا الخلاف، بل ومرتفع عن درجة الإباحة إلى رتبة المستحب كما صرح به غير واحد من المحققين) [“الدرر المباحة في الحظر والإباحة” للفقية الشيخ خليل بن عبد القادر الشيباني الشهير بالنحلاوي ص93].
ولما كانت الغاية من الإنشاد الإرشاد والمواعظ والفوائد، حيث إن من طبيعة سماعه إثارة كوامن النفوس، وتهييج مكنونات القلوب، بما فيها من الأنس بالحضرة القدسية، والشوق إلى الأنوار المحمدية، مما اتصف به ساداتنا الصوفية الذين لم يُحْجَبُوا بالأصوات لهواً، ولا يجتمعون عبثاً، وهم في وادٍ والناس في وادٍ آخر، والسر أنهم سمعوا ما لم يسمع الناس، وعرفوا ما لم يعرف الناس، فسماعهم يثير أحوالهم الحسنة، ويظهر وَجْدَهم، ويبعث ساكن الشوق ويحرك القلب، ولما كانت قلوبهم بربهم متعلقة، وعليه عاكفة، وفي حضرة قربه قائمة؛ فالسماع يسقي أرواحهم، ويسرع في سيرهم إلى الله تعالى، خلافاً لسماع الفسقة اللئام؛ يجتمعون على اللهو وآلات الطرب، فيبعث ما في قلوبهم من الفحش والفسق، وينسيهم واجباتهم تجاه الله تعالى، وعلى ذلك لا يمكن قياس الأبرار بالفجار، ولا الصالحين على الطالحين.
وفي معرض الحديث عن فوائد الاستماع لدى ساداتنا الصوفية يطيب للنفس ذِكرُ بعض الشواهد المروية عنهم، فمنها:
ما قاله مسلم العباداني: (قدم علينا صالح المُري، وعتبة الغلام، وعبد الواحد بن زيد، ومسلم الأسواري، ونزلوا على الساحل ذات ليلة، فهيأت لهم طعاماً، ودعوتهم إليه، فجاؤوا إليَّ، ولما وضعت الطعام بين أيديهم قال قائل:
وتُلهيك عن دارِ الخلود مَطاعمٌ ولَذةُ نفسٍ غيُّها غيرُ نافع
فصاح عتبة الغلام صيحةً وخر مغشياً عليه، وبكى القوم، فرفعت الطعام من بين أيديهم، وما ذاقوا والله لقمة منه) [“الإحياء” ج2/ص152].
قال أبو عثمان النيسابوري: (أنشدَ قَوَّالٌ بين يدي الحارث المحاسبي هذه الأبيات:
أنا في الغربةِ أبكي ما بكتْ عينُ غريبِ
لم أكن يوم خروجي من بلادي بمصيبِ
عجباً لي ولتركي وطناً فيه حبيبي
فقام يتواجد ويبكي، حتى رحمه كل من حضره) [“طبقات الصوفية” لأبي عبد الرحمن السلمي المتوفى 412هـ بتحقيق نور الدين شريبة ص60].
(لمَّا ورد ذو النون المصري بغداد جاءه قوم من الصوفية بقوَّالهم، وطلبوا منه أن يأذن له بأن يقول، فأذن له فأنشد:
صغيرُ هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعتَ في قلبي هوىً قد كان مشتركا
أما ترثي لمكتئبٍ إذا ضحك الخليُّ بكى
فقام ذو النون وسقط على وجهه) [“الإحياء” ج2/ص250].
وروي: (أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة، فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت. ثم رفع رأسه وأنشدهم:
رُبَّ ورقاءَ هتوفٍ في الضحى ذاتِ شجوٍ صدحتْ في فَنَنِ
ذَكرتْ إلفاً ودهراً صالحاً وبكتْ حُزْناً فهاجتْ حَزني
فبكائي ربما أرَّقها وبُكاها ربما أرَّقني
ولقد أشكو فما أُفهمها ولقد تشكو فما تُفهمني
غير أني بالجَوى أعرفها وهي أيضاً بالجوى تعرفني
قال: فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه، وإن كان العلم جِداً وحقاً) [الإحياء. ج2/ص263].
قال السفاريني في “غذاء الألباب”: (والسماع مهيجٌ لما في القلوب، محرك لما فيها، فلما كانت قلوب القوم معمورة بذكر الله تعالى، صافية من كدر الشهوات، محترقة بحب الله، ليس فيها سواه، الشوق والوجد والهيجان والقلق كامن في قلوبهم كمون النار في الزناد، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها؛ فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم فيستثيره بصدمة طُروقهِ، وقوةِ سلطانه، فتعجز القلوب عن الثبوت عند اصطدامه، فتبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصعقات لثوران ما في القلوب، لا أن السماع يحدث في القلوب شيئاً.
ولهذا قال أبو القاسم الجنيد قدس الله سره: (السماع لا يُحدِث في القلوب شيئاً، وإنما هو مهيجُ ما فيها. فتراهم يهيجون من وجدهم، وينطقون من حيث قصدُهم، ويتواجدون من حيث كامناتُ سرائرهم، لا من حيث قول الشاعر، ولا يلتفتون إلى الألفاظ لأن الفهم سبق إلى ما يتخيله الذهن.
وشاهدُ ذلك كما حكي: أن أبا حكمان الصوفي سمع رجلاً يطوف وينادي: [يا سعتر بري] فسقط وغشي عليه، فلما أفاق قيل له في ذلك، فقال سمعته وهو يقول: [اسعَ ترَ بري]. ألا ترى أن حركة وجْده من حيث هو فيه، لا من قول القائل ولا قصده؟.
كما روي عن بعض الشيوخ أنه سمع قائلاً يقول: [الخيار عشرة بحبة]. فغلبه الوجد، فسئل عن ذلك فقال: [إذا كان الخيار عشرة بحبة، فما قيمة الأشرار؟!].
فالمحترق بحب الله تعالى لا تمنعه الألفاظ الكثيفة عن فهم المعاني اللطيفة حيث لم يكن واقفاً مع نغمة، ولا مشاهدة صورة، فمن ظن أن السماع يرجع إلى رقة المعنى. وطيب النغمة، فهو بعيد من السماع.
قالوا: وإنما السماع حقيقة ربانية ولطيفة روحانية، تسري من السميع المُسمِع إلى الأسرار بلطائف التحف والأنوار، فتمحق من القلب ما لم يكن، ويبقى فيه ما لم يزل، فهو سماع حق بحق من حق
قالوا: وأما الحال الذي يلحق المتواجد فمِنْ ضعفِ حاله عن تحمل الوارد، وذلك لازدحام أنوار اللطائف في دخول باب القلب، فيلحقه دهش، فيعبث بجوارحه، ويستريح إلى الصعقة والصرخة والشهقة، وأكثر ما يكون ذلك لأهل البدايات. وأما أهل النهايات فالغالب عليهم السكون والثبوت لانشراح صدورهم، واتساع سرائرهم للوارد عليهم، فهم في سكونهم متحركون، وفي ثبوتهم متقلقلون، كما قيل لأبي القاسم الجنيد رضي الله عنه: ما لنا لا نراك تتحرك عند السماع؟! فقال: {وتَرى الجبالَ تحسَبُها جامدةً وهيَ تمرُّ مرَّ السَّحابِ} [النمل:88] [“غذاء الألباب” 1/137].
فوائد الذكر إجمالاً
1 - عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من قوم يذكرون الله، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده” [أخرجه مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعاء وقال: حسن صحيح].
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله قراءة القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين” [أخرجه الترمذي وحسنه، والدارمي والبيهقي. كما مرَّ في ص121].
3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الرب يوم القيامة سيَعلَم أهلُ الجمع اليوم مَنْ أهل الكرم. فقيل: ومن أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: أهل مجالس الذكر في المساجد” [رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والبيهقي وابن حبان في صحيحه. كما مرَّ في ص120].
4 - وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حَلْقةٍ من أصحابه فقال: “ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده، فقال: أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة” [أخرجه مسلم من حديث طويل في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعاء].
5 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفوراً لكم قد بُدلت سيئاتكم حسنات” [أخرجه أحمد وغيره. ومرَّ عزوه في ص121].
6 - وعن ثابت قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا، فقال: “ما كنتم تقولون؟ قلنا: نذكر الله. قال: إني رأيت الرحمة تنزل، فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال: الحمد لله الذي جعل في أُمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم” [أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصححه].
قال ابن قيم الجوزية في فوائد الذكر: (وفي الذكر أكثر من مائة فائدة:
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يرضي الرحمن عز وجل.
الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
الخامسة: أنه ينور الوجه والقلب.
السادسة: أنه يقوي القلب والبدن.
السابعة: أنه يجلب الرزق.
الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنُضْرة.
التاسعة: أنه يورث المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمن أراد أن ينال محبة الله تعالى فليلهج بذكره، فالذكر باب المحبة، وشعارها الأعظم، وصراطها الأقوم.
العاشرة: أنه يورث المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
الحادية عشرة: أنه يورث الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فَمَنْ أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله فيبقي الله عز وجل مَفزعه وملجأه ومَلاذه ومعاذه، وقِبلة قلبه، ومَهْرَبَه عند النوازل والبلايا.
الثانية عشرة: أنه يورث القرب منه، فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بُعده.
الثالثة عشرة: أنه يفتح له باباً عظيماً من أبواب المعرفة، وكلما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة.
الرابعة عشرة: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله، لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
الخامسة عشرة: أنه يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال تعالى: {فاذكُرُونِي أذكُرْكُم} [البقرة: 152]. ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : “من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم” [من حديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومرَّ في ص120 و125].
السادسة عشرة: أنه يورثه حياة القلب. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟.
السابعة عشرة: أنه يورث جلاء القلب من صدأه، وكل شيء له صدأ؛ وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار.
الثامنة عشرة: أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
التاسعة عشرة: أنه يزيل الوحشة بين العبد وربه تبارك وتعالى، فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر.
العشرون: أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء، عرفه في الشدة، وقد جاء أثرٌ معناه: إن العبد المطيع الذاكر لله تعالى، إذا أصابته شدة، أو سأل الله حاجة، قالت الملائكة: يا رب، صوتٌ معروفٌ من عبدٍ معروفٍ. والغافل المعرض عن الله تعالى إذا دعاه وسأله قالت الملائكة: يارب، صوتٌ منكَرٌ من عبدٍ منكَرٍ.
الحادية والعشرون: أنه مُنْجٍ من عذاب الله تعالى، كما قال معاذ رضي الله عنه ويروى مرفوعاً: “ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله تعالى” [رواه الترمذي في كتاب الدعاء ومرَّ في ص120].
الثانية والعشرون: أنه سبب تنزُّلِ السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم [انظر صفحة 173 الحديث الأول].
الثالثة والعشرون: أنه سبب انشغال اللسان عن الغيبة والنميمة، والكذب والفحش والباطل، فإن العبد لا بد له من أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذِكرِ أوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها، ولا سبيل إلى السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى. والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمن عوَّد لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الرابعة والعشرون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
الخامسة والعشرون: أنه يُسعِد الذاكر بذكره، ويُسعد به جليسه وهذا هو المبارك أينما كان. والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته، ويشقى به مُجالسه.
السادسة والعشرون: أنه يؤمِّن العبد من الحسرة يوم القيامة، فإنَّ كل مجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وتِرَةً يوم القيامة [انظر صفحة 155 الحديث الأول والثاني].
السابعة والعشرون: أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه [انظر صفحة 138 حديث: سبعة يظلهم الله...].
الثامنة والعشرون: أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين، ففي الحديث عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال سبحانه وتعالى: من شغله قراءة القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين” [انظر صفحة 121 الحديث العاشر].
التاسعة والعشرون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجلِّها وأفضلها، فإن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من أعضاء الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك.
الثلاثون: أنه غِراس الجنة، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقيت ليلة أُسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: يا محمد، أقرىء أُمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها
قيعان، وأن غِراسها؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر”. قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن مسعود كما في كتاب الدعوات.
الحادية والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قال لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه” [انظر صفحة 148 الحاشية]. ومن قال: “سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر”.
الثانية والثلاثون: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها. قال تعالى: {ولا تكونوا كالذينَ نًسُوا اللهَ فأنساهُم أنفُسَهُم أولئِكَ هُمُ الفاسقونَ} [الحشر: 19].
الثالثة والثلاثون: أن الذكر يسيِّر العبد وهو في فراشه وفي سوقه وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وليس شيءٌ يعم الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يسيِّر العبدَ وهو نائم على فراشه، فيسبق القائمَ مع الغفلة، فيصبح هذا وقد قطع الركبَ، وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك القائم الغافل في ساقة الركب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وحكي عن رجل من العُباد أنه نزل برجل ضيفاً، فقام العابد ليله يصلي، وذلك الرجل مستلق على فراشه، فلما أصبحا، قال له العابد: سبقك الركب. فقال: ليس الشأن فيمن بات مسافراً وأصبح مع الركب، الشأن فيمن بات على فراشه وأصبح قد قطع الركب. وهذا ونحوه له محل صحيح ومحل فاسد، فمن حكم على أن الراقد المضطجع على فراشه يسبق القائم القانت، فهو باطل، وإنما محله أن هذا المستلقي على فراشه علق قلبه بربه عز وجل، وألصق حبة قلبه بالعرش، وبات قلبه يطوف حول العرش مع الملائكة، قد غاب عن الدنيا وما فيها، وقد عاقه عن قيام الليل عائق من وجع أو برد يمنعه عن القيام، أو خوف على نفسه من رؤية عدو يطلبه، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مستلق على فراشه؛ وفي قلبه ما الله تعالى به عليم. وآخر قائم يصلي ويتلو، وفي قلبه من الرياء والعجب وطلب الجاه والمحمدة عند الناس ما الله به عليم، أو قلبه في وادٍ وجسمه في واد، فلا ريب أن ذلك الراقد يصبح وقد سبق هذا القائم بمراحل كثيرة.
الرابعة والثلاثون: أن الذكر رأس الأصول، وطريق عامة الطائفة الصوفية ومنشور الولاية، فمن فُتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل، فليتطهر وليدخل على ربه يجدْ عنده كل ما يريد، فإن وجد ربه عز وجل وجد كل شيء، وإن فاته ربه عز وجل فاته كل شيء.
الخامسة والثلاثون: أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام وقاعدته التي يُبنى ذلك المقام عليها، كما تبنى الحائط على أسسها، وكما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم، فالغفلة نوم القلب أو موته.
السادسة والثلاثون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة، غير معية العلم والإحاطة العامة، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة، والنُصرة والتوفيق، كقوله تعالى: {إنَّ اللهَ مع الذينَ اتَّقَوا والذينَ هُم مُحسِنُونَ} [النحل: 128]، {واللهُ معَ الصابرينَ} [العنكبوت: 69]، {وإنَّ اللهَ لَمَعَ المحسِنينَ} [الأنفال: 66]، {لا تحزَنْ إنَّ اللهَ معنا} [التوبة: 40]. وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر كما في الحديث الإلهي: “أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه” [رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه. كما في “فيض القدير” ج1/ص309]، وفي أثر آخر: “أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقنِّطُهم من رحمتي، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، فإني أُحب التوابين وأُحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب” [أخرجه الإمام أحمد في مسنده]. والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء، وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي، وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة وإنما تُعلَمُ بالذوق.
السابعة والثلاثون: أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين مَنْ لا يزال لسانه رطباً بذكره، فإنه اتقاه في أمره ونهيه، وجعل ذكره شعاره، فالتقوى أوجبت له دخول الجنة، والنجاة من النار، وهذا هو الثواب والأجر، والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه، وهذه هي المنزلة.
الثامنة والثلاثون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى.
وذكر حماد بن زيد: أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي. قال: أَذِبْه بالذكر. وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله تعالى.
التاسعة والثلاثون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه، فالقلوب مريضة ودواؤها وشفاؤها ذكر الله تعالى، قال مكحول: (ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء) [رواه البيهقي عن مكحول مرسلاً بلفظ: (إن ذكر الله). كما في “كشف الخفا” للعجلوني ج1/ص419]. وقيل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركُم ونترك الذكر أحياناً فننتكسُ
الأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه. قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبد ربه بشيءٍ أشد عليه من أن يكره ذكره أو مَنْ يذكره. فهذه المعاداة سببها الغفلة، ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله، ويكره من يذكره، فحينئذ يتخذه الله عدواً كما اتخذ الذاكرَ وليَّاً.
الحادية والأربعون: أن مُدْمنَ الذكر يدخل الجنة وهو يضحك، لِما ذُكر عن أبي الدرداء قال: (الذين لا تزال ألسنتهم رطبة بذكر الله عز وجل، يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك).
الثانية والأربعون: أن الذكر سَدٍّ بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال، كان الذكر سداً في تلك الطريق، فإذا كان ذكراً دائماً كاملاً كان سداً محكماً لا ينفذ فيه، وإلا فبحَسَبِه.
الثالثة والأربعون: أن جميع الأعمال إنما شُرعت إقامةً لذكر الله تعالى فالمقصود بها تحصيل ذكر الله تعالى، قال تعالى: {وأَقِمِ الصلاةَ لِذكْرِي} [طه: 14] [“الوابل الصيب من الكلم الطيب” لابن قيم الجوزية]. وما يلفت النظر أن ابن عطاء الله السكندري ذكر هذه الفوائد نفسها في كتابه “مفتاح الفلاح” ص30. فنقلها عنه ابن القيم مع شيء من التنسيق والإضافات البسيطة دون أن يعزو ذلك إلى مصدره الأصلي “مفتاح الفلاح” لابن عطاء الله، والمعلوم أن ابن عطاء الله توفي سنة 709هـ. بينما كانت وفاة ابن القيم سنة 751هـ.
ومن أراد التوسع في معرفة فوائد الذكر فعليه أن يرجع إلى الكتب المطولة في الأذكار ككتاب “الأذكار” للإمام النووي رحمه الله، و”مفتاح الفلاح” لابن عطاء الله السكندري، و”عمل اليوم والليلة” لجلال الدين السيوطي وغيرها من كتب الأذكار.
والسادة الصوفية واظبوا على ذكر الله تعالى في جميع أحوالهم، حتى لمسوا فوائده الكثيرة فتحدثوا عنه عن خبرة يقينية، ونصحوا غيرهم بالإكثار من ذكر ربهم، من باب “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” [أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان عن أنس، والنسائي في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب صفة القيامة].
يقول الحسن البصري إمام التابعين: (أحبُّ عباد الله إلى الله أكثرهم ذِكراً وأتقاهم قلباً).
وقال ذو النون المصري: (ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته).
يقول أبو سعيد الخراز رحمه الله: (إن الله تعالى عجل بأرواح أوليائه التلذذ بذكره والوصول إلى قربه، وعجل بأبدانهم النعمة بما نالوه من مصالحهم وأجزل نصيبهم من كل كائن، فعيش أبدانهم عيش الجنانيين [أهل الجنة]. وعيش أرواحهم عيش الربانيين) [“حلية الأولياء” لأبي نعيم ج1/ص247].
والذكر على قسمين: ذكر العامة، وذكر الخاصة.
أما ذكر العامة: فهو ذكر الأجر والثواب: وهو أن يذكر العبدُ مولاه بما شاء من ذكر، مع بقائه في صفاته المذمومة كالرياء والكبر، والعجب والغرور، وغير ذلك.
وأما ذكر الخاصة: فهو ذكر الحضور، وهو أن يذكر العبد مولاه بأذكار معلومة على صفة مخصوصة، لينال بذلك المعرفة بالله سبحانه، بطهارة نفسه من كل خُلُق ذميم، وتحليتها بكل خلق كريم، طلباً للخروج من ظلمة الحس، وطمعاً في إدراك الأسرار الروحانية. والأوْلى له اتخاذ سبحة، يحصي بها ما أراد من الأعداد؛ فيسلم من تعب حصر مقدارها .
دليل السبحة
والسبحة جائزة في الإسلام، وليست مبتدعة، قال العلامة ابن علان في شرحه على الأذكار النواوية عند قوله صلى الله عليه وسلم: “وأن يعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤولات مستنطقات” بعد كلام: (ولهذا اتخذ أهل العبادة وغيرهم السبحة. وفي “شرح المشكاة” لابن حجر: ويستفاد من الأمر بالعقد المذكور في الحديث ندب اتخاذ السبحة، وزَعْمُ أنها بدعة غير صحيح، إلا أن يحمل على تلك الكيفيات التي اخترعها بعض السفهاء، مما يمحضها للزينة أو الرياء أو اللعب.
وقال ابن الجوزي: إن السبحة مستحبة، لما في حديث صفية أنها كانت تسبح بنوى أو حصى، وقد أقرها صلى الله عليه وسلم على فعلها، والسبحة في معناها؛ إذ لا يختلف الغرض عن كونها منظومة أو منثورة.
وقال ابن علان: وهذا أصل صحيح بتجويز السبحة بتقريره صلى الله عليه وسلم. ولا يُعتد بقول من عدها بدعة. وروي أنه رؤي مع الإمام الجنيد رحمه الله سبحة في يده حال انتهائه، فسئل عن ذلك، فقال: شيء وصلنا به إلى الله تعالى كيف نتركه؟ وقال ابن علان: وقد أفردتُ السبحة بجزء لطيف سميته “إيقاد المصابيح لمشروعية اتخاذ المسابيح” وأوردت فيه ما يتعلق بها من الأخبار والآثار، والاختلاف في تفاضل الاشتغال بها أو بعقد الأصابع في الأذكار.
وحاصل ذلك أن استعمالها في أعداد الأذكار الكثيرة التي يلهي الاشتغال بها عن التوجه للذكر أفضل من العقد بالأنامل ونحوه...). إلى آخر كلامه. فراجعه. من “الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية” للعلامة محمد بن علان الصديقي. المتوفى 1057هـ. ج1/ص251 - 252.
وقال ابن سعد في الطبقات: (حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن جابر عن امرأة حدثته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها).
وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في “زوائد الزهد” من طريق نعيم بن محرز بن أبي هريرة عن جده أبي هريرة: (أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به).
وإن أردت الإطلاع على تفاصيل الموضوع فعليك بمطالعة كتاب “الحاوي للفتاوي” للعلامة المشهور جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ. فقد ألف فيه رساله سماها “المنحة في السبحة” جمع فيها ما ورد من الأخبار والآثار في ذلك فراجعه إن شئت.
وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته المشهورة: (لا بأس باتخاذ السبحة، ودليل الجواز ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن سعد بن أبي وقاص: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: “أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل من هذا فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما بين ذلك”. فلم ينهها عن ذلك وإنما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل، ولو كان مكروهاً لبيَّن ذلك. ولا تزيد السبحة على مضمون هذا الحديث إلا بضم النوى في خيط، ومثل ذلك لا يظهر تأثيره في المنع، فلا جرم أن نُقِلَ اتخاذها والعمل بها عن جماعة من الصوفية الأخيار وغيرهم). ا.هـ من حاشية ابن عابدين ج1/ص457].
فالذكر صقال قلوب المريدين، ومفتاح باب النفحات، وسبيل توجه التجليات على القلوب، وبه يحصل التخلق بالأخلاق المحمدية.
ورد الصوفية ودليله من الكتاب والسنة
الورد بالكسر، كما في المصباح: الوظيفة من قراءة ونحو ذلك، والجمع: أوراد. ويطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها صباحاً بعد صلاة الصبح حكم ذكر الله بعد صلاة الصبح:
إن من أفضل الأعمال بعد صلاة الفجر، الاشتغال بذكر الله تعالى، خلافاً لما يظن بعض الناس بأن الاشتغال بقراءة القرآن بعد صلاة الصبح أولى وأفضل، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
1 - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى صلاة الغداة [الصبح] في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة”. رواه الطبراني وإسناده جيد كما في “مجمع الزوائد” ج10/ص104.
2 - وعن أنس بن مالك ضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة” أخرجه الترمذي وحسنه.
3 - وعن عمرة قالت: سمعت أم المؤمنين [تعني عائشة] رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من صلى صلاة الفجر فقعد في مقعده فلم يَلْغُ بشيء من أمر الدنيا، ويذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له”. رواه أبو يعلى والطبراني كذا في “مجمع الزوائد” ج10/ص105.
4 - وعن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى صلاة الفجر ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس وجبت له الجنة”. رواه أبو يعلى كذا في المصدر السابق ج10/ص105.
5 - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من عبد يصلي صلاة الصبح ثم يجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس إلا كان ذلك حجاباً من النار”. رواه الطبراني كذا في المصدر السابق ج10/ص106. وقد نص فقهاء الحنفية على أولوية الاشتغال بالذكر بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أخذاً من الأحاديث المذكورة. قال العلامة الحصكفي صاحب “الدر المختار”: (ذِكرُ الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أوْلى من قراءة القرآن). حاشية ابن عابدين ج5/ص280]، ومساءً بعد صلاة المغرب.
والوارد في اللغة: هو الطارق والقادم، يقال ورد علينا فلان أي قدم. وفي الاصطلاح: ما يُتْحفه الحق تعالى قلوبَ أوليائه من النفحات الإلهية، فيكسبه قوة محركة، وربما يدهشه، أو يُغيِّبه عن حسه، ولا يكون إلا بغتة، ولا يدوم على صاحبه [“شرح الحكم” لابن عجيبة ج1/ص160].
والورد يضم ثلاث صيغ من صيغ الذكر المطلوبة شرعاً، والتي دعا إليها كتاب الله تعالى، وبينت السنة الشريفة فضلها ومثوبتها.
1 - الاستغفار: بصيغة [أستغفر الله] مائة مرة، بعد محاسبة النفس على الزلات لتعود صفحة الأعمال نقية بيضاء. وقد أمرنا الله تعالى بذلك بقوله: {وما تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُم مِنْ خير تجِدُوه عند اللهِ هوَ خيراً وأعظَمَ أجراً واستغفروا اللهَ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم} [المزمل: 20].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار تعليماً لأمته وتوجيهاً، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قوله: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات].
وعن عبد الله بن بِسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “طوبى لمن وَجد في صحيفته استغفاراً كثيراً” [أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب وقال في “الزوائد”: إسناده صحيح ورجاله ثقات].
2 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: بصيغة [اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلِّم] مائة مرة مع استحضار عظمته صلى الله عليه وسلم، وتذكُّرِ صفاته وشمائله، والتعلق بجنابه الرفيع، محبة وتشوقاً وقد أمرنا الله تعالى بذلك بقوله: {إنَّ اللهَ وملائكَتَهُ يُصلُّونَ على النبيِّ يا أيُّها الذين آمنوا صَلُّوا عليهِ وسلِّمُوا تسليماً} [الأحزاب: 56].
وكذلك رغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الصلاة والسلام عليه فقال: “من صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه بها عشراً” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، والنسائي في كتاب الافتتاح].
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحُطَّتْ عنه عشرُ سيئات ورُفعتْ له عشر درجات” [أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح].
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة” [رواه الترمذي في كتاب أبواب الصلاة وقال: حديث حسن].
3 - كلمة التوحيد: بصيغة: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] مئة مرة، أو [لا إله إلا الله] فقط مائة مرة. مع التفكير بأنه لا خالق ولا رازق ولا نافع ولا ضار ولا قابض ولا باسط.. إلا الله وحده، مع محاولة محوِ ما يسيطر على القلب، من حبِّ الدنيا والأهواء والشهوات والوساوس والشواغل والعلائق والعوائق الكثيرة حتى يكون القلب لله وحده لا لسواه.
ولهذا دعانا الله تعالى إلى هذا التوحيد الخالص فقال: {فاعلّمْ أنَّهُ لا إله إلا اللهُ} [محمد: 19].
وكذلك رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإكثار من ترداد كلمة التوحيد، وبين أفضليتها ومثوبتها؛ فقال: “أفضل الذكر لا إله إلا الله” [رواه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث حسن].
يقول العلامة ابن علان في شرح هذا الحديث: “إنها [أي لا إله إلا الله] تؤثر تأثيراً بيِّناً في تطهير القلب عن كل وصف ذميم راسخ في باطن الذاكر، وسببه أن لا إله نفي لجميع أفراد الآلهة، وإلا الله إثبات للواحد الحق الواجب لذاته المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله، فبإدمان الذكر لهذه ينعكس الذكر من لسان الذاكر إلى باطنه، حتى يتمكن فيه؛ فيضيئه ويصلحه، ثم يضيء ويُصلح سائر الجوارح، ولذا أمر المريد وغيره بإكثارها والدوام عليها” [“الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية” للعلامة ابن علان الصديقي ج1/ص213].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جددوا إيمانكم، قيل: يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله” [رواه الإمام أحمد في مسنده ج2/ص359].
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه” [رواه البخاري في كتاب الدعوات، ومسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات].
مع الملاحظة أن هذا الورد يكون في الصباح والمساء في جلسة يخلو فيها العبد بربه، وبذلك يكون قد افتتح نهاره بذكر الله تعالى وختمه بذكره وطاعته؛ لعله يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {والذاكرينَ اللهَ كثيراً والذاكراتِ أعدَّ اللهُ لهم مغفِرَةً وأجراً عظيماً} [الأحزاب: 35].
وهكذا تلقينا عن شيخنا سيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى كما تلقاه هو أيضاً عن شيخه...
ولا ينبغي للسالك في طريق أهل الله أن يكون ورده مقصوراً على العدد المذكور، بل ينبغي له أن يزيد ذكره لله تعالى، لأن قلب السالك في ابتداء سيره كالطفل الصغير، فكما أن الطفل كلما كبر زيدت له كمية الغذاء، كذلك كلما كبر المريد في سيره إلى الله تعالى زاد ذكره لله، لأن الذكر غذاء لقلبه وحياة له.
ولما كان الورد سبيل السالكين إلى الله تعالى قعد الشيطان في طريقهم، يصدهم عن ذكر الله تعالى بحجج شتى، ومغالطات خفية، وتلبيسات منوعة، فقد يترك بعض المريدين قراءة أورادهم محتجين بكثرة أعمالهم وعدم فراغهم لها، ويوحي إليهم شيطانهم أن هذا عذر مشروع، ومبرر مقبول، وأنه لا بأس بتأجيل الأوراد لوقت الفراغ.
ولكن السادة الصوفية حذروا السالكين من الإهمال والتسويف وانتظار الفراغ، لأن العمر سرعان ما ينتهي، والمشاغل لا تزال في تجدد.
قال ابن عطاء الله في حكمه: (إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونة النفس).
وقال الشارح ابن عجيبة: (فالواجب على الإنسان أن يقطع علائقه وعوائقه، ويخالف هواه، ويبادر إلى خدمة مولاه، ولا ينتظر وقتاً آخر، إذ الفقير [الصوفي] ابن وقته) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” ج1/ص49].
وقد يزين الشيطان لبعض السالكين أن يتركوا الذكر بحجة أن ذكرهم لا يَسْلَمُ من الوساوس، والذكر لا يفيد إلا إذا كان الذاكر حاضر القلب مع الله تعالى.
ولكن مرشدي السادة الصوفية حذروا مريديهم من هذا المدخل الشيطاني الخطير، فقال ابن عطاء الله السكندري: (لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع حضور يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز) [“إيقاظ الهمم” ج1/ص79].
وقد يترك بعض السالكين أورادهم اكتفاء بالوارد، وما علموا أن الورد مطلوب منهم للتقرب الله تعالى، وأن السادة الصوفية لم يتركوا أورادهم مهما بلغوا من مراتب الكمال.
قال أبو الحسن الدراج رحمه الله: (ذكَرَ الجنيدُ أهل المعرفة بالله، وما يراعونه من الأوراد والعبادات بعد ما أتحفهم الله به من الكرامات، فقال الجنيد رضي الله عنه: العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك. وقد رأى رجلٌ الجنيدَ رضي الله عنه وفي يده سبحة، فقال له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة؟! فقال: نعم، سبب وَصَّلَنا إلى ما وصلنا فلا نتركه أبداً) [“إيقاظ الهمم” ج1/ص162. وراجع هذا الخبر في ص184].
قال ابن عطاء الله: (لا يستحقر الورد إلا جهول، الوارد يوجد في الدار الآخرة، والورد ينطوي بانطواء هذه الدار وأوْلى ما يُعتنى به ما لا يُخلَف وجوده، الورد هو طالبه منك والوارد أنت تطلبه منه، وأين ما هو طالبه منك مما هو مطلبك منه) [“إيقاظ الهمم” ج1/ص160].
وأخيراً فإن المريد إذا ترك ورده لسبب من الأسباب السابقة، ثم عاد إلى يقظته والتزام عهده؛ فلا ينبغي أن يقنط من رحمة الله نتيجة تقصيره وإهماله، بل عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ثم يقضي ما فاته من أوراد، إذ الأوراد تُقضَى كسائر العبادات والطاعات.
قال الإمام النووي: (ينبغي لمن كان له وظيفة من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقيب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتدراكها، ويأتي بها إذا تمكن منها، ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يُعرِّضْها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعُها في وقتها، وقد ثُبت في صحيح مسلم [كتاب صلاة المسافرين وقصرها] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل” [“الأذكار” للنووي ص13].