محتويات
3- الإلهام
قال الشريف الجرجاني رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الإلهام: ما يُلقَى في الرُّوع بطريق الفيض. وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم. وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية، ولا نظر في حجة) [“تعريفات الشريف” الجرجاني ص23].
والإِلهام إِما أن يكون من قِبَلِ الله تعالى، أو من قبل ملائكته، يُفْهَم منه أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب..
أما الذي من قِبل الله تعالى:
فحكى لنا حضرةُ الله تعالى في كتابه عن مريم رضي الله عنها حينما أوتْ إِلى شجرة النخل في أيام الشتاء، فخاطبها بإِلهام ووحي من دون واسطة وقال لها: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنياً . فكُلِي واشرَبي وقرِّي عيناً} [مريم: 25].
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (إِنَّ ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإِلهام والإِلقاء في القلب، كما كان في حق أُم موسى عليه السلام في قوله: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] [“التفسير الكبير” للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669].
وكذلك أخبرنا عن أُم موسى عليه السلام، حينما ضاق بها الحال من أمر ابنها عليه السلام، وداهمها جنود فرعون لقتله، فألهمها، وأوحى إِليها بلا واسطة، فقال تعالى: {وأوحينَا إلى أُمِّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفتِ عليه فألْقِيهِ في اليَّمِ ولا تخافي ولا تحزَني إنَّا رادُّوه إليكِ وجاعِلُوه مِنَ المرسلينَ} [القصص: 7] [قال العلامة الألوسي في تفسيره عند هذه الآية ج16. ص170: (والمراد بالإِيحاء عند الجمهور ما كان بإِلهام، كما في قوله تعالى: {وأوحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ} [النحل: 68].. إِلى أن قال: وإِلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بُعد فيه، فإِنه نوع من الكشف)].
ألقتْ ابنها وفلذة كبدها بين أمواج البحر الخضم. إِلى أين يذهب هذا الولد الكريم بين هياج موج البحر يا ترى؟! إِنه الهلاك بعينه، لكنها كانت على يقين من أمرها، لِمَا اعتادت من سماع الوحي الذي يأتيها من ربها بلا واسطة، في خلوتها وجلوتها.
هذه امرأة مؤمنة، وولية وليست نبية [اتفق الأكثرون على أن أم موسى لم تكن نبية لأن النبوة منحصرة في الرجال. {وما أرسَلْنا قبلَكَ إلا رجالاً نوحي إليهِم} [يوسف: 109]. والوحي جاء في القرآن لا بمعنى النبوة، بل بالإِلهام كما قال تعالى: {وإذ أوحيتُ إلى الحواريينَ} [المائدة: 111]. {وإذ أوحينا إلى أمِّكَ ما يُوحَى} [طه: 38]]، وتلك مريم رضي الله عنها في أُمة إِسرائيلية، فما بالك بالأمة المحمدية التي شهد الله لها بالخيرية على سائر الأمم؟! قال تعالى: {كُنْتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمُرونَ بالمعروفِ وتنْهَونَ عن المُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وأما الإِلهام من قبل الملائكة:
فالمَلَك يحدِّث الإِنسانَ، كما قال صلى الله عليه وسلم: “..وأما لَمَّةُ الملك فإِيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله” [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب. واللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث].
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وإذْ قالتْ الملائِكَةُ يا مريَمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفاكِ على نساءِ العالَمينَ} [آل عمران: 42]: (اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: {وما أرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجالاً نوحِي إليهِم مِنْ أهْلِ القرى} [يوسف: 109]. وإِذا كان كذلك؛ كان إِرسال جبريل عليه السلام كرامة لها، وكلمها شفاهاً، وليس هذا خاصاً بها، بل هناك كثير من الصالحين كلمتهم الملائكة عليهم السلام) [“التفسير الكبير” للإِمام فخر الدين الرازي ج2. ص669]. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مَدْرجتِه مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أُريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإِني رسول الله إِليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله عن أبي هريرة رضي الله عنه].
أرصد الله على مدرجته ملكاً: أي وكَّله بحفظ المدْرجَة، وهي الطريق وجعله رصَداً: أي حافظاً مُعَداً. تَرُبُّها: أي تحفظها وتربيها كما يربي الرجلُ ولدَه.
قال العلامة محمد بن علاّن الصديقي الشافعي رحمه الله تعالى شارح رياض الصالحين عند قوله: “فأرصد الله تعالى على مدرجته مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟”: (ظاهره أن المَلكَ خاطبه وشافهه) [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ج3. ص232].
وقال الله تعالى: {إنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عليهِمْ الملائِكَةُ أنْ لا تخافوا ولا تحزَنُوا وأبْشِروا بالجَنَّةِ التي كنتم توعَدُونَ . نحنُ أولياؤكُم في الحياة الدنيا وفي الآخِرة} [فصلت: 30ـ31].
قال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى مفسراً تنزل الملائكة في هذه الآية: (تتنزل عند الموت والقبر والبعث. وقيل: تتنزل عليهم: يمدونهم فيما يَعِنُّ ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية، بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن، بطريق الإِلهام.
وهذا هو الأظهر؛ لما فيه من الإِطلاق والعموم الشاملِ لتنزلهم في المواطن الثلاثة وغيرها، وأن جمعاً من الناس يقولون بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين، وإِنهم يأخذون منهم ما يأخذون، فتذكر.
ثم قال في قوله تعالى: {وأبشِروا بالجَنَّة التي كنْتُم توعَدونَ} [فصلت: 31]. أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة.
وقال في قوله تعالى: {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا} [فصلت: 31]: من بشاراتهم في الدنيا، أي أعوانكم في أموركم، نلهمكم الحق ونرشدكم إِلى ما فيه خيركم وصلاحكم. إِلى أن قال: إِن الملائكة تقول لبعض المتقين شفاهاً في غير تلك المواطن: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) [روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للعلامة محمود الألوسي البغدادي رحمه الله تعالى المتوفى سنة 1270هـ. ج24 ص107].
وقال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: (ثم إِنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين {نحنُ أولياؤكُمْ في الحياة الدنيا وفي الآخِرَةِ}[فصلت: 31] : ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإِلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإِلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إِليها.
وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة، فإِن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إِلى الشمس، والقطرة بالنسبة إِلى البحر. والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: “لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماوات”. فإِذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر والشعلة بالشمس، فهذا هو المراد من قوله: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31] [تفسير الإِمام الرازي ج7. ص371].
وقد كان عمران بن الحصين رضي الله عنه يسمع تسبيح الملائكة حتى اكتوى، فانحبس ذلك عنه، ثم أعاده الله إِليه. وروى ابن الأثير رحمه الله تعالى في أسد الغابة بسنده إِليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكَيّ، قال عمران: فاكتوينا، فما أفلحنا ولا نجحنا.
قال: وكانت الملائكة في مرضه تسلم عليه، فاكتوى ففقد التسليم ثم عادت إِليه [وقد ألف العلامة الكبير جلال الدين السيوطي رسالة سماها “تنوير الحلك في إِمكان رؤية النبي والملك” ننقل منها ما يهمنا في موضوعنا الذي نتكلم فيه.
قال جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: (أخرج مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين رضي الله عنه: قد كان يسلم علي حتى اكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد. وأخرج مسلم من وجه آخر عن مطرف قال: بعث إِلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إِني محدثك فإِن عشتُ فاكتمْ عني، وإِن متُّ فحدِّثْ بها إِن شئتَ: إِنه قد سُلِّم عليّ.
قال النووي في شرح مسلم: معنى الحديث الأول أن عمران بن حصين كانت به بواسير، فكان يصبر على ألمها، وكانت الملائكة تسلم عليه، واكتوى، وانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه. قال: وقوله في الحديث الثاني: فإِن عشتُ فاكتمْ عني، أراد به الإِخبار بالسلام عليه، لأنه كره أن يُشاع عنه ذلك في حياته لما فيه من التعرض للفتنة بخلاف ما بعد الموت.
وقال القرطبي في شرح مسلم: يعني أن الملائكة كانت تسلم عليه إِكراماً له واحتراماً، إِلى أن اكتوى فتركت السلام عليه، ففيه إِثبات كرامات الأولياء..
وقال القاضي أبو بكر بن العربي أحد الأئمة المالكية، شارح صحيح الترمذي، في كتاب قانون التأويل: ذهبت الصوفية إِلى أنه إِذا حصل للإِنسان طهارة النفس في تزكية القلب، وقطع العلائق، وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس، والإِقبال على الله تعالى بالكلية، علماً دائماً وعملاً مستمراً، كشفت له القلوب، ورأى الملائكة وسمع أقوالهم، واطلع على أرواح الأنبياء، وسمع كلامهم، ثم قال ابن العربي من عنده: ورؤية الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن كرامة، وللكافر عقوبة). الحاوي للفتاوي ج2 ص257، 258 للعلامة جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ].
ولقد سمى الصوفية العلم الناتج من الإِلهام علماً لدنياً حاصلاً بمحض فضل الله وكرمه بغير واسطةِ عبارةٍ.
قال بعضهم:
تعلّمْنَا بلا حرفٍ وصوْتِ قرأْناه بلا سهْوٍ وفوْتِ
يعني بطريق الفيض الإِلهي، والإِلهام الرباني، لا بطريق التعليم اللفظي، والتدريس القولي.
وقد سئل الإِمام الغزالي عن الإِلهام فقال: (الإِلهام ضوء من سراج الغيب، يسقط على قلبٍ صافٍ لطيفٍ فارغٍ) كل هذا يدل على إِمكان الكشف وصحة الإِلهام؛ إِذا كان القلب صافياً فارغاً من علائق الدنيا وهمومها، ومِنْ صدأ الذنوب وظلماتها. فالشياطين الظلمانية لا تقع إِلا على القلوب العفنة، كما يقع الذباب على الأواني الوسخة، فتُحجبُ القلوب عن مطالعة ما حُجب عنها، يقول صلى الله عليه وسلم: “لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماء” [رواه الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. وتُصرَفُ وسوستُها عن تلك القلوب بذكر الله تعالى ومراقبته: “إِن الشيطان واضع خَطمه على قلب ابن آدم، فإِنْ ذَكَرَ الله خنسَ وإِن نسي الْتقم قلبه” [رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والبيهقي عن أنس، كما في الترغيب والترهيب. خطمه: فمه. ج2. ص400]. لأن القلب إِذا اعتاد الوسوسة، والغفلة عن ذكر الله تعالى مَرِضَ. وأما إِذا اعتاد الذكر، وسُقيَ بأنواره، وسطعت عليه شمس تجليات الله تعالى حيِيَ وكان في عداد الأحياء، يقول عليه الصلاة والسلام: “مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربَّه مثل الحي والميت” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه].
فإِذا واظب المؤمن على ذكر الله تعالى، وكان مستقيماً على شرعه متحلياً بالتقوى، مستأنساً بربه صار حياً بالله. ويقول القوم: القلوب نوعان: قلب لا يولد ولم يأنِ له أن يولد، بل يظل جنيناً في بطن الشهوات والغي والضلال. وقلب وُلد، وخرج إِلى فضاء التوحيد، وحلَّق في سماء المعرفة، وخلص من ظلمات النفس وشهواتها واتباع هواها، فقرَّت عينُه بالله تعالى وأنارت جوانبَهُ أشعةُ اليقين، وجعلته مرآةً شفافة، لا سبيل للشيطان إِليه، ولا سلطان له عليه. وليس هذا ببعيد، فالطاقة الروحية قد انطلقت إِلى عالم الغيب، وصار صاحبها حَيَّاً بعد أن كان ميتاً، ومنوراً بعد أن كان مظلماً، وملكياً بعد أن كان شيطانياً: {أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحيَيناهُ وجعلنا لهُ نوراً يمشي بهِ في الناسِ} [الأنعام: 122].
ولا شك أن تلك الأسرار الروحية، لا تُدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له في شيء منها لا يضره أن يكلها إِلى أربابها، وأن يعطي القوس باريها:
فللكثافةِ أقوامٌ لها خُلقوا وللمحبةِ أكبادٌ وأجفان
وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به وتسليمه لأهله، وأقل عقوبة مَنْ ينكره أن لا يُرزق منه شيئاً. وهو علم الصديقين والمقربين [وفي الإِحياء للغزالي بحث مستفيض في الموضوع فليُرجع إِليه].