محتويات
- الكشف
- تعريفه
- الكشف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
- الكشف في القرآن الكريم
- الكشف عند الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن
- الكشف عند أبي بكر الصديق
- الكشف عند عمر بن الخطاب الخليفة الثاني رضي الله عنه
- الكشف عند عثمان بن عفان
- الكشف عند علي بن أبي طالب
- كشف العارفين
- االعودة إلي كتاب حقائق عن التصوف لعبد القادر عيسى
2- الكشف
تعريفه:
قال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الفِراسة في اللغة: التثبت والنظر، وفي اصطلاح أهل الحقيقة: هي مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب) [تعريفات السيد ص110].
وقال العارف بالله ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الفراسة هي خاطر يهجم على القلب، أو وارد يتجلى فيه، لا يخطىء غالباً إِذا صفا القلب، وفي الحديث: “اتقوا فراسة المؤمن، فإِنه ينظر بنور الله” [رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في كتاب التفسير]. وهي على حسب قوة القرب والمعرفة، فكلما قوي القرب، وتمكنت المعرفة صدقت الفراسة، لأن الروح إِذا قربت من حضرة الحق لا يتجلى فيها غالباً إِلا الحق [“معراج التشوف” ص18].
والكشف نور يحصل للسالكين في سيرهم إِلى الله تعالى؛ يكشف لهم حجاب الحس، ويزيل دونهم أسباب المادة نتيجة لما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة وخلوة وذكر [قال حجة الإِسلام الغزالي رحمه الله تعالى: (إِن جلاء القلب وإِبصاره يحصل بالذكر، وإِنه لا يتمكن منه إِلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى). “إِحياء علوم الدين” للغزالي ج3. ص11]. فتنعكس أبصارهم في بصائرهم، فينظرون بنور الله وتنمحي أمامهم مقاييس الزمان والمكان، فيطَّلعون على عوالمَ من أمر الله اطلاعاً لا يستطيعه مَنْ لا يزال في قيد الشهوات والشكوك والبدع العقائدية والوساوس الشيطانية، ولا تتسع له إِلا تلك القلوب النيّرة السليمة التي زالت عنها ظلمات الدنيا وغواشيها، وانقشعت عنها غيوم الشكوك ووساوسها، وكثافةُ الماديات وأوضارها.
نعم إِنَّ من غض بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وعمَّر باطنه بمراقبة الله تعالى، وتعوَّد أكل الحلال لم يخطىء كشفه وفراسته، ومن أطلق نظره إِلى المحرمات تنفست نفسه الظلمانية في مرآة قلبه فطمست نورها.
ويرجع هذا الكشف إِلى أن العبد إِذا انصرف عن الحس الظاهر إِلى الحس الباطن تغلبت روحه على نفسه الحيوانية المتلبسة ببدنه - والروح لطيفة كشَّافة - فيحصل له حينئذ الكشف، ويتلقى واردات الإِلهام.
يقول المؤرخ ابن خلدون رحمه الله تعالى فيما نحن بصدده: (ثم إِن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إِدراكُ شيء منها؛ والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إِذا رجع عن الحس الظاهر إِلى الباطن، ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغَلَب سلطانه، وتجدد نُشُوؤهُ. وأعان مع ذلك الذكر؛ فإِنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزايد إِلى أن يصير شهوداً، بعد أن كان عِلماً، ويكشف حجاب الحس، ويتم صفاء النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإِدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإِلهي.. إِلى أن قال: وهذا الكشف كثيراً ما يَعرِض لأهل المجاهدة؛ فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم.. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت الرسالة القشيرية على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم) [“مقدمة ابن خلدون” ص329].
وهذا الكشف وراثة محمدية صادقة، وَرِثَها أصحابه رضي الله عنهم، بسبب صدقهم وتصديقهم وصفاء سريرتهم.
الكشف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وقبل أن نذكر شيئاً عن هؤلاء المورثين من الصحابة ومَنْ بعدهم، نذكر نوعاً من كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي منحه الله إِياه، على أن الكشف له عليه الصلاة والسلام معجزة، وللصحابة والأولياء من بعده كرامة، وكلُّ كرامة لولي معجزةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم.
عن أنس رضي الله عنه قال: أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: “أقيموا صفوفكم وتراصُّوا، فإِني أراكم من وراء ظهري” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب الجماعة، ومسلم في كتاب الصلاة].
ولما كان الكشف بعيداً عن عالم الحس، وينمحي أمامه المقياس الزماني والمكاني، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يستوي عنده في الرؤية القرب والبعد:
يقول أنس رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وجعفراً وابن رواحة، ورفع الراية إِلى زيد، فأُصيبوا جميعاً، فنعَاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس قبل أن يجيءَ الخبر، فقال: “أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب، وإِن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إِمرة، فَفُتِح له” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز وكتاب المناقب]. قاله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة مؤتة.
الكشف في القرآن الكريم:
قال الله تعالى في حق إِبراهيم خليل الله عليه السلام: {وكذلِكَ نُري إبراهيمَ مَلكُوتَ السمواتِ والأرضِ ولِيَكُونَ مِنَ الموقنينَ} [الأنعام: 75].
وكذلك ما أخبر الله عز وجل عن الخضر عليه السلام، حين صحب موسى عليه السلام في المسائل الثلاثة:
الأولى: انكشف للخضر أن السفينة التي ركبها مجاناً في طريقهم عبر البحر، سيأخذها ملك غاشم ظلماً، فخرقها ليعيبها ولينقذها من شر ذلك الغاصب مكافأة للمعروف بالمعروف: {أمَّا السفينَةُ فكانتْ لمساكينَ يعمَلُونَ في البحر فأردْتُ أنْ أعيبَها وكانَ وراءهم مَلِكٌ يأخُذ كلَّ سفينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79].
الثانية: كُشف له عن الغلام؛ إِن بقي حياً فسيقتل أبويه في كبره، ويوقعهما في الكفر، فقتله رحمة بأبويه المؤمنيْن، واستجابة لإِرادة الله تعالى بإِبداله بخير منه زكاةً ورحمة: {وأمّا الغلامُ فكانَ أبواهُ مؤمنينِ فخشينا أنْ يُرهِقَهما طُغياناً وكُفراً . فأردنا أن يُبدِلَهُما رَبُّهما خيراً منه زكاةً وأقرب رُحْماً} [الكهف: 80ـ81].
الثالثة: كشف له الكنز الذي تحت الجدار، وكان لغلامين يتيمن من أب صالح، فأقام الجدار حفظاً للكنز، ورحمةً للغلامين، ومحبةً لأبيهما الصالح، بلا أجر وبلا مقابل، مروءةً وإِخلاصاً: {وأمّا الجدارُ فكانَ لغُلامينِ يتيمينِ في المدينة وكان تحتهُ كنزٌ لهما وكانَ أبوهما صالحاً فأرادَ ربُّكَ أنْ يبْلُغا أشُدَّهما ويَسْتَخرِجا كنْزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
الكشف عند الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن:
الكشف عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
وهو الذي شهد الله له بالصدِّيقية بقوله: {والذي جاء بالصِّدْقِ [رسول الله صلى الله عليه وسلم] وصَدَّقَ بِهِ [أبو بكر رضي الله عنه]}. وإِني أذكر واقعة واحدة من كثير، تكشف لنا الغطاء عن ذلك، ومن أين لإِنسانٍ أن يحصيَ مآثِرَ أبي بكر رضي الله عنه.
عن عروة عن أبيه رضي الله عنهما، عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر لما حضرته الوفاة، دعاها فقال: إِنه ليس في أهلي بعدي أحد أحب إِليَّ غنى منك، ولا أعز علي فقراً منك وإِني كنت نحلتك [النَّحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق كذا في غريب الحديث لابن الأثير ج4 ص139] من أرض بالعالية جَدادَ [الجداد: قال ابن الأثير: الجداد بالفتح والكسر: صرام النخل وهو قطع ثمرتها يقال جد الثمرة يجدها جداً ج1. ص173] - يعني: صرام - عشرين وسقاً [الوسق: قال في القاموس: ستون صاعاً أو حمل بعير، وأوسق البعير حمله حملاً]، فلو كنتِ جددْتِهِ تمراً عاماً واحداً انحازَ لك، وإِنما هو مال الوارث، وإِنما هما أخواك وأختاك. فقلتُ: إِنما هي أسماء، فقال: وذاتُ بطنِ ابنةِ خارجة، قد أُلقي في روُعي أنها جاريةٌ فاستوصي بها خيراً، فولدت أُمَّ كلثوم [أخرجه ابن سعد في الطبقات، ذكر وصية أبي بكر. ج3. ص195].
قال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (وفيه كرامتان لأبي بكر رضي الله عنه:
إِحداهما: إِخبارُه أنه يموت في ذلك المرض، حيث قال: وإِنما هو اليوم مالُ وارث.
والثانية: إِخبارُه بمولود يولد له، وهو جارية. والسر في إِظهار ذلك استطابة قلب عائشة رضي الله عنها في استرجاع ما وهبه لها ولم تقبضْه، وإِعلامها بمقدار ما يخصها، لتكون على ثقة، فأخبرها بأنه مال وارث، وأنَّ معها أخوين وأختين [“حجة الله على العالمين” للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ص860].
الكشف عند عمر بن الخطاب الخليفة الثاني رضي الله عنه:
وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الملهَمين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد كان فيمَنْ قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون، فإِن يكُ في أمتي أحدٌ فإِنه عمر” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة].
فإِن أمته عليه الصلاة والسلام أفضلُ الأمم، وإِذا ثبت أنهم وُجدوا في غيرها فوجودهم فيها أولى، وإِنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إِن كان لي صديق ففلان. يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره. والمحدَّث: هو الملهَمُ الصادق الظن، وهو مَنْ أُوقِعَ في قلبه شيءٌ من قِبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيرُه.
قال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (كان عمر رضي الله عنه قد أمَّرَ سارية بن زنيم الخلجي على جيش من جيوش المسلمين، وجهزه على بلاد فارس، فاشتد على عسكره الحال على باب نهوند وهو يحاصرها، وكثرت جموع الأعداء، وكاد المسلمون ينهزمون، وعمر رضي الله عنه بالمدينة، فصعد المنبر وخطب، ثم استغاث في أثناء خطبته بأعلى صوته: [يا سارية! الجبل. من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم] [قال العجلوني: وإِسناده كما قال الحافظ ابن حجر حديث حسن ج2. ص380]. فأسمع الله تعالى سارية وجيشه أجمعين، وهم على باب نهاوند صوتَ عمر، فلجؤوا إِلى الجبل، وقالوا هذا صوت أمير المؤمنين، فنجوا وانتصروا).
وقال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (لم يقصد إِظهار الكرامة، وإِنما كُشِف له، ورأى القوم عياناً، وكان كمن هو بين أظهرهم حقيقة، وغاب عن مجلسه بالمدينة واشتغلت حواسه بما دهم المسلمين، فخاطب أميرهم خطاب مَنْ هو معه) [“حجة الله على العالمين” للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ص860]. ففي هذه القصة شيئان:
الأول: الكشف الصحيح والرؤية العيانية على بعد آلاف الأميال، وأين (التلفزيون) في مثل هذه القصة الواقعة قبل أربعة عشر قرناً؟
الثاني: إِبلاغ صوته ساريةَ على هذا البعد الشاسع.
ورأى عمر رضي الله عنه قوماً من مذحج فيهم الأشتر فصعَّد النظر فيه وصوَّب ثم قال: (قاتله الله إِني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً فكان منه ما كان) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج1. ص143].
وأخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب قال: (إِنْ كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكْذِبُه الكِذبة فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه بالحديث فيقول: احبس هذه، فيقول له: كل ما حدثتُك حق إِلا ما أمرتني أن أحبسه) [“تاريخ الخلفاء” للعلامة جلال الدين السيوطي ص127 -128].
وأخرج عن الحسن قال: (إِن كان أحد يعرف الكذب إِذا حُدّث فهو عمر بن الخطاب) [“تاريخ الخلفاء” للعلامة جلال الدين السيوطي ص127 -128].
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هدية الحمصي قال: (أُخبِر عمر بأن أهل العراق حَصبَوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إِنهم قد لبَّسوا عليّ فالبس عليهم، وعجِّلْ عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية؛ لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم).
قلت: أشار به إِلى الحجاج. قال ابن لهيعة: وما وُلِدَ الحجاج يومئذ [“تاريخ الخلفاء” للعلامة جلال الدين السيوطي ص127 -128].
الكشف عند عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:
ذكر التاج السبكي رحمه الله تعالى في الطبقات وغيره: (أنه دخل على عثمان رضي الله عنه رجل، كان قد لقي امرأة في الطريق، فتأملها، فقال له عثمان رضي الله عنه: يدخل أحدكم، وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال الرجل: أوحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن). وإِنما أظهر عثمان هذا تأديباً للرجل، وزجراً له عن شيءٍ فعله [“حجة الله على العالمين” للنبهاني ص862].
الكشف عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له: “أنت أخي” [أخرجه الترمذي في كتاب المناقب عن ابن عمر، وقال: حسن غريب]. وقال له أيضاً: “ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” [رواه البخاري في المغازي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه].
عن الأصبغ رحمه الله تعالى قال: أتينا مع عليّ فمررْنا بموضع قبر الحسين، فقال علي: (ههنا مناخ ركابهم، وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم. فتية من آل محمد صلى الله عليه وسلم يقتلون بهذه العَرْصة، تبكي عليهم السماء والأرض) [“الرياض النضرة في مناقب العشرة” للمحب الطبري ج2. ص295].
وقال علي رضي الله عنه لأهل الكوفة: (سينزل بكم أهلُ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستغيثون بكم فلم يغاثوا) فكان منهم في شأن الحسين ما كان [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج1. ص143].
ولو أردنا أن نستقصي تراجم الصحابة الكرام رضي الله عنهم في كشفهم وفراستهم، لخرجنا عن موضوعنا في رسالتنا هذه.
كشف العارفين:
روي عن الإِمام الشافعي ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى: (أنهما كانا بِفِناء الكعبة، ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجاراً، وقال الآخر: بل حداداً، فتبادر من حضر إِلى الرجل فسأله فقال: كنت نجاراً وأنا اليوم حداد) [“تفسير القرطبي” ج10. ص44].
وعن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى قال: (دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كَلٍّ على الناس؛ فناداني وقال: {واعلموا أنَّ اللهَ يعلَمُ ما في أنْفُسِكُم فاحذَروهُ} [البقرة: 235]. فاستغفرْتُ الله في سرِّي، فناداني وقال: {وهوَ الذي يَقْبَلُ التوبَةَ عن عبادِهِ} [الشورى: 25]. ثم غاب عني، ولم أره) [“الإِحياء” للغزالي ج3 ص21].
ومثل هذا وقع لغيره. يقول خير النسَّاج رحمه الله تعالى: (كنت جالساً في بيتي، فوقع لي أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي ذلك، فوقع ثانياً وثالثاً، فخرجت، فإِذا الجنيد، فقال: لِمَ لم تخرج مع الخاطر الأول؟) [“الرسالة القشيرية” ص110].
وحُكي عن إِبراهيم الخوّاص رحمه الله تعالى قال: (كنت في بغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة، حسن الحرمة حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب، ثم رجع إِليهم وقال: إِيش قال الشيخ؟ فاحتشموه، فألح عليهم فقالوا: قال: إِنك يهودي. قال: فجاءني، وأكبَّ على يدي وأسلم، فقيل: ما السبب؟ قال نجد في كتبنا أن الصدّيق لا تخطىء فراسته فقلتُ: أمتحنُ المسلمين، فتأملتهم فقلت: إِن كان فيهم صدّيق، ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فلبَّستُ عليهم، فلما اطّلع عليَّ وت
فرَّس فيَّ علمتُ أنه صدّيق، وصار الشاب من كبار الصوفية) [“الرسالة القشيرية” ص110].
ولا عجب في ذلك فقد أخبر عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم” [رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك. وإِسناده حسن، كما في مجمع الزوائد ج10 ص268].
ووقف نصراني على الجنيد رحمه الله تعالى، وهو يتكلم في الجامع على الناس، فقال: أيها الشيخ! ما معنى حديث: “اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله” [رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري. في كتاب التفسير]. فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلمْ فقد جاء وقت إِسلامك، فأسلم الغلام [“الفتاوى الحديثية” لابن حجر الهيثمي ص229].
وحديث الفراسة أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء، تجد الواحد منهم يكاشف الشخص بما حصل له في غيبته، كأنه حاضر معه. وهي فتنة في حق مَنْ لم يتخلق بأخلاق الرحمن.
وقد يكون الكشف عن أصحاب القبور منعَّمين أو معذَّبين:
قال العلامة عبد الرؤوف المناوي رحمه الله تعالى عند شرحه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لولا أن لا تَدافَنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة ومتعة نعيمها، والنسائي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه]. وإِنما أَحبَّ إِسماعهم عذاب القبر دون غيره من الأهوال لأنه أول المنازل. وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومَنْ كُوشف بما لا يطيقه هلك.
تنبيه: قال بعض الصوفية: (والاطلاع على المعذَّبين والمنعَّمين في قبورهم واقع لكثير من الرجال، وهو هول عظيم، يموت صاحبه في اليوم والليلة موتات، ويستغيث ويسأل الله أن يحجبه عنه، وهذا المقام لا يحصل للعبد إِلا بعد غلبة روحانيته على جسمانيته، حتى يكون كالروحانيين. فالذين خاطبهم الشارع هنا هم الذين غلبت جسمانيتهم لا من غلبت روحانيتهم، والمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم بما يليق بهم) [“فيض القدير، شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج5. ص342].
وما حكي من فراسة المشايخ وإِخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر، إِلا أن الجاحد لا تفيده هذه الشواهد والأخبار مما ذكرناه من النقول الصحيحة عن الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم؛ مادام لا يؤمن إِلا بالمادة ولا يصدِّق ما وراءها.
قال تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المرء إِذا صفا قلبه صار ينظر بنور الله، فلا يقع بصره على كدرٍ أو صافٍ إِلا عرفه. ثم تختلف المقامات، فمنهم من يعرف أن هناك كدراً ولا يدري ما أصله، ومنهم من يكون أعلى من هذا المقام فيدري أصله، كما اتفق لعثمان رضي الله عنه، فإِنَّ تأمُّل الرجل للمرأة أورثه كدراً فأبصره عثمان، وفهم سببه.
وهنا دقيقة: وهي أن كل معصية لها كدر، وتُورِث نكتة سوداء في القلب فيكون رَيْناً، كما قال تعالى: {كلا بلْ رانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانوا يًكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. إِلى أن يستحكم والعياذ بالله، فيظلم القلب وتغلق أبواب النور فيُطْبَع عليه، فلا يبقى سبيل إِلى التوبة. كما قال تعالى: {وَطُبِعَ على قلوبِهِمْ فَهُمْ لا يفقَهُونَ} [التوبة: 87].
إِذا عرفتَ هذا؛ فالصغيرة من المعاصي تورث كدراً صغيراً بقدرها قريب المحو بالاستغفارِ وغيره من المكفرات. ولا يدركه إِلا ذو بصر حادٌّ كعثمان رضي الله عنه، حيث أدرك هذا الكدر اليسير، فإِنَّ تأمُّل المرأة والنظر إِليها أدركه عثمان وعرف أصله [قال العلامة الألوسي في كتابه “روح المعاني” عند قوله تعالى: {قل للمُؤمِنينَ يغُضُّوا مِنْ أبضارِهِم} [النور: 30]: (ثم إِن غض البصر عما يحرم النظر إِليه واجب، ونظرة الفجأة - لاتَعَمَّد فيها - معفو عنها. فقد أخرج أبو داود، والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإِن لك الأولى وليست لك الآخرة” تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ج18. ص125. وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل عين زانية”. رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات. وعن علقمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “زنا العينين النظر”. رواه الطبراني. الحديثان في مجمع الزوائد. ج6. ص256. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عن ربه عز وجل: “النظرة سهم مسموم من سهام إِبليس، مَنْ تركها مِنْ مخافتي أبدلته إِيماناً يجد حلاوته في قلبه”. رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة وقال: صحيح الإِسناد. وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَتغضُّن أبصاركم ولَتحفظُن فروجكم، أو ليكسفَن الله وجوهكم”. رواه الطبراني. وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم ينظر إِلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إِلا أحدث له الله عبادة يجد حلاوتها في قلبه”. رواه الإِمام أحمد. في الترغيب والترهيب ج3. ص34 -36]. وهذا مقام عالٍ يخضع له كثير من المقامات.
وإِذا انضم إِلى الصغيرة صغيرة أخرى ازداد الكدر، وإِذا تكاثرت الذنوب حتى وصلت - والعياذ بالله - إِلى ما وصفناه من ظلام القلوب صار بحيث يشاهده كل ذي بصر، فمن رأى متضمخاً بالمعاصي قد أظلم قلبه؛ ولم يتفرس فيه ذلك فليعلم أنه إِنما لم يبصره لما عنده من العمى المانع للأبصار، وإلا فلو كان بصيراً لأبصر هذا الظلام الداجي، فبقدر بصره يبصر، فافهم ما نتحفك به) [“حجة الله على العالمين” للنبهاني البيروتي ص862].
فالفراسة أمر جائز الوقوع، وهي منحة إِلهية يكرم الله بها عباده الصالحين الذين تمسكوا بدينهم، وحفظوا جوارحهم، وصقلوا قلوبهم، وهذبوا نفوسهم.
قال المناوي في شرح الجامع الصغير عند قوله عليه الصلاة والسلام: “إِنَّ لكل قوم فراسة، وإِنما يعرفها الأشراف”: (قاعدة الفراسة وأسُّها: الغض عن المحارم، قال الكرماني: من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوم المراقبة، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المخالفات، واعتاد أكل الحلال لم تخطىء فراسته ابداً. اهـ فمن وُفِّق لذلك أبصر الحقائق عياناً بقلبه) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” للمناوي ج2. ص515].
وعلى كلٍ فالقلوب تختلف باختلاف صقلها وتنظيفها من أدران الذنوب المظلمة، فهي كالزجاج كلما صقل ازداد ثمنه، وكشف الجراثيم التي لا ترى. فأين زجاج النافذة من زجاج المجهر الذي يكشف الجراثيم الدقيقة؟ وكما لا يقاس زجاج النافذة بزجاج المجهر، كذلك لا تقاس القلوب الصافية المصقولة بالقلوب المكدرة المظلمة، ولا تقاس الملائكة بالشياطين.
فمن جدَّ وجد، ومن سار على الطريق وصل، ومن أتقن المقدمة وصل إِلى النتيجة، والبدايات تدل على النهايات.