المحتويات
- الواجب: تعريفه وأقسامه
- تعريف الواجب
- أقسام الواجب
- التقسيم الأول من حيث ارتباطه بوقت أو عدم ارتباطه به مطلق ومقيد
- أنواع الواجب المؤقت
- حكم الوقت بالنسبة للواجب المؤقت
- تحديد جزء الوقت الذي يعتبر سببا للوجوب المؤقت
- انتقال الواجب الموسع إلى مضيق
- أنواع الواجب المؤقت من حيث وقت فعله والإتيان به
- التقسيم الثاني للواجب: من حيث تقديره من الشارع بحد معين أو عدم تقديره به
- التقسيم الثالث للواجب: من حيث تعيين الملزم بفعله
- التقسيم الرابع للواجب من حيث تعيُّن المطلوب به وعدمه
- مقدمة الواجــب
- العودة إلي كتاب بحوث في أصول الفقه
الواجب: تعريفه وأقسامه:
تعريف الواجب:
قدمنا أن الواجب هو ما طلب الشارع فعله بطريق الجزم، وهذا هو تعريف الجمهور له، أما الحنفية فقد عرفوه بأنه ما طلب الشارع فعله بطريق الجزم بدليل ظني، فإن كان الدليل قطعياً فهو الفرض، وقد تقدمت الإشارة إليه.
وقد عرف كثير من الأصوليين الواجب بتعريفات أخرى أهمها:
1ـ ما جاء في شرح العضد من تعريفه للواجب أثناء تقسيمه للحكم قوله(3): (فإن كان ظنياً للفعل غير كف ينهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب فوجوب). أي إن الواجب ما طلب الشارع فعله على وجه يكون تركه في وقته موجباً للعقاب، وهو معنى الجزم في التعريف الأول نفسه، وقد جاء قيد (في جميع وقته) في التعريف ليدخل الواجب الموسع كما سوف نرى، فإن تأخيره عن أول الوقت لا يوجب الإثم.
وقد نقل صاحب فواتح الرحموت من الفقهاء زيادة قيد (من وجه) فيكون تعريف الواجب (هو ما استحق العقاب تاركه في جميع وقته من وجه) وقد زيد هذا القيد ليدخل في التعريف الواجب الكفائي، فإن تاركه يعاقب من وجه ولا يعاقب من وجه، ذلك أنه إذا فعله غيره سقط عنه كما سوف يأتي معنا في تقسيمات الواجب إن شاء الله تعالى(1).
2ـ وما جاء في التلويح على التوضيح من تعريفه للواجب أثناء تقسيمه للحكم التكليفي قوله: (فإن كان هذا أي كون الفعل أولى من الترك مع منع الترك بدليل قطعي فالفعل فرضي وبظني واجب)(2). وهو التعريف السابق نفسه في معناه كما هو ظاهر.
أقسام الواجب:
ينقسم الواجب من حيثيات متعددة إلى أقسام مختلفة يمكن أن نضعها في أربعة أقسام، هي:
1- من حيث ارتباطه بوقت معين أو عدم ارتباطه به.
2- من حيث كونه محددا بحد معين من قبل الشارع أو غير محدد.
3- من حيث الملتزم بفعله أهو معين أو غير معين.
4- من حيث كون المطلوب فيه معينا أو غير معين.
التقسيم الأول من حيث ارتباطه بوقت أو عدم ارتباطه به: فإنه ينقسم إلى قسمين:
أ- واجب مطلق، أي مطلق عن الوقت غير مرتبط به، وهو ما لم يقيده الشارع بوقت محدد من العمر(3)، مثل الكفارات والنذور المطلقة والزكاة وغير ذلك مما هو مرتبط بوقت معين لا يسع الإنسان الخروج بالواجب عنه أو أداؤه في غيره.
ب- وواجب مؤقت، أي مقيد بوقت معلوم من قبل الشارع لا يسع المكلف إخراج الواجب عنه دون إثم(4)، مثل صوم رمضان، فقد أناطه الشارع بوقت محدد له هو شهر رمضان، فلا يسع المكلف أداء الصيام خارج رمضان إلا مع الإثم، بدليل قول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة:185)، فإن الله سبحانه وتعالى ربط الأمر بالصوم بشهود الشهر، ومن ذلك أيضا الصلاة المكتوبة، فإن الشارع ربطها بأوقات محددة لها لا يسع المكلف أخراجها عنها ...
ومن ذلك أيضا النذور المؤقتة، فإنه لا يسع الناذر إخراجها عن وقتها إلا بأثم نظرا لتعيينها بالنذر.
الفائدة من هذا التقسيم:
ويترتب على هذا التقسيم للواجب حكم شرعي، هو أن الواجب المطلق يسع الإنسان المكلف به فعله في أي وقت دون إثم يلحق به، ويسمى فعله هذا أداء، ويعبر الفقهاء عن هذا المعنى بأنه واجب على التراخي، وقد نص صاحب التوضيح على التنقيح على ذلك، فقال: (أما المطلق فعلى التراخي لأنه أي الأمر جاء للفور وجاء للتراخي، فلا يثبت للفور إلا بالقرينة، وحيث عدمت يثبت التراخي لا الأمر يدل عليه، لأن المراد بالفور الوجوب في الحال، والمراد بالتراخي عدم التقيد بالحال لا التقيد بالمستقبل، حتى لو أداه في الحال يخرج عن العهدة، فالفور يحتاج إلى القرينة لا التراخي)(1).
أما الواجب المؤقت، فيجب على الإنسان فعله في وقته، ويترتب عليه بطلان الفعل لو كان سابقا على الوقت، وصحته مع الإثم لو كان متأخرا عنه لغير عذر، ويسمى قضاء لا أداء، وسوف يأتي معنا تعريف الأداء والقضاء قريبا.
أنواع الواجب المؤقت:
ينقسم الواجب المؤقت إلى عدة أنواع من حيثيات متعددة، هي(2):
أ- الواجب الموسع:
هذا الواجب هو الذي وقته يتسع له ولغيره من جنسه، أي إن الوقت فيه أكبر من الواجب المرتبط به، مثل أوقات الصلاة المكتوبة، فإن كل وقت فيها يتسع للصلاة الواجبة فيها ولغيرها من أنواع الصلوات الأخرى، فروضا كانت أم واجبات أم سننا.
وهذا الوقت يسميه الجمهور موسعا، لأنه أوسع من الواجب المرتبط به، ويسميه الحنفية (ظرفا)، والظرف في اللغة الوعاء(3) الذي يضم أجزاء الشيء الموضوع داخله بصرف النظر عن كونه ممتلئا بالشيء الذي بداخله ولا يسع غيره معه أولا، وهو قريب من المعنى المصطلح عليه، لكنه يفترق عنه في أن الظرف في اللغة لا يفيد اشتراط زيادته عن المظروف وإن كان اتساعه لغيره معه وإن كان يحتمله، والمعنى المراد تحديده هنا يشترط فيه ذلك، فإطلاقه عليه غير دقيق، ولذلك كان إطلاق الجمهور عليه (موسعا) أدق في نظري. وعلى كل هو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.
5 - الواجب المضيـق:
هو الواجب الذي لا يتسع وقته لأكثر من الواجب المرتبط به، أي أن الوقت فيه بقدر الواجب المرتبط به ولا يتسع لغيره من جنسه، كرمضان، فإن الصوم المفروض المرتبط به مقدر به لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، فلا يتسع شهر رمضان لصوم غير الصوم المفروض فيه، ولا يضر أنه يتسع مع الصوم لعدد كبير من الصلوات، فإنها ليست من جنس الواجب المرتبط به وهو الصيام.
وهذا الواجب يسميه الجمهور (مضيقا)، لأن الوقت فيه يضيق من غير الواجب المرتبط به، ويسميه الحنفية (معيارا)، والمعيار في اللغة العيار، وهو ما يقاس به غيره في الكيل(1)، أي ما جعل ضابطا لغيره كيلا، وهو المعنى المراد للأصوليين من الوقت الضيق نفسه، فكان إطلاق اسم المعيار عليه إطلاقا دقيقا جدا.
3- الواجب ذو الشبهين:
وهو الواجب الذي يتسع وقته للواجب المرتبط به ولا يتسع معه لغيره من جنسه، ولكن الواجب فيه لا يستغرق كل الوقت المقدر له، مثل الحج، فإنه مؤقت بوقت معلوم لا يصح إلا فيه، وهو شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة، وهذا الوقت لا يتسع إلا لحجة واحدة، بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بحجتين أو أكثر في ضمن هذا الوقت، فهو لهذا يشبه الواجب المضيق، ولكن هذا الوقت غير مستغرَق كله بالواجب، فإن أفعال الحج لا تحتاج إلا إلى جزء يسير منه فقط، وهو في هذا يشبه الواجب الموسع، ولهذا الشبه المزدوج بكل من الواجب الموسع والمضيق أفرد باسم خاص به، وسمي بالواجب ذي الشبهين.
الفائدة المرتبة على تقسيم الواجب إلى موسع ومضيق وذي شبهين:
يترتب على تقسيم الواجب إلى هذه الأنواع الثلاثة بيان حكم تعيين النية عند أداء الواجب.
فقد اتفق الفقهاء على وجوب تعيين النية في الواجب الموسع، لأن الوقت محل له ولغيره من الواجبات الأخرى التي من جنسه، فلا يكون الفعل متمحضا له إلا بتعيين النية، كصلاة الظهر مثلا، فإن وقتها يتسع لها ولغيرها من الصلوات الأخرى، فلو صلى الظهر بنية واجب آخر لم يصح عن الظهر، وكذلك لو صلاها بمطلق النية، فإن صلاته تقع نفلا ولا تقع عن الظهر باتفاق الفقهاء.
ولكنهم اختلفوا في الواجب المضيق، أيجب فيه تعيين النية كالواجب الموسع أم لا يجب فيه ذلك؟
فذهب الجمهور إلى أن الواجب المضيق في حكم تعيين النية حكمه كحكم الواجب الموسع تماما، فيجب فيه تعيين النية.
وذهب الحنفية إلى أن الأمر يختلف في الواجب المضيق عنه في الواجب الموسع، لأن الواجب المضيق وقته لا يسع غيره من جنسه فكان متعينا له من قبل الشارع فينصرف الفعل إليه عند إطلاق النية، وكذلك عند النية المخالفة، لأن الواجب المخالف المقصود للمكلف يلغى لمخالفته لتعيين الشارع، فإذا ألغي وقع الفعل عن الواجب المربوط بالوقت المحدد له شرعا، كرمضان مثلا، فلو نوى في المكلف غير صوم الفرض، فإنه يقع عن رمضان عند الحنفية، لأن الوقت محدد له من قبل الشارع، فإذا حدد المكلف شيئا غير ذلك، ألغي ذلك التحديد لمخالفته لتحديد الشارع، فيتمحض الصيام لفرض الوقت بتحديد الشارع.
لكن الجمهور ردوا هذا الاستدلال، ونصوا على أن عدم صحة تعيين المكلف لا يفيد وقوع الفعل عن الفرض، إذ لا لزوم بينهما أبدا، لأن النية إذا لغت وقع الفعل بغير نية، فيقع باطلا، لأن النية شرط صحة العبادات بالاتفاق.
يضاف إلى ذلك أن المكلف مجاهر وقاصد عدم وقوع الفعل عن فرض الوقت، فلا يجوز صرفه إليه، خلافا لقصده، فلو صام رمضان بنية فرض آخر وقع صومه باطلا، ولا يقع عن رمضان، لأن المكلف لم يقصده، بل قصد غيره بصراحة لفظه ونيته.
وإنني أرى هنا رجحان رأي الجمهور في هذا المسألة لقوة دليلهم، فإن النبي يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى)، والنية هي عمل القلب، ولا يمكن أن يحمل عمل إنسان على خلاف ما قصد، وناوي فرض آخر لا يمكن أن يعتبر ناويا فرض الوقت بحال، ولهذه القوة في دليل الجمهور مال الكمال بن الهمام المحقق في المذهب الحنفي إلى ترجيح رأي الجمهور على رأي مذهبه، نزولا عند الدليل، فقال: (الحق معهم – أي مع الجمهور – لأن التعيين شرعا لفرض الصوم يقتضي عدم صحة ما نوى، لا صحة ما لم ينو، كيف وهو ينادي أنا لم أرد صوم الفرض، والأعمال بالنيات)(1)، وهذا وأمثاله يدل دلالة قاطعة على ما كان يتمتع به سلفنا الصالح من صدق وإخلاص للعلم، وبعد عن التعصب المقيت، فكانوا يسيرون من الدليل حيثما سار واتجه.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن مؤدى دليل الجمهور ينتهي إلى تصحيح فرض الوقت المضيق بمطلق النية، فلو نوى في رمضان مطلق الصوم جاز صرفه إلى فرض الوقت، لأنه لم يظهر من المكلف قصد يخالف قصد الشارع حتى يحكم عليه بالإلغاء، ولما كان الوقت محددا لفرض معين من قبل الشارع، جاز صرف قصد المكلف إلى الواجب الذي حدده الشارع، لاحتماله إياه وعدم وضوح ما يخالفه، وذلك بخلاف الواجب الموسع، فإنه لا يمكن تصحيحه بمطلق النية، لأن الوقت لم يتمحض له من قبل الشارع.
وأما الواجب ذو الشبهين، فقد كاد الفقهاء يتفقون على أن الحج عن النفس يتأدى بمطلق النية، إلحاقا له بالواجب المضيق، لشبهه به، وأنه لا يصح بنية النفل أو بنية واجب آخر كالحج عن الغير، إلحاقا له بالواجب الموسع، لشبهه به أيضا(1).
حكم الوقت بالنسبة للواجب المؤقت:
اتفق الفقهاء في الواجب المؤقت الموسع على أن الوقت فيه سبب للوجوب شرط للأداء ظرف للمؤدى(2)، وسوف يأتي معنا في الحكم الوضعي تعريف كل من السبب والشرط وحكمهما، أما الظرف فمعناه أن يقع الواجب في ضمنه.
وأما الواجب المضيق، فالوقت فيه شرط للأداء معيار للمؤدى، وأما من حيث سببيته للوجوب فذلك على قسمين: قسم يكون فيه الوقت سببا للوجوب كرمضان، فإن الوجوب يتم عند شهود الشهر، وهذا دليل لسببيته، وقسم لا يكون فيه الوقت سببا للوجوب، كالنذر المعين، وذلك تفريقا بين تحديد الله للوقت وتحديد المكلف له، فما كان الوقت فيه محددا من قبل الله تعالى كان الوقت فيه سببا للوجوب، وما لا فلا.
وقد بنى الحنفية على هذا التفريق أن أجازوا رمضان بنية واجب آخر، ولم يجيزوا النذر المعين بنية واجب آخر(3)، ويتعين على اعتبار الوقت كذلك أحكام متعددة، أهمها:
1- أنه لا يجب أداء الواجب المؤقت ولا شيء منه قبل دخول الوقت، لأنه سبب الوجوب، ومعنى السبب أن ما ارتبط به من الوجوب لا يثبت قبل تحققه، فلا يجب على المسلم أن يصوم رمضان قبل شهود الشهر، ولا يجب عليه أداء صلاة الفجر قبل دخول وقتها، وهكذا، حتى إن المرأة لو حاضت قبل دخول وقت الفجر مثلا لم تجب عليها صلاة الفجر، ولم تدخل في ذمتها.
2- لا يصح أداء الواجب أو جزء منه قبل دخول الوقت، لأنه شرط للأداء، ومعنى الشرط أن ما ارتبط به لا يصح بدونه، فلو أدى الصلاة قبل وقتها لم تصح، وكذلك الحج والصوم.
3- يجوز فعل الواجب في أي لحظة من لحظات الوقت إذا كان موسعا، لأن الوقت كله ظرف له، ففي أي جزء من الوقت وقع وقع الواجب في محله، فإذا كان الوقت مضيقا وجب البدء بالواجب مع بدء الوقت، لأن الوقت فيه على قدر الواجب، وإذا أخره عن أول الوقت لزم منه فعل بعض الواجب خارج الوقت، وهو قضاء وليس بأداء كما سوف يتضح بعد قليل، لأنه لا يتحقق إلا بفعل الواجب كله ضمن الوقت(1).
تحديد جزء الوقت الذي يعتبر سببا للوجوب المؤقت(2):
مادام الوقت سببا للوجوب في الواجب الموسع، وفي بعض أنواع الواجب المضيق، كان لابد من معرفة الجزء المعتبر سببا للوجوب في هذه الواجبات، أهو الوقت كله، أم جزء منه فقط، وإذا كان جزؤه فقط فما هو هذا الجزء؟
الاتفاق قائم على أن السبب بالنسبة للواجب المضيق الذي يعتبر الوقت فيه سببا للوجوب إنما هو أول الوقت، ليستطيع المكلف أداء الواجب كله في وقته.
أما الواجب الموسع فقد اتفق الفقهاء فيه على أن السبب ليس كل الوقت، بل هو جزء منه فقط، وذلك لأننا لو اعتبرنا الوقت كله سبب الوجوب فإن الحال لا يخلو من أن نعتبر الأداء واجبا في الوقت أو بعده، وكلاهما باطل، ذلك أننا لو اعتبرناه واجبا في الوقت لزم من ذلك تقدم السبب على المسبب، لأن الوقت مادام كله سببا فإنه لا يوجد ما لم ينقض كل الوقت، وحصول الوجوب داخل الوقت ينافي ذلك، فكان باطلا.
ولو اعتبرنا الوجوب حاصلا خارج الوقت وبعد تمامه للزم من ذلك الأداء خارج الوقت، وهو باطل، لأن فعل الواجب خارج الوقت قضاء وليس أداء.
ولذلك كان لابد من اعتبار أن السبب هو جزء من الوقت فقط لما تقدم، وهو ما اتفق عليه الفقهاء.
ولكنهم اختلفوا في الجزء المعتبر سببا للوجوب، أهو أول الوقت أو آخره أو غير ذلك، على خمسة مذاهب هي:
1 – مذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين(1): وهو أن السبب هو أول الوقت على وجه التوسع، بمعنى أن المكلف مخير في أن يوقع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد له دون حرج أو إثم، ويكون فعله في ذلك أداء، كالصلاة، فإن سبب وجوبها في الذمة إنما هو أول الوقت، ولكن للمصلي أن يبادر إلى الأداء أول الوقت كما له أن يؤخر الأداء إلى نصف الوقت أو آخره، وكل ذلك يعتبر أداء ولا إثم فيه، لكنه ترك الأفضل إن كان بلا عذر مشروع، لعموم فضيلة أول الوقت، وخروجا من الخلاف.
وهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن أول الوقت هو سبب الوجوب بالنسبة لمن أدركه هذا الجزء وكان مكلفا، فإن كان ليس من أهل التكليف أول الوقت، ثم أصبح مكلفا في آخره، كالحائض تطهر آخر الوقت، والغلام يبلغ آخره، كان جزء الوقت المرافق لتكليفه هو سبب الوجوب في حقه، لا الجزء الأول من الوقت، لأننا لو قلنا بأن الجزء الأول هو سبب الوجوب لما وجبت عليه الصلاة، لأنه لم يدركه وهو مكلف، مع أن الاتفاق منعقد على وجوب الصلاة عليه.
وقد استدل الجمهور لمذهبهم هذا بأن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام صبيحة فرض الصلاة، فأم بالنبي في الصلاة وصلى به أول يوم الصلوات في أول وقتها، وصلى به في الثاني في آخر وقتها، ثم أعلم النبي المسلمين بذلك مبينا لهم أول وقت كل صلاة وآخره، وقال: الوقت ما بين هذين، فدل ذلك على أن الوقت كله ظرف للصلاة يخير الإنسان بأدائها في أي جزء منه دون تعيين، وبما أن الصلاة لا تصح قبل ثبوت سببها، وكان فعلها في أول الوقت صحيحا بالاتفاق، فإنه يلزم منه اعتبار أول الوقت سببا للوجوب، وصلاة جبريل عليه السلام بالنبي أول يوم في أول الوقت يدل على أنه الأفضل.
2 - مذهب الحنفية، وهو أن السبب إنما هو جزء الوقت المتصل بالأداء، فإن تأخر الأداء إلى آخر الوقت كان السبب هو جزء الوقت الأخير مطلقا عند جمهور الحنفية، وذهب زفر إلى أنه الجزء الأخير المتسع لأداء الواجب.
فإن أخرج المكلف الواجب عن الوقت ولم يؤده فيه كان السبب هو الوقت كله في حق القضاء(1)، ولا اعتراض هنا على اعتبار الوقت كله سببا لما تقدم، مع أننا رددنا هناك اعتبار كل الوقت سببا لما يترتب عليه من اعتبار التقدم على السبب أو تأخر الأداء عن الوقت، وهو هنا منتف، فلا ضرر في اعتباره كذلك.
احتج الحنفية لمذهبهم هذا، بأنه لا يمكن جعل الوقت كله سببا للوجوب لما تقدم، فتعين جزء منه فقط هو سببا للوجوب، ولا يمكن تعيين جزء خاص منه سببا، فإذا بدأ المكلف بأداء الواجب تعين الجزء المرافق لأدائه سببا للوجوب ضرورة تصحيح فعله، لأن المسبب لا يصح قبل انعقاد سببه، وصحة هذا الفعل هي محل الاتفاق، فإذا لم يؤد أول الوقت وانتظر إلى آخره كان الجزء الأخير مطلقا أو المتسع للواجب هو السبب ضرورة عدم الانفلات من التكليف.
فإذا خرج الواجب عن الوقت كله، كان الواجب هو الوقت كله، لعدم ترجح جزء على جزء منه في السببية(2).
وقد رجح الكمال ابن الهمام الحنفي في هذا رأي الجمهور على رأي الحنفية لقوة دليلهم في نظره، وأنا أرى ترجيح رأي الحنفية لما قدمته من الاحتجاج لهم، فإنه في نظري كلام لا غبار عليه.
3- مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من المتكلمين(3)، وهو أن السبب إنما هو الجزء الأول من الوقت، فإذا أخر المكلف الأداء عنه إلى منتصف الوقت أو آخره كان عليه أن يعزم على الأداء في الجزء السابق من الوقت بدلا عن الأداء فعلا، ويتعين الجزء الأخير للأداء فعلا بحيث لا ينوب عنه العزم فيه، فلو ترك العزم في الجزء الأول أثم، وقد استدل الباقلاني ومن تبعه على سببية أول الوقت بما استدل به الجمهور، وقد تقدم ذلك، كما استدل على وجوب العزم في أول الوقت إذ لم يحصل فيه أداء بأنه لو لم يكن العزم واجبا عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل، وهو باطل، لأنه يجعل الواجب غير واجب، إذ أن الواجب هو مالا يجوز تركه بلا بدل.
وقد رد الجمهور على هذا الدليل بعد موافقتهم على تعريف الواجب بأنه ما لا يجوز تركه بلا بدل، بأن العزم لا يصلح بدلا عن الفعل، لأن البدل هو ما يقوم مقام المبدل منه بحيث يسقط به، والعزم على الفعل لا يقوم مقام الفعل في ذلك، فلا يعتبر فعلا، ولا يسقط به الواجب باتفاق الفقهاء.
ولا يمكن أن يرد على هذا القول بأن مؤداه ترك الواجب لا إلى بدل بعد تحقيق السبب، ذلك أن معنى الترك في الواجب الموسع هو تركه إلى ما بعد خروج الوقت، لا تركه ضمن الوقت، فإنه لا يضر، بل إن معنى التوسع هو ذلك.
4- وذهب بعض الأصوليين، قيل هم بعض المتكلمين، وقيل بعض الشافعية، إلى أن السبب هو أول الوقت فقط، فإذا أخر الواجب عنه كان قضاء لا أداء، ولكن هل يأثم المكلف بهذا التأخير؟ خلاف بين أصحاب هذا المذهب، فذهب بعضهم إلى التأثيم، وذهب آخرون إلى عدم التأثيم.
وهذا المذهب يعني التسوية بين الواجب الموسع والواجب المضيق، أو إلغاء الواجب الموسع من أصله، وقد استدل أصحاب هذا المذهب بحديث النبي : (الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخره عفو الله)، فإن العفو لا يكون إلى عن ذنب، ولو كان آخر الوقت سببا في الوجوب لما كان أداء الصلاة فيه ذنبا يستوجب العفو من الله تعالى، فدل ذلك على أن أول الوقت هو السبب، وتأخيره عنه قضاء وذنب يستوجب العفو من الله تعالى.
وأجيب عن هذا الدليل بأن أقصى ما يفيده الحديث الشريف أن أداء الصلاة في أول الوقت أفضل من أدائها في آخره، وأن ترك الأفضل مخالفة تستحق العفو من الله تعالى، فيحمل الحديث عليها، ولا يمكن أن يصل هذا التقصير إلى درجة العقوبة، وإلا لصرح الشارع بها كما صرح بالعقوبة المترتبة على إخراج الصلاة عن وقت، ولكنه لم يصرح بالعقوبة، فكان ذلك دالا على الوقت الأفضل فقط، وليس ذلك محل خلاف، إنما الخلاف على الوقت الذي هو سبب الوجوب، وهذا ما ليس في الحديث دلالة عليه(1).
5- مذهب بعض الحنفية(2)في غير المشهور عندهم، إذ المشهور ما تقدم، وهو أن السبب هو الجزء الأخير من الوقت، فإذا قدم المكلف الواجب عنه بأن فعله في أول الوقت وقع نفلا يسقط به الفرض، كتقديم إخراج الزكاة على انتهاء الحول، فإنه نفل يسقط به الواجب بعد تحققه، وقد ذهب أبو الحسن الكرخي من الحنفية إلى هذا المذهب، إلا أنه قيده بشرط، وهو: (أن لا يبقى المكلف على صفة التكليف) كأن يجن أو يموت، فإن بقي على صفة التكليف وقع عن الواجب منذ فعله، أي إن الفعل عنده موقوف على نهاية الوقت، فإن انقضى الوقت أو بقى منه أقل مما يسع الواجب والفاعل مكلف، وقع الفعل عن الواجب منذ فعله، وإن خرج الفاعل عن التكليف قبل آخر الوقت، وقع الفعل نفلا من أصله.
استدل أصحاب هذا المذهب بأنه لو وجب الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت لما جاز تركه فيه، لأن شأن الواجب أن لا يجوز تركه، لكن الفقهاء متفقون على جواز ترك فعله قبل الجزء الأخير، فدل هذا على أن السبب في الوجوب إنما هو الجزء الأخير لا غير.
ونقض هذا الدليل بأن جواز ترك الواجب فيما عدا الجزء الأخير لا يستوجب عدم وجوب الفعل في هذا الجزء، بل يحتمل وجوبه فيه على التوسع، لأن معنى الواجب الموسع هو ذلك لما تقدم، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
انتقال الواجب الموسع إلى مضيق:
اتفق الفقهاء على أن الواجب الموسع قد ينتقل إلى مضيق في الحكم، فلا يجوز عندئذ للمكلف أن يؤخر الواجب عن أول الوقت، لأن حكم الواجب المضيق هو ذلك.
ويتم هذا الانتقال من الموسع إلى المضيق إذا ظن المكلف العجز عن أداء الواجب قبل آخر الوقت، فإنه يتضيق عليه الواجب بذلك، ويُستحق عليه وجوب الأداء فورا، وذلك كمن حُكم بالإعدام مثلا، وسحب إلى المقصلة مع دخول الوقت، وظن أنه لن ينظر إلى آخر الوقت، وكذلك المرأة إذا ظنت أنها تحيض في منتصف الوقت استنادا إلى عادتها في ذلك، فإنه يجب عليهما في هذه الحال المبادرة إلى أداء الواجب فور دخول الوقت، لأن الواجب انقلب في حقهما مضيقا لغلبة ظنهما، فإن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية.
ولكن الحائض والمحكوم عليه بالموت لو أخر الواجب عن الوقت الذي ظنا أنهما لن يدركاه بحالة التكليف، ثم سلم المحكوم عليه ولم تحض المرأة، فأوقعا الواجب قبل خروج وقته المحدد له شرعا، أيكون ذلك منهما أداء أم قضاء؟
اختلف في ذلك الفقهاء، فذهب الجمهور إلى أن فعلهما أداء وليس قضاء، لأن الأداء هو ما كان فعله في وقته المحدد له شرعا أولاً، وهذا كذلك، ولا عبرة بغلبة الظن هنا بعد أن تعين بطلانها، مثلهما في ذلك مثل من ظن خروج الوقت فصلى، ثم تبين له أن الوقت لم يخرج بعد، فإن فعله الواجب أداء بالاتفاق، لظهور بطلان ظنه، وهنا كذلك.
وذهب القاضي أبو بكر الباقلاَّني إلى أن فعله الواجب يقع قضاء، لأن الوقت انتقل في حقه من موسع إلى مضيق بناء على غلبة ظنه، فكان إيقاعه له كذلك إيقاعا خارج الوقت، فكان قضاء لذلك، لأن الإنسان يحاسب على ظنه.
والأرجح في نظري هو مذهب الجمهور، لما تقدم من قياسه على مسألة من ظن خروج الوقت وهو باق، لأن الظن إذا تبين خطؤه لم يعد له اعتبار في الشرع.
هذا من حيث كون الفعل قضاء أو أداء، أما من حيث الإثم، فالاتفاق على ثبوته، بحيث لو أخر الواجب عن الوقت المضيق الذي انتقل إليه في حقهما أثما بالاتفاق، والإثم هنا مبني على غلبة ظنهما، ولا يمكن أن يقال إن غلبة الظن بطلت فلا تصح أساسا للإثم، لأن الإثم قد استقر بمجرد خروج الوقت المضيق، فلا يسقط بعد ذلك(1).
وعلى كل فالخلاف بين القاضي والجمهور لفظي ماداما متفقين على التأثيم، إلا أن يشترط القاضي وجوب نية القضاء، وهذا ما لم يثبت عنه.
أنواع الواجب المؤقت من حيث وقت فعله والإتيان به:
ينقسم الواجب المؤقت من حيث وقت فعله إلى ثلاثة أقسام: أداء، وقضاء، وإعادة، ومن الفقهاء من ذهب إلى تقسيمه إلى قسمين فقط، هما: الأداء، والقضاء وجعل الإعادة قسما من أقسام الأداء، ولكنني هنا رجحت فصل الإعادة عن الأداء بقسم مستقل ثالث، ليكون ذلك أوضح في الأذهان.
ثم إن من الفقهاء من خص هذا التقسيم بالواجب دون غيره من أنواع الحكم الأخرى، كالمندوب مثلا، ومنهم من أطلقها في كل العبادات، فجعل هذا التقسيم من أنواع العبادات كلها بما فيها الواجب وغيره.
ثم إن منهم من قصر هذا التقسيم على الواجب المؤقت دون غيره، ومنهم من أطلقه في كل الواجبات مؤقتة كانت أو غيرها(2).
1 - الأداء :
اختلف الأصوليون في تعريف الأداء بالنظر لاختلافهم على طبيعة انتماء هذا التقسيم:
أ- فمن ذهب إلى أنه من تقسيمات العبادة المؤقتة مطلقا واجبة كانت أو غير واجبة عرَّف الأداء بأنه فعل العبادة في وقتها المحدد لها شرعا أو لاً، أو ما فعل في وقته المقدر له شرعا أو لاً(3).
ب- ومن ذهب إلى أنه من تقسيمات الواجب المؤقت لا غير، عرف الأداء بأنه فعل الواجب في وقته المحدد له شرعا أولاً.
ج- أما من ذهب إلى أن هذا التقسيم من تقسيمات المأمور به مطلقا، مؤقتا كان أو غير مؤقت، واجبا كان أو غير واجب، فقد عرَّف الأداء بأنه تسليم عين الثابت بالأمر، فإنه يدخل فيه تسليم الواجب المؤقت في وقته المحدد له شرعا، كما يدخل فيه كل حقوق العباد الأخرى، فتسليم الصوم في وقته أداء، لأنه تسليم عين الثابت بالأمر، بخلاف فعله خارج وقته المحدد له شرعا، فإنه تسليم مثل الواجب لا عينه، وهو قضاء كما يأتي، وكذلك تسليم عين المغصوب، فإنه أداء، بخلاف تسليم قيمته، فإنه قضاء، لأنه مثل الثابت بالأمر لا عينه(1).
وقد اختار هذا التعريف فخر الإسلام، ورجحه صاحب فواتح الرحموت واعتبره التعريف الجامع، وهو ما نرى ترجيحه، لأنه جامع لكل أنواع الحكم التكليفي.
ENDNOTE
(3) انظر في ذلك العضد على ابن الحاجب 1/232، وانظر أيضاً في هذا التقسيم
فواتح الرحموت 1/57 ـ 57.
(1) انظر فواتح الرحموت 1/62.
(2) انظر التلويح على التوضيح 2/123.
(3) انظر فواتح الرحموت 1/699-72. والتوضيح على التنقيح 1/202 وما بعدها.
(4) انظر فواتح الرحموت 1/69.
(1) انظر التوضيح على التنقيح: 1/202، وكذلك التلويح عليه في نفس الموضع.
(2) انظر فواتح الرحموت 1/69 – 72.
(3) انظر المصباح المنير – مادة (ظرف).
(1) انظر المصباح المنير ومختار الصحاح – مادة (عير).
(1) انظر فواتح الرحموت 1/69، فإنه أشار لترجيح الكمال لمذهب الجمهور وذهب إلى مخالفته وترجيح مذهب الحنفية وتوجيهه.
(1) الخضري: ص 39-41، وفواتح الرحموت 1/72.
(2) فواتح الرحموت 1/69.
(3) انظر فواتح الرحموت 1/69-71، والتوضيح 1/212.
(1) انظر فواتح الرحموت شرج مسلم الثبوت: 1/69.
(2) انظر في هذا الموضوع المستصفى: 1/62، وفواتح الرحموت 1/76 وما بعدها والتلويح على التوضيح 1/206 وما بعدها، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 1/341 وما بعدها.
(1) انظر فواتح الرحموت – شرح مسلم الثبوت: 1/76، والتنقيح: 1/206 والعقد: 1/241.
(1) فواتح الرحموت 1/76، والعضد وحاشية السيد عليه: 1/242.
(2) انظر في ذلك بحثا مطولا في فواتح الرحموت 1/76-77.
(3) انظر العضد على ابن الحاجب: 1/241، ومذكرات أبي النور زهير: 1/107-108.
(1) انظر العضد: 1/241، وأبو النور زهير: 1/108-109.
(2) انظر العضد وحاشية السيد عليه: 1/242، وأبو النور زهير: 1/110-111 والتنقيح: 1/306.
(1) انظر شرح العضد على ابن الحاجب: 1/243-144، وفواتح الرحموت 2/86-88، وأبو النور زهير: 1/112.
(2) انظر فواتح الرحموت 1/85-86، والمستصفى: 1/95 وما بعدها.
(3) انظر فواتح الرحموت 1/86،والعضد 1/233.