المحتويات
- مصادر التشريع الإسلامـي
- تمهيــــد
- القسم الأول المصادر المتفق عليها
- العودة إلي كتاب بحوث في أصول الفقه
مصادر التشريع الإسلامـي
تمهيــــد:
كل شريعة قامت على وجه هذه الأرض، وكل نظام أو قانون عاش فيها، لا بد أن يكون ناشئا عن أحد مصدرين اثنين لا ثالث لهما، فهي إما أن تكون من قبل الله سبحانه وتعالى خالق البشر ومربيهم، وإما أن تكون من صنع البشر أنفسهم.
فالنوع الأول هو ما يدعى بالشرائع السماوية، والنوع الثاني هو ما يسمى بالشرائع الوضعية، وعلى ذلك نرى أن شرائع العالم كله تنقسم إلى قسمين بحسب طبيعة مصدرها ومنشئها، وشريعتنا الإسلامية التي هي موضع دراستنا إنما هي شريعة من النوع الأول، إذ هي شريعة سماوية صادرة عن الله سبحانه، ولا دخل فيها لأي إنسان مهما ارتفعت رتبته وعلا مقامه، فالمشرع الأوحد عندنا هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعترف المسلون لأحد غيره بحق التشريع، حتى النبي فإنما نقبل قوله وعمله وتقريره لأنه مخبر عن الله تعالى وناقل لأوامره ونواهيه ليس إلا، ولذلك أجمع المسلون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي بمقتضى الجبلة الإنسانية لا تعتبر تشريعا ملزما بحال، كطريقته في أكله وشربه ونومه …
وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبدا، وكل مالهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا.
وعلى ذلك فإن المصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله سبحانه وتعالى ليس إلا، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فإنه هو المشرع الحقيقي ولا مشرع غيره. والقرآن كلام الله تعالى قامت على ذلك كل البراهين والأدلة النقلية والعقلية، وسوف نورد شيئا من ذلك في موضع حجية القرآن الكريم وأدلة هذه الحجية، ولذلك أجمع المسلمون على اختلاف نزعاتهم وآرائهم ومذاهبهم على أن القرآن مصدر من مصادر الشريعة، بل هو المصدر الوحيد فيها، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن أو فرع عنه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه وعده مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة، إذ إن إتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة، لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه.
وعلى ذلك يكون القرآن هو المصدر الأصلي لهذه الشريعة، وما عداه من المصادر المتفق عليها والمختلف فيها إنما هي مصادر تبعية، أو مصادر مجازية إن صح التعبير، لأنها في ثبوت حجيتها محتاجة للقرآن ومتوقفة عليه.
وإلى هذا المعنى أشار الغزالي في المستصفى حيث قال: (واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى: إذ قول الرسول ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم، كذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة الشريفة ، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه).
لكننا نرى بعض العلماء بل أكثرهم يذهبون إلى أن القرآن والسنة والإجماع والقياس مصادر أصلية كلها، وما عداها مصادر تبعية، فيخالفون بذلك ظاهر ما تقدم تفصيله من اعتبار القرآن أصلا وما عداه تبعا له.
والجواب أن لهؤلاء الفقهاء عذرهم في هذا التقسيم، وهو تقسيم اعتباري على أي حال لا يؤثر في جوهر الموضوع في شيء، وحجتهم في هذا التقسيم هي أن هذه المصادر الثلاثة بعد القرآن الكريم هي مصادر غنية بالأحكام كالقرآن، بل إن بعضها أكثر منه غناء من حيث الكم، كالقياس، ثم إن هذه المصادر أثبتت في كثير من الأحيان أحكاما سكت عنها القرآن الكريم بتاتا ولم يتعرض إليها، كالسنة في كثير من مواضعها أو بعضها في بعض الأحيان تنسخ أحكاما جاء بها القرآن عند أكثر الفقهاء، فهي لهذه الأسباب تعد مصادر أصلية، بمعنى أنها مستقلة في إنشاء الأحكام عن القرآن الكريم، ولا يضر كونها ثبتت حجيتها بالقرآن في جعلها أصلية بحال، بخلاف المصادر الأخرى، فإنها لم تنفرد عن القرآن الكريم وهذه المصادر الثلاثة التي بعده في تشريعها للأحكام، بل هي تفسير لها أو استثناء منها أو علامة عليها، ولذلك فهي محتاجة إليها وفرع عنها، فكانت تبعية لذلك، كالاستحسان والاستصحاب وعمل الصحابي وغيره.…
هاتان هما وجهتا نظر الفقهاء في بيان الأصلي والتبعي من المصادر، عرَّفتهما وبينت مناط الاختلاف فيهما، وأشرت إلى أن لكل منها وجهة نظر سليمة وموضوعية.
والحق أن القول الأول هو الأقرب للواقع، بل هو عين الواقع، وإن كان القول الثاني، أسهل في التبويب والتنسيق، وعلى كل، ذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون، وإنني في هذه الدراسة الموجزة لمصادر التشريع الإسلامي سوف أمشي على القول الثاني لسهولته ووضوحه، فأقسم المصادر إلى قسمين: مصادر متفق عليها وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وتسمى بالمصادر الأصلية، ومصادر مختلف فيها، وهي ما عدا المصادر الأربعة الأولى، وتسمى بالمصادر التبعية.
القسم الأول المصادر المتفق عليها:
القرآن الكريـــم:
تعريفـــه:
الكتاب في أصل اللغة الفرض والحكم الواجب، ومنه قول تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103)، أي فرضا مؤقتا، وهو من باب نصر. ويطلق أيضا على كل ما يكتبه الشخص ويرسله، فهو في اللغة يعم كل كتاب.
والكتاب في تعريف الأصوليين خاص بما أنزل من عند الله تعالى على سيدنا محمد ، ويعرفونه بأنه: (اللفظ العربي المعجز بسورة منه المنزل وحيا على سيدنا محمد المنقول إلينا متوترا بلا شبهة المحفوظ في المصاحف المتعبد بتلاوته).
تحليل التعريــف:
اللفظ العربي: فيه إشارة إلى أن القرآن هو اللفظ والمعنى، وليس المعنى فقط، وعلى ذلك إجماع العلماء، إلا مما نقل عن أبي حنيفة أنه لم يجعل النظم (اللفظ) ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة، بل اعتبر المعنى فقط. حتى لو قرأ المصلي بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت صلاته عنده، لكن الأصح أن الإمام أبا حنيفة رجع عن هذا القول إلى رأي الجمهور، فجعل القرآن الكريم هو اللفظ والمعنى في حق الصلاة وغيرها على حد سواء. ولذلك لا يسمى ما ترجم من القرآن إلى أي لغة أخرى غير العربية قرآنا على هذا التعريف المتفق عليه لدى المسلمين، ولكن تفسيرا له.
المعجز بسورة منه: العجز في اللغة الضعف، وأعجزه وجده عاجزا، ومنه المعجزة لما تظهره من عجز الآخرين وقصورهم عن الإتيان بمثلها، والمعجزة في الاصطلاح الأمر الخارق للعادة،
ولا بد عند الأصوليين لتحقق الإعجاز من توفر شروط ثلاثة، هي:
1- التحـدي: بأن يكون الأمر الخارق للعادة مصحوبا بالتحدي للخصم أن يأتي بمثله، وإلا لم يكن معجزة، فيخرج بذلك كل أنواع الكرامات التي تظهر على أيدي الصالحين، لأنها غير مصحوبة بالتحدي.
2- المقتضى : بأن يكون أمام الخصم دافع لمضاهاتها والإتيان بمثلها، فلو كان الخصم غافلا عنها غير مجتهد في الإتيان بمثلها لم تكن معجزة في حقه، لأن العجز لا يظهر إلا عند التصدي أو مكان التصدي للمضاهاة.
3- انتقاء المانع: وذلك بأن لا يكون أمام الخصم أي مانع من مضاهاتها إلا عجزه المطلق، فلو كان الخصم لم يسمع بها أو لم يفهمها، فإنها لا تعتبر معجزة في حقه، لأن عجزه لا يثبت هنا مع قيام المانــع.
وقد تحقق للقرآن الكريم هذه الشروط الثلاثة:
فأما التحدي، ففي أكثر آية من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)، وأي تحد أشد من هذا التحدي.
وأما المقتضى، فهو متوفر أيضا، يدل عليه رغبة المشركين الأكيدة في تكذيب محمد وإظهار عجزه، لما جاء به من نقض لمبادئهم وعقائدهم الفاسدة ، ومن ذلك حرصهم الشديد على قتله وإيذائه، وتجربتهم الفعلية في مضاهاته ثم اعترافهم بفشلهم في هذه التجربة، ثم قول أمية بن خلف عندما أرسلوه ليفاوض النبي على ترك الدعوة التي يدعوا إليها حيث قال يصف القرآن الكريم: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر)، وأمية هو من هو في فصاحته ومعرفته باللغة العربية وأساليبها.
وأما زوال المانع، فهو موجود أيضا في القرآن الكريم، لأنه بلغتهم نزل، وبين أظهرهم انتشر، وهم العرب الأقحاح الذين بلغوا الشأو في الفصاحة واللسن، فأي مانع كان يحول بينهم وبين مضاهاته إلا عجزهم عن ذلك،.
وهنا لا بد من التنبيه إلى بطلان الصرفة التي ذهب إلى القول بها بعض الناس، حيث قالوا إن إعجاز القرآن ليس ذاتيا فيه، ولكنه بصرف العرب عن مضاهاته، فهو في ذاته غير معجز، وهو في مستطاع للبشر، بل لا بد من اعتباره كذلك ليكون مفهوما لهم وواضحا أمام عقولهم ضرورة التمكن من تطبيقه والاستفادة منه، إنما هو كامن وراء صرف الله العرب عن مضاهاته، وردهم عن مجاراته.
هذا القول باطل رده جمهور العلماء، وأثبتوا للقرآن إعجازا ذاتيا على الشكل المتقدم. وردوا على ما احتج به أهل الصرفة من أن ذلك كان منهم لضرورة فهم النصوص وتطبيقها، بقولهم: إن الإعجاز ليس معناه انغلاق الفهم، بل الإعجاز لا يكون إلا بعد الفهم الكامل للمعجزة، وليس العجز عن مجاراة الشيء عجزا عن فهمه بحال، فكم هنالك من نقاد للشعر برزوا في نقدهم له ولم يتقنوا فن الشعر ولم يستطيعوه، ولم يعتبر ذلك منهم عيبا في نقدهم أو فهمهم للشعر.
وإما تقييد الأصوليين الإعجاز بسورة منه، فلأن الحرف أو الكلمة أو مادون السورة ليس بمعجز، والمقصود بالسورة أقصر سورة منه، وذلك لأن التحدي كان بذلك، فإن الله تعالى تحداهم أولا بأن يأتوا بمثله كله، ثم تحداهم بعشر سور منه، ثم تحداهم بسورة واحدة منه، كما جاء في سورة البقرة المتقدمة، وأما ما دون السورة فإنه ليس بمعجز، بل هو ممكن التقليد عقلا، ولأنه لا تحدي فيه.
المنزل وحيا على محمد ، يخرج بهذا القيد السنة الشريفة النبوية، فإنها ليست وحيا إذ المقصود بالوحي هنا الوحي الظاهر، فإن قيل خرجت بقولنا اللفظ المعجز إذ لا إعجازا في السنة الشريفة ، قلنا المراد بهذا القيد هنا بيان المنشأ والمصدر في القرآن، لتطمئن النفس إليه، وليكون زيادة تأكيد على الفصل بين ما هو قرآن وما هو سنة.
المنقول إلينا متواترا: يخرج بهذا القيد كل القراءات الشاذة والآحادية والمشهورة، لأنها لم ترد إلينا بالتواتر، وهي الروايات فوق السبعة أو العشرة المتواترة.
ولصحة التواتر شروط ثلاثة، هي:
1- أن يبلغ عدد الرواة حدا يحيل العقل معه تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وتعدد مشاربهم ونزعاتهم وغير ذلك، فلو رواه قلة من الناس لا يكون تواترا، وكذلك لو رواه كثرة من الناس ولكن العقل لا يحيل تواطؤهم على الكذب رغم كثرتهم، فإنه لا يكون تواترا أيضا، كرواية أصحاب هوى معين شيئا يتعلق ببدعتهم أو هواهم وغير ذلك، أما العدالة واختلاف البلد فليسا شرطا، بل لو أخبر أهل بلدة كافرة بموت ملكهم فإنه يعتبر خبرا متواترا به علم يقيني بموت ملكهم.
2- أن يتوفر هذا العدد في القرون كلها، فلو روى الخبر جماعة بلغت حد التواتر في القرن الأول وما بعده إلا الثاني، أو بلغت حد التواتر في القرنين الأول والثاني دون ما بعدهما، فليس متواترا، على خلاف ما لو بلغ الرواة حد التواتر عددا في القرن الثاني وما بعده دون القرن الأول، فإنه ليس متواترا أيضا، ولكن الحنفية أفردوه باسم مستقل به وهو (المشهور)، وجعلوه مرتبة ثالثة وسطا بين المتواتر وخبر الآحاد، خلافا للجمهور الذين لم يفرقوا بينه وبين الآحاد واعتبروهما واحـدا.
وأما العدد المشروط للتواتر فلم يتفق عليه الأئمة، فمنهم من ذهب إلى أنه خمسة، ومنهم من قال اثنا عشر أو عشرون أو أربعون أو خمسون، أقوال متعددة كلها لم يشهد لها دليل، والأصح أن العدد فيه غير محدود بحد معين، بل أمره متروك للعقل، فكل عدد أحال العقل التواطؤ على الكذب معه فهو متواتر، ومالا فلا، وهو أمر يختلف باختلاف قرائن الأحوال.
3- أن يكون الخبر معتمدا على الحس من سمع وغيره، فإن كان مستندا إلى العقل لم يعتبر متواترا بحال مهما بلغ عدد رواته، ما لم يقم برهان آخر عليه.
بلا شبــهة: هذا قيد وضعه الحنفية ليخرجوا به الحديث المشهور، فإن المشهور عندهم ما تواتر في القرنين الثاني والثالث وما بعدهما، وكان آحادا في القرن الأول، فإنه في مرتبة بين المتواتر والآحادي كما تقدم، خلافا للجمهور الذين لا يعتبرون للخبر إلا مرتبتين فقط، همـا: التواتر والآحاد، ولكن المشهور يخرج بالقيد الأول وهو التواتر، إذ المتواتر ما استوفي فيه العدد في القرون كلها معا، وليس المشهور عند الحنفية كذلك، فلا حاجة إلى هذا القيد، ولذلك فإنه يعتبر قيد اتفاقيا لا احترازيا، ومن المشهور في القرآن -على تعريف الحنفية له-القراءات الثلاثة بعد السبعة المكملة للعشرة، فإنها مشهورة وليست متواترة، وهنالك من الفقهاء من يعتبرها متواترة أيضا.
المحفوظ في المصاحف: هذا القيد يخرج ما نسخ لفظه وبقي حكمه من القرآن، من أمثال قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله) فإنه ليس من القرآن لعدم وروده في المصحف، والمقصود هنا بالمصاحف، المصاحف التي كتبت في عهد عثمان ، وأجمع المسلمون على صحتها، فلا يدخل فيها المصاحف الخاصة ببعض الصحابة، كمصحف أبيِّ بن كعب، ومصحف ابن مسعود وغيرهما ، فإن فيها تفسيرات ليست من القرآن، وأل هنا للعهد، والمقصود بها مصاحف عثمان كما تقدم.
المتعبد بتلاوتـــه: يخرج بهذا القيد جميع أنواع السنة الشريفة ، ومنها الحديث القدسي، وهو وإن كان خارجا عن القرآن بقولنا المعجز، لأن الحديث القدسي غير معجز، لأن لفظه من النبي إلا أن فيه زيادة توضيح وإشارة خاصة إلى مزية هامة في القرآن الكريم وهي التعبد بتلاوته.
شروط القرآنيــة:
من خلال التعريف المتقدم للقرآن الكريم وتحليله نستطيع استخلاص شروط ثلاثة للقراءة الصحيحة المعتبرة قرآنا، وهي:
أ - التواتر: وقد تقدم معناه وشروطه، فأما القراءة المشهورة فلا تعتبر قرآنا، ولذلك لا تصح بها الصلاة، أما الاحتجاج بها، فقد اختلف فيه الفقهاء:
فذهب الجمهور إلى أنها لا حجية فيها، وذهب الحنفية إلى أنها تعتبر في رتبة الحديث المشهور، فتفيد غلبه الظن، لأنها إن سقطت قرآنيتها فلا أقل من أن تعتبر بمثابة الحديث المشهور، من ذلك ما جاء في مصحف ابن مسعود من قوله تعالى في كفارة اليمين: (ثلاثة أيام متتابعات)، فإن لفظ متتابعات مشهور وليس بمتواتر، ولذلك فإن الحنفية يشترطون في كفارة اليمين التتابع خلافا للجمهور.
ب - موافقة رسم المصحف: أي المصحف الذي كتب في زمن عثمان ، والموافقة المشروطة هنا هي الموافقة بالجملة، ولا تضر المخالفة في بعض الحروف أو الحركات، فإنها محتملة.
ج- موافقة اللغة العربية ولو بوجه: لأن القرآن نزل عربيا، فلا يكون منه ما فيه لحن أو عجمة بحال، وقد رد الشافعي على من قال بأن في القرآن العربي والأعجمي بردود قاطعة، وأثبت أنه عربي محض وليس فيه من لغة غير العرب شيء مطلقا، ولكن نظرا لتعدد لغات العرب ولهجاتهم، ولاحتمال القرآن كل هذه اللهجات بالجملة نظرا لنزوله على سبعة أحرف، فقد اكتفى الفقهاء بموافقة النص القرآني اللغة العربية ولو بوجه فقط.
حجيتــه:
نقصد بكلمة الحجية الدلائل والبراهين التي تثبت أن القرآن الكريم كلام الله تعالى وأنه ممثل حقيقي لأمر الله ونهيه، ليكون حجة ومصدرا من مصادر هذه الشريعة السمحة، لأننا إذا استطعنا وصل القرآن بالله، وإثبات أنه كلامه تعالى، استطعنا إقامته حجة ودليلا من أدلة التشريع.
وقد ثبتت حجية القرآن الكريم بأدلة كثيرة منهــا:
1- إعجازه، فالقرآن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة تحدى بها العلمين فعجزوا عن الإتيان بمثلها، وقد ثبت للقرآن كل شروط المعجزة كما تقدم في تحليل تعريف القرآن الكريم. فإذا كان القرآن الكريم معجزا للبشر كان معنى ذلك أنه ليس في مقدور أحد منهم أنى كان الإتيان بمثله، وإذا كان الأمر كذلك فهو من الله جل وعلا، بالتالي هو حجة تشريعية.
وللإعجاز القرآني أوجه كثيرة مبسوطة في كتب علوم القرآن الكريم لا محل هنا لتفصيلها. لأنها أدخل في مقرر علوم القرآن الكريم منها في مقرر أصول الفقه.
2- ما جاء في آيات القرآن الكريم نفسه مما يدل على أنه من الله مثل قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن الكريم تنزيلا) وقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
طريقة نزولـــه:
لم ينزل القرآن الكريم على النبي دفعة واحدة، وإنما أنزل عليه منجما على طول اثنتين وعشرين سنة تبعا للحوادث والوقائع، فكانت كلما جدت حادثة أو سئل النبي سؤالا، أو حدثت مشكلة تحتاج إلى حل ينزل الوحي على النبي بالآيات التي تتضمن الحل لهذه المشكلة.
وقد أوضح الله تعالى الغاية من تنزيل القرآن الكريم منجما جوابا على سؤال الكفار واعتراضهم على هذه الطريقة، فقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (الفرقان:32)، فالغاية من التنجيم إذا هي أمران، هما: تثبيت فؤاد النبي وترتيل القرآن الكريم ، ويمكن لنا أن نلاحظ بعض الأمور الأخرى بعد هذين الأمرين، أهمها: التدرج بالأمة في التربية والإعداد، ثم تأكيد معنى الإعجاز وإظهار التحدي فيه بأجلى مظاهره، وأخيرا الزيادة في توضيح معاني القرآن الكريم وبيان مراميها.
ولذلك فإننا سنبحث في هذه الأمور الخمسة بإيجاز، بما يلقى الضوء على كنهها وحقيقتها:
أ- تثبيت قلب النبي لأن القرآن الكريم كان مربيا للنبي ومثبتا له في مقابلة ما كان يراه من قومه من مشاق وأذى بالغ، فكان تتابع القرآن الكريم عليه وصلة الوحي به طيلة مدة بعثته مثبتا لعزمه وشاحذا لهمته على متابعة الطريق في حمل الرسالة إلى آخر مدى بدليل أن الوحي كان ينقطع عن النبي في بعض الأحيان لمدة قصيرة، فكان يجد من ذلك ضيقا بالغا، فكيف به إذا انقطع عنه سنين طويلة.
ب - ترتيل القرآن الكريم: المراد به حفظه وجمعه في الصدور لفظا ومعنى، فالعرب أمة أمية، والرسول منهم، لا يعلم القراءة والكتابة، ولو أنزل القرآن الكريم جملة واحدة لشق على النبي وأصحابه حفظه مرة واحدة، ولذلك كان في تفريقه حكمة بالغة لسهولة جمعه في صدورهم على هذه الطريقة، وبذلك تحقق للقرآن الكريم النقل المتواتر إلينا عن طريق هذا الحفظ، ويشير إلى هذا ترديد النبي له طيلة يومه خشية نسيانه، مما أوقع النبي في حرج بالغ ومشقة زائدة، حتى نزل قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (القيامة 16-17)، وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، عندها اطمأن قلب النبي وهدأ روعه.
ج- التدرج في التربية والإعداد للأمة الإسلامية: فتنظم به أمورها، وقد أنزل القرآن الكريم في أمة ابتعدت عن جادة الصواب كثيرا في معتقداتها وعاداتها وتشريعاتها، ولذلك كان من العسير جدا ردها إلى طريق الصواب دفعة واحدة، فقضت حكمة الله جل وعلا أن يربيها تربية تدريجية لئلا يشق عليها ويحمàلها من أمرها عسرا، فكان التنزيل القرآني منجما مؤمنا لهذه الغاية ومحققا لهذا الهدف من اليسر ودفع المشقة عن المؤمنين، فالخمرة حرمت على دفعات، وكذلك كل الواجبات كانت تأتي على دفعات أيضا، فالصلاة فرضت أولا، ثم الصوم، ثم الحج، وهكذا كانت تأتي الأوامر والفرائض كلها لتسهل على نفس المؤمن إساغتها والعمل بموجبها، والتدرب على القيام بها.
د- تأكيد معنى الإعجاز: الإعجاز كما تقدم في تعريفه بيان عجز الغير وضعفه عن المجاراة، وتنجيم القرآن الكريم تضمن تأكيدا لهذا المعنى، إذ لو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة لاحتج العرب بأنهم لا يستطيعون مجاراة القرآن الكريم جملة واحدة ، ولكنهم بإمكانهم أن يأتوا بجزء منه بعد جزء، فكان مجيء القرآن الكريم منجما ردا لهذه الدعوى، بأن القرآن الكريم قد أنزل أجزاء وهو يتحداهم بكل جزء من أجزائه لا بكله فقط. وفي هذا منتهى التحدي المعجز، ثم إلى جانب ذلك فإن في انسجام آيات القرآن الكريم وتناسقها مع تنجيمها زيادة إعجاز، لأنها لو نزلت دفعة واحدة، فإن كان تناسقها مع نزولها دفعة واحدة معجزا فهو مع تنجيمها معجز من باب أولى، لأن إمكان التخلخل مع التنجيم أكثر بكثير من إمكانه مع النزول دفعة واحدة، يعرف هذا كل من عانى الكتابة والتأليف.
هـ- تثبيت معاني الأحكام وتوضيح مراميها، لأن أسباب النزول تلقي ضوءا كاشفا على طبيعة الحكم الشرعي وحدوده، ولا زال العلماء يلجؤون دائما في تفسيرهم لآيات الله إلى أسباب نزول هذه الآيات، للكشف عن الوقائع والأحداث التي أنزلت الآية والآيات بسببها، ولو أنزل القرآن الكريم دفعة واحدة لفقدنا هذا العنصر المهم في بيان أهداف الآيات ومراميها.
هذا إلى جانب أسباب كثيرة لهذا التنجيم مفصلة في كتب علوم القرآن.
أحكام القرآن الكريم وطريقته في معالجتها:
القرآن دستور الأمة الإسلامية والمصدر الأول للتشريع فيها، ولذلك نراه يبحث في كل الأمور، ويجمع شتات كل الأحكام، ويوفق بين كل الحقوق والواجبات، ولا يترك شاردة ولا واردة من أمور الدين أو الدنيا إلا وينظمها بنصوص أو بإشارات أو بتوجيه للأساس أو المصدر الذي يجب الاعتماد عليه فيها، وذلك مصداقا لقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، وقد روي عن بعض الصحابة قوله: (والله لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في القرآن)، وقد روي أن جاهلا ناقش أحد أئمة المسلمين معترضا عليه في أن في القرآن الكريم كل شيء، وقال له: أين طريقة صنع السيارة في القرآن الكريم .فأجابه الإمام: هي في قوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43)، وبهذا يكون القرآن الكريم قد بحث في كل الأحكام، ونظم كل الحقوق والواجبات إجمالا لا تفصيلا.
ولزيادة الإيضاح نقول: أن القرآن الكريم نظم الأحكام التالية:
1- حقوق الإنسان وواجباته نحو ربه سبحانه وتعالى، اعتقادية كانت – وهو ما يسمى الآن بعلم الكلام – أو عملية – وهو ما يسمى بقسم العبادات – فأما الأمور الاعتقادية فقد شغلت أكثر القرآن الكريم ، وقد تفنن القرآن الكريم في عرضها، من ذلك قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص (1-4)، ومنها قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة:58-59) … أما أحكام العبادات، فقد تعرض لها القرآن الكريم بإجمال، وترك أكثر تفصيلاتها ودقائقها إلى السنة الشريفة الشريفة، من ذلك قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) من غير تفصيل لشروطه وأركانه وغيرها.
2- حقوق الإنسان وواجباته نحو أفراد أسرته، وهو ما يدخل اليوم تحت قسم الأحوال الشخصية، فقد بين القرآن الكريم حقوق الزوج وحقوق الزوجة وحقوق الوالدين وحقوق ذوي الأرحام جميعا، مالية كانت أو غير مالية، هذه الحقوق عالج القرآن الكريم قسما منها بالتفصيل لخطورتها ودقتها، فلم يترك أمر تفصيلها لأحد، بل تكفل هو بكل ذلك، من ذلك أحكام المواريث، وعالج القسم الآخر بإجمال، تاركا تفصيلها إلى المصادر التشريعية الأخرى بعد ما أرسى معالمها الرئيسية، من ذلك أحكام الزواج والطلاق وغيرها، حيث جاءت السنة وغيرها بالتفصيلات الكافية لها.
3- حقوق الإنسان وواجباته نحو أفراد مجتمعه، وهذه على أقسام متعددة، أهمها:
أ) الأمور والعلاقات المالية، وهي ما يدخل في قسم المعاملات، من بيع وشراء وهبة وغيرها، وهذه عالجها القرآن الكريم بشيء من الإجمال، حيث أرسى قواعدها الأساسية وخطوطها العريضة دون تعرض لتفصيلاتها التي ترك أمرها للمصادر الأخرى وللقضاء في أكثر الأحيان، نظراً لطبيعة وضرورة التطور الكامن فيها.
من ذلك قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة:1).
ب) الأحكام العقابية، وهي ما يدخل في قسم العقوبات، كالحدود والقصاص والتعزيرات، وقد جاء بعضها مفصلا لا لبس فيه ولا خفاء، وذلك لخطورتها ودقتها، من ذلك قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة:38)، وغيرها مما يتعلق بأنواع الحدود والقصاص، وجاء بعضها الآخر مجملا متروكا أمر تفصيله إلى القضاء، وهو ما يسمى ب(التعزيرات)، ويلحق بهذا القسم العقابي قسم الكفارات، فإن فيها معنى العقاب من ناحية ومعنى العبادة من ناحية أخرى، وهذه فصلها الله تعالى تفصيلا دقيقاً لخطورتها، من ذلك قوله تعالى في كفارة الظهار: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (القصص:3-4)، وغيرها من كفارات القتل واليمين…
ج) من الناحية الاقتصادية، فبين أحكام الزكاة مواردها ومصارفها، وقد عالج القرآن الكريم هذه الأحكام بإجمال، وترك تفصيلاتها للسنة المطهرة توضحها وتبينها وتحدد مقاديرها ومصارفها وشروطها، ومن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3)، والزكاة وإن كانت داخلة في باب العبادة فهي داخلة في باب حقوق المجتمع أيضاً، لاحتوائها على الشبهين معاً. ثم أحكام الغنائم والفيء وغيرها، وهذه ذكرها القرآن الكريم بتفصيل لأهميتها ودقتها، من ذلك قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال:41)،
د) من حيث طرق التقاضي والترافع أمام القضاء وطرق الإثبات وغيرها مما يدخل في باب المرافعات الشرعية، فقد تكلم عنها القرآن الكريم بإيجاز أيضاً، من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)، وغير هذه الآية في القرآن الكريم كثير.
4- حقوق الدولة وواجباتها نحو مواطنيها وحقوقها وواجباتها تجاه الدول الأخرى، وهو ما يعرف في الإصلاح الحديث بالحقوق الدستورية والحقوق الدولية العامة والخاصة، فقد عني بها القرآن الكريم عناية كاملة، ولكنه تكلم عنها بإجمال وترك أمر تفصيلاتها للنبي وللصحابة من بعده، لأن من هذه الأحكام ما يتغير غالباً بتغير الأزمان، ولذلك فالقرآن أرسى المعالم الرئيسة والخطوط العريضة فيها فقط، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)، وقوله تعالى في التحدث عن علاقة المسلمين بغيرهم: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة:12)، وقوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وغير ذلك من الآيات الكريمة.