المحتويات
- التقسيم الثالث للواجب: من حيث تعيين الملزم بفعله
- معنى هذا التقسيم ومنشأه
- حكم الواجبين العيني والكفائي
- الأدلــــــة
- انتقال الواجب الكفائي إلى واجب عيني
- التقسيم الرابع للواجب من حيث تعيُّن المطلوب به وعدمه
- العودة إلي كتاب بحوث في أصول الفقه
التقسيم الثالث للواجب: من حيث تعيين الملزم بفعله.
ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب على العين، وواجب على الكفاية.
1- فالواجب على العين: ويسمى الواجب العيني، هو الواجب المتعلق بجميع أفراد المكلفين على وجه لا يتأدى إلا بفعل كل واحد منهم له.
2- الواجب الكفائي: وهو الواجب المتعلق بجماعة المكلفين على وجه يتأدى فيه بفعل البعض منهم له، لحصول الغرض منه بفعل بعض المكلفين(2)، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم، لعدم حصول الواجب منهم.
معنى هذا التقسيم ومنشأه:
كل الواجبات التي شرعها الله جل شأنه الحكمة فيها شيئان، هما تربية البشرية جمعاء، وإقامة العدالة بينها، والتربية لا تتحقق إلا بالتزام كل واحد من المكلفين الواجبات التي شرعت له، لأن التربية أمر شخصي ذاتي لا يصلح أن يقوم فيه إنسان مقام آخر، كالقوة البدنية تماما، لا تتم لإنسان إلا إذا قام بالرياضة لها بنفسه، ولا يغني عن ذلك قيام غيره بها مهما كان ذلك الغير.
أما إقامة العدالة وتأمين المصالح فتتحقق بفعل البعض دون الكل، لأن الغاية منها نوعية وليست شخصية، كالقضاء والجهاد، فإن الغاية منها إقامة العدالة بين الناس وكسر شوكة الأعداء ورد أذاهم.
لهذا كله انقسمت الواجبات إلى هذين القسمين، فما كان منها متعلقا بجانب التربية اعتبر واجب عين لا يتأدى فيه الواجب إلا بفعل كل إنسان مكلف له، فإذا ما تركه إنسان من المكلفين أثم لوحده، ولم يغن عنه قيام غيره به.
وما كان منها متعلقا بجانب العدالة ومصلحة المجتمع دون النظر إلى أفراد هذا المجتمع اعتبر واجب كفاية يتأدى فيه الواجب بفعل بعض المكلفين له، ويسقط الوجوب عن الباقين بذلك، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم لفوات المصلحة المترتبة على هذا الوجوب كليا.
وهذا التقسيم للواجب منطقي وضروري، ومجافاته جور وعبث، ذلك أن مصالح المجتمع كثيرة ومتعددة، لا يستطيع كل مكلف القيام بها جميعا، كالعلم والقضاء والجهاد والمهن كلها.. فإذا ما كان وجوبها عليه عينا كان تكليفا بما لا يطاق، وجورا ينزه التشريع الإسلامي عنه، ثم إن في تكليف المؤمنين جميعا به خروجا عن الحكمة التي يتصف الله سبحانه وتعالى بها، ذلك أن فيه جعل كل الناس علماء بالفقه وبالأصول وبالكيمياء والفيزياء والخياطة والتجارة.. وهو لا شك -على ما فيه من استحالة- عبث من العبث لعدم الحاجة إليه، والعبث لا يليق بأي تشريع فضلا عن التشريع الإسلامي الصادر من حكيم حميد(1).
حكم الواجبين العيني والكفائي:
اتفق الفقهاء على أن حكم الواجب العيني التزام كل مكلف به وعدم براءة ذمته منه إلا بالأداء شخصيا، وأن الواجب الكفائي حكمه براءة ذمة المكلفين به بفعل جماعة منهم له، على أن الثواب خاص بالجماعة التي قامت به دون غيرها، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم.
محل تعلق الواجب الكفائي:
واتفق الفقهاء أيضا على أن الواجب العيني متعلق بذمة المكلفين به جميعا، أما الواجب الكفائي فقد اختلف الفقهاء في متعلقة على أربعة مذاهب، هي:
1- مذهب الجمهور من الفقهاء: وهو أن الخطاب في الواجب الكفائي متعلق بالكل الإفرادي، أي هو متعلق بكل فرد من أفراد المكلفين على حد سواء.
2- وذهب آخرون: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة المكلفة به، وإليه مال صاحب المحصول.
3- وذهب آخرون أيضا: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة معلوم عند الله تعالى ولا نعلمه نحن.
4- وذهبت طائفة من الفقهاء: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة هم المشاهدون للشيء محل الواجب.
الأدلــــــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
أ- نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة الشريقة، منها قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)، وقوله : (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وهي كلها جاءت عامة فتشمل كل المكلفين دون التحديد بفئة معينة، ولا مخصص لهذا العموم، فلا يجوز العدول عنه.
ب - اتفق الفقهاء على أن المكلفين لو تركوا الواجب الكفائي جميعا أثموا كلهم، والإثم دليل الوجوب، فدل ذلك على أن الوجوب متعلق بالجميع(1).
استدل أصحاب المذهب الثاني بأدلة منها:
أ - بأن الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض بالاتفاق، ولو كان واجبا على الكل لم يسقط بفعل البعض كسائر العبادات، لأن الواجب إذا ما استقر في الذمة لم يسقط إلا بالأداء أو النسخ، ولا نسخ هنا لعدم قيام دليله، أما الأداء فمتفق على إجزاء البعض فيه عن الكل، فكان لا بد من اعتبار الوجوب متعلقا بالبعض فقط، ولما كان لا مرجح لبعض على غيره من أفراد الجماعة اعتبر الواجب متعلقا ببعض منهم.
ب - اتفق الفقهاء على صحة التكليف ببعض مبهم، وهو مما يسمى بالواجب المخير على ما سيأتي، فكان تكليف بعض مبهم صحيحا قياسا عليه، أي إن أصحاب هذا المذهب قاسوا الإبهام في المكلف على الإبهام في المكلف به، بجامع وجود البعضية والإبهام في كل، ولما كان الأول محل اتفاق على جوازه وصحته، كان الثاني صحيحا قياسا عليه في نظرهم(2).
ج - بعض الواجبات الكفائية جاءت فيها نصوص توجه الخطاب إلى جماعة مبهمة من المكلفين دون جميع المكلفين، من ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، فإن الخطاب متجه إلى طائفة فقط دون جميع المؤمنين، ولا فارق معتبرا بين الجهاد والتعليم وغيرهما من الواجبات على الكفاية، فدل ذلك على أن الخطاب في الواجب الكفائي متجه إلى بعض مبهم من المكلفين دون جميعهم قياسا على ذلك.
د - لو قلنا بتكليف الكل للزم منه العبث، ذلك أن بعض المكلفين إذا أتى بالواجب وزادوا عليه لإثبات أن البعض معين في علم الله، لأن الله عالم بكل شيء، فلا يصح أن يعتبر البعض المتعلق به الخطاب هنا مبهما مجهولا، فاعتبر بعضا معلوما له لذلك.
أما أصحاب المذهب الرابع، فقد استدلوا أيضا بما استدل به أصحاب المذهب الثاني، وزادوا عليهم لإثبات أن البعض المخصوص بالخطاب هو من شاهد الفعل الذي تعلق الواجب به دون غيره، أن التكليف لا يصح إلا بما هو مقدور للمكلف، وتكليف الغافل عن الفعل تكليف بما هو غير مقدور، فكان الخطاب متعلقا بمن حضر الفعل أو علم به دون غيره، مثل صلاة الجنازة، فإنها واجبة على من جاور الميت أو علم به دون سائر المكلفين الذين لم يعلموا بذلك.
وقد ناقش الجمهور أدلة القائلين باتجاه الخطاب في الواجب الكفائي إلى بعض المكلفين دون غيرهم بما يأتي:
أ- ناقشوا الدليل الأول بأنه لا لزوم للنسخ، لأن سقوط الأمر قبل الأداء قد يكون للنسخ وقد يكون لانتفاء علِّية الوجوب، ولا نسخ هنا لحصول المقصود من إيجابه بإتيان واحد به، فيكون السقوط لزوال العلة الداعية إلى الوجوب لا لنسخ الوجوب، مثل الجهاد، علته دفع العدو، فإذا قام جماعة من الناس بدفعه سقط الوجوب عن الباقين لزوال علِّية الوجوب، فلا ضرورة للزوم النسخ هنا(1).
ب- ونوقش الدليل الثاني بأن القياس باطل لمقابلته النصوص التي تقرر أن الواجب الكفائي واجب على الكل مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)، وغيره. ثم هو على التسليم بعدم معارضته النصوص قياس مع الفارق، فإن تأثيم المبهم غير التأثيم بترك المبهم، إذ الأول غير معقول أما الثاني فهو معقول، بل هو محل اتفاق الفقهاء.
ج- أما الاستدلال ببعض النصوص التي يتوجه فيها الخطاب ظاهرا للبعض، فإنه يجاب عنه بأن الخطاب فيها لم يتجه في الحقيقة إلى البعض، إنما هو متجه للكل حكما ضرورة عدم تعيين هذا البعض، ولكنه يسقط عن الباقين بعد فعل البعض له جمعا بين هذا الدليل والأدلة السابقة عليه التي استدل بها الجمهور لمذهبهم، هذا إلى جانب أن الخطاب لم يتجه أصلا في هذه الآية الكريمة وأمثالها إلى البعض، إنما المقصود منه تحريض المؤمنين على طلب العلم والجهاد بخروج بعضهم له.
د- أما لزوم العبث فغير وارد أصلا، ذلك أن الأمر مقيد ضمنا بالسقوط عند أداء البعض له، بمعنى أن البعض إذا فعله سقط الوجوب عن الباقين ضرورة سقوط الإثم عنهم، فلم يبق في التكليف به عبث.
لهذه الأدلة والمناقشات نرى أن مذهب الجمهور هو الأرجح الأقرب للواقع، وإن كان الخلاف من أصله نظريا أكثر منه عمليا، ولا ينتج عنه إلا بعض الآثار القليلة.
انتقال الواجب الكفائي إلى واجب عيني:
ينتقل الواجب الكفائي إلى واجب عيني في الحكم إذا ما تعين فرد معين أو جماعة معينة لأدائه دون غيرها، كمهنة الطب مثلا، إذا انحصرت في واحد معين لا يعملها غيره، أو مهنة الفتوى إذا عم الجهل بالأحكام كل الناس إلا فئة قليلة لا تكفي لسد حاجة الناس من بيان الحق لهم في مسائلهم وقضاياهم، فإنه في هذه الحال ينقلب الواجب في حق هذه الجماعة التي انحصر إمكان أداء الواجب بها من واجب كفائي إلى واجب عيني، ولا يسع واحدا منها أن يتأخر عن أداء الواجب، فإذا ما تأخر عنه إثم، ولم يغن عنه قيام غيره به، ما دامت الحاجة لا ترتفع بقيام ذلك الغير.
التقسيم الرابع للواجب من حيث تعيُّن المطلوب به وعدمه.
ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب معين – وواجب مخير.
1- الواجب المعين: وهو ما طلبه الشارع بعينه دون تخيير بينه وبين شيء آخر، مثل الصلاة والصوم، فإنهما معينان من قبل الشارع ولا يغني فعل أي شيء غيرهما عنهما، ولا يسقط الواجب إلا بفعلهما ذاتهما.
2- الواجب المخير: ويسمى الواجب المبهم. وهو ما طلبه الشارع مخيّرا بين أمور عديدة يسقط الواجب بفعل واحد منها، مثل الكفارات، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب في الكفارة فعل واحد من ثلاثة أمور، هي: (الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق) بحيث إن المكلف لو فعل واحدا منها اعتبر مؤديا للواجب.
الحكمة في هذا التقسيم:
تقسيم الشارع الحكيم الواجب إلى معين ومخير تقسيم دقيق يقوم على حكمة بالغة ورحمة كبيرة بالأمة، فقد تعلق علم الله تعالى وإرادته بأن بعض المصالح لا تتحقق إلا بأفعال وأقوال معينة بحيث أن غيرها لا يحل محلها في تحقيق هذه المصلحة المرجوة منها، وأن بعضها الآخر يحصل بفعل واحد من أشياء متعددة على وجه التساوي.
ولما كانت الأحكام معللة بمصالح العباد عند جماهير الفقهاء قسم الله تعالى الواجب إلى هذين القسمين، فما كان من المصالح متعلقا بواجب معين لا يتحقق بغيره جاء الأمر به معينا بهذا الواجب، وما كان من المصالح يتحقق بواحد من أمور متعددة على وجه المساواة جاء الأمر به مخيرا بين تلك الواجبات التي تتحقق المصلحة بواحد منها، تخفيفا عن المكلفين، ورفعا للحرج عنهم، وتحقيقا لمصالح العباد على الوجه الأكمل.
محل تعلق الخطاب في الواجب المخير:
اتفق الفقهاء في الواجب المعين على أن الأمر فيه متعلق بعين الواجب المعين على وجه لا يسقط إلا بأدائه ذاته.
أما الواجب المخير فقد اختلف الفقهاء فيه على محل تعلق الخطاب، أهو منصب أو متعلق بواحد من الأمور التي جاء التخيير بها، أم هو منصب على جميع تلك المخيرات، وانقسموا إلى مذاهب متعددة أهمها:
1- مذهب جمهور الفقهاء: وهو أن الأمر في الواجب المخير منصب على فرد شائع من أفراد المأمورات المخير بينهما على وجه يحصل الواجب ويتأدى بفعل واحد منها، فإذا فعلها المكلف كلها أجر على واحد منها فقط، وإذا تركها جميعها أثم إثم ترك واحد منها أيضا.
2- وذهب جمهور المعتزلة: إلى أن الأمر متعلق بجميع المأثورات المخير بينها، بحيث يثاب الإنسان عليها كلها لو فعلها جميعا، وإذا تركها جميعا أثم إثم تارك واحدة منها فقط. لأن الواجب يتأدى بفعل واحد منها تكرما من الله تعالى وفضلا منه، فكان الإثم إثما واحد لذلك.
وقيل إن مذهب المعتزلة هو وجوب الجميع على سبيل البدل، فيكون مذهبهم مثل مذهب الجمهور لا فرق بينه وبينه، يبقي الخلاف صورياً، لكن المرجح أن مذهبهم هو الأول، ولذلك يكون خلافهم لمذهب الجمهور خلافا أصيلا له معنى واسع(1).
3- وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأمر متعلق بفرد من أفراد المأمورات معين عند الله سبحانه وتعالى، مبهم عندنا، يتعين بالفعل والأداء، فإذا أدى الحانث في يمينه الكسوة تعينت الكسوة للوجوب، وإذا أدى الإعتاق تعين الإعتاق عليه، وهكذا…
4- وذهب آخرون إلى أن الواجب فرد معين من أفراد المخيرات، يتأدى الواجب به إذا فعل، كما يتأدى بغيره من أفراد المخيرات إذا فعل على طريق البدلية عنه.
الأدلــة:
استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها:
أ) أنه لا مانع عقلاً من اعتباره كذلك، ذلك أنه لو قال إنسان لعبده: (اشتر لي خبزاً أو لحماً، أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه، وان لم تشتر لي شيئاً عاقبتك، ولست أوجب عليك شراء كليهما، وإنما أطلب منك شراء واحد لا يعينه، بل أي واحد أردته أنت) كان كلامه معقولاً لا غبار عليه.
ب) لا مانع شرعاً من وقوع ذلك، بل إن ذلك وقع فعلا، كخصال الكفارة، فإن الله سبحانه وتعالى قد خير الحانث في يمينه بين الإعتاق والإطعام والكسوة، ولا أدل على الجواز من الوقوع.
ج) لا يجوز بحال اعتبار كل أفراد المخيَّر واجبة بالأمر، لأن ذلك إن كان مستساغاً في بعض الفروع فهو محال في فروع أخرى، مثل الأمامة، فإن نصب الإمام واجب مخير، ويجب على الأمة نصب واحد من أهل الحل والعقد لا على التعيين، ولكن لا يجوز لهم بحال نصب اثنين معا، لما في ذلك من المفاسد، ولو كان الواجب نصبهما على الجميع لجاز، ولكنه حرام بالاتفاق، فدل على أن الواجب إنما هو فرد واحد من أفراد المخير.
د) أجمعت الأمة في خصال الكفارة على أن الواجب واحد منها لا كلها، والإجماع حجة قاطعة لا تجوز مخالفته(1).
ه) لا يمكن أن يفهم من التخيير تعين أحد أفراد المخير دون غيره، لأن ذلك ينافي التخيير الذي صرحت النصوص به، ولا يمكن أن يفهم منه وجوب الكل لمنافاته التخيير كذلك، فوجب اعتبار وجوب البعض دون تعيين(2).
واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي:
أ- بأنه لا يمكن تعليقه بفرد معين من أفراد المخير دون غيره، لعدم الدليل على ذلك وإذا امتنع التعيين كان الأمر معلقا بمجهول، والمجهول مستحيل الوقوع عقلا، والتكليف بمستحيل ممتنع ضرورة عدم القدرة على الإتيان به، فكان لا بد من القول بتعلق الأمر بجميع المأمور به المخيَّر.
ولكن الجمهور ناقشوا هذا الدليل بأنهم لا يسلمون أن غير المتعين هنا مجهول، بل إنه معلوم من حيث إنه واجب، وهو محصور في أفراد معينة، كخصال الكفارة، فإنها محصورة في ثلاثة، ثم إنه كان مجهولا من وجه، فإنه ليس واجبا من هذا الوجه، ويتأدى الواجب بفعل واحد من أفراده، فلم يكن مستحيلا لذلك.
ب- بأن القول بإيجاب فرد واحد فيه تناقض، لأن فيه اعتبار كل فرد من أفراد المخير واجبا وغير واجب في وقت واحد، ففي الكفارة إذا اعتبرنا الواجب العتق كان الإطعام والكساء غير واجبين، وإذا اعتبرنا الواجب الكساء كان العتق والإطعام غير واجبين، واجتماع النقيضين غير جائز عقلا.
لكن الجمهور ناقشوا ذلك بأنه لا تناقض هنا، لأن الواجب المخيَّر محدود فيه كل المتعينات التي هي أفراد الواجب، وذلك جائز، لأن محل الوجوب غير محل التخيير، كوجوب أحد النقيضين تماما، فإنه جائز، وكذلك هذا(1).
ج- بأن الوجوب في الواجب المخير كالوجوب في الواجب على الكفاية، وهناك اتفق الجمهور على أنه يشمل كل الأفراد، فيكون هنا كذلك قياسا عليه بجامع الإبهام في كل.
لكن الجمهور ردوا ذلك بإبطال القياس، لأسباب هي:
أ- أنه قياس في مواجهة النص، فإن النصوص صريحة في إيجاب واحد من أفراد المخير لا جميعه.
ب- أنه قياس مع الفارق، وقد بيناه في دليل الواجب الكفائي.
واستدل أصحاب المذهب الثالث لمذهبهم:
بأن الله سبحانه وتعالى هو الموجب، وهو عالم مطلق لا يغفل عن شيء، فيلزم من ذلك علمه بالفرد الذي ارتبط الإيجاب به، فيكون الواجب واحدا معروفا لديه سبحانه، ونظرا لعدم علمنا بالواجب، ولفراغ الذمة بواحد من أفراد المخير، كان الواجب في حقنا هو المؤدى فعلا.
لكن الجمهور أجابوا عن ذلك، بأن الله تعالى يعلم الشيء على الوجه الذي أوجبه، فإذا أوجب واحدا من ثلاثة مثلا وجب أن يعلمه كذلك، وإلا لزام أن لا يكون عالما بما أوجبه(1).
ثم إن في تعيين الأمر المؤدي للوجوب تأخير للإيجاب عن الفعل، وهو محال، ذلك أن الإيجاب لا بد من تقدمه على الفعل ليكون ممكن الحدوث، إذ التكليف بمحال باطل، وفي تأخير الإيجاب على الفعل تعليق بمحال، فيكون باطلا لذلك(2).
واستدل أصحاب المذهب الرابع لمذهبهم:
بأن الواجب ما دام واحدا من أفراد المخير لزم أن يكون هذا الواحد معلوما لله تعالى، لإطلاق علمه، فإذا كان الواجب معلوما لله تعالى كان بالنسبة إليه بمثابة الواجب المعيَّن، ولذلك كانت إصابته تأدية للواجب عينا، وإصابة غيره من أفراد المخيَّر بدل عنه تخفيفا من الله تعالى، لعدم علمنا بعين الواجب.
ولكن الجمهور ردوا هذا الدليل، بأن علم الله تعالى تعلق بالتخيير، فلا يقصر على فرد معين دون غيره، ولمَّا كان الحكم كذلك كانت الأفراد كلها أصلا في أداء الواجب، ولا رجحان لواحد على آخر حتى يعتبر أصلا وغيره بدلا.
بعدما انتهينا من دراسة أقسام الواجب من كل حيثياته، ننتقل إلى دراسة مسألة يلحقها الأصوليون بمبحث الواجب، وهي مقدمة الواجب.
ENDNOTE
(1) فواتح الرحموت 1/63.
(1) فواتح الرحموت 1/63،والعضد 1/234.
(2) انظر فواتح الرحموت 1/64،والعضد 1/234.
(1) فواتح الرحموت 1/63.
(1) انظر فواتح الرحموت 1/66.
(1) العضد: 1/236، وفواتح الرحموت 1/67.
(2) العضد: 1/237.
(1) العضد: 1/236، وفواتح الرحموت 1/76.
(1) انظر شرح العضد: 1/241.
(2) انظر فواتح الرحموت 1/66.