الفهرس
الفصل الثاني أركان الطلاق
المبحث الأول: الزوج "المطلِّق".
وهو من بينه وبين المطلقة عقد زواج صحيح وهو الذي يملك حق ايقاع الطلاق ثمة سؤال يدور كثيراً في أروقة العلمانيين وفي دهاليز المستشرقين وعلى ألسنة المشككين ويسأله غير المسلمين.
لماذا لم جعل الإسلام الطلاق بيد الزوج؟ اليس ذلك اجحافاً للمرأة وظلماً لها؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن لكل سفينة رباناً يقودها ولكل مؤسسة مديراً يرعى شئونها ويسلم الناس طائعين له والإسلام ينظر إلى الاسرة على أنها أعظم المؤسسات قدراً واكثرها أهمية في المجتمع لأنها أساس بنائه وقوامه وصلاحه وبضياعها يضيع وقد أناط الإسلام بالمسئولية في الأسرة للرجل فقال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم والقوامة في الإسلام تكليف لا تشريف ومسئولية وأعباء يحاسب عنها بين يدي الله تعالى يقول :"الرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته" ومن هذه المسئولية ان جعل في يده حل عقد الزواج حين لا يكون هناك سبيل إلا الطلاق ووضع الشرع الحنيف ضوابط حتى لا يسئ الزوج استعماله وإنما جعله بيده لأن الإسلام جعل الانفاق على الأسرة من مسئولية الزوج وحده كما رتب على حل عقد الزواج أموراً مالية مثل نفقة العدة ومتعة الطلاق ومؤخر المهر وغير ذلك –ليس على المرأة شئ من ذلك- مما يجعله يحسب ألف حساب وحساب قبل الشروع في الطلاق .
لكن إن كان الإسلام جعل الطلاق بيد الرجل فقد أعطى المرأة كذلك حق أن تنهي عقد الزواج إذا تضررت وذلك عن طريق الخُلْع كما أذن لها أن ترفع أمرها إلى القاضي لفسخ العقد عند الضرر المادي أو المعنوي كما أن من حقها اشتراط أن يكون الطلاق بيدها عند عقد الزواج هذا كله في إطار المسئولية المشتركة كل في إطار اختصاصه وما خلق له ومن هنا يقول الرسول :"والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها" وفي ختام الحديث يقول الرسول "وإن الله سائل كل راعٍ عما استرعى حفظ أم ضيع"
وحتى يقع الطلاق من الزوج ثمة شروط تتعلق به نذكرها في النقاط التالية:
1-البلوغ :
لأن الصبي غير مخاطب بالتكاليف الشرعية ومما هو معلوم من كليات الشريعة أن التصرفات لا تصح إلا ممن له أهلية التصرف وأمر الصبي في التصرفات إلى وليه ولذلك ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن طلاق الصبي لا يقع مميزاً كان أو غير مميز وخالف الحنابلة فأجازوا وقوع طلاق الصبي المميز ولو كان دون العشر سنين ودليل الجمهور حديث الرسول :"رفع القلم عن ثلاث.." وذكر منه "الصبي حتى يبلغ" والحجة مع الجمهور إذ الصبي غير قادر غالباً على مراعاة مصلحته خاصة والأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح لحاجة لا يدركها الصبي غالباً وإن كان بعض الصبية قادراً على التمييز فذلك نادر والأحكام تبنى على الغالب لا على النادر إذ النادر لا حكم له كما قرر الفقهاء.
2-العقل:
وهو مناط التكليف فالمجنون غير مكلف شرعاً للحديث"رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" ومن هنا أجمع أهل العلم أن طلاق المجنون لا يقع وكذلك كل فاقد للعقل بسبب يعزر عليه مثل المعتوه والمغمى عليه والمدهوش بغير سكر والنائم جاء في المغني لابن قدامة:"أجمع أهل العلم على أن زائل العقل بغير سكر أو ما في معناه لا يقع طلاقه وسواء زال عقله لجنون أو اغماء أو نوم أو شرب دواء أو أكره على شرب الخمر فكل هذا يمنع وقوع الطلاق ولا نعلم فيه خلافاً" ، ولكن لو ذهب العقل بالسُكر هل يقع الطلاق أم لا هذا ما نوضحه في المسألة التالية.
طلاق السكران:
اختلف أهل العلم في الذي يذهب عقله بإرادته كأن يشرب خمراً أو دواءاً يعلم أنه مسكر هل يقع طلاقه أم لا ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والمالكية ورواية عن أحمد والزيدية إلى أن طلاق السكران يقع لأنه أذهب عقله بنفسه طائعاً مختاراً فكان جزاؤه أن يقع الطلاق عقوبة له وقد أوقع الصحابة عليه الطلاق روى ذلك أبو عبيدة عن عمر ومعاوية ورواه غيره عن ابن عباس قال أبو عبيد حدثنا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن الزبير بن الحارث عن أبي لبيد أن رجلاً طلق امرأته وهو سكران فرفع إلى عمر بن الخطاب وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بينهما وعن سعيد بن المسيب أن معاوية أجاز طلاق السكران.
وذهب زفر والطحاوي من الحنفية واحمد في رواية عنه والمزني من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو قول عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز والقاسم وطاووس وربيعة ويحي الانصاري والليث واسحاق إلى أن طلاق السكران لا يقع وقد روى البخاري في صحيحه "وقال عثمان ليس لمجنون ولا سكران طلاق وقال ابن عباس طلاق السكران والمستكره ليس بجائز" . وقد افاض شيخ الإسلام في كتابه الفتاوى وكذلك ابن القيم في كتابيه زاد المعاد واغاثة اللهفان والشوكاني في كتابه نيل الأوطار بسرد أدلة كلا الفريقين ورجحوا رأي من قال بعدم وقوع طلاق السكران. كما أن شيخنا العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي – رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث - له فتوى حول طلاق السكران ذهب فيها إلى أن طلاق السكران لا يقع معضداً رأيه بما رآه راجحاً من الأدلة كما فند فيها أدلة القائلين بوقوع الطلاق ورد عليهم أحببت أن أثبتها هنا لمزيد الفائدة وقد جاء في الفتوى:
هناك اتجاهان في الفقه الإسلامي من قديم:
الأول: يميل إلى التوسع في إيقاع الطلاق، حتى وجد من يقول بإيقاع طلاق المعتوه، ومن يوقع طلاق المكره، والمخطيء والناسي والهازل، والغضبان أيا كان غضبه، وحتى قال بعضهم من طلق امرأته في نفسه طلقت عليه وإن لم يتلفظ بكلمة الطلاق، فلا عجب أن يوجد من يقول بوقوع طلاق السكران، مادام سكره باختياره.
الثاني: يميل إلى التضييق في إيقاع الطلاق . فلا يقع الطلاق إلا مع تمام الوعي به والقصد إليه مع شروط أخرى.
ومن أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين الإمام البخاري صاحب الصحيح فقد عقد بابًا في جامعه، ترجمه بقوله: باب الطلاق في الإغلاق (الظاهر من صنيع البخاري أنه يريد بالإغلاق الغضب، ولهذا عطف المكره عليه، فهو غير الإكراه) والمكره (الإكراه) والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره . . (علق الحافظ في الفتح على هذه الترجمة بقوله: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر) ومراده: أن الطلاق لا يقع في هذه المواطن كلها . لأن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر . وذكر لذلك أدلة منها:
1 - حديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى " وغير العاقل المختار - كالمجنون والسكران وأشباههما - لانية له فيما يقول أو يفعل . وكذلك الغالط والناسي، والذي يكره على الشيء . (كما قال الحافظ).
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة على فعله وقوله - حينما سكر - فعقر بعيري ابن أخيه علي . فلما لامه النبي قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ وهي كلمة لو قالها صاحيًا لأفضت به إلى الكفر . ولكن عرف النبي أنه ثمل، فلم يصنع به شيئًا . فدل هذا على أن السكران لا يؤاخذ بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره. (اعترض بعضهم على هذا الاستدلال، بأن الخمر كانت حينئذ مباحة، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحالة.
قال الحافظ بن حجر: وفيما قال نظر، فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحًا أولاً . ا هـ).
3 - ما جاء عن عثمان أنه قال: " ليس لمجنون ولا لسكران طلاق " . رواه البخاري معلقًا . وهو تأييد لما جاء في قصة حمزة.
ووصله ابن أبي شيبة عن الزهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران . فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا: أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته . حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: ليس على المجنون ولا على السكران طلاق . فقال عمر: تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان ؟ فجلده ورد إليه امرأته.
4 - ما رواه البخاري معلقًا عن ابن عباس: " أن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز " أي بواقع إذ لا عقل للسكران ولا اختيار للمستكره، قال ابن حجر ووصله عنه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بلفظ: " ليس لسكران ولا مضطهد طلاق " والمضطهد: المغلوب المقهور.
5 - ما جاء عن ابن عباس أيضًا أنه قال: " الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله . والوطر الحاجة . أي عن غرض من المطلق في وقوعه . السكران لا وطر له، لأنه يهذي بما لا يعرف.
6 - ما جاء عن علي: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه " والمعتوه: الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران، قال الحافظ: والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه.
هذا ما استدل به الإمام البخاري لعدم وقوع طلاق السكران، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة السلف . منهم أبو الشعثاء وعطاء وطاووس، وعكرمة، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز ذكره عنهم ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني واختاره الطحاوي، واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع . قال: والسكران معتوه بسكره . (نقل ذلك الحافظ في الفتح جـ11، ص 308 ط. الحلبي).
وهذا القول هو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرًا فقد روى عنه عبد الملك الميموني قوله: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز (أي يقع) حتى تبينته، فغلب على أن لا يجوز طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه . قال وألزمه الجناية، وما كان غير ذلك فلا يلزمه. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - لابن القيم، ص 17).
قال ابن القيم: هو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي (من الحنفية) وإمام الحرمين (من الشافعية) وشيخ الإسلام ابن تيمية (من الحنابلة) وأحد قولي الشافعي. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - لابن القيم، ص 17).
وقال بوقوع طلاق السكران طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وعن الشافعي قولان، المصحح منهما وقوعه . وقال ابن الرابط: إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه، وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة ألا يعلم ما يقول. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209).
قال ابن حجر: وهذا التفضيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209). . ا هـ وفيه نظر سنذكره.
واستدل من قال بوقوع طلاق السكران وصحة تصرفاته عمومًا بجملة أمور أهمها مأخذان:
الأول: إن هذا عقوبة له على ما جناه باختياره وإرادته.
وضعف ابن تيمية هذا المأخذ.
( أ ) بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه.
( ب ) ولأن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها - كالأولاد إن كان له منها أولاد - ما لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره.
(جـ) ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد وغيره، فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة. (فتاوى ابن تيمية، جـ 2 ص 124، ط. مطبعة كردستان . القاهرة).
الثاني: أن حكم التكليف جار عليه، وليس كالمجنون أو النائم الذي رفع عنهما القلم، وعبر عن ذلك بعضهم بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك ولا الإثم، لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه.
وأجاب عن ذلك الطحاوي من أئمة الحنفية بأن أحكام فاقد العقل لا يختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره . إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه . كمن كسر رجل نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام. (فتح الباري، جـ 11، ص 209).
يعني أنه يكون آثمًا بإضراره نفسه، ولكن هذا لا ينفي الأحكام المترتبة على عجزه الواقع بالفعل، ومثل ذلك لو شرب شيئًا أدى إلى جنونه، فإنه يكون آثما بشربه في ساعة وعيه، ولكن لا يمنع من ترتب أحكام الجنون عليه.
وكذلك قال الإمام ابن قدامة الحنبلي: لو ضربت امرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة، ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف. (انظر المغني، جـ 7، ص 113، مطبعة الإمام).
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم صحة تصرفات السكران - ومنها وقوع طلاقه - بوجوه:
أحدها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة، أن النبي أمر باستنكاه ماعز بن مالك، حين أقر عنده بالزنى، ومعنى استنكاهه: شم رائحة فمه، ليعلم هل به سكر أم لا . ومقتضى هذا أنه لو كان به سكر، لم يعتبر إقراره.
الثاني: أن عبادته كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع فقد قال تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) وكل من بطلت عبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده وتصرفاته أولى وأحرى . إذ قد تصح عبادة من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 - 126).
الثالث: أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل، ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلاً.
وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له.
الرابع: أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصد، كما في الحديث: " إنما الأعمال بالنيات . . . . " فكل لفظ صدر بغير قصد من المتكلم، لسهو وسبق لسان أو عدم عقل، فإنه لا يترتب عليه حكم. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 - 126).
وإذا أضيفت هذه الأدلة إلى ما نقلناه من قبل عن الإمام البخاري تبين لنا بوضوح أن المذهب الصحيح الذي يشهد له القرآن والسنة وقول اثنين من الصحابة لا يعرف لهما مخالف من وجه صحيح - عثمان وابن عباس - وتؤيده أصول الشرع وقواعده الكلية: أن طلاق السكران لا يقع، لأن العلم والتمييز والقصد معدوم فيه.
بقى هنا شيء أختم به هذه الفتوى، وهو حقيقة السكر ما هي، فقد أفهم ما حكاه الحافظ عن ابن المرابط: أن السكران من زال عقله، وعدم تمييزه بالكلية، وليس ذلك بلازم عند الأكثرين كما قال ابن القيم . بل قد قال الإمام أحمد وغيره: إنه هو الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره، وفعله من فعل غيره.
قال ابن القيم: والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه، فإن النبي أمر أن يستنكه من أقر بالزنى، مع أنه حاضر العقل والذهن، يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم، صحيح الحركة . ومع هذا فجوز النبي أن يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه. (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم، ص 31).
بعد هذا كله نطمئن الأخت المسلمة السائلة إلى أن ما صدر عن زوجها من طلاق في حال سكره ونشوته غير معتبر في نظر الشرع، سائلين الله أن يتوب على الزوج العاصي، وأن يعين الزوجة المؤمنة في محنتها . وأن يوفق أولي الأمر في بلاد الإسلام لمنع أم الخبائث ومعاقبة من شربها أو أعان عليها بوجه من الوجوه ومنه العون وبه التوفيق*.
3-الاختيار والقصد:
الإرادة والاختيار أساس في التكليف ومن فقدها فقد الأهلية ولذلك أعتبر الشرع المكره غير مسئول عن تصرفاته لأنه مسلوب الإرادة فلو اسلم شخص مكرهاً لا يعتبر بإسلامه لقوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ولذلك لو كفر مكرهاً لا يعتد بكفره لقوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولقوله :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه" وكذلك مدار صحة أفعال العباد وأقوالهم متوقف على النية لقوله "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى" يقول القسطلاني في شرحه للحديث "إنما الأعمال البدنية أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها الصادرة من المؤمنين المكلفين صحيحة أو مجزئة بالنيات قيل قدره الحنفية انما الأعمال الكاملة والأول أولى لأن الصحة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال. . والطلاق فعل من افعال العباد يحتاج إلى النية والتي تعني القصد والعزم ولذلك يقول الله تعالى: فإن عزموا الطلاق لكن هل تكفي النية فقط لوقوع الطلاق دون التلفظ وهل يكفي اللفظ في الطلاق دون النية هذا ما يتضح في النقاط التالي:
أ- نية الطلاق:
لو نوى الزوج في نفسه تطليق زوجته أو طلقها في نفسه دون أن ينطق بلفظ يدل على الطلاق قاصداً إياه فإن الطلاق لا يقع عند الجمهور يقول صاحب المغني: أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ فلو نواه بقلبه من غير لفظ لم يقع في قول عامة أهل العلم منهم عطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ويحي ابن كثير والشافعي واسحاق وروى أيضاً عن القاسم وسالم والحسن والشعبي واستند الجمهور إلى حديث أبي هريرة عن النبي أن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" وقال قتادة إذا طلق في نفسه ليس بشئ وقد توقف ابن سرين في المسألة كما نقل عبدالرازق عن معمر سئل ابن سرين عمن طلق في نفسه فقال أليس قد علم الله ما في نفسك قال بلى قال فلا أقول فيها شيئاً وذهب إلى وقوعه الإمام مالك في رواية أشهب عنه وقد سئل إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يتلفظ به لسانه فقال يلزمه كما يكون مؤمناً بقلبه وكافراً بقلبه" وروى وقوعه عن الزهري كذلك وحجة هذا القول قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله وكذلك حديث رسول الله : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" .
القول الراجح:
قول جمهور الفقهاء هو الراجح لوضوح دليلهم وقوته أما ما استدل به غيرهم فلا حجة لهم به من وجوه، الوجه الأول: قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فليس فيها أن من المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع وانما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه ثم هو مغفور له أو معذب فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية . الوجه الثاني: لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوا رسول الله فقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والحج وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم " سمعنا وعصينا" قولوا "سمعنا وأطعنا" فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ونسخها الله تعالى فأنزل لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما أكتسبت فهي إذن منسوخة ولا دليل لهم فيها. والوجه الثالث: أن حديث "إنما الأعمال بالنيات" فهو حجة عليهم لا لهم لأن النبي أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر لا النية وحدها وأما قولهم من أعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الاقرار فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفراً فإن الايمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب. بخلاف الطلاق.
ب - طلاق المكره.
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المكره وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر بن سمرة وبه قال عبدالله بن عبيد بن عمير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد وشريح وعطاء وطاووس وعمر بن عبد العزيز وابن عون وأيوب السخستاني ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وقد استدل هؤلاء بما يلي:
• حديث رسول الله "رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
• أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قوله:" طلاق السكران والمستكره غير جائز"
• حديث عائشة قالت سمعت رسول الله يقول:" لا طلاق في اغلاق قال أبو عبيد والقتيبي معناه في اكراه وقال أبو بكر سألت ابن دريد النحوي فقال يريد الإكراه لأن إذا أكره انغلق عليه رأيه وقالوا إن طلاق المكره هو قول حمل عليه صاحبه بغير حق فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها أحد.
هذا في الإكراه بغير حق أما لو أكره بحق نحو إكراه الحاكم المولى على الطلاق بعد التربص إذا لم يفئ ويدخل في هذا الزوج الذي يسئ عشرة زوجه اساءة يتحقق بها الضرر وتستحيل معها العشرة ويأبى الخلع أو الطلاق فإن أكرهه الحاكم على الطلاق وقع لدفع الضرر عن الزوجة ولحديث "لا ضرر ولا ضرار".
وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وأبو قلابة والشعبي والنخعي والزهري والثوري إلى وقوع طلاق المكره. وقالوا أنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره ولا شك أن حجة الجمهور وقولهم أصح والله أعلم.
جـ - طلاق الغضبان.
الغضب حالة من الاضطراب العصبي وعدم التوازن الفكري تحل بالإنسان إذا عدا عليه احد بالكلام أو غيره روى أبو داود بسنده في سننه أن أم المؤمنين عائشة قالت: "سمعت رسول الله يقول: لا طلاق ولا عتاق في اغلاق"قال أبو داود: الغلاق أظنه الغضب" وهو تفسير الإمام أحمد كما حكاه عنه الخلال وقد حكى الإمام ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله وحقيقة الاغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام ولا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته .
وحالة الاضطراب هذه درجات بعضها لا شك أشد من بعض فهل يقع طلاق الغضبان على الاطلاق أم لا أم ثمة تفصيل في المسألة، قسم الإمام ابن القيم الغضب على ثلاثة أقسام فقال : والغضب على ثلاثة أقسام:
أحدها: مايزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثاني:ما يكون في مبادية بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده فهذا يقع طلاقه.
الثالث: أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال فهذا محل نظر وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه. وهو محل الخلاف بين الفقهاء ولكن الأرجح عدم وقوعه، يقول ابن عابدين في حاشية رد المختار والذي يظهر لي أن كلاً من المدهوش والغضبان لا يلزم فيه أن يكون بحيث لا يعلم ما يقول بل يكتفي فيه بغلبة الهذيان واختلاط الجد بالهزل ثم يقول رحمه الله فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته.
د - طلاق الهازل:
الهازل هو الذي يتكلم بالكلام على سبيل المزاح أو المداعبة واللعب ويقابله الجاد. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع طلاق الهازل جاء في المغني لابن قدامه :"فمتى أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه وجملة ذلك أن الصريح لا يحتاج إلى نية بل يقع من غير قصد فمتى قال أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك وقع من غير نية بغير خلاف لأنه ما يعتبر له القول يكتفي فيه من غير نية إذا كان صريحاً فيه كالبيع سواء قصد المزاح او الجد لقوله :"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أحد جد الطلاق وهزله سواء كما روي أيضاً عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ونحوه عن عطاء وعبيده وبه قال الشافعي وأبو عبيد وهو قول سفيان وأهل العراق ويقول ابن القيم بعد أن ذكر حديث "ثلاث جدهن جد" المكلف إذا هزل بالطلاق أو النكاح أو الرجعة لزمه ما هزل به" ويعلل ذلك بأن الهازل قاصد للفظ غير مريد حكمه وذلك ليس إليه فإنما إلى المكلف الأسباب وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع قصد المكلف أولم يقصده.
القول الثاني: هو أن طلاق الهازل لا يقع وهو قول في مذهب أحمد ومالك وإليه ذهب الباقر والصادق والناصر حيث أن هؤلاء يشترطون لوقوع الطلاق القصد عند التلفظ به وإرادته والعلم بمعناه فإذا انتفت النية والقصد فلا عبرة باللفظ واستدلوا بقوله تعالى: وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم كما استدلوا بحديث رسول الله "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى" والهازل لا عزم له ولا نية ومما يؤيد هذا القول حديث البخاري عن ابن عباس :" الطلاق عن وطر" قال العسقلاني لا يطلق الرجل إلا عند النشوز والحاجة" .
طلاق المخطئ:
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المخطئ وهو من سبق لسانه بلفظ الطلاق من غير قصد له واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم . وحديث رسول الله :"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفي رواية "أن الله تجاوز عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . وذهب الاحناف أن الطلاق يقع قضاءً ولا يقع ديانة إذا علم من نفسه أنه أخطأ ولم يقصد الطلاق وذلك حتى لا يتخذ وسيلة إلى إحلال ما حرم الله بأن يطلق ثم يدعي الخطأ.
طلاق الوكيل
الأصل أن الطلاق بيد الزوج فهو يملك ايقاعه بنفسه ولكن هل يجوز له أن يوكل غيره في ايقاعه ذهب الجمهور إلى أن للزوج أن يوكل غيره من باب من صح تصرفه في شئ لنفسه مما تجوز الوكالة فيه صح توكيله فيه. والوكيل بالطلاق مقيد بالعمل برآي الموكل فإذا تجاوزه لم ينفذ تصرفه إلا بإجازة الموكل وللوكيل أن يطلق متى شاء مالم يقيده الموكل بزمن معين . وذهب الظاهرية إلى عدم جواز الوكالة في الطلاق قال ابن حزم الظاهري" ولا تجوز الوكالة في الطلاق ولم يأتي في طلاق أحد عن أحد بتوكيله إياه قرآن ولا سنة والمخالفون لنا أصحاب القياس بزعمهم فبالضرورة يدري كل أحد أن الطلاق كلام والظهار كلام واللعان كلام والإلاء كلام ولا يختلفون في أنه لا يجوز أن يظاهر أحد عن أحد ولا أن يلاعن أحد عن أحد ولا أن يولي أحد عن أحد لا بوكالة ولا بغيرها ، وقد رد الشيخ على الخفيف على مخالفة الظاهرية لجمهور الفقهاء فقال رحمه الله: ولست أدري أن الطلاق كالظهارأو كاللعان والإيلاء فالإلاء واللعان أيمان ولا تجوز النيابة في الأيمان اتفاقاً إذ لا يصح أن يقسم شخص بالنيابة عن آخر أما الظهار فالاقدام عليه جريمة لأنه باطل من القول وزور فلا تجوز الوكالة فيه.
الزواج بنية الطلاق
كثيراً ما يحدث ان يأتي شباب ليدرس بالغرب وأمام مغريات الحياة وما يقابله الشباب من فتن يفكر في الزواج ويبحث عن شريكة حياته وقد لا يجد المواصفات التي يريدها في شريكة حياته وقد تكون هناك أمور في بلده تمنعه من الزواج فيلجأ إلي أن يفكر في أن يرتبط بزوجه فترة بقائه للدراسة أو للعمل ثم يتركها بعد ذلك فهو عازم على طلاقها وفراقها حين انتهاء دراسته أو عمله وهذا يسمى عند الفقهاء الزواج بنية الطلاق وحتى نعرف حكمه لابد أن نذكر أن الفقهاء اشترطوا للزواج الصحيح أن يكون غير محدد بمدة معينة وإلا كان نكاح متعة وهو محرم أما ان كان في نيته طلاقها فالنكاح صحيح عند عامة أهل العلم وخالف الإمام الأوزاعي وقال: انه نكاح متعة وبهذا يكون حراماً باطلاً نظراً للمشاكل التي تترتب على الزواج بنية الطلاق وما يحدث للمرأة من ضرر وغش وخداع وخاصة حين يكون ثمة أولاد من هذا الزواج .
يقول الشيخ رشيد رضا في تعليقه على رأي الإمام الأوزاعي في تفسير المنار هذا وان تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق وان كان الفقهاء يقولون ان عقد النكاح صحيحاً إذا نوى الزواج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ولكن كتمانه إياه يعد خداعاً وغشاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الرجل والمرأة ووليها ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة والميثاق الغليظ وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذوقات وما يترتب على ذلك من المنكرات ومالا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشاً وخداعاً تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون الزواج حقيقة وهواحصان كل الزوجين للآخر وتحقيق الأمن والطمأنية وتوافر الاخلاص والنية الصادقة لبناء أسرة مسلمة وبيت صالح من بيوت الأمة.
طلاق القاضي غير المسلم
من الاشكاليات التي تقابل الأسرة المسلمة في الغرب عندما تتصدع ولا تجد مصلحاً يوفق بينهما أو يكون الفراق هو آخر الدواء وقد يلجأ أحد الزوجين أو كلاهما إلى المحاكم الغربية طلباً للطلاق وقد يحكم القاضي بالطلاق فهل حكمه نافذ حسب الشريعة الإسلاميةأم لا ؟ ناقش المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هذه المسألة باستفاضة وقدمت فيها عدة بحوث وفي ختام المناقشات أصدر المجلس الفتوى التالية:
القرار 3/5
حكم تطليق القاضي غير المسلم
الأصل أن المسلم لا يرجع في قضائه إلا إلى قاض مسلم أو من يقوم مقامه، غير أنه بسبب غياب قضاء إسلامي حتى الآن يتحاكم إليه المسلمون في غير البلاد الإسلامية، فإنه يتعين على المسلم الذي أجرى عقد زواجه وفق قوانين هذه البلاد، تنفيذ قرار القاضي غير المسلم بالطلاق، لأن هذا المسلم لما عقد زواجه وفق هذا القانون غير الإسلامي، فقد رضي ضمناً بنتائجه، ومنها أن هذا العقد لا يحل عروته إلا القاضي. وهو ما يمكن اعتباره تفويضاً من الزوج جائزاً له شرعاً عند الجمهور، ولو لم يصرح بذلك. لأن القاعدة الفقهية تقول (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً). وتنفيذ أحكام القضاء ولو كان غير إسلامي جائز من باب جلب المصالح ودفع المفاسد وحسماً للفوضى، كما أفاده كلام غير واحد من حذاق العلماء كالعز بن عبدالسلام وابن تيمية والشاطبي.
الاشهاد على الطلاق:
مما لا شك فيه أن الطلاق حق من حقوق الزوج لقوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن" فنسب الطلاق إلى الأزواج وقد ذهب جمهور العلماء أن الزواج لا ينعقد حتى يكون الشهود حضوراً حالة العقد لحديث عائشة أن رسول الله قال:" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وفي موطأ مالك أن عمر بن الخطاب أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت" .
ولكن هل يشترط الاشهاد على الطلاق؟ كذلك اختلف الفقهاء في ذلك فقد ذهب الجمهور إلى أن الطلاق يقع من غير إشهاد لأنه حق الزوج ولا يحتاج إلى اشهاد ولم يثبت عن النبي ما يدل على مشروعيته وحملوا الأمر في قوله تعالى:" فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم" ، على الاستحباب أو انصرف الاشهاد إلى الإمساك لا إلى الطلاق.
وذهب الإمام على وعمران بن الحصين من الصحابة ومن التابعين الإمام محمد الباقر وجعفر الصادق وكذلك عطاء وابن جريج وابن سيرين والظاهيرية إلى وجوب الإشهاد على الطلاق.
وقد قال الإمام ابن حزم الظاهري: قرن الله عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد فلا يجوز افراد بعض ذلك عن بعض وكان كل من طلق ولم يشهد ذوي عدل أو يراجع ولم يشهد ذوي عدل متعدياً لحدود الله تعالى وقال من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" .
الاختيار في المسألة.
في اطار الأسباب التي دعت الفقهاء لذين يقولون بوجوب الاشهاد على الرجعة أو استحبابها وهي كما ذكر القرطبي في تفسيره "ألا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها وألا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث" . تبقى نفس هذه المحاذير في حالة عدم الاشهاد على الطلاق ولذلك أميل إلى القول بوجوب الاشهاد على الطلاق للأدلة التالية:
1. قوله تعالى:" فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم" فإن ظاهر الأمر في عرف الشرع يقتضي الوجوب وحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب فضلاً عن إلغائه بالكلية خروج عن عرف الشرع من غير دليل كما أن الآية الكريمة لم تفرق بين الطلاق أو الرجعة في الإشهاد.
2. ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عمران بن الحصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد" ومما هو معروف عند علماء الأصول أن قول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع للنبي .
3. ما ذكره ابن كثير في تفسيره عن عطاء أنه كان يقول في قوله تعالى" وأشهدوا ذوي عدل منكم" قال لا يجوز نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر .
4. أخرج السيوطي في كتابه الدر المنثور عن عبد الرازق وعبدالله بن حميد عن عطاء قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والرجعة بالشهود" .
5. عن علي أنه قال لمن سأله عن طلاق أشهدت عليه عدلين كما أمر الله تعالى قال لا قال اذهب فليس طلاقك بطلاق. وقد ذهب إلى ذلك من العلماء المحديثين أحمد شاكر وابو زهرة والشيخ الغزالي رحمهم الله تعالى.
المبحث الثاني: الزوجة "المطلَّقة.
وهي التي يقع عليها الطلاق ويشترط لصحة وقوع الطلاق عليها شروط:
1. قيام الزوجية على أساس عقد نكاح صحيح عند وقوع الطلاق فإن المرأة في عقد النكاح الفاسد لا تصلح أن تكون محلاً للطلاق، وكذلك المرأة الاجنبية لأنها لا ترتبط برباط الزوجية مع المطلق وبالتالي يكون كلامه لغواً وكذلك لو قال أن تزوجت فلانة فهي طالق فإن الطلاق لا يصح منه ولا يقع لحديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال:" لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق فيما لا يملك"
2. لابد من تعيين المطلقة بالإشارة أو بالصفة أو بالنية تعيناً لا يحتمل الشك ولا اللبس إن كان له أكثر من زوجة
3. أن لا تكون معتدة من فسخ الزواج بسبب عدم الكفاءة أو لنقص المهر عن المثل أو لخيار البلوغ أو لظهور فساد العقد بسبب فقد شرط من شروط صحته.
4. أن لا تكون مطلقة منه قبل الدخول بها فإن كان قد طلقها قبل الدخول بها فلا يقع عليها طلاق آخر لأنها بانت منه.
5. أن لا تكون معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى أما إذا كانت معتدة من طلاق رجعي فإن جمهور الفقهاء يرون أن الطلاق يقع عليها ما دامت في العدة جاء في المغني"والرجعية" أي المطلقة طلاقاً رجعياً زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه ويرث أحدهما الآخر. وفي البدائع فإن كانت معتدة من طلاق رجعي يقع الطلاق عليها سواء كان صريحي أو كناية. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا يلحقها طلاق حيث قال: والرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة أما المعتدة من طلاق بائن بينونة صغرى فإن الجمهور يرون أن الطلاق لا يلحقها جاء في المغني وجملة ذلك أن المختلعة لا يلحقها طلاق وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن والشعبي ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وخالف الاحناف فقالوا بوقوع الطلاق حتى وإن كانت مختلعة يقول الإمام علاء الدين الكاساني :وإن كانت معتدة من طلاق بائن أو خلع فيلحقها صريح الطلاق عند أصاحبنا .
6. أن لا تكون حائضاً أو في طهر جامعها فيه حال وقوع الطلاق عليها وهذا الشرط عند من يرى عدم وقوع الطلاق البدعي وسيأتي بيانه.
المبحث الثالث: الصيغة.
صيغة الطلاق هي اللفظ المعبر به عنه إلا أنه قد يستعاض عن اللفظ في أحوال بالكتابة أو بالإشارة .
أولاً اللفظ :
هو المعبر عن إرادة الزوج وقوع الطلاق ويشترط فيه شروط هي:
1. القطع بمعرفة معنى اللفظ الذي نطق به قاصداً الطلاق سواء كان هذا اللفظ بالعربية أو بغيرها فإن لم يدرك معنى اللفظ بأن لا يفهم معناه فلا عبرة به .
2. الجزم بحصول اللفظ فلو شك أنطق بالطلاق أم لا. لا يقع الطلاق.
3. الجزم بالعدد الذي قصده فإن شك في العدد بنى على الأقل لأنه به يحصل اليقين.
ثانياً الكتابة.
اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق بالكتابة ولو كان الكاتب قادراً على النطق واشترط الفقهاء لذلك شروطاً منها:
1. أن تكون الكتابة واضحة تقرأ وهو ما يعبر عنه الفقهاء بلفظ "مستبينة" مكتوبة في صحيفة أو نحو ذلك.
2. أن تكون مصدرة للزوجة باسمها ومعنوناً لها أما إذا لم يكن موجهاً لها فلا يقع الطلاق عندئذ إلا بالنية.
3. أن يقصد بالكتابة الطلاق فإن كتب مثلاً زوجتي طالق من غير قصد للطلاق فإن زوجته لا تطلق لقوله في حديث عمر :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ من نوى" ، ولاحتمال أن يكون كتبه لتحسين خطه ورسمه.
ثالثاً الإشارة.
جمهور الفقهاء على عدم صحة الطلاق بالإشارة من القادر على الكلام وخالف المالكية فقالوا يقع الطلاق بإشارة القادر على الكلام كالأخرس إن كان إشارته مفهمة وأن لم تكن مفهمة لم يقع الطلاق عند الاكثر وفي قول لبعض المالكية يقع بها الطلاق بالنية ، أما الاخرس والعاجز عن النطق والبيان فإن جمهور الفقهاء على وقوع الطلاق منه لأن الاشارة تقوم مقام الكلام عند هؤلاء وذلك بشرط أن تكون الإشارة مفهمة للمقصود ولا تحتمل تأويلاً وإلا كانت كناية تحتاج إلى نية واشترط بعض الشافعية والأحناف عدم معرفة الاخرس بالكتابة وإلا لا تصح اشارته كما صرح ابن عابدين حيث قال: فإن كان الأخرس لا يكتب وكان له اشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز. وإن لم يعرف ذلك منه أو شط فهو باطل.
تعليق ختامي
الموسوعة الفقهية ج29ص14.
سورة النساء 34.
رواه البخاري.
البدائع ج3ص100. بداية المجتهد ج2ص81 ،82، المغني ج6ص
اخرجه أحمد وأبو داوود.
سبق تخريجه
المغني لابن قدامه ج7ص113.
زاد المعاد ج5ص211 ،212.
الفقه الإسلامي وأدلته.
صحيح البخاري شرخ العسقلاني ج9ص388.
* فتاوى معاصرة ج1
سورة الآية البقرة الآية 256.
سورة النحل الآية 106.
رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
البخاري ومسلم.
إرشاد الساري ج1ص89.
المغني ج8 ص163.
البخاري شرح القسطلاني ج12ص42.
زاد المعاد ج4ص203.
تفسير القرطبي ج8ص210.
سورة البقرة الآية 284.
رواه البخاري ومسلم.
زاد المعاد ج4ص204.
الحديث أخرجه مسلم وانظر أسباب النزول للواحدي ص51.
زاد المعاد ج4ص203.
المغني ج8ص259.
سبق تخريجه.
البخاري
المغني ج8 ص259 والحديث رواه أبو داود والأثرم
المغني ج8 ص259، 260
المصدر السابق
سنن أبو داود ج2ص642.
زاد المعاد ج5 ص214.
المصدر السابق.
زاد المعاد ج5ص215.
حاشية ابن عابدين ج3 ص268 ،269.
المغني ج8ص275.
زاد المعاد ج5ص204.
نيل الاوطار
سورة البقرة الآية 227.
متفق عليه.
ارشاد الساري شرح صحيح البخاري ج12 ص37.
سورة الاحزاب الآية 5.
سنن ابن ماجه ج1ص659.
حاشية بن عابدين ج4ص462.
الفقه الإسلامي وأدلته ج9ص6941
المحلى ج10ص196.
فرق الزواج للشيخ الخفيف ص63,32 .
الاحزاب 49.
سنن الدارقطني كتاب النكاح.
كتاب النكاح باب جامع ما لا يجوز فيه النكاح.
سورة الطلاق
المحلي لابن حزم ج 10.
تفسير القرطبي ج9
ابو داود واب ماجه والبيهقي.
تفسير ابن كثير ج4.
الدر المنثور للسيوطي ج
جواهر الكلام.
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فقه السنة ج2ص14 ،15.
المغني ج8ص
البدائع ج3ص143.
الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ص256.
المغني لابن قدامه ج8ص
البدائع ج3ص134.
الموسوعة الفقهية ج21ص22
البخاري ومسلم.
الموسوعة الفقهية ج ص25
رد المختار ج1ص241.