المحتويات
- المطلب السادس: حال الوقف بعد ضعف الدولة العباسية
- المطلب السابع: حال الوقف فـي العصر الحديث
- المطلب الثامن: حال الوقف فـي المملكة العربية السعودية
- العودة إلي كتاب تاريخ الوقف عند المسلمين وغيرهم
المطلب السادس: حال الوقف بعد ضعف الدولة العباسية.
تمهيـد:
لما ضعفت الدولة العباسية، نشأت دول عديدة، واستقلت عن الخلافة العباسية في مصر والشام، ويصعب حصر هذه الدول في هذا المبحث، ولكن لعلي أن أشير في هذا المبحث إلى أهم هذه الدول، مبيناً كذلك حال الوقف خلال حكم هذه الدول للعالم الإسلامي.
أولاً: الدولة الفاطمية الباطنية في مصر:
تطورت الأوقاف في الدولة الفاطمية الباطنية في مصر، فقد جعل للوقف ديوان مستقل يشرف على جباية ريع الأحباس، سواء التي حبسها الأفراد أم الرؤساء، وهذا الديوان يشرف كذلك على الأوقاف، وعلى وجوه صرف ريعها وعلى شروط الواقفين فيها( ).
وفي العهد الفاطمي كذلك اهتم بعض الخلفاء، ومنهم الحاكم بأمر الله بالأوقاف وخصوصاً فيما يتعلق بالمساجد والمؤسسات الخيرية، وكذلك فعل الوزير الفاطمي الصالح طلائع بن زريك والذي أوقف أوقافاً كثيرة( ).
ثانياً: الدولة الأيوبية في مصر:
لقد كثرت الأوقاف في الدولة الأيوبية، وكان سلاطين الدولة الأيوبية كذلك يولون الوقف عناية خاصة، وعلى سبيل المثال في زمن الملك
العادل نور الدين محمود بن زنكي (ت 569هـ) الذي اشتهرت الدولة في عهده بالمسارعة في إقامة المنشآت والمرافق العامة، وتموينها عن طريق الأوقاف الدارّة عليها، فقد أمر نور الدين بإنشاء المدارس والخانقاهات
وأكثر منها في كل بلد، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأمر ببناء الربط والخانات في الطرقات، فأمن الناس، وحفظت أموالهم، كما أقام
بدمشق داراً للحديث، ووقف عليها وعلى من بها من المشتغلين، الوقوف الكثيرة، وهو أول من بنى داراً للحديث في الإسلام وبنى أيضاً في كثير من بلاده مكاتب للأيتام، وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة، وبنى أيضاً مساجد كثيرة، ووقف عليها وعلى من يقرأ بها القرآن أوقافاً كثيرة.
يقول الأصفهاني عن ذلك: ولو شغلت بإحصاء وقوفه وصدقاته في كل بلد لطال الكتاب ولم أبلغ أمده( ).
كذلك كان للسلطان صلاح الدين اهتمام بالأوقاف، فقد أوقف مدينة بلبيس على فك أسرى المسلمين الذي أسرهم الصليبيون في حملتهم على مصر سنة (564هـ).
وقد استمر هذا الوقف إلى أن تم فكاك جميع الأسرى( ).
وقد شملت أوقاف صلاح الدين جميع النواحي الخيرية في البلاد، وقد أوقف كذلك ثلث ناحية سندبيس من أعمال القليوبية، وبلدة نقادة من عمل قوص على أربعة وعشرين خادماً لخدمة المسجد النبوي الشريف، وذلك في ربيع الأخر سنة(569هـ) ( ).
وإلى هذا الحد والأوقاف تتمتع بعناية خاصة من السلاطين ومن متوليها حتى تطرق الفساد إلى دواوينها في عهد الملك الكامل الأيوبي، وسبب ذلك، هو قيام بعض الجهات بتولي ديوان الأحباس، وكانت النتيجة لهذا الفساد، خراب الأوقاف ونهبها، ومن مظاهر هذا الفساد الذي تطرق إلى الأوقاف في العصر الأيوبي تحكير المساحات التابعة لديوان الأحباس.
وينقل د/ محمد أمين، حالة الفساد في ذلك الوقت فيقول: ومن الحيف في الأحباس أن يحكر من الديوان مساحة لمدة خمسين سنة، بخمسة وعشرين ديناراً، فيعجل منها النصف، ويقسط النصف للمدة ربع دينار في السنة، وتعمر تلك المساحة قيسارية أو غيرها فتكون أجرتها في الشهر خمسة وعشرين ديناراً، ولو كان الديوان عمرها من ماله لتضاعف ارتفاعه( ).
وكانت نتيجة هذا الحيف من الديوان، أن نقصت أمواله بحيث لا تكفي لعمارة الأوقاف، وبدلاً من التعمير يقوم الديوان ببيع أنقاضها( ).
ثالثاً: دولة المماليك البحرية:
في الدولة المملوكية انتشرت الأوقاف انتشاراً عظيماً، حتى شملت أراضي كثيرة في مصر والشام، وقد اعتنى المماليك بالأوقاف وأكثروا منها، ونتيجة لذلك خففت الأوقاف على الدولة عبئاً كبيراً من مرتبات أئمة المساجد، والمصالح الخاصة بتلك المساجد، والعناية بها، وأصبحت الأوقاف رافداً يمد بيت المال في الدولة المملوكية عند الحاجة إليه( ) حتى أن الدولة أخذت أموال الأوقاف على سبيل القرض في عام (649 هـ) نظراً للحاجة اليها( ).
كذلك أهتم سلاطين المماليك بالوقف على الحرمين اهتماماً كبيراً، ويدل على ذلك ما أنفقوه وأوقفوه على هذه البقاع المقدسة، أو ما يتصل بهما من خدمات، أو أماكن، وكذلك تسهيل الطرق الموصلة إليهما، وما يحتاجانه من خدمات وحماية.
وتتمثل تلك الأوقاف في قرى ومنشآت في كلٍ من مصر والشام، خصصت للصرف والإنفاق على الحرمين، وماله صلة بهما.
وقد ذُكر هذا في بعض المصادر التاريخية المعاصرة للدولة المملوكية، وقد دلت على تلك الأماكن الموقوفة وثائق وقفية مهمة، يُحتفظ بها في دور المخطوطات المهتمة بذلك، وتشتمل تلك الوثائق في مجموعة من الحجج الشرعية التي أوقفها السلاطين والأمراء وغيرهم للصرف على تلك الأماكن المقدسة( ).
ويحدثنا التاريخ كذلك أن الأوقاف في العصر المملوكي في مصر قد ازدهرت وتنوعت وعمت كل شيء تقريباً، وعظم ريعها، مما جعلها مطمعاً للحكام في ذلك الوقت، وساعد الحكام على الاستيلاء عليها وحلها ضعاف النفوس من بعض العلماء والقضاة، حيث أفتوا الحكام بحل أوقاف السلاطين السابقين، وأحياناً كان الحكام ينفذّون رغباتهم بدون الرجوع إلى الفقهاء والقضاة( ).
وقد ذكر المقريزي في خططه: أن الناصر محمد بن قلاوون حاول أن يستولي على النصف من أحباس المساجد التي بلغت (130) ألف فدان، ولكنه قُبض قبل أن يتم له شيء مما أراد( ).
يقول أبو زهرة: كان هذا يجري في القرن السابع والثامن وما يليه، وبذلك صارت الأوقاف نهباً مقسوماً( ).
ومع ذلك فقد وجد من العلماء الربانيين من أنكروا هذا الفعل، وسجل لهم التاريخ بماء من الذهب، مواقف مشهورة للتصدي لهذا العدوان ومن أمثال هؤلاء شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام، والإمام النووي رحهمها الله.
ومن هذه المواقف: أن الظاهر بيبرس اضطر إلى فرض ضرائب كثيرة في مصر والشام بسبب الحروب مع التتار، وقد سلك طرقاً في الإستيلاء على الأراضي كلها والأوقاف من بينها، وقد جرت مساجلات بينه وبين العلماء، وذلك أنه جاء إلى كل مالك لعقار، وطلب منه أن يُقدم المستند الدال على ملكيته، فإن كان المستند مثبتاً تركه، وإن لم يجد مستنداً، وذلك هو السائد، قام الملك بالاستيلاء عليه.
ولكن الإمام النووي ~ تصدى له وخاطبه بقوله: إن ذلك هو غاية الجهل والعناد، وأنه لا يحل عند أحد من علماء المسلمين، ومن في يده شيء فهو ملكه، لا يحل لأحد الإعتراض عليه، ولا يكلف إثباته، فاليد دليل الملك ظاهراً.
ومازال النووي يعظه حتى كف الظاهر عن رغبته في امتلاك أراضي مصر( ).
وقد سجل السيوطي ~ في كتابه حسن المحاضرة طائفة كبيرة من المكاتبات التي جرت في هذا المقام بين العلماء وبين الظاهر بيبرس( ).
وشهد القرن الثامن الهجري أنواعاً متنوعة من ظلم الحكام وتعديهم على الأوقاف وغصبها، حتى ما كان منها على الحرمين الشريفين، ويتم ذلك عن طريق بعض القضاة الجشعين( ).
وكما سجل التاريخ المواقف الحميدة للعلماء الذين تصدوا للحكام، سجل كذلك المواقف السيئة لبعض قضاة ذلك العصر، فقد سجل على قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي ظلمه في الحكم بما يرضي شره الأمير جمال الدين، في اغتصاب الأوقاف( ).
وكذلك سجل على قاضي القضاة شرف الدين الحراني ظلمه في إصدار حكمه إرضاء لشره الملك الناصر محمد بن قلاوون.
يقول المقريزي: وكان هذا الحكم مما شنع عليه فيه، ثم اختلفت الأيدي في الاستيلاء على هذه الدار، واقتدى القضاة بعضهم ببعض في الحكم باستبدالها( ) وكان الاستبدال هو طريق التحايل على الأوقاف، بأن يشهد الشهود بأن هذا القصر يضر بالجار والمار، وأنه مستحق للإزالة والهدم، فيحكم قاضي القضاة باستبداله، وأكثر من تولي كبر ذلك من الولاة: جمال الدين يوسف، والذي عاونه في تحقيق شرهه قاضي القضاة: كمال الدين عمر بن العديم الحنفي، فتظاهرا معاً على نهب الأوقاف، وصار كل من يريد بيع وقف، أو شراء وقف، سعى بهذه الطريقة عند القاضي المذكور بجاه أو مال فيحكم له بما يريـد( ).
وبذلك صارت الأوقاف نهباً مقسوماً باسم الاستبدال للحكام، يعينهم في ذلك فسقة بعض القضاة والشهود، جرى ذلك في القرن السابع والثامن، وكان لهذا الجور، أثره في الفقهاء الذين عاصروا ذلك الأمر وأشباهه،
فلا عجب أن رأينا بعض الفقهاء يتشدد في موضوع الاستبدال أيما تشدد، حتى أنهم اشترطوا أن يكون القاضي الذي يحكم بالاستبدال عالماً
عادلاً، وهو الذي يعبر عنه بقاضي الجنة وحاول العلماء الاحتياط،
ولكن ذهب احتياطهم صرخة في واد؛ لأن الأوقاف كغيرها من الأموال
لا تحمى بالشروط وإنما تحمى بالعدالة، والعلم في القضاة، والنزاهة في الولاة( ).
رابعاً: حال الوقف في الدولة العثمانية:
لما تولى العثمانيون مقاليد السلطة في معظم البلاد العربية، اتسع نطاق الوقف، لإقبال السلاطين وولاة الأمر في الدولة العثمانية عليه، وصارت له تشكيلات إدارية تعنى بالإشراف عليه، وصدرت قوانين وأنظمة متعددة لتنظيم شؤونه وبيان أنواعه، ولا زال الكثير من هذه الأنظمة معمولاً بها في بعض الدول العربية( ).
غير أنه لما جاء عصر محمد علي باشا – حاكم مصر – استولى على الأوقاف كلها، وتعسف بالشعب، وطالبهم بإبراز الوثائق التي تثبت ملكيتهم لتلك الأوقاف، والتي لا يملكها إلا القليل، ولم يكن في عهد محمد علي باشا من العلماء أمثال النووي، والعز بن عبدالسلام، ومن هذا الباب، ولج محمد علي، ونفَّذ مآربه فألغى الأوقاف كلها، وأصبحت ملكاً له( ).
وقد سلك محمد علي مسلكاً خطيراً في القضاء على الأوقاف، يحسن بنا أن نشير إليه هنا، وذلك أنه يُعد من المؤيدين لحركة حزب الإصلاح في تركيا، الذي ألغى الأوقاف في تركيا، فأراد محمد علي أن يحذو حذو هذا الحزب، وينهي الأوقاف في مصر، وهذا ليس بالأمر السهل، إذ ليس من العقل أن يحدث حدثاً بدون مستند شرعي؛ لذلك عمد إلى مفتي الحنفية بالإسكندرية محمد محمود الجزايرلي، يسأله عما إذا كان لولي الأمر أن يمنع وقف الأماكن المملوكة لأهلها سداً لذريعة ما غلب على العامة من التوسل به لأغراض فاسدة من حرمان بعض الورثة، والمماطلة بالديون في الحياة، وتعريضها للتلف بعد الممات، فأفتاه المفتي بأنه يجوز ذلك لولي الأمر سداً للذريعة؛ ولأنه مما تقتضيه السياسة الشرعية، فأصدر أمره في التاسع من رجب سنة (1262هـ) بمنع الأوقاف، إبقاء على عمارة الملك ووقاية له من الأضرار، وسداً للذرائع، ورداً لأغراض المبطلين الذين يحاولون من طريق، وقف أموالهم وعقاراتهم، الفرار من أداء ما عليها من الديون وحرمان الورثة( ).
وانتهى عهد محمد علي وجاء من بعده الوالي سعيد، الذي اتجه إلى الإصلاح وأصدر أمره في سنه (1891) بإعطاء الملكية التامة للمجتمع، فأصبح الوقف مباحاً للجميع، وأقدم الناس على الوقف، وتحققت رغباتهم، ولكنهم أساءوا الاستعمال، فعمدوا إلى حرمان بعض الورثة، مما جعل أبناء الأسرة الواحدة يتفاوتون يساراً وإعساراً، أو كان لهذا الفعل المجافي للشرع عاقبته الوخيمة التي لا بد منها، فانصرف الأولاد الذين اختصهم آباؤهم بأوفر نصيب وبأكثر مما جعل الله لهم إلى ملاذهم ومتعهم، ونفد ما بأيديهم، وبالتالي لا يمكنهم العيش دون مستواهم السابق، فاقترضوا بالربا الفاحش، وسّلط على هذه الأوقاف نظاراً يأكلون غلاتها أكلاً لمّاً، وبذلك أصبح أولئك المحظوظون نهباً للنظار والمرابين( ).
ومجتمع هذا حاله لا بد وأن تعمه الفوضى والظلم وينقسم إلى غالب ومغلوب، ونتيجة لذلك ارتفع ضجيج صاخب، ينادي بالشكوى من الوقف الأهلي، وكان هناك خصوم للوقف يثيرون ذلك الضجيج، واتخذوا منه وسيلة للبرهنة على أن الوقف شر مستطير، ونظام فاسد، وقد شعر بهذا الشر بعض العلماء والقضاة، وحاولوا حث الناس على إصلاح أمور الأوقاف، والقضاء على الشروط التعسفية لدى الواقفين ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، ولذلك أستغل خصوم الوقف هذه الفرصة واستعانوا بها في بث دعايتهم ضد الأوقاف الأهلية( ).
المطلب السابع: حال الوقف فـي العصر الحديث
مع إطلالة القرن الرابع عشر الهجري، بدأ أفول كثير من الأوقاف الإسلامية، في العالم الإسلامي، ويعزو شكيب أرسلان ذلك، إلى انحطاط القوى السياسية في العالم الإسلامي، وتلاعب النظار بالأوقاف واستبداد بعض الحكومات بأوقاف المسلمين، وغلبة الدول الإستعمارية المعاصرة على القسم الأكبر من العالم الإسلامي، وفي ذلك يقول شكيب أرسلان أيضاً: ولما غلبت الدول المستعمرة على القسم الأكبر من العالم الإسلامي، ووجدت من صنيع الحكومات الإسلامية التي ورثتها ما وجدته في الأوقاف عموماً، وأوقاف الحرمين خصوصاً غب هذه المفسدة، واتخذت منها حجة تستظهر بها في طمس الأوقاف الإسلامية، وإخفاء معالمها.. ويقول كذلك: وإن الإفرنج عندما غلبوا على بلاد المسلمين، استولوا على كثير من هذه الأوقاف ووهبوها إلى الكنائس، وإلى جمعيات المبشرين، وإلى الرهبان، ورأوا بذلك الجمع بين غرضين مهمين:
أما الغرض الآخر: فهو طمس هذه الأوقاف من أصلها؛ لأن الإفرنج لا يكرهون في الدنيا شيئاً كرههم للأوقاف الإسلامية، ولا يخافون في مستعمراتهم من شيء كمخافتهم منها؛ لأنهم يعتقدون أن المسلمين إذا أحسنوا إدارتها، وضبط حاصلاتها، كان لهم منبع إمداد عظيم في أمورهم السياسية، فلذلك تراهم يسعون بقدر طاقتهم في محو رسومها.
وأما الغرض الثاني: فهو إمداد المبشرين والرهبان وتوطيد أقدامهم في بلاد الإسلام، ليتمكنوا من بث دعايتهم بين المسلمين، فبدلا من أن هذه الحكومات المستعمرة تشتري لهؤلاء المبشرين والدعاة عقارات، وأراضي من مالها، تجد الأقصد والأوفق أن تصرفهم في أوقاف المسلمين، فتكون أغنتهم من كيس غيرها، وتكون جمعت بين دفع ما تعتقده ضرراً، وجر ما تعتقده منفعة.
ثم يقول ~ أيضاً: وإذا رجعنا إلى أصل البليّة، وجدناها من المسلمين أنفسهم، لأن حكوماتهم لما كانت غير مستقلة؛ ولأن حكوماتهم المستقلة الباقية إلى اليوم، تصرفت بالأوقاف تصرفاً سيئاً مخالفاً للشريعة، منافياً للأمانة، فمهدت للدول المستعمرة العذر في طمسها لهذه الأوقاف أصلاً، إذاً فالتلاعب بالأوقاف والحبوس كان مبدؤه من المسلمين أنفسهم.أ.هـ( ).
ومن أسباب اضمحلال الأوقاف الإسلامية في العصر الحديث كذلك: تأميم الأوقاف، ومصادرتها، وإلغاؤها بنصوص تشريعية أحياناً، وبتوجيه الممتلكات الوقفية من غير مراعاة للأحكام الشرعية أحياناً، وهذا يحصل في كثير من البلاد الإسلامية.
المطلب الثامن: حال الوقف فـي المملكة العربية السعودية
بعد أن آلت الجزيرة العربية إلى موحدها الملك عبدالعزيز ~ وكل إلى القضاه الإشراف على الأوقاف في معظم مناطق المملكة، ماعدا مكة والمدينة، حيث كان لهاتين المدينتين المقدستين، تنظيم خاص جرى العمل به من قبل الدولة العثمانية، فأبقى الملك عبدالعزيز هذا النظام في بداية التأسيس للمملكة، وفي عام (1353هـ) صدر الأمر بتوحيد شؤون الأوقاف في مكة والمدينة بإدارة واحدة، ( ) وقد تكفلت الحكومة السعودية في ذلك الوقت بالصرف على شؤون الحرمين من تعميد وفرش ورواتب للعاملين بهما، وقد كانت عناية الملك عبدالعزيز ~ بالأوقاف تتسم بالحرص، والمتابعة، والاهتمام، وخصوصاً فيما يتعلق بالحرمين الشريفين( )، كذلك أهتم الملك عبدالعزيز ~ بالأوقاف وبتوثيقها، وضبطها، وإعادة تنظيم الوثائق القديمة إن وجدت.
يقول الشيخ عبدالله بن بسام عن الشيخ عبدالله بن دهيش ~: وخلال عمله بالمحكمة قام بتنظيم محكمة الأحساء، وتسجيل الصكوك في سجلات، حيث أمر الملك عبدالعزيز ~ أن تعرض عليه جميع صكوك الأحساء القديمة، فضبطها في سجلات خاصة، ودوّن تطوراتها وصفة انتقالها، سواء ببيع أو بإرث أو بوقف أو بقسمة، وضبط حدودها، وحقوقها الجارية عليه من ماء ونحوه( ).
ولما انتظم العمل في المحاكم الشرعية، ونصب القضاة في سائر مناطق المملكة. وبعد أن نظمت سجلات المحاكم، صار العمل على أن توثيق الأوقاف بأنواعها يكون بيد القضاة في المحاكم الشرعية، ويسجل في سجلاتها، ويسلّم الواقف في ذلك صكاً بإثبات الوقفية، حيث يبين في الصك الأعيان التي يملكها محدداً مواقعها، وأطوالها، ثم يذكر أرقام صكوك ملكيتها، وبعد ذلك يقول: قد أوقفتها كاملة لوجه الله تعالى، وقفاً منجّزاً، ثم يحدد المصارف، ثم يذكر أسماء النظار، ويبين مهامهم، ثم يبين من هم النظار، ثم يقول: أطلب إثبات ذلك، وفي خاتمة الصك يقول القاضي: هذا وجرى الإطلاع على صكوك العقارات المذكورة أعلاه فوجدتها كما ذكر المنُهي، فبناء على ما تقدم فقد ثبت لديّ صحة هذا الوقف ولزومه على صفة ما أنهى المنهي.
وفي نطاق عناية الدولة بالأوقاف كذلك أنشئت في عام (1381هـ) وزارة للحج والأوقاف( )، وتولت الوزارة إدارة شؤون الأوقاف ورعايتها، وصدر نظام مجلس الأوقاف الأعلى المرسوم الملكي ذي الرقم م/35 وتاريخ 18/7/1386هـ، حيث خصص المجلس بالإشراف على جميع الأوقاف الخيرية، المشكل من الوزير رئيساً، ووكيل الوزارة لشؤون الأوقاف عضواً، ونائباً للرئيس، إضافة إلى عدة أعضاء من الجهات الأخرى ذات العلاقة، وقد اشتمل النظام على وضع القواعد والخطط المتعلقة بالأوقاف، وكيفية إدارتها، واستغلالها وتحصيل غلتها وصرفها وحدد مهمات المجلس وكيفية أدائه لأعماله، كما اشتمل النظام على إنشاء مجالس أوقاف فرعية في مناطق المملكة، وقد أكد النظام على عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية، الواجب اتباعها في كل ما يتعلق بالأوقاف( ).
تعليق ختامي
( ) انظر: الخطط للمقريزي 2/294 والوقف والحياة الاجتماعية بمصر ص52 إلى 54.
( ) انظر: الخطط للمقريزي 2/295.
( ) انظر: سنا البرق الشامي، تحقيق رمضان ششن، والوقف وأثره في تشييد بنية الحضارة الإسلامية إبراهيم المزيني وهو بحث ضمن ندوة المكتبات الوقفية في المملكة.
( ) انظر: تاريخ الدول والملوك مناصر الدين بن الفرات 4/23.
( ) بدائع الزهور في وقائع الدهور 1/72.
( ) انظر: الأوقاف والحياة الإجتماعية في مصر ص59.
( ) انظر: الوقف الأهلي د/ طلال بافقيه ص28.
( ) انظر: الموارد المالية بمصر في عهد الدولة المملوكية، رسالة ماجستير لم تنشر في جامعة الإمام بالرياض ص111 (1405هـ).
( ) انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/32 لابن تغري بردي.
( ) انظر في ذلك: حسن المحاضرة للسيوطي 2/165، وإتحاف الورى، بأخبار أم القرى 3/87. نشر مركز البحث العلمي بجامعة ام القرى تحقيق فهيم شلتوت،. وأعمال سلاطين المماليك على الحرمين لراشد القحطاني، نشر مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض.
( ) انظر: الأوقاف والحياة الاجتماعية بمصر ص322.
( ) انظر: الخطط المقريزية 2/476.
( ) انظر: محاضرات في الوقف ص18.
( ) انظر: الخطط المقريزية 2/464، وحاشية ابن عابدين 4/181، ومحاضرات في الوقف لأبي زهرة ص20.
( ) انظر: حسن المحاضرة للسيوطي 2/120.
( ) انظر: الخطط المقريزية 2/464.
( ) انظر: الخطط المقريزية 2/476.
( ) انظر: المرجع السابق 2/479.
( ) انظر: الخطط للمقريزي 2/478.
( ) الوقف لأبي زهرة ص14 و 19.
( ) انظر: أحكام الأوقاف د/ الكبيسي.
( ) أنظر: الوقف لأبي زهرة ص27.
( ) انظر: مجموعة القوانين المصرية، للسنهوري 1/ 3 و 4.
( ) انظر: الوقف لأبي زهرة ص30 وما بعدها.
( ) بتصرف من كتاب مجموعة القوانين المصرية للسنهوري 1/3 و 4.
( ) انظر: الإرتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف. تأليف: شكيب أرسلان، الطبعة الأولى. (1350هـ).
( ) انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز لخير الدين الزركلي 3/1057.
( ) انظر: تاريخ الأوقاف في المملكة وسبل تطويرها د/ عبداللطيف الحميد ص14.
( ) علماء نجد خلال ثمانية قرون 2/351.
( ) ملحوظة: ما أنيط بوزارة الحج والأوقاف، قد انتقل إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد منذ عام (1414هـ).
( ) للإطلاع على حيثيات هذا النظام انظر: كتاب الأوقاف في المملكة العربية السعودية، وهو من إصدار وزارة الشؤون الإسلامية والوقاف والدعوة والإرشاد.