الفهرس
الحديث الرابع
قال الطبراني في المعجم الكبير (24/352 حديث) رقم (871) :
حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة ، ثنا روح بن صلاح ، ثنا سفيان الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن أنس بن مالك قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب دخل عليها رسول الله (ص) فجلس عند رأسها فقال :
((رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي ، تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة ))، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله (ص) بيده ثم خلع رسول الله (ص) قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله (ص) أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله (ص) بيده وأخرج ترابه بيده ، فلما فرغ دخل رسول الله (ص) فاضطجع فيه ثم قال : (( الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين )) ، وكبر عليها أربعاً وأدخلوها اللحد هو والعباس ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما .
ورواه من هذا الوجه الطبراني في الأوسط ( 1 / 152) ، ومن طريقه أبونعيم في الحلية ( 3 / 121 ) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ( 1 / 268 ) .
وهو حديث حسن .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 9 / 257 ) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وفيه روح بن صلاح وثقة ابن حبان ، والحاكم ، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح . اهـ .
قلت : شيخ الطبراني أحمد بن حماد بن زغبة ثقة ، من شيوخ النسائي ، ولم يخرج له في الصحيح .
أما روح بن صلاح فقد اختلف فيه فوثقه قوم وضعفه آخرون فمثله يحتاج لإعمال النظر لبيان حاله .
فقال عنه الحاكم في سؤالات السجزي : ثقة مأمون .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/244 ) .
وروى عنه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ (3/406) فهو ثقة عنده ، قال الفسوي (التهذيب : 11 /378 ) : كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات . اهـ .
أما من جرحه فلم يذكر سبب جرحه ولم يفسره .
ففي المؤتلف والمختلف للدارقطني (3/1377 ) قال : روح بن صلاح ابن سيابه يروي عن ابن لهيعة وعن الثوري وغيرهما كان ضعيفاً في الحديث سكن مصر . اهـ .
ومثله لابن ماكولا في الإكمال (5/15) وابن عدي في الكامل (3/1005).
وهذا جرح مبهم ، غير مفسر ، فيرد في مقابل التعديل المذكور قبله
كما هو مقرر
مثاله قول الحافظ في مقدمة الفتح (ص 437 ) في ترجمة ( محمد بن بشار بن بندار) ضعفه عمرو بن علي الفلاس، ولم يذكر سبب ذلك، فما عرجوا على تجريحه . اهـ .
وادعى الألباني(1) أن الجرح مفسر في روح بن صلاح بقول ابن يونس: رويت عنه مناكير ، وبقول ابن عدي في الكامل : في بعض حديثه نكرة .
قلت : كلام الألباني فيه نظر يظهر في الوجهين الآتيين :
الأول : عبارتي ابن يونس ، وابن عدي لا تدلان على الجرح .
قال : ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" كما في "نصب الراية" (1/179) ، "فتح المغيث" (1/347) : قولهم "روى مناكير" لا تقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته وينتهي أن يقال فيه "منكر الحديث" ، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه . اهـ .
الثاني : قولهم : "روى المناكير" ، أو "رويت عنه المناكير" ليس أيضاً من الجرح في شيء ، فقد تكون تلك المنكرات من شيوخه أو من الرواة عنه وهو روى شيئاً تحمله فقط .
قال الحاكم للدار قطني ( السؤالات 217- 218 ) : سليمان ابن شرحبيل ، قال : ثقة ، قلت : أليس عنده مناكير ، قال : يحدث بها عن
قوم ضعفاء . اهـ .
فما كل من روى المناكير ضعيف عندهم .
وعندما ترجم ابن عدي لروح بن صلاح في كامله (3/1005 _1006 ) روى عنه حديثين ، الآفة والحمل فيهما من الراوي عن روح بن صلاح .
وعادة ابن عدي في كامله كما يقول الحافظ في مقدمة الفتح ( ص429 ) : أن يخرج الأحاديث التي أنكرت على الثقة أو على غير الثقة فلو وجد ابن عدي شيئاً أنكر على روح بن صلاح لأتى به في ترجمته ولكنه خرج ما حدث به وكان منكراً ، ولكن الحمل فيه على غيره .
فتدبر .
فائدة
أراد الألباني تضعيف الحديث المذكور ، فاعتبر قول ابن يونس في روح بن صلاح :"رويت عنه مناكير" من الجرح المفسر الذي يضعف به الراوي ، بينما تناقض فاعتبر قولهم في راوٍ آخر "له مناكير " ليس بجرح مطلقاً ، وذلك في ثنايا رده على الشيخ البوطي (ص66-67) .
وأكثر من هذا أنه اعتبر "منكر الحديث" جرح مردود ، لأنه غير مفسر كذا في صحيحته (1/769 ) .
وأنت ترى ألا فارق بين القولين ولكنك ترى فارقاً بين صنيعي الألباني ،
فعندما يريد أن ينتصر لما يراه صواباً يبتعد عن قواعد الحديث ، ويسير
حسبما يرى ، فالله المستعان
فصـل
قال الألباني في رد توثيق ابن حبان وتلميذه الحاكم لروح بن صلاح ما نصه (ضعيفته 1/32): إن ابن حبان متساهل في التوثيق ، فإنه كثيراً ما يوثق المجهولين … ومثله في التساهل الحاكم كما لا يخفى على المتضلع بعلم التراجم والرجال فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى ولو كان الجرح مبهماً لم يذكر له سبب . اهـ .
قلت : هذا كلام من لم يفهم – رغم اشتغاله – توثيق ابن حبان ، ولم يمعن النظر في ثقاته ، فسارع برد توثيقه والأولى التفصيل .
فتوثيق ابن حبان على قسمين نص عليهما في مقدمة ثقاته (1 /13) :
فالأول : من اختلف فيه علملء الجرح والتعديل ، فإذا ثبت عنده أنه ثقة أدخله في ثقاته ، وإلا فأودعه كتابه الآخر .
الثاني : من لم يعرف بجرح ولا تعديل ، وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة ، ولم يأت بحديث منكر ، فهو ثقة عنده ، ولم ينفرد ابن حبان بذلك المذهب ، ولكن هذا النوع من الرواة عند الجمهور يكون مجهول الحال(1) .
وأما نسبة التساهل إليه فبالنظر للنوع الثاني فقط ، فإهدار توثيق ابن حبان مطلقاً خطأ ، ولا تصح نسبة التساهل إليه مطلقا ، إنما هو في نوع
(1 ) ولإذا كان الرجل ليس من المجهولين فتوثيق ابن حبان لروح بن صلاح مقبول شأنه شأن غيره من النقاد .
معين من الرواة فقط وهو الثاني، أما النوع الأول فتوثيقه لا يقل عن توثيق غيره من الأئمة .
إذا علم ذلك ، فإن رد توثيق ابن حبان لروح بن صلاح بدعوى تساهله فيه نظر ظاهر .
فروح بن صلاح روى عنه يعقوب بن سفيان الحافظ ، ومحمد بن إبراهيم البوشنجي الفقيه الحافظ ، وأحمد بن حماد بن زغبة صاحب النسائي الثقة ، وأحمد بن رشدين وابنه عبد الرحمن ، وعيسى بن صالح المؤذن، وفيه جرح وتعديل وبعضهم سبق ابن حبان في الكلام عليه كابن يونس .
أما عن توثيق الحاكم فرده أيضاً بدعوى التساهل خطأ بين ، فما زال العلماء ينقلون توثيق الحاكم معتمدين له ، وكتب الرجال طافحة بذلك ، وهي بين أيدينا .
وكان الحاكم إمام أهل زمانه في الحديث ، وكانت له المعرفة التامة في الجرح والتعديل ، والعلل ، وكل فنون الحديث ، وكان يراجع مشايخه في الكلام على الرجال ، وكان الدارقطني – وهو من مشايخه – يقدمه على ابن منده .
وقال الحافظ أبو حازم العبدوي : وسمعت مشيختنا يقولون : كان الشيخ أبو بكر بن إسحاق ، وأبو الوليد النيسابوري يرجعان إلى أبي عبد الله الحاكم في السؤال عن الجرح والتعديل ، وعلل الحديث ، وصحيحه ، وسقيمه .
قال (أي الحافظ العبدوي ) : وأقمت عند الشيخ أبي عبد الله العصمي قريباً من ثلاث سنين، ولم أر في جملة مشايخنا أتقى منه، ولا أكثر تنقيراً، فكان إذا أشكل عليه شيء أمرني أن أكتب إلى الحاكم أبي عبد الله، وإذا ورد جوابه حكم به وقطع بقوله ، وانتخب على المشايخ خمسين سنة . اهـ . كذلك في طبقات الشافعية (4/158 ) .
نعم .. ذكر الذهبي في جزء (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) (ص172) الحاكم على أنه من المتساهلين كالترمذي .
قلت: تساهل الحاكم خاص بالحكم على الأحاديث في المستدرك(1)، فإنه رحمه الله تعالى أدركته المنية قبل أن ينقحه كله كما هو معلوم في مكانه .
وتوثيقه لروح بن صلاح خارج المستدرك في سؤالات السجزي .
ومما قوي دعوى تساهله أن صحح أحاديث في فضل علي عليه السلام شنع عليه بسببها ، وعند تطبيق القواعد القول فيها قوله ، والحق فيها معه ، ولبسط هذا مكان آخر .
اما كلامه في غير المستدرك فكغيره من الأئمة النقاد .
بل تراه يظهر التشدد أحيانا فكذب ابن قتيبة كما في الميزان
(1) وهذا ما ذكر في التنكيل (1/459 ) ، والألباني قام على طبعه وخاصم فيه ، فهو مطالب بما فيه ، وينبغي أن يقيد التساهل في المستدرك بالقسم الذي لم يفته الحاكم بسبب انتهاء أجله رحمه الله تعالى .
(2/503) .
وفي ترجمة محمد بن الفرج الأزرق (4/4) .قال الذهبي : تكلم فيه الحاكم لمجرد صحبته الحسين الكرابيسي ، وهذا تعنت زائد . اهـ .
وكم عاب الحاكم على الشيخين البخاري ومسلم إخراجهما لحديث رجال تكلم فيهم .
هب أن الحاكم متساهل كما يقولون ، فإنه قال عن روح بن صلاح: "ثقة مأمون" ، فالرجل عنده في أعلى درجات القبول والتوثيق، فليس من العدل الذي أمرنا الله أن نقوم به أن نسقط هذا القول بالكلية بل نقول هو : "ثقة" ، وإذا تشددنا غاية التدد فالرجل "صدوق" ولا بد .
فإذا ضم هذا التوثيق لتوثيق ابن حبان ، وإذا كنت في أعلى درجات التعنت فلا يمكنك أن تنفك إلا عن توثيق الرجل .
ويقوي توثيقي ابن حبان والحاكم توثيق ضمني من يعقوب بن سفيان الفسوي لأنه من مشايخه ، فالرجل حديثه لا يقل عن الحسن ، والله تعالى أعلم بالصواب .
أما قول الألباني (1) : فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو
(1) ونقل كلامه وأضاف لنفسه الشيخ حماد بن محمد الأنصاري في كتابه (ص 44) ، ومما كنت أحب له ألا يكتبه قوله عن روح بن صلاح (ص 45) ما نصه : فأنت ترى أئمة الجرح قد اتفقت عباراتهم على تضعيفه . اهـ .
فلا أدري هل يعقوب بن سفيان الفسوي والحاكم وشيخه ابن حبان من طلبة الحديث أو أئمته أو من حملة الدكتوراه ؟ فلماذا هذه التعمية ؟ ولماذا هذا التهويل ؟
كان الجرح مبهماً لم يذكر له سبب . اهـ .
ففيه اهدار لتوثيق هذين الإمامين بالكلية ، وهو قول فيه نظر ولا يساوي سماعه لأنه مخالف للواقع وفيه جرأة لا تحمد .
ثم زاد الطين بلة فقال : حتى لو كان الجرح مبهماً لم يذكر له سبب .
قلت : زدت نكداً ، وهذا مثال للكلام الساقط الذي نجل كل مشتغل بالحديث أن يهذى بمثله ، ونستحي له ، فالله المستعان .
وحاصل ما تقدم أن روح بن صلاح ( صدوق ) والحديث حسن الإسناد ، والله أعلم .
الحديث الخامس
حديث : (( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، ووفاتي خير لكم تعرض على أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت لكم )) .
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده (كشف الأستار: 1/397 ):
حدثنا يوسف بن موسى ، ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله عن النبي (ص) قال :
(( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، ووفاتي خير لكم تعرض على أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شرٍ استغفرت لكم )) .
قال الحافظ العراقي في (طرح التثريب ) ( 3 / 297) : إسناده جيد.
وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد) (9/24) : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح . اهـ .
وصححه السيوطي في الخصائص (2 / 281 ) ، وفي تخريج الشفا وهو كما قال .
ولشيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري الحسني
رحمه الله تعالى، ونور مرقده في هذا الحديث جزء مفيد مطبوع، اسمه "نهاية الآمال ، في شرح وتصحيح حديث عرض الأعمال" .
ورجال السند ثقات .
وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ثقة أيضاً احتج به مسلم، وسيأتي تفصيل الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
وللحديث طرق أخرى غير ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه ، فجاء عن أنس رضي الله عنه، وعن بكر بن عبد الله المزني مرسلاً، وهو غاية في الصحة .
وعن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام معضلاً .
أما مرسل بكر بن عبد الله المزني فله عنه طريقان صحيحان ، ثالث ضعيف .
أما الصحيحان فأخرجهما القاضي إسماعيل في فضل الصلاة على النبي (ص ) ( ص38 ، 39 ) .
وقد قال ابن عبد الهادي في الصارم بعد ذكره أحد الإسنادين (ص217): هذا إسناد صحيح إلى بكر المزني(1)، وبكر من ثقات التابعين وأئمتهم . اهـ .
والثالث الضعيف هو ما رواه الحارث بن أسامة في مسنده : حدثنا
(1) فهذا المرسل بمفرده حجة عند كثير من الأئمة كأبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وغيرهم .
الحسن بن قتيبة، ثنا جسر بن فرقد ، عن بكر بن عبد الله المزني به مرفوعاً وانظر المطالب العالية (4 / 23 ) .
قلت : الحسن بن قتيبة ، وشيخه ضعيفان .
وأما حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، فقال أبوطاهر المخلص في فوائده (من الاكتفاء بتخريج أحاديث الشفاء (1) ص17): حدثنا يحيى بن محمد ابن صاعد ، ثنا يحيى بن خذام بالبصرة ، ثنا محمد بن عبد الله بن زياد أبو سلمة الأنصاري ، ثنا مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( ص ) :
(( حياتي خير لكم – ثلاث مرات – ووفات خير لكم _ ثلاث مرات _ فسكت القوم ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي أنت وأمي كيف يكون هذا ؟ قلت : حياتي خير لكم ثلاث مرات ، ثم قلت : موتي خير لكم ثلاث مرات . قال : حياتي خير لك ينزل علي الوحي من السماء فأخبركم بما يحل لكم وما يحرم عليكم ، وموتي خير لكم ثلاث مرات تعرض علي أعمالكم كل خميس ، فما كان من حسن حمدت الله عليه وما كان من ذنبٍ استوهبت لكم ذنوبكم )) .
قلت : أبو سلمة الأنصاري كذبه ابن طاهر ، وتركه غيره .
(1) هو لحافظ العصر السيد أحمد بن الصديق الغماري ، وصل فيه إلى قريب ربع الكتاب ، وهو أوسع تخريج لأحاديث الشفاء وقد شرغت في اختصار الاكتفاء ثم اكماله يسر الله تعالى إتمامه ، ورزقنا الشفا بحب المصطفى ( ص ) وآله المستكملين الشرفا ، وسلم تسليماً كثيرا .
وله طريق آخر عن أنس أسقط منه ، رواه ابن عدي (3/945 ) ، والحارث ابن أبي أسامة ( كما في المغني : 4/148 ) وفيه خراش بن عبد الله .
وأما حديث محمد بن علي بن الحسين بن أبي جعفر عليهم السلام فقال الحافظ السيد أحمد بن الصديق رحمه الله تعالى في (الاكتفاء في تخريج أحاديث الشفا) (ص 18) :
رواه أبو جعفر الطوسي في أمياله من طريق إبراهيم بن إسحاق النهاوندي الأحمري، حدثني محمد بن عبد الحميد وعبد الله بن الصلت عن حنان بن سدير ، عن أبيه ، قال إبراهيم حدثني عبد الله بن حماد ، عن سدير، عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (ص) وهو في نفر من أصحابه: (إن مقامي بين أظهركم خير لكم ، وإن مفالاقتي إياكم خير لكم)، فقام إليه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسول الله أما مقامك بين أظهرنا فهو خير لنا، فكيف تكون مفارقتك إيانا خيراً لنا ، فقال: (أما مقامي بين أظهركم خير لكم فلأن الله عز وجل يقول: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }، يعني : تعذيبهم بالسيف ، وأما مفارقتي إياكم ، فهو خير لكم لأن أعمالكم تعرض علي كل اثنين وخميس فما كان من حسن حمدت الله تعالى وما كان من سيئة استغفرت لكم )) . وهذا غير صحيح بل ملفق مركب محرف ، أخرجه إبراهيم الأحمري المذكور في مصنفاته وهو ضعيف ، كما ذكره الطوسي في فهرسته فقال: كان ضعيفاً في حديثه متهماً في دينه ، وهكذا قال من قبله النجاشي وغيره . انتهى من كتاب (( الاكتفاء في تخريج أحاديث الشفاء )) للسيد أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى .
وما تقدم فيه غنية .
والحاصل أن الحديث صحيح بلا ريب .
فإذا وقفت على قول الحفظ العراقي في تخريج الإحياء (4 / 148 ) إذ يقول :
أخرجه البزار من حديث عبد الله بن مسعود ، ورجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن أبي رواد ، وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين ، والنسائي ، فقد ضعفه كثيرون ، ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسنادٍ ضعيف . اهـ .
فلا تتهيب مخالفته لأمور :
الأول : إن صاحبه وقائله – الحافظ العراقي- قد جود إسناد البزار في طرح التثريب (3/297) ، وكلامه في طرح التثريب مقدم على كلامه في تخريج أحاديث الإحياء ، فالأول آخر كتبه و الثاني كتبه وهو دون العشرين، قال تقي الدين ابن فهد في لحظ الألحاظ (ص228): ولع ( أي الحافظ العراقي ) بتخريج أحاديث الإحياء ، وله من العمر قريب من العشرين سنة . اهـ .
الثاني : إن كلام الحافظ العراقي يقتضي تحسينه للحديث لأنه ذكر طريقين للحديثين ، فإن سلم ضعفهما ،فالحديث حسن بهما كما هو مقرر .
الثالث : إن الحديث حسن عند العراقي لزاماً ، وبيانه أنه تكلم على طريقين للحديث هما : طريق ابن مسعود ، وطريق أنس . ولم يتكلم على مرسل بكر بن عبد الله المزني وهو مرسل غاية في الصحة ولو وقف عليه لما ترك الكلام عليه .
فبالنظر إلى ما ذكره العراقي وما فاته يقوى الحديث ويحكم بقبوله والله أعلم
فصـل
وكعادة الألباني في مثل هذه الأحاديث سعى لتضعيف هذا الحديث فاتبع سبيلاً لم يسبق إليه، وتلاعب تلاعباً يعاب عليه .
أما تضعيفه للحديث فاتبع سبيلاً لم يسبف إليه كما صرح هو بذلك في ضعيفته (2/405) ، فإنه أضاف للحديث حديثاً آخر رواه جمع من الثقات ، وجعل حديث ( حياتي خير لكم …) زيادة على الحديث الأول انفرد بها عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فحكم على الحديث الثاني بالشذوذ لمخالفة عبد المجيد للثقات الذين رووا الحديث الأول .. !!!
وذلك أن الحافظ البزار قال في مسنده : حدثنا يوسف بن موسى ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله عن النبي (ص)قال: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام) . قال: وقال رسول الله (ص): (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم … ) الحديث .
فالحديث الأول : رواه عن سفيان جمع من الثقات .
والحديث الثاني : انفرد به عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، فلما جعلهما الألباني حديثاً واحداً حكم على الثاني بالشذوذ ، ولم يعده حديثاً مستقلاً بل زيادة ، وهذا خطأ بين ! .
ذلك أن المدقق لا بد وأن يعلم أن هذين حديثين بسندٍ واحدٍ أخرجهما البزار كما ترى سعيا للاختصار ، وعدم تكرار الاسناد ، وهو ما يكثر حدوثه في كتب الحديث، حيث يذكرون سنداً واحدً لعدة متون، وهو ظاهر لا يحتاج لشرح وبيان، وقد أصاب الحافظ السيوطي فجعل في جامعيه الصغير والكبير الحديث الأول في مكان. والحديث الثاني في مكان آخر وهذا من شفوف نظره، وثاقب فهمه، رحمه الله تعالى ، والله أعلم .
فصـل
ولكي تروق للألباني دعوته صرح بأن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد متكلم فيه من قبل حفظه ، وهو وإن وثقه بعضهم لكن ضعفه آخرون وبين بعضهم السبب (كذا) في ضعيفته (2/404)، فكلامه يرشح بضعف الرجل .
ولأن الرجل ثقة ، ومن رجل الصحيح فقد رأيت أن هذا مقام الذب عنه وبيان ثقته .
فقد وثقه بن معين ، واحمد وأبو داود ، والنسائي ، وابن شاهين ، والخليلي .
ورجل يوثقه هؤلاء ، ويكثر مسلم من الاحتجاج به في صحيحه يكون قد جاوز القنطر ، ويكون ما جاء فيه من الجرح مردوداً عند التأمل والنظر الصحيح الموافق لقواعد الحديث .
فمن تكلم فيه فلأسباب :
1- بسبب مذهبه ، فإنه كان مرجئاً، وهذا لا يضر في الرواية كما هو مقرر في محله ، وقد قال الحافظ الذهبي في الميزان بعد ذكر عبد المجيد بن عبد العزيز في جماعة من الثقات المرجئين ما نصه:لإرجاء مذهب لعدة من جلة العلماء لا ينبغي التحامل عليه به . اهـ .
2- كونه أخطأ في أحاديث ، فإنه روى حديث الأعمال بالنيات من طريق مالك ، عن يزيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به مرفوعاً .
هكذا أخرجه أبو نعيم في الحلية (6 / 342 ) والققضاعي في مسند الشهاب ( فتح الوهاب 1/16 ) ، وأبو يعلى الخليلي في الإرشاد
( 1/233 ) .
والمحفوظ هو عن مالك عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة . عن عمر بع مرفوعاً هكذا أخرجه الجماعة .
ولذا عد هذا الحديث مما أخطأ فيه عبد المجيد فكان ماذا ؟ فمن ذا الذي ما غلط في حديث بل في أحاديث ؟
فإذا وقفت على ترجم ة ابن عدي لعبد المجيد بن أبي رواد في الكامل (5 /1982) . فتذكر قول الذهبي في الموقظة ( ص 78 ) :
وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ، ولا يخطئ ، فمن الذي يسلم من ذلك ؟ ير المعصوم الذي لا يقر على خطأ ؟
وقد نبه الذهبي على هذا المعنى عدة مرات في ميزان الاعتدال .
والحاصل أن وجود بعض الوهم في حديث عبد المجيد بن أبي رواد لا يخرجه من حد الثقة ، لا سيما وأنه كان حافظاً مكثراً وكثيراً ما يقع من الكثرين مثل ذلك .
وقد وصفه الذهبي بالحفظ والصدق فقال في النبلاء (9/434 ) : العالم القدوة الحافظ الصادق . اهـ .
3- من تكلم فيه بجرح غير مفسر كقول أبي حاتم الرازي – وتشدده معروف ومشهور–(لا يحتج به ، يعتبر به)(1) ، وكقول ابن سعد: ( كان
(1) ولا أدري كيف جعل الألباني هذا القول بعد أن نسبه على سبيل الوهم – للنسائي – من الجرح المفسر ؟؟
كثير الحديث مرجئاً ضعيفاً ) ، وكقول أبي أحمد الحاكم : ( ليس بالمتين عندهم ) ، وكقول بي عبد الله الحاكم : (( هو ممن سكتوا عنه )) .
فهذا فضلاً عن كونه من الجرح الخفيف الذي لم يسلم منه إلا الطبقة الأولى من الثقات ، فهو من الجرح الغير مفسر الذي ينبغي رده في مقابل توثيق ابن معين ، وأحمد ، وأبي داود ، والنسائي ، ويرهم .
4- من تكلم فيه بجرح فيه مبالغة وتشدد مردود ، وهو ابن حبان حيث قال في المجروحين (2/161) : منكر الحديث جداً ، يقلب الأخبار، ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك . اهـ .
وقد نبه الحافظ في التقريب ( ص361 ) على إفراط ابن حبان بمقولة الترك(1) .
وكيف يكون الرجل مستحقاً للترك ويغيب ذلك عمن حدث عنه ووثقه كأحمد وابن معين .
وبن حبان يبالغ جداً في الجرح حتى قال عنه الذهبي في الميزان (1/274): ابن حبان ربما قصب الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه . اهـ .
(1) وإن تعجب فعجب من الألباني، فالحافظ نبه في التقريب ( ص 361 ) على إفراط ابن حبان فقال : صدوق يخطئ وكان مرجئاً ، أفرط ابن حبان فقال : متروك . اهـ .
فاقتصر الألباني في ضعيفته (2/404 ) على قول الحافظ : ((صدوق يخطئ)) ، ولم يذكر تعقب الحافظ على ابن حبان ، وما فعل هذا إلا ليوهم القراء أأن الرجل متروك وكلام ابن حبان مقبول غير متعقب ، نعوذ بالله تعلى من اتباع الهوى وشره .
وكأن مستند ابن حبان في المبالة في جرحه لعبد المجيد بن أبي رواد ما رواه في المجروحين ( 2 /161) من طريق عبد المجيد عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: (القدرية كفر، والشيعة هلكة، والحرورية بدعة، وما نعلم الحق إلا في المرجئة )) .
قال الدار قطني في (( الفراد )) : تفرد به عبد المجيد ، وزاد الحافظ في التهذيب (6/383) : وبقية رجاله ثقات . اهـ .
قلت: ما قال الدار قطني والحافظ حق لا مرية فيه، ولا يعني هذا اتهام عبد المجيد، فالصواب، وهو الحق أيضاً الذي لا مرية فيه اتهام من دلسه ابن جريج ، فإنه كان مدلساً سيء التدليس .
قال الدار قطني: تجنب تليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح . اهـ .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : بعض هذه الاحاديث التي كان يرسلها ابن جريح أحاديث موضوعة ، كان ابن جريح لا يبالي من أين يأخذها . اهـ هكذا في الميزان ( 2/659 ) .
وبذا تعلم ما في جرح ابن حبان من النظر، وتعصب الجناية في هذا الإسناد فيمن دلسه ابن جريج، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
والحاصل أن الرجل كما قال معاصروه أحمد ، وابن معين : ثقة ، ومن تكلم فيه فكلامه مردود لا ينتبه إليه .
ومن أجل هذا اعتمده مسلم في صحيحه وأخرج له في أصوله .
ولهذا قال الحافظ الذهبي في "منتكلم فيه وهو موثق " ( ص124 ): ثقة مرجئ داعية ، غمزه ابن حبان .اهـ .
فكلام الذهبي يصرح بتوثيق الرجل ،وأن بدعته وكلام ابن حبان لا يؤثران في ثقته ، وإن كان لهما تأثير لما صرح بتوثيقه فتنبه ، والله أعلم بالصواب .
فصـل
أما كونه ( أي الألباني ) تلاعب تلاعباً يعاب عليه فبيانه من وجهين :
الأول : قال في ضعيفته (2/405) : فلعل هذا الحديث الذي رواه عبد المجيد موصولاً عن ابن مسعود أصله هذا المرسل عن بكر ، أخطأ فيه عبد المجيد فوصله عن ابن مسعود ملحقاً إياه بحديثه الأول . اهـ .
قلت : هذا ظن ، والظن ليس بكذب فقط ، ولكنه أكذب الحديث ، ويلزم من هذا الظن الفاسد رد المسند –الذي فيه راوٍ تكلم فيه- للمرسل الذي جاء من وجه أقوى، فلا يصح بذلك مرسل إلا بشق الأنفس ، وفيه إهدار لشطر من السنة ، ولم أجد من سبق الألباني لهذه الخرافة .
الثاني : فإنه قد تقرر أن الحديث المرسل يتقوى بأمور ، منها إذا ورد
هذا المرسل من طريق آخر موصول ضعيف تقوى المرسل به، وصار من باب الحسن لغيره ، وبه تقوم الحجة ويلزم العمل به ، وإذا كان الموصول الذي فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد من قسم الضعيف كما ارتآه الألباني دفعاً بالصدر،فإن المرسل الصحيح إذا ضم إليه صار من قسم الحسن المقبول الذي يجب العمل به اتفاقاً .
ولم أجد مبرراً عند الألباني يبعده عن اتباع القواعد الحديثية هنا إلا التعنت، واتباع الهوى في رد مثل هذه الأحاديث .
وأزيد هنا بخصوص هذا الحديث رده على نفسه واتباعه لما تقرر من قبول المرسل بالشروط المبسوطة في محلها قوله في رده على الشيخ إسماعيل الأنصاري(1) ما نصه :
المرسل الصحيح إسناده حجة وحده عند جمهور الفقهاء ، قال الحافظ بن كثير : (( والاحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وهو يحكى عن أحمد في رواية )) .
وأما مذهب الشافعي فشرطه في الاحتجاج به معروف ، وهو أن يجئ من وجه آخر ولو مرسلاً .. فهذا الحديث المرسل صحيح حجة عند المذاهب الأربعة وغيرهم من أئمة أصول الحديث والفقه ، وبذلك يظهر لكل منصف أن القول بسقوط الاستدلال بهذا الحديث لمجرد وروده
(1) كتاب الشيباني : (1/134 – 135 )
مرسلاً(1) هو الساقط . اهـ .
قلت : بل يظهر لكل منصف أن هوى الرجل أوقعه في التناقض والرد على نفسه والكيل بمكياين … !
غفر الله لنا وله ، وسلك بنا سبل السلام(2) .
(1) ثم حديث عرض الأعمال أولى بالقبول من هذا المرسل الذي تقوى بموصول ، فالموصول في الرد على الأنصاري ، فيه ليث بن أبي سليم حاله معروف في الضعف ، وموصولنا فيه عبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي رواد وقد تقدم توثيقه ، وأنه من رجال مسلم ، فيكون قد جاوز القنطرة . والله أعلم .
(2) وقفت على بحث كتب للحصول على شهادة الماجستير باسم "الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية " لجيلان بن خضر العروسي ، تعرض فيه للكلام عن أحاديث التوسل وبخاصة حديث عرض الأعمال ، ولم يجاوز كلام الألباني ، بل لم يحسن التصرف فيه ، وهي كغيرها من رسائل أهل الدراسات العليا في العقيدة بالذات تفتقر إلى الصدق لأمور :
1- الطالب مقيد بمنهج في التفكير يعادي أئمة الإسلام وعلمائه ، وهو عندهم ما بين مشرك أو مبتدع أو كما يقولون : نسأل الله أن يكونوا ماتوا على غير ذلك ، أو تاب الإمام الفلاني مما عنده من بدع ! ولا يستطيع الطالب أن يخالف هذا المنهج وإلا طرد ( إرهاب فكري ) .
2- الطالب يريد أن ينتهي من البحث ليتفرغ لما بعده حتى إذا نال "الدكتوراه " أصبح عالماً يشار إليه بالبنان ،وفتحت الجامعات والمراكز العليا أبوابها له، وغفل على أنه ما صعد إلى هذه المنزلة إلا بنهش لحم علماء الأمة.
3- الأمر الأشد إيلاماً أن بعض الطلبة – خاصة الوافدين – يكونوا أكثر شراسة من يرهم ، وجلهم لا يعتقدون ما يكتبون ، ولكن حب الدنيا ، والسعي نحو دريهمات معدودة ، وعرض زائل يدفعهم إلى التزلف والنفاق رغبة في التسلق .
4- زد على ما تقدم السرقات ، والنقل ، والتدليس ـ وشهو حب الظهور ، والتبجح بالمخالفة والاستدراك على المتقدمين .
ولسنا في حاجة لضرب الأمثلة ، فالأمر شائع ومشهور ،وهذا لا يمنع من الإشادة بنوادر البحوث التي تشهد بكفاءة وجدارة أصحابها .