الفهرس
- مسائل متفرّقة
- المسألة الأولى: مسألة اللعان
- المسألة الثانية: مسألة الكفاءة في السِّن
- المسألة الثالثة: غياب الرجل عن زوجته
- المسألة الرابعة: مشاكل الزواج والطلاق في ظل غياب السلطان المسلم
- العودة إلي كتاب الزواج والطلاق في الإسلام مسائل وأحكام
ـ مسائل متفرّقة:
ـ المسألة الأولى: مسألة اللعان:
رجل يرى رجلاً مع امرأته في فراشه، يقترفان الفاحشة .. ماذا يفعل؟ هل يقتله، أم يقتلها، أم يقتلهما معاً .. أم له حكم آخر؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. أخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ عُويمِراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: يا عاصم، أرأيتَ رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتلُهُ فتقتلونَهُ، أم كيف يفعل؟ سَلْ لي يا عاصم عن ذلك رسولَ الله ، فسأل عاصمٌ رسولَ الله عن ذلك، فكرِهَ رسولُ الله المسائِلَ وعابَها، حتى كَبُرَ على عاصم ما سمع من رسولِ الله ، فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عُويمِر، فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسولُ الله ؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير؛ قد كَرِهَ رسولُ الله المسألة التي سألته عنها، فقال عُويمر: والله لا أنتهي حتى أسألَه عنها، فأقبل عُويمِر حتى جاء رسولَ الله وسَطَ الناسِ، فقال: يا رسولَ الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسولُ الله :" قد أُنزِلَ فيك وفي صاحبتك فاذهَب فأتِ بها ".
وفي رواية:" فأنزل الله في شأنه ما ذكرَ في القرآن من أمر المتلاعِنَين، فقال النبي :" قد قضى الله فيك وفي امرأتك ". قال سهل: فتلاعَنَا وأنا مع الناس عند رسول الله ، فلما فرغا من تلاعنهما، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسولُ الله .
قال ابن شهاب راوي الحديث عن سهل: فكانت السنة بعدهما أن يُفرَّق بين المتلاعنين، وكانت حاملاً، وكان ابنها يُدعى لأمه. قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله له. وفي رواية: ما فرض الله لها " والحديث متفق عليه.
وفي رواية عند أبي داود: قال سهل: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله ، فأنفذه رسولُ الله ، وكان ما صُنِع عند النبي سُنة.
قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله ، فمضت السنة بعد في المتلاعنين: أن يُفَرَّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا[ ].
أما صيغة الملاعنة كيف تتم، فهي كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ أي بالزنى وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فيقول: أشهدُ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ أي الحد، والرجم أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ النور:6-9.
ومن السنَّة أن يُوعَظ المتلاعنان قبل بدئ الملاعنة، كما في الحديث عند النسائي، فوعظهما:" فبدأ بالرجل فوعظه، وذكَّره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: والذي بعثك بالحق ما كذبت، ثم ثنَّى بالمرأة فوعظَها وذكَّرَها، فقالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنَّى بالمرأة ..."[ ].
كما يُسَن في الخامسة أن توقَف المرأة فيُقال لها:" إنها موجبة " فتُخَوَّف بالله. وكذلك يضع رجلٌ يده على فِيّ الملاعِن في الخامسة، فيقول له:" إنها موجبة "[ ]. فيخوفه بالله.
فإن قيل: أين المهر .. هل يُرَد شيء منه إلى الرجل؟
أقول: قضت السنة أنه ليس للرجل في اللعان أن يأخذ شيئاً من الصداق، كما في الحديث المتفق عليه، فقال النبي للمتلاعنَين:" حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لكَ عليها "، قال: مالي؟ قال :" لا مالَ لك؛ إن كنتَ صدَقتَ عليها فهو بما استحللتَ من فرجِها، وإن كنتَ كذبتَ عليها فذاكَ أبعدُ لكَ ".
قلت: فتأمَّل قوله :" لا سبيلَ لكَ عليها " أي لاسلطان لك عليها ـ بعد الملاعنة ـ في محاسبتها أو معاقبتها في شيء .. وفي هذا التوجيه النبوي الشريف صلوات ربي وسلامه عليه رد على الذين يرتكبون جرائم قتل الشرف ـ في البلاد العربية والأسوية ـ باسم الانتقام للشرف .. والغيرة المزعومة .. وهم ليس لهم ـ بنص القرآن والسنة ـ أكثر من الملاعنة .. كما هو مبين أعلاه .. ومما زاد الطين بلةً .. والأمر سوءاً أن هذه الجرائم التي تُرتكب في كثير من الأمصار .. في كثير من الأحيان تُلصَق باسم الإسلام .. والإسلام منها براء![ ].
وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: قال سعد بنُ عبادة: يا رسولَ الله لو وجدتُ مع أهلي رجلاً، لم أمَسَّه حتى آتِيَ بأربعةِ شُهداء؟ قال رسولُ الله :" نعم ". قال: كلا؛ والذي بعثَكَ بالحق إن كنتُ لأُعاجِلُه بالسيف قبل ذلك! قال رسولُ الله :" اسمعوا إلى ما يقولُ سيدُكم؛ إنه لغيورٌ، وأنا أغيرُ منه، واللهُ أغيرُ مني " مسلم.
فلا ينبغي ولا يجوز أن تُرتَكب الجرائم باسم الغيرة .. والمزاودة بالغيرة .. فلا أحد أغير من الله تعالى، ولا للغيرة إلا فيما أوجب الله تعالى فيه الغيرة، قال رسولُ الله :" لا أحَدَ أغيرَ من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطن " البخاري. وبالتالي لا يجوز لعبد أن يُزاود بالغيرة على غيرة الله تعالى؛ فيغار أكثر من المشروع، أو فيما لا تجوز فيه الغيرة.
وعن أنس، قالوا: يا رسولَ الله، ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال:" إن فيهم لَغَيْرَةً شديدةً "[ ]. فكان ذلك سبباً مانعاً للنبي من الزواج منهن .. فالغيرة محمودة ما التزمت بحدود وضوابط الشرع، وما زاد أو نقص عن المشروع فهو مذموم، لذا جاء في الحديث قوله :" من الغيرة ما يُحِبُّ الله، ومنها ما يكرَهُ الله؛ فأما ما يُحبُّ اللهُ، فالغيرة في الريبةِ، وأما ما يكرهُ فالغيرة في غير ريبةٍ "[ ]. وقال :" غَيْرَةُ اللهِ أن يأتِي المؤمنُ ما حرَّمَ اللهُ عليه "[ ].
ـ المسألة الثانية: مسألة الكفاءة في السِّن:
إذ أصبح من الملاحظ في كثير من المجتمعات العربية والأسوية تزويج ابن الستين عاماً من ابنة الخامسة عشرة من عمرها .. مستدلين على زواجهم بزواج النبي من عائشة رضي الله عنها .. فهل هذا جائز؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. من الكفاءة التي يجب مراعاتها الكفاءة والتقارب في السن بين الزوجين .. وأعني بذلك الكفاءة الجنسية .. إذ لا ينبغي أن يُزوّج ابن الستين بنت الخامسة عشر عاماً كما يحصل ذلك في كثير من المجتمعات العربية والأسوية مستغلين فقر وحاجة وجهل بعض العوائل .. لأن الضرر حينئذٍ ـ وكذلك الإعضال ـ محقق للمرأة ولا بد .. حيث في الوقت الذي ينطفئ فيه الرجل جنسياً وينتهي عطاؤه تكون المرأة في أقوى مراحل عطائها .. ويكون مثلها مثل من تُزوَّج من عنِّين؛ لا يقدر على الوصال .. فتتشوف الرجال .. وتستشرف النظر إليهم بالحرام .. وهذا لا يجوز .. لما فيه من ضرر وإضرار، والله تعالى يقول: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً البقرة:231. وفي الحديث فقد صح عن النبي أنه قال:" لا ضرر، ولا ضرار ". ولو عملنا بأدلة قاعدة " سد الذرائع "، لسددنا الطريق على مثل هكذا زواج، ولا بد!
ومما يحسن الاستدلال به في هذا الشأن ما أخرجه الترمذي في السنن، تحت باب " تُزَوَّجُ المرأةُ مثلُها في السِّنِّ "، عن بُريدة، قال:" خطَبَ أبو بكرٍ، وعمر رضي الله عنهما فاطمة، فقال رسولُ الله :" إنها صغيرة، فخطبها عليٌّ فزوَّجها مِنه "[ ]. وقوله :" إنها صغيرة "؛ أي إنها صغيرة عليكما قياساً لعمركما .. وأبو بكر وعمر هما، هما .. بينما عليٌّ سنه مكافئ ومتقارب من سنها " فزوَّجها مِنه ".
فإن قيل: كيف نفسّر إذاً زواج النبي من عائشة رضي الله عنها ..؟
أقول: قد كثر الاستدلال بزواج النبي من عائشة رضي الله عنها على ما لا ينبغي ولا يجوز الاستدلال عليه .. فأيّنا كالنبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه .. مَن يجرؤ أن يزعم أن رجولته وفحولته كرجولة وفحولة النبي .. فالنبي له المثل الأعلى في جميع خصال وخصائص الإنسان .. بما في ذلك خاصية الرجولة والفحولة .. فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك:" أن نبيَّ الله كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة ". الله أكبر .. تبارَك اللهُ أحسنُ الخالِقين .. فمن من الرجال يُطيق ذلك .. حتى يحسن أن يُشبه نفسه بالنبي .. ويقيس نفسه على النبي ؟!
وفي رواية ـ عند البخاري أيضاً ـ: عن قتادة قال: حدَّثنا أنَس بن مالك قال:" كان النبيُّ يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهنَّ إحدَى عشرةَ " قال: قلت لأنس: أوَكان يُطيقه؟ قال:" كنا نتحدَّثُ أنه أُعطيَ قوَّة ثلاثينَ ". فليتأمَّل عجائز هذا الزمان الذين لا يستحون؛ فيقيسون أنفسهم على النبي .. وإذا ما قيل للرجل: كيف تُزوج وليتك من رجل يزيدها خمسين عاماً .. سرعان ما يبادرك القول والاستدلال بزواج النبي من عائشة .. ساء ما يقولون .. وما يفهمون .. فبئس الفهم فهمهم .. وبئس القول قولهم!
تقول أُمّنا؛ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:" كان رسولُ الله يُقبّل وهو صائم، ويُباشر وهو صائم، ولكنه كان أملَك لإرْبِه " متفق عليه.
وفي رواية، قالت:" وأيكم كان أملَك لإرْبه من رسولِ الله ".
وفي صحيح ابن خزيمة، عن الأسود، قال: انطلقت أنا ومسروق إلى أم المؤمنين نسألها عن المباشرة ـ أي في الصيام ـ فاستحيينا، قال: قلت: جئنا نسأل حاجةً فاستَحْيَيْنا. فقالت: ما هي؟ سلا عما بدا لكما. قال: قلنا: كان النبي يُباشِر وهو صائم؟ قالت:" قد كان يفعل، ولكنه كان أملَكَ لإرْبِه منكم "[ ].
وفي صحيح البخاري، قال رسولُ الله :" لا تواصلوا " ـ أي في الصيام؛ فيوصَل الليل بالنهار من غير إفطار ـ قالوا: فإنَّك تواصل يا رسول الله. قال: لست كأحدٍ مِنْكم ـ وفي رواية: إني لستُ مِثلكم ـ إنِّي أُطعَم وأُسقَى ". وفي رواية:" إنيِّ لستُ كهيئتكم، إني أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعمني، وساقٍ يسقين ". وفي رواية:" وأيكم مثلي؛ إنِّي أبيتُ يُطعمني ربي ويَسقين ". وكل هذه الروايات عند البخاري في صحيحه.
وبالتالي لا يجوز أن يُقاس أقوى الرجال .. وفي عِز رجولتهم وشبابهم .. على قوة النبي المصطفى وهو في آخر أيامه وعهده من دنيانا .. فضلاً عن أن يُقاس العجايز وكبيري السن .. وأيما قياس من هذا القبيل أعده انتقاصاً من قدْر ورجولة النبي .. وأيما امرئ يقيس نفسه على النبي ويريد من قياسه الانتقاص من قدْر وجناب النبي .. وأعرف ذلك منه .. والذي نفسي بيده لا أتردد لحظة من تكفيره بعينه، والحكم عليه بالردة.
إضافة إلى هذا الذي تقدم يُقال كذلك: أن النبي يملك الكمال في جميع خصائص وصفات الكفاءة المطلوبة بين الزوجين .. وهو ما يزيل مطلق الأثر لما يُقال عن الفارق في العمر بين الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه .. وبين أمّنا؛ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها .. وهذا ليس لأحدٍ بعده .. وبالتالي لا يجوز لأحدٍ أن يقيس نفسه وزواجه على نفس النبي وزواجه من عائشة رضي الله عنها.
فإن قِيل: هل يُقال هذا الذي تقدم أعلاه إذا ما تزوّج صغيرٌ من كبيرة، وكان الفارق في العمر بينهما كبير، إلى درجة تكون المرأة فيها فوق سن الإنجاب ..؟
أقول: إن كانت زوجته الوحيدة، وفي نيته أن لا يعدد عليها، وظرفه لا يسمح له بالتعدد، نعم يُكرَه للصغير أن يتزوج من كبيرة قد دخلت سن اليأس، وتجاوزت سن الإنجاب، وقد ترقى الكراهة إلى درجة التحريم بحسب الضرر والحرج المترتب على هكذا زواج .. فقد جاء رجل إلى النبي ، فقال: إنّي أصبتُ امرأة ذات حسَبٍ وجمال، وإنها لا تلِد، أفأتزوجها؟ قال :" لا ". ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:" تزوّجوا الودودَ الولودَ فإنِّي مكاثِر بكم الأمم يومَ القيامة "[ ]. هذا إذا كانت لا تلد فقط ـ وهي ذات حسب وجمال ـ فكيف إذا كانت مع كونها لا تلِد لا تُحصّن زوجها من الوقوع في الفتن للفارق الكبير بينهما في السن ـ والتي كثرت في هذا الزمان، وأحاطت بالرجال والنساء سواء إحاطة السوار بالمعصم ـ وهو في المقابل لا يجد أمامه إلا إياها .. ولا يقدر على الزواج من غيرها .. لا شك حينئذٍ أن الكراهة تتغلظ، وقد ترقى إلى درجة التحريم.
لكن إن كان من ذوي التعدد أو في نيته أن يُعدّد، والظروف تسمح له أن يُعدد، فأضافها إلى جملة نسائه .. أرجو أن لا يكون في ذلك حرج إن شاء الله .. ولا يُقال في هذا الموضِع ما قلناه بحق الصغيرة عندما تتزوج من كبير يفوقها عشرات السنين؛ لأن البنت ـ في الوصف المتقدم ـ فاقدة لمطلق الخيارات .. مقصورة على عجوزها .. لا خيار لها غيره .. بينما الرجل في مثالنا السابق له خيارات عدة؛ له ـ إن شاء ـ أن يتزوج ثلاث نساء إضافة إلى تلك المرأة الكبيرة في السن التي تزوجها .. إضافة إلى خيار الطلاق لو شاء، والله تعالى أعلم.
ـ المسألة الثالثة: غياب الرجل عن زوجته
: كم يحق للزوج أن يغيب عن زوجته .. ولو غاب غياباً قسرياً كالسجن ونحوه أو كان مفقوداً لا يُعلَم مكانه .. كم هي المدة التي يحق بها للمرأة أن تطلب التفريق وفسخ العقد؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. اعلم أن الإسلام جاء برفع الضرر عن المرأة، أو أن تُمسَك ضراراً وإعضالاً وفتنة من غير نكاح ولا طلاق .. من ذلك إمساكها على نكاح غائبٍ مهما طال غيابه فتضطر أن تستشرف الفتنة والحرام .. ثم لو فعلت أو وقعت في شيء من ذلك تُعاقَب عليه!.. فالإسلام قد جاء بسد الذرائع التي تمنع من الوقوع في الحرام قبل العقوبة على الوقوع في الحرام .. وقد تقدم ذكر النصوص الشرعية الدالة على ذلك .. وقد خاض الخائضون في تحديد زمن غياب الزوج الذي يحق للمرأة بعده أن تطلب الطلاق أو فسخ العقد .. فمنهم المكثر ومنهم المُقِل؛ بحسب ما يرجح لهم تحقق الضرر للمرأة.
وأقرب الأقوال عندي للنص، ولروح الشريعة ومقاصدها، هو ما ورد في مدة " الإيلاء " وصفته أن يحلف الرجل أن يهجر زوجته ولا يقترب منها بنكاح .. فحدد له الشرع مدة أقصاها أربعة أشهر .. لا يحق له تجاوزها .. فإن أراد تجاوزها يخير بين الطلاق أو الرجوع إلى زوجته ليعاشرها معاشرة الأزواج لنسائهم .. وليس له إلا أن يختار، كما قال تعالى: لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة:226-227. قال ابن كثير في التفسير: إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفيء؛ أي يجامع، وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها ا- هـ.
أخرج البخاري في صحيحه، أن ابن عمر كان يقول في الإيلاء الذي سمَّى الله: لا يحلُّ لأحدٍ بعدَ الأجل إلا أن يُمْسِك بالمعروف أو يعزِم الطلاق كما أمرَ الله عزَّ وجَل.
وفي رواية عنه ـ عند البخاري كذلك ـ: إذا مضت أربعةُ أشهرٍ يُوقَفُ حتى يُطلِّق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يُطلّق. قال البخاري: ويُذكَر ذلك عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشرَ رجلاً من أصحابِ النبيِّ .
قلت: وعليه فالذي يغيب عن زوجته غياباً قصرياً أو اختيارياً أكثر من أربعة أشهر .. فللمرأة
الحق ـ إن شاءت ـ أن تطلب الطلاق أو فسخ عقد النكاح إن كان غيابه مجهولاً أو لا يُقدَر على الوصول إليه .. كما لها أن تصبر وتحتسب وتزيد من مدة الانتظار ما شاءت[ ].
فإن قيل: هذا إيلاء وذاك غياب .. فأين وجه الشبه بينهما؟
أقول: كلاهما يتحقق فيهما الهجر للزوجة والبعد عن الجماع .. والعلّة في تحديد الزمن في الإيلاء بأربعة أشهر هي مراعاة مصلحة المرأة، وعدم الإضرار بها، ومراعاة قدرتها وصبرها على تحمل مفارقة الزوج والنكاح .. وليس مجرد حضور أو غياب الرجل من غير معاشرة .. علماً أن الغياب الكلي أشد وطأ وأثراً على المرأة من الإيلاء، فالغياب هجر كلي .. ومفارقة كلية للزوجة وبيتها سواء .. فلا تراه مطلقاً .. لا داخل البيت ولا خارجه .. بينما الإيلاء هو هجر مع إقامة الرجل في بيت المرأة .. ومع ذلك حُددت مدته بفترة زمنية أقصاها أَرْبَعَة أَشْهُرٍ أو الطلاق.
ولعل ما يُؤيد هذا القول، ما روي عن عمر أنه سأل ابنته حفصة ـ وقيل غيرها من النساء ـ:" كم تصبر المرأة عن زوجها؟ تصبر شهراً؟ فقلن: نعم، قال: تصبر شهرين؟ فقلن: نعم، قال: ثلاثة أشهر؟ قلن: نعم، ويقلُّ صبرها، قال: أربعة أشهرٍ؟ قلن: نعم؛ ويفنى صبرها، فكتب إلى أمراء الأجناد؛ في رجالٍ غابوا عن نسائهم أربعة أشهرٍ أن يردوهم "[ ].
وفي المصنّف لعبد الرزاق 7/151: عن ابن جريج، قال: أخبرني من أصدّق أن عمر وهو يطوف ـ أي في المدينة ـ سمع امرأة وهي تقول:
تطاول هذا الليل واخضلَّ جانبه ... وأرَّقني إذ لا خليلٌ أُلاعبُه
فلولا حذارِ الله لا شيء مثلُه ... لزُعْزِعَ من هذا السريرِ جوانِبُه
فقال عمر: فما لكِ؟ قالت: أغرَبتَ زوجي منذ أربعةَ أشهرٍ، وقد اشتقتُ إليه، فقال: أردتِ
سوءاً، قالت: معاذ الله، قال: فاملكي على نفسك، فإنما هو البريدُ إليه، فبعث إليه، ثم دخل على حفصة فقال: إنِّي سائلك عن أمرٍ قد أهمَّني فأفرجيه عنّي؛ كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفضت رأسها فاستحييت، فقال: فإنَّ الله لا يستحي من الحق، فأشارت ثلاثةَ أشهرٍ، وإلا فأربعة، فكتب عمر ألا تُحبَس الجيوش فوق أربعة أشهرٍ ".
ـ المسألة الرابعة: مشاكل الزواج والطلاق في ظل غياب السلطان المسلم
القادر على إنصاف الخصوم: كيف تواجَه .. وكيف تُعالج .. وكيف تتم عملية تحصيل الحقوق .. وفي حال خذلان المحاكم الوضعية للمرأة وحقوقها .. ماذا تفعل؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. غياب السلطان المسلم الذي يحكم بين الخصوم بالشريعة الإسلامية، والقادر على إلزام الخصوم والمتنازعين بحكمه .. حلقة مفقودة في مجال الأحوال الشخصية في بلاد المسلمين وغيرها .. والطرف الأضعف في ظل هذا الواقع هي المرأة .. فالرجل الأناني هو المستفيد من هذا الفراغ؛ فهو مهما اشتدت الأمور عليه يكفيه أن يرمي عبارة الطلاق ثم يمضي ليستأنف حياة جديدة .. ومن دون أن يأبه لقرار قاضٍ أو حكم محكمة .. بينما حقوق المرأة في المخالعة .. وفسخ عقد النكاح على اختلاف صوره وأسبابه .. وتحصيل حقوقها المادية .. وحقوق الحضانة .. وتفعيل الطلاق بصورة رسمية تمكنها ـ عرفاً بحسب نظرة المجتمع إليها ـ من استئناف حياة جديدة بالنسبة لها ـ إذ من النساء من يُرمَى عليها الطلاق .. ثم هي لا تستطيع أن تفَعِّل الطلاق في المحاكم الوضعية .. فتبقى معلقة؛ فلا هي مطلقة كما ينبغي، ولا هي متزوجة .. وهذا واقع يروي غليل وأحقاد بعض ضعاف النفوس والإيمان من الرجال .. ويجرئهم على مزيد من الظلم والانتقام ـ كل هذه القضايا وغيرها مرتبطة ـ كما تقدم معنا ـ بوجود سلطان مسلم .. وقضاء شرعي عادل وقوي قادر على إنصاف طرفي النزاع وإلزامهما بما يجب عليهما نحو بعضهما البعض .. وهذا غير متحقق في جل الأمصار وللأسف .. وهو واقع نعايشه ونكابده لا يمكن تجاهله .. فما هو التوجيه الشرعي لهذا الواقع المرير .. وكيف للطرف الأضعف في هذه القضية ـ المتمثل في المرأة ـ أن تتصرف .. وأن تفعل؟
أقول: أولي الأمر الذين تجب طاعتهم في المعروف، والرجوع إليهم من أجل فض المنازعات، صنفان: الأمراء، والعلماء، وهم المراد من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ النساء:59. وَأُوْلِي الأَمْرِ ؛ هم الحكام والعلماء .. فإن غاب من أولي الأمر الحكام .. بقي العلماء؛ فإليهم يُرجع في فض المنازعات والخصومات بين المتنازعين والمتخاصمين .. والعلماء ـ بفضل الله تعالى ـ لا يخلو منهم زمان .. ولا مكان .. فإن عز وجودهم في مكان معينٍ إلا أنه لا يصعب طلبهم ووجودهم في أمكنة أخرى يسهل الوصول والرجوع إليهم .. وعبر وسائل عدة .. وهذا من معاني حفظ الله تعالى لدينه.
فإن قيل: كثير من المنازعات لا يمكن حسمها .. كما أن كثيراً من الحقوق لا يمكن تحصيلها إلا بنوع قوة مُلزمة .. وهذا ما لا يملكه العلماء .. وإنما يملكه السلطان الحاكم .. فمن الرجال من لا يأبه لعالم ولا لحكم وقرار عالِم .. فما العمل .. وكيف السبيل؟
أقول: تُحصَّل الحقوق ـ إن أمكن ـ عن طريق تدخل الأولياء والعقلاء ممن لهم سلطة مباشرة على طرفي النزاع .. ومنهم الحكمين؛ وأعني بهما حكماً من أهله، وحكماً من أهلها .. فحكمهما نافذ ومُلزم كما تقدم .. فإن تعثر ذلك .. وتعثر تحصيل الحقوق التي لا يمكن السكوت عنها، والتي يعني السكوت عنها الوقوع في الحرام .. وضياع النسل .. والعدوان على العِرض .. ثم تبين أن هذه الحقوق ـ أو بعضها ـ لا يمكن تحصيلها إلا عن طريق المحاكم المُشْرَعَة في الأمصار التي تملك سلطة وقوة الحاكم .. أرجو أن لا يكون في ذلك حرج إن شاء الله.
فإن قيل: لكن هناك قضايا ضرورية لو رفعتها المرأة إلى المحاكم الوضعية .. لوقعت في حرج شديد .. ولربما استهزئ بها وبدينها .. وتعرضت للسجن والاعتقال .. كأن ترفع قضية فسخ الزواج بسبب ردة زوجها عن الإسلام .. فالمحاكم الموجودة بما فيها المحاكم التي تزعم أنها تحكم بالشريعة في مجال الأحوال الشخصية .. لا تقبل مثل هذه القضايا .. والمرأة التي ترفع إليهم مثل هذه القضايا مستهجنة جداً .. من المحاكم الوضعية ومن المجتمع الذي تعيش فيه .. وهي سرعان ما تُرمَى بأنها تكفيرية .. وأصولية .. وإرهابية .. ومعقدة .. تستحق الطرد .. وربما السجن والعقاب؟![ ].
فما العمل .. هل تبقى المرأة تحت ذمة كافر مرتد ـ لا يُراعي فيها إلَّاً ولا ديناً ولا حرمة ـ تعيش معه بالحرام .. وتلد منه بالحرام .. أم ماذا تفعل؟
أقول: لا حرج عليها حينئذٍ أن تلجأ للتورية .. وتتذرع بأي سببٍ آخر يسهّل عليها الخلاص من هكذا رجل .. لقوله تعالى: إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الأنعام:119. ولقوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ النحل:106.
ومما يحسن الاستدلال به في هذه المسألة، حديث النبي عن إبراهيم عليه السلام، حيث قال :" لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ـ منها ـ: بينما هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له: إنّ ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسَلَ إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال إبراهيم : أختي، فأتى سارة، فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرِك، وإن هذا سألني فأخبرته أنكِ أختي، فلا تكذبينني ... " البخاري.
وفي رواية عند مسلم:" فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إنّ هذا الجبار إن يعلم أنَّكِ امرأتي يغلبني عليكِ، فإن سألكِ فأخبريه أنَّكِ أختي؛ فإنَّك أُختي في الإسلام، فإني لا أعلمُ في الأرض مسلماً غيري وغيرِكِ ... ".
فتأمل كيف أن إبراهيم عليه السلام التجأ إلى التَّورية، وأن يقول عن زوجته بأنها أخته ـ وهو لا شك أنه معذور في ذلك ـ من أجل أن يدفع عن نفسه وزوجته شرَّ الطاغوت .. فإن تفعل المرأة المسلمة الضعيفة فعله من أجل دفع شرِّ الطاغوت .. وشر كلابه من الزنادقة والمرتدين .. هو من باب أولى .. وأرجو أن لا يكون فيه حرج إن شاء الله.