الفهرس
تخريج أحاديث الزيارة
الحديث الأول
(( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) .
أخرجه الدارقطني في سننه (2/278) ، والدولابي في الكنى والأسماء (2/64) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 3/490) ، والخطيب في تلخيص المتشابه في الرسم (1/581)، وابن الدبيثي في الذيل على التاريخ (2/170)، وابن النجار في تاريخ المدينة (ص142)،والعقيلي في الضعفاء (4/170) ، وابن عدي في الكامل (6/235)، والسبكي في شفاء السقام (ص2-14) .
جميعهم من طرق عن موسى بن هلال العبدي ، عن عبيد الله بن عمر وعبد الله بن عمر كلاهما عن نافع ، عن ابن عمر به مرفوعاً .
وهذا الإسناد حسن سواء قال موسى بن هلال : عن عبيد الله بن عمر أو عن أخيه : عبد الله بن عمر أو : عنهما .
وقد صححه عبد الحق الإشبيلي ، وصححه أو حسنه السبكي في (شفاء السقام) ، والسيوطي في (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا) ، و آخرون ممن تأخروا عنه .
وقد أعل هذا الحديث بعلل لا يصح منها شيء ولا بد من ذكرها ثم الجواب عليها بدون تكلف إن شاء الله تعالى .
فأعل الحديث بالآتي :
1- موسى بن هلال مجهول ، واضطرب في هذا الحديث .
2- أن موسى بن هلال يرويه عن عبد الله بن عمر العمري، ولا تصح روايته عن عبيد الله بن عمر الثقة الحافظ .
3- أن عبد الله بن عمر العمري ضعيف .
وهذه العلل لا تصح ، وهي غير ناهضة للحكم على الحديث بالضعف للآتي :
1- موسى بن هلال حسن الحديث .
وقد قال عنه ابن عدي : أرجو أنه لابأس به ، وقال الذهبي : صالح الحديث .
وروى عنه عدد من الأئمة الحفاظ من أجلهم أحمد بن حنبل ، هب أن موسى بن هلال ضعيف فهو لم ينفرد به بل تابعه غيره عليه فزال بذلك أي تعلق للمتشددين في موسى بن هلال .
ودعوى الإضطراب لا تصح إلا مع تعذر الجمع بين الروايات ، وقد أمكن الجمع من الجهتين ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
2 - وقد ثبت الحديث من طرق متعددة عن موسى بن هلال عن عبيدالله ابن عمر الثقة الحافظ فلا مجال في الطعن في ثبوت روايته للحديث عن عبيد الله بن عمر .
3- إن سلم أن موسى بن هلال لا يرويه إلا عن عبد الله بن عمر العمري .
فالعمري حسن الحديث ، كما قال غير واحد من الأئمة ، وهذا ابن عبدالهادي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها وحشد الأقوال في تضعيف عبد الله بن عمر العمري قد استدل بحديثه في تنقيح التحقيق (1/122) .
هذا ما أردت أن ألفت نظر القارئ إليه على سبيل الإجمال ، وهاك تفصيل ما أجملت على طريقة اللف والنشر المرتب ،والله المستعان .
أما عن الأمر الأول : فموسى بن هلال العبدي حسن الحديث .
فقد قال عنه أبو حاتم الرازي في الجرح (8/166) : مجهول .
وقال العقيلي (4/170) : ولا يصح حديثه ولا يتابع عليه .
وقال الدارقطني في سؤالات البرقاني : مجهول .
هذا حاصل ما قيل في الرجل : الرمي بالجهالة والتفرد .
أما عن الجهالة(1) فهي مردودة بمعرفة غيره له ، فقد روى عنه عدد كبير من الرواة وفيهم أئمة حفاظ منهم الإمام أحمد، وعده ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص49) من شيوخه .
وقد تبع ابن القطان أبا حاتم الرازي فما أصاب
وروى عنه غير أحمد بن حنبل جماعة منهم : أحمد بن الخليل ، ومحمد
(1) وقد تتبع ابن القطان أبا حاتم الرازي فما أصاب
ابن إسماعيل الأحمسي، وأبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، وعبيد بن محمد الوراق ، والفضل بن سهل ، وجعفر بن محمد البزوري ، ومحمد بن زنجويه العسيري ، وعلي بن معبد بن نوح ، والعباس بن فضل ، وهارون ابن سفيان ، ومحمد بن جابر المحاربي ، وأحمد بن أبي غرزة ، وأبو محمد عبد الملك بن إبراهيم ، ومحمد بن عبد الرازق .
وإذا كانت جهالة الظاهر ترتفع برواية اثنين أو واحد كما هو مقرر في موضعه ، فما بالك بمن روى عنه خمسة عشر رجلاً .
وكان الرجل مشهوراً ، فقد اعتمده يعقوب بن سفيان الفسوي في معرف وفيات بعض البصريين (انظر المعرفة والتاريخ : 1/122،127،128) .
أما عن جهالة الحال فهي مردودة بأمرين :
الأمر الأول : بقول ابن عدي في الكامل (6/2350) : أرجو أنه لا بأس به .
وإذا كان قد تقرر في المصطلح أن التزكية تقبل بقول واحد فقط في الرواية فمن روى عنه خمسة عشر رجلاً وفيهم أئمة حفاظ ، وزكاه ابن عدي بقوله لا بأس به ، لا بد أنه غير مجهول بل حديثه حسن مقبول .
وهذا حال كثير من الرواة الذين يصحح الأئمة حديثهم .
الثاني : روى عنه أحمد (مناقب أحمد لابن الجوزي ص 49) وهو
لا يروي إلا عن ثقة كما هو مقرر في محله .
فإن قيل : قد قال ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في الصارم المنكي في الجواب على ذلك (ص40-41) ما نصه :
الجواب: أن يقال: رواي أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله ، والاكثر من عمله كما هو المعروف من طريقة شعبة، ومالك، وعبد الرحمن ابن مهدي ، ويحيى بن سعيد القطان ، وغيرهم ، وقد يروي الإمام أحمد قليلاً في بعض الأحيان عن جماعة سبوا إلى الضعف وقلة الضبط وذلك على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد مثل روايته عن: عامر بن صالح الزبيري:ومحمد بن القاسم الأسدي، وعمر بن هارون البلخي ، وعلي بن عاصم الواسطي ، وإبراهيم بن أبي الليث صاحب الأشجعي، ويحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي، ونصر بن باب، وتليد بن سليمان الكوفي وحسين بن حسن الأشقر، وأبي سعيد الصاغاني، ومحمد بن ميسر ونحوهم ممن اشتهر الكلام فيه ، وهكذا روايته عن موسى بن هلال إن صحت روايته عنه(1) . اهـ .
(1)هذا ظلم بين لموسى بن هلال إذ كيف يسوى ابن عبد الهادي الحافظ العارف بالحديث بين موسى بن هلال وبين المذكورين ؟! ، وفيهم أقوياء في الضعف جداً كعامر بن صالح الزبيري الذي كذبه ابن معين ، ومحمد بن القاسم الأسدي الكذاب ، وعمر بن هارون البلخي المتروك ، وإبراهيم بن أبي الليث المتروك أيضاً .
وبضرب هذه الأمثلة يظهر للبيب سعي ابن عبد الهادي الحثيث لتضعيف موسى بن هلال العبدي ، ولو عن طريق التشدد المكشوف .!
قلت : هنا أمور :
الأول : أحمد لا يروي لا عن ثقة ، ولكن أحياناً يروي عن الضعفاء لأسباب :
منها : أنه لم يتبين حال الراوي الضعيف .
ومنها : أنه يروي عنه على سبيل التعجب كما كان يروي شعبة عن جابر الجعفي ، وعن محمد بن عبيد الله العرزمي .
ومنها : الرواية عنهم في غير الحلال والحرام كما في ترجمة موسى بن عبيدة الربدي .
إذا علم ذلك وكان قد استقر لدينا أن الإمام أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة ، فهل رواية أحمد عن موسى بن هلال مقوية لحال موسى أم ماذا ؟
قلت : قال ابن أبي حاتم الرازي (الجرح : 2/36) سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته عنه، وإذا كان مجهولاً نفعه روايته عنه. اهـ .
ثم قال ابن أبي حاتم سألت أبي زرعة عن روايات الثقات عن رجل مما يقوى حديثه؟ قال: أي لعمري، قلت: الكلبي روى عنه الثوري، قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء ، كان الكلبي يتكلم فيه ، قال أبو زرعة: حدثنا أبو نعيم، نا ثفيان، نا محمد بن السائب الكلبي وتبسم الثوري، قال
أبو محمد : قلت لأبي ما معنى رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده ، فقال : كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار والتعجب . اهـ .
ومنه يعلم أن رواية الثقة في نظر أبي زرعة الرازي مفيدة في حالتين :
الأولى : إذا كان المروي عنه مجهول الحال(1) .
الثانية : إذا كان الراوي غير ضارب في الضعف متوغلاً فيه كمحمد ابن السائب الكلبي ، وجابر الجعفي ، وعامر بن صالح الزبيري ، وعمر بن هارون البلخي وأضرابهم .
وعليه فرواية أحمد لقوية لموسى بن هلال العبدي فهو مجهول الحال عند بعضهم، وقد روى أحمد عنه في كتبه وخارجها، فروى عنه في "الزهد"، وأسند الفسوي من طريق أحمد عن موسى بن هلال .
وهذا الذي ذكرته على سبيل التنزل فقط مع القائلين بجهالة موسى ابن هلال العبدي وإلا فالرجل من شرط الحسن .
وقد قال الزركشي في "المعتبر في تاريخ أحاديث المنهاج والمختصر" (ص226): وقال أهل هذا الشأن: إن جهالة الراوي لا تجب قدحاً إذا كان من روى عنه ثقة فن روايته عنه تكون تعديلاً له . اهـ.
والحاصل مما سبق أن إطلاق جهالة الحال على موسى بن هلال من
(1) وهذا تجد أمثلة كثيرة له في كتب الرجال .
ابن عبد الهادي (الصارم ص32) فيها نظر ظاهر، وانظر إلى المقال ولا تنظر لمن قال، فإذا وافق المقال القواعد فهو الحق، وإن خالفه فهو مما لا يلتفت إليه . والله المستعان .
أما قول العقيلي في الضعفاء (4/170) : لا يصح حديثه ولا يتابع عليه . اهـ .
فالناظر والمدقق فيه يرى أن آخره سبب لأوله .
فلأن موسى بن هلال لا يتابع عليه ( أي حديث الزيارة فلا يصح حديثه، وذلك في نظر اطلاع العقيلي ) .
وفي الجواب على ذلك يقال :
إن قوله: لا يتابع عليه (وهو الأساس المبني عليه) ليس من الجرح في شيء ولم يذكره المصنفون في علوم الحديث ضمن مراتب الجرح إنما هو علامة على التفرد فقط .
قال الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (ص264) :
وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد ، وإن لم يرو الثقات خلافه : إنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علةً فيه . اهـ .
فالرجل عند العقيلي ليس في أعلى درجات التوثيق حتى يصحح له ما انفرد به ولم يتابع عليه ، وليس هو في الدرجة الدنيا من الجرح فيترك حديثه، ولكنه وسط أو صالح الحديث .
أما وقد توبع الرجل كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فحديثه مقبول حتى عند العقيلي .
وقد تعقب الحافظ في " التلخيص" (2/267)، قول العقيلي فقال: وفي قوله (أي العقيلي) لا يتابع عليه نظر، ثم ذكر المتابعة التي ستأتي إن شاء الله تعالى .
وصفوة القول مما تقدم أن الرجل غير مجهول، وليس فيه إلا قول العقيلي لا يصح حديثه ولا يتابع عليه (إا اعتبرت هذا من الجرح الذي يزول بالمتابعة) .
وفي مقابل ما تقدم عن العقيلي تجد قول ابن عدي في (الكامل ) (6/2350) : أرجو أنه لا بأس به، مع توثيق ضمني من أحمد بن حنبل بروايته عنه .
فتحسين حديث موسى بن هلال هو ما أراه صواباً ، والله أعلم .
وقد قال الحافظ الذهبي في الميزان (4/226) بعد حكاية أقال أبي حاتم، والعقيلي، وابن عدي في موسى بن هلال قال : هو صالح الحديث .
أما عن الأمر الثاني : فهو اثبات رواية موسى بن هلال للحديث عن عبيد الله بن عمر الثقة الحافظ :
فقد اختلف على موسى بن هلال العبدي في رواية الحديث .
فبعضهم قال : عن موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمر المصغر ،
وقال آخرون عن عبد الله بن عمر المكبر .
فمن قال عبد الله بن عمر المصغر الحافظ الثقة جماعة هم :
1- عبيد بن محمد الوراق .
2- وجعفر بن محمد البزوري .
3- ومحمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي .
4- والفضل بن سهل .
5- ومحمد بن عبد الرازق .
فرواية الأول وهو عبيد بن محمد الوراق أخرجها الدارقطني في سننه (2/278) ، ثنا القاضي المحاملي، نا عبيد بن محمد الوراق، نا موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر به .
قلت : القاضي المحاملي هو أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الضبي المحاملي ثقة حافظ، والوراق ثقة مترجم في "تاريخ الخطيب" (11/97) .
وقد اتفقت عدة نسخ معتمدة من سنن الدارقطني على ذكر عبيد الله ابن عمر المصغر منها نسخة ابن بشران المطبوعة ، ومنها نسخة أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم كما في الشفاء أيضاً (ص5)، وأخرجه الخلعي في فوائده من طريق أبي النعمان (ل55/1) .
وهكذا اتفقت روايات الدارقطني على ذكر عبيد الله بن عمر المصغر، وتابع القاضي المحاملي عن عبيد بن محمد الوراق محمد بن زنجويه
العسيري .
ورواية الثاني : وهو جعقر بن محمد البزوري أخرجها العقيلي في الضعفاء (4/170)، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا جعفر بن محمد البزوري، ثنا موسى بن هلال البصري عن عبيد الله به .
ورواية محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي أخرجها البيهقي في شعب الإيمان (3/490)، وأسندها تقي الدين السبكي في (شفاء السقام) (ص7) .
ورواية الفضل بن سهل اخرجها البيهقي في (شعب الإيمان) (3/490) .
ورواية محمد بن عبد الرازق أخرجها القاضي عياض في الشفا (2/74) .
فهؤلاء خمسة من الرواة قال عن (عبيد الله بن عمر) الثقة الحافظ ، فلا مجال للطعن في هذه الراواية .
فصــل
وأما من قال : عن عبد الله بن عمر العمري المكبر :
1- فعلي بن معبد بن نوح .
2- والفضل بن سهل .
3- ومحمد بن إسماعيل الأحمسي .
4- وعبيد بن محمد الوراق .
أما حديث علي بن معبد بن نوح، فأخرجه الدولابي في الكني (2/64) .
وحديث الفضل بن سهل أسنده التقي السبكي من طريق ابن أبي الدنيا (شفاء السقام ص9) .
ورواية محمد بن إسماعيل الأحمسي أخرجها البيهقي في شعب الإيمان (3/490) .
رواية الوراق أخرجها الخطيب في تلخيص المتشابه في الرسم (1/581) .
فحاصل ما تقدم أن الحديث رواه عن موسى بن هلال العبدي ستة : خمسة منهم قالوا عن عبيد الله المصغر، وثلاثة رووه بالوجهين، وانفرد الخامس بقوله عن: عبد الله بن عمر فقط .
وسبب ذلك كثرة الرواة عنه .
وللمحدثين في ذلك مسلكان :
المسلك الأول : إما أن يقولوا بالترجيح، وبذلك ترجح رواية عبيد الله بن عمر المصغر .
والمسلك الثاني : أن تقول : يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله المصغر وأخيه عبد الله المكبر،ويكون الراوي عنهم موسى بن هلال العبدي قد رواه عنهما إلا أنه كان يكثر من الرواية به عن عبيد الله بن عمر المصغر الحافظ الثقة .
والألباني مع تشدده اعترف بثبوت الروايتين (عبيد الله وعبد الله ابني عمر) ، فقال : أن الطرق بالروايتين عنه متقابلة. (الإرواء:4/337).
لكنه بحث عن علة فلم يجد إلا الاضطراب ، وما أضعفها من علة(1) ، وسيأتي الجواب عليها إن شاء الله تعالى .
وحاصل ما تقدم أن الحديث ثابت ثبوت الجبال برواية موسى بن
هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر الإمام الثقة الحافظ .
فصـل
فإن قيل : قال ابن عبد الهادي في الصارم (ص39-40) ما نصه :
(( وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ لأنه ليس من أهل الحديث ولا من المشهرين بنقل، وهو لم يدرك عبيد الله ولا لحقه، فإن بعض الرواة عنه لا يروي عن رجل عن عبيد الله وإنما يروي عن رجل آخر عن عبيد الله، فإن عبيد الله متقدم الوفاة كما ذكرنا ذلك فيما تقدم بخلاف عبد الله فإنه عاش دهراً بعد أخيه عبيد الله وكأن موسى
(1) وعدد من الحفاظ لا يعتبرون الاضطراب علة قادحة كابن حزم، وله بيان قوي لا يهمل
راجع ((علم علل الحديث )) للسيد العلامة إبراهيم بن الصديق الغماري
بن هلال لم يكن يميز بين عبيد الله وعبد الله ولا يعرف أنهما رجلان، فإنه لم يكن من أهل العلم، ولا يعتمد عليه في ضبط باب من أبواه ). اهـ.
قلت وبالله استعنت : هذا تهويل، وتشدد، وكلام يحتمل دعاوى مغايرة للواقع، وتعصب ممقوت، ولولا اغترار بعض الناس به (1) ما نبهت عليه .
قوله : (وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ ) .
قلت : بل حدث به موسى بن هلال ، عن عبيد الله بن عمر بأسانيد صحيحة مرات، وبمخارج متعددة، فقد رواه هنا من هذا الوجه – كما سبق – خمسة من الثقات ، وتعددت مخارجهم .
وهذه دعوى باضطراب موسى بن هلال، ولما وجد ابن عبد الهادي أنه لم يسبق إلى هذه الدعوى أراد أن يؤيدها بنفي رواية موسى بن هلال عن عبيد الله واستدل على ذلمك بأمرين :
الأول : وهو قوله : (( وهو لم يدرك عبيد الله ولا لحقه … إلخ )) .
قلت : بل أدركه إدراكاً بيناً، فقد روى موسى بن هلال عن متقدمي الوفاة مثل كهمس بن الحسن البصري المتوفي سنة 143 على ما في المعرفة والتاريخ للفسوي ، وروايته عنه في الحلية (6/213) أيضاً .
وروى عن هشام بن حسان كما في "الزهد" للإمام أحمد
(1)منهم الألباني الذي نقل ها الكلام بعلله الظاهرة في إروائه (4/337 – 338 )
(ص279) ، "الحلية" (6/212) ، وتوفى هشام بن حسان سنة 147 أو سنة 148 .
إذا علم ذلمك فروايته عن عبيد الله بن عمر صحيحة لأنه أدركه إدراكاً بيناً ثم إنه رحل إلى الحجاز كما في الحلية (6/313)، ولم يكن مدلساً .
وهذا مما يؤيد ويؤكد رواية موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمر .
الثاني: قوله: فإن بعض الرواة عنه لا يروى عن رجل عن عبيد الله، وإنما يروي عن رجل آخر عن عبيد الله . اهـ .
قلت : الأمر سهل ولا يحتاج لحشد الأدلة الواهية والإعراض عن رد هذه الواهيات أولى لأولي النظر ، لكن لما رأيت اغترار بعضهم بكلامه تعين بيان ما فيه .
وليعلم أن هذا الأمر مخدوش بقوله "بعض" ، فمعنى ذلك أن البعض الآخر يروي عن عبيد الله العمري بواسطة واحدة ، هذا إجمال .
أما التفصيل :
فمن الرواة عن موسى بن هلال "أحمد بن حنبل"، وقد روى عن يحيى بن سعيد عبد الرازق و حماد بن أسام ، وأبي معاوية في رجال آخرين عن عبيد الله بن عمر .
ومنهم أبو أمية الطرسسي، وعلي بن معبد بن نوح البغدادي
كلاهما عن روح بن عبادة ، عن عبيد الله بن عمر .
ومنهم محمد بن إسماعيل الأحمسي، ومحمد بن جابر المحاربي كلاهما عن وكيع ، عن عبيد الله بن عمر .
والأخير عن ابن عيينة، عن عبيد الله بن عمر .
والحاصل : أنه يجب أن يحكم على الحديث بالاتصال من طريق موسى بن هلال، عن عبيد الله حيث لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما بل ترجح ثبوته، فعند ذلك يكون الحكم للاتصال كما هو مقرر . والله أعلم .
ثم قال ابن عبد الهادي : وكأن موسى بن هلال لم يكن يميز بين عبيد الله، وعبد الله ولا يعرف أنهما رجلان ، ثم استدل على ذلك بقوله : فإنه لم يكن من أهل العلم ولا يعتمد عليه في ضبط باب من أبوابه. اهـ.
قلت : هذا تابع لدعوى الاضطراب التي ادعاها ابن عبد الهادي، وردها سيأتي إن شاء الله تعالى .
ثم إن مسى بن هلال قد روى عنه خمسة عشر رجلاً ، فيهم أئمة حفاظ في أعلى درجات التوثيق(1 ، كيف يكون في نهاية التردي والسقوط والاختلاط والجهل الذي ادعاه الرجل ؟ ثم كيف يكون الرجل بالصورة التي ادعاها ابن عبد الهادي ويعتمده حافظ جليل كيعقوب ابن
(1)ومنهم إمام ابن عبد الهادي شيخ مذهبه الإمام المبجل أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى .
سفيان الفسوي في معرفة وفيات البصريين ؟ . انظر "المعرفة والتاريخ" (1/122 ، 127 ، 128 ) .
الأمر سهل للغاية، فالحديث قصير المتن، مشهور الإسناد .
ثم إن تعجب فعجب من دعوى الاضطراب التي ادعيت ، وهي كلمة تقال استرواحاً ، والأمر فيه تفصيل ، فإن المقرر عند علماء الحديث أن الاضطراب إنما يكون حيث تختلف الروايات بالتنافي مع تعذر الجمع، فالمراتب ثلاث في هذا الباب: جمع، فترجيح ، فاضطراب … والترتيب واجب عند أولي الألباب .
قال الحافظ العراقي في ألفيته (1/221 فتح المغيث) :
مضطرب الحديث ما قد وردا مختلفاً من واحد فأزيدا
في متن أو في سند إن اتضح فيه تساوي الخلف أما إن رجح
بعض الوجوه لم يكن مضطرباً والحكم للراجح منها وجبا
وإذا كانت الروايات قد صحت إلى موسى بن هلال برواية الحديث على الوجهين، فالجمع هنا واجب بأن نقول : قد روى موسى الوجهين وكان يحدث تارة بوجه، وتارة أخرى بالوجه الآخر كما تقدم ، والله أعلم .
فصــل
قال ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في الصارم (34) ما نصه :
ولو فرض أن الحديث من رواية عبيد الله لم يلزم أن يكون صحيحاً فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر غير محفوظ ، وأصحاب عبيد الله بن عمر المعروفون بالرواية عنه مثل يحيى بن سعيد القطان …
ثم ذكر جملة من صحاب عبيد الله إلى أن قال :
فإذا كان الحديث لم يروه عن عبيد الله أحد من هؤلاء الأثبات ، ولا رواه ثقة غيرهم علمنا إنه منكر غير مقبول وجزمنا بخطأ من حسنه أو صححه . اهـ .
قلت : إذا تفرد الرجل بحديث لا يعد ذلك منكراً إلا بشرطين :
الأول : أن يكون لمنفرد به ضعيفاً لا يصحح حديثه أو يحسن .
الثاني : أن لا يوجد ما يقوي حديثه من متابعات وشواهد .
قال الحافظ في "النكت" (2/675) :
إذا نفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه دون بعض بشيء لا متابع له ولا شاهد فهذا أحد قسمي المنكر . اهـ .
وموسى بن هلال العبدي ليس بمستور أو سيء الحفظ أو مضعف،
كيف يكون كذلك ، وقد روى عنه أئمة حفاظ ثقات كالإمام أحمد .
وقال عنه ابن عدي : لا بأس به .
وقال عنه الذهبي : صالح الحديث .
فإذا اعتبرنا تفرد من كان على هذا الحال من قبيل المنكر لأعرضنا عن شطر عظيم من السنة ، والله المستعان .
وإن سلمنا لابن عبد الهادي بتضعيف موسى بن هلال العبدي، فلا يعتبر ما تفرد به منكراً لوجود الشواهد المتكاثرة لهذا الحديث، بل والمتابع كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وقد أشفقت على علوم الحديث التي تغافل عنها ابن عبد الهادي رحمه الله لغرض ينصره ومذهب باطل يؤيده .
فصــل
وإذا سلمنا بتضعيف موسى بن هلال العبدي .
فمثله لا يختلف اثنان(1) أن حديثه يحسن إذا توبع وجاء من طريق آخر.
فقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير (12/291) ، من حديث عبد الله بن محمد العبادي البصري ، ثنا مسلم بن سالم الجهني ، حدثني عبيد الله بن عمر ، عن نافع عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله
(1)بشرط أن لايكون أحدهما ابن عبد الهادي .
(من جاءني زائراً لا يعمل له حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ) .
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/2) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه مسلمة بن سالم ، وهو ضعيف . اهـ .
هكذا أخرجه الطبراني ، والخلعي، وابن صاعد فقالوا : عن نافع عن سالم .
وقال ابن المقري في معجمه : عن نافع وسالم .
وكلهم من طريق عبد الله بن محمد العبادي عن مسلمة عن عبيد الله العمري .
وعبد الله بن محمد العبادي البصري ترجمه السمعاني في الأنساب .
وتابعه من هو أحسن منه أعني "مسلم بن حاتم الأنصاري" .
فقد وثقه الترمذي، والطبراني، وابن حبان (التهذيب: 10/1125).
ورواه عن مسلمة بن سالم الجهني عبد الله يعني العمري، حدثني نافع عن سالم عن ابن عمر قال:قال رسول الله(ص):(من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ).
قلت : وما رواه مسلم بن حاتم الأنصاري هو الأصح لأن مسلماً أوثق من عبد الله بن محمد العبادي .
والحاصل : أن السند صح إلى مسلمة بن سالم الجهني، فانحصر الكلام فيه .
فأقول: الرجل وإن قال عنه أبو داود: ليس بثقة. لكن صحح له ابن السكن، ومقتضى ذلك أن يكون ثقة عنده، فمع توثيق ابن السكن وكلام أبي داود، فالرجل يصلح للمتابعات ولا ريب .
فصــل
وقد تقعقع ابن الهادي رحمه الله تعالى فأخذ يضعف هذه المتابعة فقال :
إنه حديث ضعيف الإسناد ، منكر المتن، لا يصلح الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتماد على مثله ، ولم خرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده، ولا أحد من الأئة المعتمدة على ما أطلقوه في روايتهم ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه ، وقد تفرد به هذا الشيخ(1) الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وهو مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر، وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه : "الحجامة في الرأس امان من الجنون، والجذام، والبرص والنعاس، والضرس".وروى عنه حديث آخر منكر من رواية آخر غير العبادي، وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب في زمانه
(1) وأغرب بن عبد الهادي فقال : إنه مجهول الحال (الصارم المنكي ص69) .
وأحفظهم عن نافع عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات المشهرين والأثبات المتقنين علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره ولا يجوز الاعتماد على روايته . اهـ .
قلت: أما كونه ضعيف الإسناد منكر المتن ، فهو معارض بتصحيح من هو أعلم، وأقدم، وأقعد بهذا الفن منه، أعني الحافظ أبا علي ابن السكن(1) الذي صحح هذا الطريق بفرده. فما بالك وهذا الطريق متابع لموسى بن هلال البصري فهو مقبول حسب القواعد .
أما كونه ( منكر المتن ) ، فهي دعى لا يسندها إلا الدفع بالصدر فقط، فلادليل أتى به ابن عبد الهادي ليقيم به صلب هذه الدعوى المتهاوية!
أما قوله : ولم يخرجه حد من أصحاب الكتاب الستة ولا رواه الإمام أحمد في مسنده …إلخ ، فهذا اعتارض لا يليق بعارف بالحديث كابن عبد الهادي ، وعندما عرف العلماء الحديث الصحيح لم يشترطو أن يكون مروياً في الكتب ما خلا الكتب التي ذكرها ابن عبد الهادي وغيرها، لأن العبرة بالسند لا بالكتاب ما خلا الكتب التي لها شروط معينة، إذ الكتاب لا يفيد الحديث قوة أو ضعفاً ، وكذلك صاحب الكتاب لا يفيد الحديث شيئًا إذا كان السند الذي ذكره في كتابه ضعيفاً .
وعندما رتب ابن حزم كتب السنة جعل صحيح ابن السكن ثالث الكتب بعد الصحيحين ، راجع تذكرة الحفاظ للذهبي (3/1153)
وقد يكون الكتاب مشحوناً بالمنكرت ، والواهيات ، والمضوعات ويسند صاحبه في أحاديث صحيحة وحسنة ومتابعات مقبولة فيحكم لها بالصحة أو الحسن حسب حال السند ، وبغض النظر عن الكتاب وهكذا الأمر في جميع كتب السنة إلا من اشترط شرطاً لكتابه كأصحاب الصحاح والمستخرجات .
والحاصل: أن كلام ابن عبد الهادي مخالف لأدنى قواعد علم الحديث الشريف وهي تعريف الحديث الصحيح الذي لم يشترط أن يكون مروياً في كتاب كذا وليس في كتاب كذا. والله المستعان .
على أن هذه المتابعة صححها ابن السكن بإيرادها إياه في صحيحه، وأخرجها الطبراني في معجميه الكبير، والأوسط وهما من أهم أصول الإسلام المعتنى بها .
وقد قال ابن تيمية في المنهاج (2/122) :
من المعلوم أن الأحاديث المنقولة لا يميز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك . اهـ .
فانظر إلى قوله "بالطرق" ، ولم يقل بالكتب . والله المستعان .
وأما قول ابن عبد الهادي: (وقد تفرد به هذا الشيخ … ) . إلخ .
قلت: قد مر أن الشيخ هو مسلمة بن سالم الجهني لم ينفرد به ، بل تابعه بلديه موسى بن هلال البصري ، وكذا تقدم والكلام على صلاحية مسلمة بن سالم الجهني للمتابعات ، ثم أراد ابن عبد الهادي أن يجهز على الرجل ويطيح به أرضاً ، فحكم على حديثين أخرجهما له الطبراي بالوضع والنكارة .
أما الأول: وهو حديث : ( الحجامة في الرأس أمان من الجنون، والجذام ، البرص ، النعاس ، والضرس ) فلم يسبق ابن عبد الهادي من أحدٍ – والله أعلم – في الحكم على هذا الحديث بالوضع .
وكيف يحكم عليه بالوضع وله شاهد على ابن عباس أخرجه العقيلي (1/83) ، وابن عدي (6/2074)، وفيه إسماعيل بن شيبة الطائفي، وهو وإن كان ضعيفاً لكنه لم يتهم بالكذب، فإذا ضممنا هذا الشاهد لحديث مسلمة بن سالم الجهني كان الحكم على الحديث المذكور بالوضع بعيداً جدً عن قواعد الحديث . والله المستعان .
وأما الحديث الآخر: فالخطب فيه هين، والأمر فيه ليس بعظيم ولا يخرج الرجل عن الاستشهاد به، واقتصر الهيثمي في المجمع (3/211) على تضعيف الحديث بمسلمة بن سالم فقط ، وهو يعني اعتباره في المتابعات والشواهد، وهو قول حفظ، ناقد، ثاقب الرأي، ليس بمتشدد أو جراح .
قوله: وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين المنكرين عن عبيد الله بن عمر .. الخ .
قلت : دعوى لم يسبق إليها ، فليس الرجل بمجهول الحال ولم يصرح أحد بذلك .
فقد روى عنه جماعة ، وصحح له ابن السكن، وقال عنه ابو داود :
ليس بثقة ، وكان إماماً لمسجد بني حرام بالبصرة ، فكيف يكون مجهولاص بعد ذلك ؟
على أن تفرده عن عبيد الله العمري لا يضره .
فقد تابعه بلديه موسى بن هلال البصري ، وقد مر الكلام على مثل هذه الشبهة . والله المستعان .
أما عن الأمر الثالث فهو خاص ببيان حال عبد الله بن عمر العمري .
فقد قال ابن عبد الهادي ما نصه :
وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل ونسبوه إلى سوء الحفظ، والمخالفة للثقات في الروايات .
قال ابو حاتم محمد بن حبان البستي في كتاب "المجروحين من المحدثين" : عبد الله بن عمر بن ممد بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري اخو عبيد الله بن عمر من أهل المدينة ، يروي عن نافع ، روى عنه العراقيون وهل المدينة ، كان ممن لب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفاظ الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في روايته ، فلما فحش خطؤه استحق الترك ، ومات سنة ثلاث وسبعين ومائة .
حدثنا الهمداني ، حدثنا عمرو بن علي قال : كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن عبد الله بن عمر ، قال أبو حاتم: وهو الذي روى عنه نافع عن عمر (أن النبي (ص) كان إذا توضأ خلل لحيته)، وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي (ص) قال : (من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي(ص) (أسهم للفارس سهمين وللراجل سهماً) فيما يشبه هذا من المقلوبات والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه .
وقال أبو عيسى الترمذي في جامعة : وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى ابن سعيد من قبل حفظه ، وقال البخاري في تاريخه : عبد الله بن عمر بن حفص العمري المدني قرشي كان يحيى بن سعيد يضعفه، وقال النسائي في كتاب "الكني" : أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر "ضعيف " ، وقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت يحيى ابن معين عن عبد الله بن عمر العمري فقال: "ضعيف"،حدثنا عبد الله، قال : سألت أبي عن عبد الله بن عمر فقال : كذا وكذا ، وقال أبو زرعة الدمشقي: قيل لأحمد بن حنبل: كيف حديث عبد الله بن عمر؟ فقال: كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلاً صالحاً ، وقد ذكر العقيلي هذا القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه ، وروى إسحق بن منصور عن يحيى بن معين قال عبد الله بن عمر صويلح ، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه :"ضعيف" ، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق في حديثه اضطراب ، وقال صالح بن محمد البدادي : لين مختلط الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد : ليس بالقي عندهم . انتهى من الصارم المنكي
(ص36 _ 38 ) .
قلت: أسرف ابن عبد الهادي – رحمه الله تعالى – بذكر الجرح وقنع بالقليل من التعديل .
فالذي يقف على ما ذكره ابن عبد الهادي يجزم بضعف الرجل ، أما لواقع ونفس الأمر فشيء آخر ، وعلى ذلك يجب الالتفات لأمور أذكرها في فصول بعون الله تعالى .
فصــل
الأول: صدر ابن عبد الهادي كلامه بنقل جرح ابن حبان للعمري "المجروحين" من (2/6) .
وتعنت ابن حبان ومبالغته في الجرح استفاضت واشتهرت .
وقد نص على تعنته ومبالغته في الجرح عدد من الحفاظ منهم الذهبي، وابن حجر ، كما تقدم في أماكن سابقة .
وقد بين ابن حبان مستنده في جرحه للعمري فأتى بثلاثة أحاديث ادعى خطأ عبد لله العمري فيها .
أما الحديث الأول: فقال أبو حاتم ابن حبان: وهو الذي روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي (ص) كان إذا توضأ خلل لحيته . اهـ .
قلت : إن كان للحديث علة فمن الراوي عن عبد الله العمري .
قال الطبراي في المعجم الأوسط (1/39 مجمع البحرين) : لم يروه عن
العمري إلا مؤمل بن إسماعيل . اهـ .
ومؤمل وإن وثق لكن ضعفه جمع ، وقال فيه البخاري : منكر الحديث .
فالأولى الحمل على مؤمل بن إسماعيل ، بل هو الواجب .
أما الحديث الثاني: فقال أبو حاتم بن حبان : وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي (ص) قال : ((من تى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) . اهـ .
أخرجه ابن وهب في "الجامع" (ص114) ، سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي (ص) به مرفوعاً .
قلت: أراد ابن حبان أن عبد الله خالف أخاه الذي رواه من حديث نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي (ص) به مرفوعاً .
رواه من هذا الوجه مسلم في صحيحه (4/ 1751) ، وأحمد في المسند (4/68) ، وأبو نعيم في الحلية (10/407) ، وتاريخ أصبهان ، البيهقي في السنن الكبرى (8/138) .
فابن حبان يرى أن الصواب عن نافع عن صفية .
لن أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/246) من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن سعيد بن وهب ، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه .
قلت : أبو إسحاق السبيعي ، وسعيد بن وهب ثقتان معروفان ، وهذه المتابعة تظهر أن الحديث صحيح من مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فلم يخطئ فيه عبد الله العمري ، كما تظهر مدى التسرع في تخطئة عبد لله العمري .
أما الحديث الثالث : فقال ابن حبان : وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي (ص) : (أسهم للفارس سهمين وللراجل سهماً ) .
قلت : غرض ابن حبان بيان أن عبد الله العمري خالف أخاه عبيد الله الذي رواه باختلاف في اللفظ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (ص) ( جعل للفرس سهمين ، ولصاحبه سهماً ) .
والإجابة على ذلك هي ما قاله الحافظ في (الفتح) (6/68) قال :
المعنى أسهم للفارس بسبب فرسه غير سهمه المختص به . اهـ .
وإن سلم بخطأ عبد الله العمري في هذا الحديث فلا يضره بجانب ما روى ، والرجل مكثر ، قد أخطأ في حديث فكان ماذا ؟
فإن قيل: فقد ذكر معنى الترك غير ابن حبان، وهو ابن عمار الموصلي، فقال كما في التهذيب (5/328): لم يتركه أحد لا يحيى بن سعيد .اهـ.
قلت: قال عمرو بن علي الفلاس : كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه .
وابن عمار أو الفلاس لم يذكرا مستند يحيى بن سعيد في عدم الرواية عنه .
والحاذق يعلم أن بن عمار لم يقصد الترك بالمعنى الاصطلاحي ، ولكنه قصد الترك بمعنى عدم الرواية، وبون شاسع بين المعنيين فلزم التنبيه.
ويوضحه ويقويه قل أبي عيسى الترمذي الحافظ (العلل مع شرحه ص12) :
ذكر عن يحيى بن سعيد أنه كان إذا رأى الرجل يحدث من حفظه مرة هكذا، ومرة هكذا لا يثبت على رواية واحدة تركه ، وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان : عبد الله بن المبارك ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وغيرهم من الأئمة . اهـ .
وهذا ابن عبد الهادي الذي شنع على عبد الله العمري يقول عن أحد الرواة :
وكون يحيى بن سعيد كان لا يرضاه غير قادح فيه ، فإن يحيى شرطه شديد في الرجال ، ولذلك قال : لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة . اهـ .
وكونه لا يرضاه أي لا يرضى الرواية عنه ، فهو كعبد الله العمري فتأمل .
وقال الحافظ في "مقدمة الفتح" (ص402) في ترجمة الزبير
البصري :
وحكى الباجي في رجال البخاري عن علي بن المديني أنه قال : لم
يرو عنه شعبة ، وبين اللفظين فرقان . اهـ .
وترك الرواية قد يكون لشبهة لا توجب الجرح .
ومما يدل على أن قول ابن حبان في العمري غير معمول به ، ولم يلتفت إليه أن المحدثين انقسموا في العمري لقسمين : منهم من قبل حديثه ، والثاني من ضعفه .
وهذا الأخير قبل حديثه في باب المتابعات والشواهد ، والمعلوم والمقرر أن المتروك لا يقبل حديثه في المتابعات و الشواهد ، فعلم أن ضعفه عندهم من الضعف الخفيف الذي يزول بمجيء متابع له أو شاهد فيرتقي حديثه إلى الحسن لغيره . والله أعلم .
ويعضده أن الرجل قد أخرج له مسلك في صحيحه مقروناً بأخيه عبيد الله .
فكيف يكون من أخرج له مسلم في صحيحه – ولو مقروناً بغيره – حاله كما ذكر ابن حبان ، واعتمده ابن عبد الهادي ؟!!
فصـل
ثم نقل ابن عبد الهادي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله : كذا وكذا ، وقوله : كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجلاً صالحاً .
قلت : أما عن الأولى فلك في النظر إليها وجهان :
الوجه الأول: قال الذهبي في الميزان (4/483) في ترجمة يونس بن أبي إسحاق السبيعي هذه العبارة – أي قول أحمد : كذا وكذا – يستعملها عبد الله بن أحمد كثيراً فيما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين . اهـ .
واللين أقل الضعف .
ولكن لم يذكر ابن عبد الهادي – سامحه الله – ما يدل على توثيق أحمد لعبد الله بن عمر العمري ، حيث قال كما في الجرح والتعديل (5/109-110).
( صالح لا بأس به ، قد روى عنه الناس ) اهـ .
الوجه الثاني: قال ابن عدي في "الكامل" (4/1460) :
ثنا ابن حماد، ثنا عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: عبد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو أخو عبيد الله بن عمر: كذا وكذا، ثنا ابن أبي عصمة، ثنا طالب سألت أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمر العمري قال :
( صالح ، قد روى عنه، لا بأس به، ولكن ليس مثل أخيه عبيد الله ) اهـ .
قلت : المدقق في أقوال الإمام أحمد رحمه الله تعالى يجد أن كلامه هو توثيق نسبي أو تليين نسبة لا يراد به المعنى المتعين من اللفظ الثاني فإنه نزل به بالنسبة لأخيه عبيد الله الثقة الحافظ المتفق عليه .
وقد نبه الحافظ السخاي على الجرح والتعديل النسبي فقال (فتح المغيث: 1/348) :
ينبغي أن نتأمل أقوال المزكين ومخارجها ، فقد يقولون : فلان ثقة أو ضعيف ، ولا يريدن به أنه ممن يحتج بحديثه لا ممن يرد ، وإنما ذلك بالنسبة لمن قرن معه وفق ما وجه إلى القائل من السؤال كان يسأل عن الفاضل المتوسط في حديثه ويقرن بالضعفاء ، فيقال ما تقول في فلان وفلان ؟ فيقول : فلان ثقة يريد أنه ليس من نمط قورن به ، فإذا سئل عنه بمفرده بين حاله في المتوسط . وأمثلة ذلك كثيرة لا نطيل بها . اهـ .
ويؤيد ذلك ما سيأتي عن ابن عدي إن شاء الله تعالى .
فصـل
ونقل ابن عبد الهادي عن يحيى بن معين قولين :
الأول : تضعيفه .
والثاني : قوله : صويلح .
فلم يستوف ابن عبد الهادي ما قاله ابن معين في الرجل .
فقد روى ابن أبي مريم عن يحيى بن معين أنه قال : ليس به بأس يكتب، حديثه . اهـ .
ومن المعلوم أن قول ابن معين في الرجل ليس به بأس معناه أنه : ثقة .
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت لابن معين : كيف حاله في نافع ؟ قال : صالح ثقة . (الكامل : 4/1459) .
فالأول : توثيق مطلق من ابن معين للعمري .
والثاني : توثيقه له في خصوص روايته عن نافع كما في حديثنا هذا ، وهو نص من إمام الجرح والتعديل قاطع النزاع .
والدارمي الذي روى عنه هذذا النص من أخص وأشهر أصحاب ابن معين ، والله المستعان .
ومما سبق يعلم أن الراجح من أقوال الإمام أحمد ، وإمام الجرح والتعديل يحيى بن معين هو قبول حديث عبد الله بن عمر العمري ، واعتماد حديثه مالم يخالف غيره ، شأنه في ذلك شأن جمهرة الثقات فإن حديث الثقة مقبول ما لم يخالف . والله أعلم .
فصـل
واذا تبين للقارئ الكريم حقيقة أقوال يحيى بن معين ، وأحمد ، وابن حبان ، في العمري فليعلم المستفيد أن الرجل قد ووثقه جمع من الأئمة ، واعتمده عدد من حفاظ الأمة ، وهذا معروف ومسطور في كتب الجرح والتعديل .
ولكن الغريب ألا يذكره ابن عبد الهادي ،ولله في خلقه شئون ..!
فممن وثق العمري ممن لم يذكره ابن عبد الهادي في الصارم : الإمام العلم أحمد بن صالح المصري (ثقات ابن شاهين ص 151 ) .
وقال أبو حاتم الرازي (الجرح: 5/110) : رأيت أحمد بن صالح (1) يحسن الثناء على عبد الله العمري .
وقال العجلي : لا بأس به (الثقات ص 239) .
ووثقه ابن شاهين بإيراده له في ثقاته (ص 151 ) .
وقال الخليلي : ثقة ير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه . اهـ ، وقوله (الحفاظ لم يرضوا حفظه ) أي سعة محفوظ، انظر نظير ذلك في مقدمة الفتح (ص 420) .
ولعلهم لم يرضوا حفظه بالنسبة لحفظ أخيه عبيد الله العمري ، فإن كثيراً من أقوالهم فيه ترجع للمقارنة مع أخيه ، كما سيأتي تصريح ابن
(1) وقع في التهذيب (5/327) أحمد بن حنبل وهو خطأ، والصواب ما في الجرح والتعديل
عدي بذلك ، والمقصود بيان أن الرجل : ثقة عند أبي يعلى الخليلي .
وكان عبد الرحمن مهدي يحدث عنه .
وحسن له أبو يعلى الموصلي .
وحسن له أيضاً ييعقوب بن شيبة وقال (تاريخ بغداد 10/20) : ثقة صدوق في حديثه اضطراب . اهـ .
وهو يعني أن الإضطراب الذي في حديثه لا يخرجه عن حد الثقة الصدوق .
وقد صحح له ابن السكن ، وهو يعني توثيقه .
وحسن لله الترمذي (تحفة 9/391 – 392) في باب ما يقول إذا رأى مبتلى ، وفي أبواب الحج (تحفة 3/590)(1) في باب دخول مكة نهاراً ، وجوز البخاري تصحيح حديثه كما تشير عبارته في جزء رفع اليدين (ص25)، وذكره في صحيحه في كتاب العلم ، باب المناولة (الفتح 1/154) فجزم الكرماني أنه العمري ، ومال إليه البد العيني (1/407) وخالفهما الحافظ (الفتح 1/154) ، وحسن له ابن كثير في التفسير في أوائل سورة القصص ، وحسن له المنذري في التريب لكن لا يحضرني الآن أماكنه .
(1)ووهم المبار كفوري رحمه الله تعالى في تحفة الأحوي (3/950) فذكر أنه عبيد الله بن عمر فوهم ، والصواب أنه : عبد الله العمري ، وانظر تحفة الأشراف (6/107) .
و قال ابن عدي في "الكامل" (5/1869) : وثقة الناس . اهـ .
وهو يعني قبول الناس لحديثه .
وقال في "الكامل" أيضاً (4/1461) : ولعبد الله بن عمر حديث صالح وأروى من رأيت عنه ابن وهب ووكيع وغيرهما من ثقات المسلمين وهو لا بأس في رواياته، وإنما ، قالوا فيه لا يلحق أخاه عبيد الله، وإلا فهو في نفسه صدوق لا بأس به . اهـ .
وهذا الذي ذكره ابن عدي هو أعدل الأقوال في عبد الله العمري .
فالرجل وإن تكلم فيه حديثه حسن إلا إذ تبين مخلفته شأنه شأن من يحسن حديثهم ، ومن قارون ترجمته بترجمة من يحسن الأئمة حديثه كمحمد بن إسحاق وعبد الله بن محمد بن عقيل وأضرابهما لا ينفك إلا عن تحسين حديث الرجل وهو ما ذهب إليه الحافظ الذهبي، فقال في المغني (1/348) : صدوق حسن الحديث . اهـ .
واقتصر على عبارات التوثيق الواردة فيه في كتابيه "الكاشف" (2/99) ، و"الديون" (ص173) ، وأدخله في جزء "من تكلم فيه وهو موثق " (ص 112) .
وقال الحافظ السخاوي في "التحفة اللطيفة" (3/366) : كان صالحاً عالماً خيراً صالح الحديث اهـ .
فصــل
وإذا سلمنا بتضعيف عبد الله العمري .
فقد قال عثمان بن سعيد : قلت ليحيى بن معين : عبد الله العمري ما حاله في نافع قال: صالح ثقة . اهـ . كذا في "الكامل" (4/1459).
قلت : والرجل يروي هنا عن نافع .
فها نص قاطع للنزاع من إمام الجرح والتعديل ، والله المستعان .
تنبيه :
حمل ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في الصارم المنكي على عبد الله العمري ورفع راية تضعيفه ، فن تعجب فلك لك إذا وقفت على تقويته لعبد الله العمري في "التنقيح" ورده على من ضعفه ، واحتجاجه بحديثه في "الأحكام" .
فلما ضعف المخالف عبد الله بن عمر العمري قال ابن عبد الهادي (1/122) :
وأما عبد الله بن عمر فقد قال يحيى في رواية : ليس به بأس . اهـ . وهي تعني توثيقه .
ثم لك أن تعجب ثانية إذا علمت أن هذه الرواية التي تفيد توثيق ابن معين للعمري لم يذكرها ابن عبد الهادي نصاً أو حتى إشارة في
الصارم المنكي .
ونسأل الله العافي .
وحاصل ما تقدم أن حديث الزيارة "من زار قبري وجبت له شفاعتي" حديث حسن ولا بد ، وهذا ما تقتضيه قواعد الحديث ، أما من كابر فلا كلام لنا معه، وهو غير مقصود بالذات من الكلام المتقدم، لكنه عرف مأخوذ الأئمة وقوة حجتهم فلله درهم ، والحمد لله الذي بنعته تتم الصالحات .