الفهرس
- الحديث الثاني
- الحديث الثالث
- الحديث الرابع
- الحديث الخامس
- الحديث السادس
- الحديث السابع
- العودة إلي كتاب رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة
الحديث الثاني
(( من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له شهيداً يوم القيامة )) .
أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (3/457) : حدثنا سعيد بن محمد الحضرمي ، ثنا فضالة بن سعيد بن زميل المأربي ، حدثنا محمد بن يحيى المأربي ، عن ابن جريح عن عطاء ، عن ابن عباس به مرفوعاً .
ورواه تقي الدين السبكي في "شفاء السقام" (ص38) بسنده إلى ابن عساكر الذي أخرجه من طريق العقيلي المذكور ولفظه :
( من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي … ) الحديث .
والصواب ما في ضعفاء العقيلي ، وإن كانت رواية ابن عساكر هي صواب أيضاً ، فلا ضير في ذلك ، فإن لفظ الزيارة ثابت في كلا الروايتين في آخر الحديث .
وأعل هذا الحديث بفضالة بن سعيد بن زميل المأربي ، وبشيخه محمد بن يحيى بن قيس المأربي .
أما فضالة بن سعيد بن زميل المأربي فقال العقيلي في "الضعفاء " (3/457) : حديثه غير محفوظ ، ولا يعرف لا به ، ثم قال بعد أن ذكر الحديث محل البحث بسناده : "وهذا يروى بغير هذا الإسناد من طريق أيضاً فيه لين " . اهـ .
فدل كلام العقيلي على أمور :
الأول : أن حديث فضالة بن سعيد المأربي غير محفوظ .
الثاني : أنه فرد .
الثالث : أن هذا الإسناد فيه لين .
والأمر الثالث : هو خلاص نظر العقيلي في هذا الإسناد أنه فيه لين. واللين هو أقل الضعف .
وإن تعجب فعجب من الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – ففي ترجمته لفضالة بن سعيد بن زميل المأربي ذكر الحديث موضع البحث ثم قال (3/349) : "هذا موضوع على ابن جريج" . اهـ .
ولا يوجد في الإسناد أو المتن ما يساعده على دعواه .
فهي دعوى لا برهان عليها ، ولا ذكر الذهبي دليلاً يشهد لها ، وكلام العقيلي هنا أقوى وأقعد .
فصــل
وأما محمد بن يحيى بن قيس المأربي فقد وثقه الدار قطني في سؤالات البرقاني (464) وابن حبان (9/45) .
وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" برواية جمع عنه ، ولم يذكر
فيه جرحاً ولا تعديلاً (8/123) .
وقال ابن حزم : مجهول .
فقبول توثيق الدارقطني وابن حبان هو الموافق لقواعد الحديث ، ومن علم حجة على من لم يعلم .
فإن قيل قد قال ابن عدي في "الكامل" (6/2239) : أحاديث مظلمة منكرة . اهـ .
قلت : هذا سرف من ابن عدي رحمه الله تعالى .
وقد ذكر حديثين له في ترجمته :
أولهما : في مدح وذم بعض المدن ، والحمل فيه على من رواه عنه ، وهو خطاب بن عمر الهمداني ، وقد قال الذهبي في ترجمته من "الميزان" : مجهول ، وخبره في فضل البلدان كذب . اهـ .
وأصاب العقيلي بذكره هذا الحديث الموضوع في ترجمة خطاب بن عمر الهمداني (2/25) .
والحديث الآخر الذي ذكره ابن عدي في ترجمة محمد بن يحيى المأربي حديث في (الاستقطاع) أخرجه أصحاب السنن وغيرهم ، وصححه ابن حبان (10/351) ، والخطب فيه سهل لا يستحق معه أن يقال في حق الرجل : أحاديثه مظلة منكرة . وأين هي الأحاديث الكثيرة التي تستحق هذا الوصف .. ؟!! .
وقال الذهبي في "الكاشف" (3/95) : وثق .
وهي تقضي على تردده المذكور في ترجمة محمد بن يحيى المأربي في "الميزان" (4/62) .
وخلاصة ما قيل في محمد بن يحيى المأربي هو قول الحافظ في التقريب (ص513): لين الحديث اهـ . والترمذي : يحسن لمن قيل فيه مثل ذلك.
تنبيه :
أما ابن عبد الهادي فإنه ما أصاب في كلامه عن محمد بن يحيى المأربي وتشدد وبعد عن الإنصاف ، فذكر أن الرجل مختلف فيه .
ثم أراد أن يقوي رجحان جرحه وتضعيفه ، فذكر كلام ابن عدي وأيده بالحديث الموضوع في مدح وذم بعض المدن ، وتقدم أن الحمل فيه على خطاب بن عمر الهمداني المجهول ، فلم يكفه أنه لم يصرح بتوثيق الدارقطني للمأربي في سؤالات البرقاني (464) بل زاد أن ألصق به حديثاً موضوعاً ، نسأل الله تعالى السلامة والصون .
بقى الكلام على قد يظن بعضهم أن علة ثالثة في هذا الإسناد ، وهي أن ابن جريح وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح مدلس ولم يصرح بالسماع .
والجواب على ذلك: أن هذا ما يرويه ابن جريج عن عطاء وروايته عنه محمولة على السماع صرح أو لم يصرح ، فإن ابن جريج قال : إذا قلت:
قال عطاء : فأنا سمعته منه ، وإن لم أقل سمعت. ( التهذيب 6 /406).
فالحاصل مما تقدم أن هذا الإسناد فيه راوٍ غاية ما فيه أنه مجهول وتفرد بهذا الحديث ، وآخر اختلف فيه : وثقة الدارقطني وصحح له ابن حبان، ووثقه وأخرج له أصحاب السنن: النسائي، وأبو داود، والترمذي، وقال عنه الحافظ : لين الديث .وقال الذهبي : وثق .
فإذا كان الأمر كذلك فهذا الإسناد ضعيف فقط بسبب فضالة بن سعيد بن زميل المأربي فقط ، ويمكن أن ينجبر ، بغيره بل يمكن أن يكون مشبه بالحسن على رأي جماعة من الحفاظ ، وهو وحده يقضي على قولهم المتهافت : أحاديث الزيارة كلها ضعيفة بل موضوعة . فيكف ولهذا الحديث نظائر أقوى منه .
وسأل الله تعالى الإنصاف في الغضب والرضا . والله تعالى أعلم بالصواب .
الحديث الثالث
(( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة )) .
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/488) ، وحمزة بن يوسف السهمي في تاريخ جرجان (ص434) ومن طريقه السبكي في شفاء السقام (ص35) ، وابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" كلهم من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي أبي المثنى عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال :
(( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة )) .
قلت : محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ثقة احتج به الجماعة .
لكن أبا المثنى سليمان بن يزيد الكعبي قال عنه أبو حاتم : منكر الحديث ليس بقوي. وضعفه الدارقطني، وقال ابن حبان في "المجروحين": يخالف الثقات في الروايات ، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار . لكنه ذكره في"الثقات" (6/395) ، وحسن له الترمذي . ومقتضى ذلك أن يكون "صدوق الحديث" عند الترمذي ، قال الحافظ في "تعجيل المنفعة" (ص153) :
قول الترمذي : (حسن غريب) هذا يقتضي أن الراوي عنده صدوق معروف . اهـ .
وصحح له الحاكم (4/221-222) وهو يعني أن الرجل ثقة عنده . فإن أعرضت عن تحسين الترمذي ، وتصحيح الحاكم له ، وتوثيق ابن حبان ، فالرجل ضعفه من النوع الخفيف الذي يزول بمجيء متابع أو شاهد له ، لذلك اقتصر الحافظ على تضعيفه في "التقريب" (ص670) .
وأجاد الحافظ الذهبي فقال في "الكاشف" (3/331) : " وثق، وقال أبو حاتم ليس بقوي " . اهـ .
وتبقى علة أخرى في هذا السند ، وهي الانقطاع بين سليمان بن يزيد وأنس بن مالك ، فإن سليمان بن يزيد من أتباع التابعين .
وله طريق آخر عن أنس :
قال إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا عيسى بن يونس، ثنا ثور ابن يزيد ، حدثني شيخ عن أنس عن النبي (ص). (المداوي لعلل المناوي: 6/ل232) .
قلت: عيسى بن يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي ، ثقة .
وثور بن يزيد ثقة ثبت . فلولا الشيخ المبهم الذي لم يسم لكان السند في أعلى درجات الصحة .
لكن هذا الطريق إذا ضم لسابقه استفاد الحديث قوة، فإن قال قائل:
إنه مشبه بالحسن يكون قد أصاب، وكم احتج الأئمة الفقهاء بأقل من هذا وبمثله في الأحكام ، بل هذا بمفرده يثبت مشروعية الزيارة .
وابن عبد الهادي لم يذكر الطريق الثاني عن أنس الذي ذكره السيد أحمد بن الصديق الغماري في المداوي، ولعل ابن عبد الهادي لم يقف عليه، ولذا كان كلامه مقصوراً على الطريق الأول فقط .
ولو وقف عليه ابن عبد الهادي لشنع عليه وصب تشنيعه على الراوي المبهم كما هي طريقته لأنه يأبى أن يثبت حديث في الباب . والله المستعان .
الحديث الرابع
(( من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً )) .
أخرجه يحيى بن الحسن بن جعفر في أخبار المدينة كما في "شفاء السقام" (ص40) .
ثنا محمد بن يعقوب ، ثنا عبد الله بن وهب ، عن رجل عن بكر بن عبد الله عن النبي(ص)قال: "من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً )) .
محمد بن يعقوب هو الأسدي الزبيري المدني أبو عمر .
قال عنه أبوحاتم والنسائي : لا بأس به ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : مستقيم الحديث (التهذيب : 9/533) .
وقال الحافظ في التقريب (ص514) : "صدوق" .
وعبد الله بن وهب هو الثقة الحافظ الفقيه .
أما بكر بن عبد الله فالذي يظهر لي أنه المزني البصري فهو تابعي، ثقة ، جليل كما في "التقريب" (ص127)، فعلى هذا فالحديث مرسل، ولولا الرجل المبهم لكان صحيح الإسناد .
واحتمل السيد السمهودي في "وفاء الوفا" (4/1348) أن بكر بن
عبد الله هو المزني المذكور أو هو بكر بن عبد الله بن الربيع الأنصاري الصحابي المترجم له في الإصابة (1/164) .
ووقع في "الصارم المنكي" (ص243) بكير بن عبد الله بالياء ، وهو تصحيف من الناسخ، وإن لم يكن تصحيفاً – وهو بعيد – فإن عبد الله بن وهب يروي في جامعة عن بكير بن عبد الله الأشج المدني ثم المصري بواسطة واحدة،وبكير بن عبد الله الأشج من تابعي التابعين .
والأرجح فيما سبق – والله أعلم – أن بكر بن عبد الله هو المزني التابعي الثقة .
ومع الاحتمالات الثلاثة المذكورة ، فالحديث ضعيف الإسناد فقط .
فمن مجانبة قواعد الحديث قول ابن عبد الهادي في الصارم (243) وهو حديث باطل لا أصل له ، وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات . اهـ .
قلت: تزيد الرجل جداً ، وبالغ ، غوتغعنت ، وتشدد كعادته .
فإسناد الحديث ليس فيه إلا الرجل المبهم ، وإمامه أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الفقه والحديث يحتجون بالمرسل .
ولم يذكر ابن عبد الهادي دليل مقولته لأن قواعد الحديث لا توافقه .
ومن تعصب الألباني قوله في رده على الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (109) :
" وهذا باطل كما قال ابن عبد الهادي " . اهـ .
فعمدته قول ابن عبد الهادي الذي ما استطاع أن يقيم صلب دعوته المتهاوية، ثم جاء الألباني يردد الصدى لا غير ، وهذا هو القليد المذموم فأين البحث منه أو ممن قلده هنا ؟! .
والمتتبع يجد أن المحدثين لا يزيدون في مثل هذا على قولهم : مرسل ضعيف الإسناد ، ومثلع ينجبر بغيره . نسأل الله تعالى السلامة والصون .
الحديث الخامس
(( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة )) .
أخرجه الدارقطني في سننه (2/278) ، حدثنا أبو عبيد و القاضي أبو عبد الله وابن مخلد قالوا : أنا محمد بن الوليد البسري ، نا وكيع ، نا خالد بن أبي خالد وأبو عون عن الشعبي والأسود بن ميمون عن هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال: قال رسول الله (ص) :
(( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة )) .
وأخرجه من هذا الوجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/488) والمحاملي والساجي كما في الميزان ، وعلقه بن عبد البر في الاستذكار .
ورواه البخاري في تاريخه فقال :
ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله (ص) : (( من مات في أحد الحرمين…)) .
قلت وبالله استعنت : خالد بن أبي خالد هو خالد بن طهمان، فإنه يروي عن طبقة الشعبي وهوكوفي مثله ، ويروي عنه وكيع وليس هو خالد بن أبي خلدة كما ادعى ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص151) .
وخالد بن طهمان "صدوق" وكان قد اختلط ، لكن تابعه ابن عون ، ويقال أبو عون، وهو هو، فإنه عبد الله بن عون البصري وكنيته أبو عون وهو ثقة ثبت، فصح بذلك السند إلى عامر بن شراحيل الشعبي بل إلى هارون بن أبي قزعة، لأن الشعبي حافظ ثقة لا يسأل عن مثله .
وأغرب بن عبد الهادي وتشدد جداً وهول فقال :
وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي خالد وأبي عون أو ابن عون عن الشعبي أو بإسقاط الشعبي(1) ، فإنها زيادة منكرة غير محفوظة ، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا الحديث .. ثم قال : والحاصل أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في الإسناد لم تزد الحديث فقط بل لم تزده إلا ضعفاً واضطراباً (الصارم المنكي ص 151) .
قلت : هذه الزيادة مسلسلة بالثقات كما تقدم : وكيع بن الجراح وخالد بن طهمان ومتابعة عبد الله بن عون البصري ، ثم عامر الشعبي كلهم ثقات لا ينظر في حالهم ما خلا ابن طهان وهو (صدوق) وقد توبع .
ونسأل الله تعالى الإنصاف في الرضا والغضب .
إذا علم ذلك فإن الكلام في هذا الإسناد انحصر في : هارون بن أبي قزعة ، وشيخه المبهم .
رجح السبكي في "شفاء السقام" رواية : إثبات تاشعبي وهو الصواب (ص33) .
أما هارون بن أبي قزعة فقد قيل : هارون أبو قزعة، وقيل: ابن قزعة وهذا لا يضر .
قال الحافظ في : النكت على ابن الصلاح (2/773) : واختلاف الراوة في اسم رجل لا يؤثر ذلك ، لأنه إن كان لك الرجل ثقة فلا ضير ، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه لا من قبل اختلاف الثقات في اسمه" . اهـ . فتأمل لك .
والرجل قد ضعفه يعقوب بن شيبة، وذكره العقيلي، والساجي، وابن الجارود في الضعفاء ، لكن ذكره ابن حبان في الثقات (7/580) .
ويروي عنه عامر الشعبي فيكون هارون بن أبي قزعة ثقة عنده .
قال يحيى بن معين في "الشعبي" : إذا حدث عن رجل فسماه فهو ثقة ،ويحتج به (التهذيب : 5/67)، فرواية الشعبي عن هارون ابن أبي قزعة توثيق له ، كما قال ابن معين لأنه سماه . وهو توثيق أقل من النص عليه صراحة ، لأنه توثيق ضمني أو إجمالي .
فمع توثيق ابن حبان ورواية الشعبي الموثقة لهارون بن أبي قزعة ، فالرجل ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به .
وتبقى علة واحدة في هذا الإسناد وهي شيخ هارون بن أبي قزعة المبهم .
وليكن الضعف في هذا الحديث غير شديد ، بل ضعفه قريب ويحتج
الفقهاء بمثله في إثبات مشروعية أمر ما، ودونك كتب الفقه لتتحقق من صحة مقولتي ، فكيف ولأحاديث الزيارة طرق بعضها من شرط الحسن .
فإذا وقفت بعد على قولهم : أحاديث الزيارة ضعيفة بل موضوعة فاضرب بقولهم عرض الحائط لأنه مخالف للقواعد .
وقد قال الحافظ الذهبي : أجودها (أي أحاديث الزيارة ) إسناداً حديث حاطب ، وأقره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص413) ، والسيوطي في "الدرر المنتثرة" (173) فهؤلاء ثلاثة من الحفاظ اتفقوا على مقولة تدحض المخالف ، وهم السعداء لا يشقى جليسهم .
بقى التنبيه على أن ابن تيمية قد حكم على هذا الحديث بالكذب ، فقال في كتابه (التوسل والوسيلة ص 74): هذا كذب ظاهر مخالف لدين المسلمين ، فإن من زاره في حياته وكان مؤمناً به كان من أصحابه ، ولا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه (ص) أنه قال: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" . أخرجاه في الصحيحين .
والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج، والجهاد، والصلوات الخمس، والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين ؟ اهـ (ص74) .
وقلده الألباني فحكم على هذا الحديث بالبطلان فما أصابا .
وجواب هذا الإشكال سهل :
1- قوله : فكأنما زارني … الحديث ، هذا تشبيه ولا يلزم من التشبيه المساواة بين طرفي التشبيه ، فقد يكون أحدهما أفضل من الآخر ، فيكون من باب إلحاق فاضل بأفضل منه كقولك : الرملي كالشافعي ، وأبو يوسف كأبي حنيفة ، وزيد كالبدر ، ومدرسة كالأزهر ونحو ذلك .
2- الجامع بين طرفي التشبيه هو الحياة، فمن زاره (ص) بعد موته يشبه من زاره في حياته باعتبار حياة النبي(ص)في قبره الشريف، وحياة النبي (ص)في قبره تواترت بها الأخبار وأفردها بالتصنيف عدد من الحفاظ منهم البيهقي، والسيوطي، وللحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى خلاصة جامعة في حياة الأنبياء تجدها في خاتمة كتاب "الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين " لشيخنا العلامة المحقق الجامع سيدي عبد الله بن الصديق رحمه الله تعالى ونور مرقده .
بيد أن الأمر لا يخلو من توجيه نظر القارئ إلى أن هذا الإتفاق الذي ذكره ابن تيمية فيه نظر، لأن زيارة سيدنا رسول الله(ص)واجبة عند كثير من علماء المسلمين وهو قول الظاهرية، وعليه كثير من المالكية، وهو قول عند الحنفية كما تقدم .
الحديث السادس
(( من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً من مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة )) .
أخرجه أبو داود الطيالسي (منحة المعبود 1/228) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5/245) ، وفي شعب الإيمان (3/488) .
حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر قال : سمعت رسول الله (ص) يقول :
(( من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة )) .
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/489) من حديث شعبة بن الحجاج عن سوار بن ميمون ، نا هارون بن قزعة ، عن رجل من آل الخطاب عن النبي (ص) قال :
(( من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة ، ومن سكن المدينة وجد على بلائها كنت له شهيداً أو شفيعاً ، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة )) .
وقال العقيلي : والرواية في هذا لينة (4/170) .
فاختلف حديثا شعبة وأبي داود الطيالسي وخلافهما يرجع لأمرين :
الأول : قال شعبة : عن سوار بن ميمون ، عن هارون بن قزعة . ولم يذكر أبو داود هارون بن قزعة .
الثاني : الاختلاف فيمن رفع الحديث .
وهذا الاختلاف لا مدخل لشعبة ولأبي داود الطيالسي فيه فكلاهما من كبار الحفاظ الثقات خاصة أولهما فتوهيم أحدهما – كما فعل ابن عبد الهادي – فيه نظر .
فقد حكم ابن عبد الهادي بوهم أبي داود الطيالسي من جهتين :
الأولى : أنه وهم بإسقاط هارون بن قزعة من روايته .
الثانية : أن ذكر عمر وهم من الطيالس .
كذا قال ابن عبد الهادي سامحه الله (الصارم المنكي ص 132 ) !!
وهذا عجيب جداً من ابن عبد الهادي ، فإن أبا داود الطيالسي حافظ ثقة إمام مصنف حدث بما تحمله ، فلا مدخل له فيه .
والصواب أن هذا الاختلاف راجع لسوار بن ميمون ، فإنه لا ترجمة له في كتب الرجال .
فلا ينبغي أن يوهم الطيالسي ويترك سوار بن يمون - أو ميمون بن سوار كما قيل في بعض الروايات – وهو غير معروف .
والحاصل أن الحديث ضعيف بهذا الإسناد فقط ، وليس بموضوع .
الحديث السابع
(( من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي )) .
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/406)، والدارقطني في سننه (2/278)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/264)، وابن عدي في الكامل (2/790)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/447)، والفاكهي في أخبار مكة (1/437)، وعزاه الذهبي للبخاري في الضعفاء تعليقاً، ولم أجده في الطبوعة (الميزان: 1/599)، وهو في المطالب العلية (1/327) معزواً لأبي يعلى .
جميعهم من طرق حفص بن شليمان الأسدي القاري ، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد بن جبر عن ابن عمر مرفوعاً قال : قال رسول الله (ص) : ( من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي ) .
وفي هذا الإسناد ضعيفان ، وأولهما أضعف من الثاني .
أما أولهما : فهو حفص بن سليمان الكوفي القاري .
ضعفه جماعة ، وقال بعضهم : متروك، وبالغ فيه بعضهم فنسبه إلى الكذب .
وقد أجاب على هذه المبالغة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فقال:
وعندي أن هذا القول سرف، فإن هذا الرجل إمام قراءة وكيف يعتقد أنه يقدم على وضع الحديث والكذب، ويتفق الناس على الأخذ بقراءته، وإنما غايته أنه ليس من أهل الحديث ، فلذلك وقهت المنكرات والغلط الكثير في روايته . اهـ (من شفاء السقام ص25) .
وقال تلميذه الذهبي في ترجمة عاصم بن أبي النجود القاري :
كا زال في كل وقت يكون العالم إماماً في كل فن مقصراً في فنون وكذلك كان صاحبه حفص بن سليمان ثبتً في القراءة واهياً في الحديث ،وكان الأعمش بخلافه كان ثبتاً في الحديث ليناً في الحروف . اهـ (سير النبلاء: 5/260) .
وبكلام التقي السبكي والذهبي يذهب ما قد يشكل للبعض عن حال حفص بن سليمان القاري .
وثانيهما : هو ليث بن أبي سليم صدوق في نفسه لكنه اختلط ، ولم يتميز حديثه، فمثله وإن كان ضعيفً لم يتخلف عنه بصير في باب المتابعات والشواهد .
ولم ينفرد حفص بن سليمان به عن ليث بن أبي سليم فله متابعان :
المتابعة الأولى : أخرجها الطبراني في معجميه الكبيؤ (12/406) ، والأوسط (1/201) .
قال : حدثنا أحمد بن رشدين، قال : حدثنا علي بن الحسن هارون الأنصاري، قال : حدثني الليث بن ابنة الليث بن أبي سليم قال: حدثتني عائشة ابنة يونس امرأة الليث عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر به مرفوعاً . هكذا وقع في الكبير .
وفي المطبوع من المعجم الأوسط للطبراني لم يذكر ليث بن أبي سليم، والصوب ما وقع في الكبير ، وأشار الطبرني في الأوسط إلى تفرد علي بن الحسن بن هارون الأنصاري به .
وقال الهيثمي في "المجمع": وفيه عائشة بنت سعد، ولم أجد من ترجمها (4/2) .اهـ .
قلت : والأمر كذلك ، ومثلها علي بن الحسن بن هارون الأنصاري، والليث بن ابنة الليث بن أبي سليم لم أجد من ترجمها .
وشيخ الطبراني أحمد بن رشدين المقال فيه مشهور . فهذا الإسناد ضعيف جداً .
أما المتابعة الثانية: فهي ما أخرجها أبوبكر محمد بن السري بن عثمان التمار في جزئه قل :
ثنا نصر بن شعيب مولي العبديين ، ثنا أبي، وثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعاً. كذ في " شفاء السقام" (ص27) .
وهذ الإسند ضعيف . بسبب أبي بكر محمد بن السري بن عثمان التمار .
قال عنه الذهبي :
يروى المناكير والبلايا ، ليس بشيء ، وأقره الحافظ في اللسان (5/174) .
وفيه ضعف آخر وهو نصر بن شعيب .
قال الذهبي عنه في الميزان (2/251) : نصر بن شعيب عن أبيه عن جعفر بن سليمان ضعف .
وقال ابن عساكر: هو وهم وإنما هو حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الغاضري القاري (شفاء السقام ص27) . وعلى كل فالحديث ضعيف .