والأوقات بالنسبة لرائد الفضاء والمقيم في مركز القطب ليس طارئة عليهم، وإنما مجيئهم هم لها أمر طارئ تماماً كالشخص الذي ينتقل إلى بلد يختلف فيها الوقت في بلده الأول فيسير حسب توقيت البدل الجديد، ولا يجوز له أن يظل على توقيت بلده الأول، لأن العبرة ليست بالساعات وإنما العبرة بالأمارات الدالة على دخول الوقت
اسم الكتاب: التبصرة
اسم المؤلف: يوسف سباتين
التصنيف: رأي حزب التحرير
الفهرست
ثـــــــاني عشر رائد الفضاء ومن يوجد في القطبين
يقول الدكتور بصدد الحديث عن الحزب: وهم يُسقطون الصوم والصلاة عن رائد الفضاء وعن سكان القطبين الذين يكون نهارهم ستة أشهر، وليلهم كذلك، ويعطي الدكتور رأيه فيقول: بأن عليهم أن يقدروا الوقت قياساً على تقدير الناس للوقت عند ظهور المسيح الدجال.
انتهى التعليق.
ولتوضيح ذلك نقول:
الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والخطاب هو توجيه ما أفاد إلى المستمع أو من في حكمه بحيث يقع خطاباً لموجود قابل للفهم، إلا أن الخطاب هو عين ما أفاد وليس توجيه ما أفاد، فنفس المعاني التي تضمنتها الألفاظ والتراكيب هي الخطاب.
والاقتضاء معناه الطلب، والطلب ينقسم إلى طلب فعل وطلب ترك، وطلب الفعل إن كان جازماً فهو الإيجاب أو الفرض، وإن كان غير جازم فهو المندوب أو السنة أو النافلة، وطلب الترك إن كان جازماً فهو التحريم أو الحظر، وإن كان غير جازم فهو الكراهة، وأما التخيير فهو الإباحة، أما خطاب الوضع فهو جعل الشيء سبباً أو مانعاً أو شرطاً أو صحيحاً أو باطلاً أو رخصة أو عزيمة. وبناء على هذا التعريف يكون خطاب الشارع قسمين: خطاب التكليف وخطاب الوضع.
خطاب التكليف
هو خطاب الشارع المتعلق بالاقتضاء أو التخيير، أي هو التعلق بطلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير بين الفعل والترك، فإذا كان الخطاب متعلقاً بطلب الفعل طلباً جازماً فهو الواجب ويرادفه الفرض. والواجب هو الذي يُذمّ شرعاً تاركه قصداً مطلقاً. أما إذا كان خطاب الشارع متعلقاً بطلب الفعل طلباً غير جازم فهو المندوب، ويرادفه في العبادات السنة. والمندوب ما يُحمَد فاعله شرعاً ولا يُذمّ شرعاً تاركه، ويسمى أيضاً نافلة. وإذا كان خطاب الشارع متعلقاً بطلب ترك الفعل طلباً جازماً فهو الحرام، ويرادفه المحظور. والحرام هو الذي يُذمّ شرعاً فاعله. أما إذا كان خطاب الشارع متعلقاً بطلب الترك طلباً غير جازم فهو المكروه، وهو ما يُمدَح شرعاً تاركه ولا يُذمّ شرعاً فاعله. وإذا كان خطاب الشارع متعلقاً بالتخيير بين الفعل والترك سواء نص على التخيير صراحة أو كان يفهم منه التخيير من صيغة الطلب، كأن جاء بعد النهي في حكم واحد في حالتين مختلفتين فإنه يكون للإباحة ولو جاء بصيغة الأمر.
خطاب الوضع
إن الأفعال الواقعة في الوجود قد جاء خطاب الشارع وبيّن أحكامها من حيث الاقتضاء أو التخيير، وجاء خطاب الشارع ووضع لهذه الأحكام ما تقتضيه من أمور يتوقف عليها تحقق الحكم أو يتوقف عليها إكماله، أي إنها وضعت لما يقتضيه الحكم الشرعي فخطاب الشارع كما يرد بالاقتضاء والتخيير يرد بما يقتضيه الاقتضاء والتخيير، وذلك بجعل الشيء سبباً أو بجعله شرطاً أو بجعله مانعاً أو بجعله صحيحاً أو باطلاً أو بجعله عزيمة أو رخصة. وإذا كان خطاب الاقتضاء والتخيير أحكاماً تعالج فعل الإنسان فإن خطاب الوضع يعالج تلك الأحكام ومتعلقاتها. فخطاب كلٍّ من الاقتضاء والتخيير أحكام لفعل الإنسان، وخطاب الوضع أحكام لتلك الأحكام، فتكسبها أوصافاً معينة، وكونها كذلك لا يخرجها عن كونها متعلقة بأفعال الإنسان، لأن المتعلق بالمتعلق بالشيء متعلق بذلك الشيء أيضاً. فيكون الاضطرار سبباً في إباحة الميتة، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سبباً في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك، كل ذلك خطاب من الشارع متعلق بالحكم وهو إباحة الميتة وإيجاب الصلاة، ومن هنا كان السبب من خطاب الوضع. وكون الحول شرطاً في إيجاب الزكاة، والرشد شرطاً في دفع مال اليتيم إليه، كل ذلك خطاب من الشارع متعلق بالحكم، ومن هنا كان الشرط من خطاب الوضع، وهكذا. فخطاب الوضع يتعلق بأمور تقتضيها الأحكام المتعلقة بأفعال العباد، وهو خمسة أقسام:
1- السبب
2- الشرط
3- المانع
4- الصحة والبطلان
5- العزائم والرخص
وهذه الخمسة هي أحكام الوضع، وهي أحكام لمعالجة الأحكام المتعلقة مباشرة بأفعال العباد، وذلك بالحكم عليها بالصحة أو البطلان أو الرخصة أو العزيمة، أو بكونها واجبة الوجود أو ممنوعة الوجود.
ولما كانت المسألة التي نحن بصددها متعلقة بالسبب والمانع من أحكام الوضع، لذلك نعطي فكرة موجزة عن السب والمانع لنرى بعدئذ أثر هذين الحكمين على خطاب الاقتضاء المتعلق بالصوم والصلاة.
السبب
السبب هو كل وصف ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرفاً لوجود الحكم لا لتشريع الحكم، كجعل زوال الشمس أمارة معرفة لوجود الصلاة في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس)، وقوله عليه الصلة والسلام: "إذا زالت الشمس فصلوا"، وليس هو أمارة لوجوب الصلاة، وكجعل طلوع هلال رمضان أمارة معرفة لوجود صوم رمضان، وفي قوله تعالى:(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته". وهكذا فالسبب ما يلزم من وجوده وجود ويلزم من عدمه العدم، فطلوع هلال رمضان يلزم منه الصوم، وعدم طلوعه يلزم منه عدم الصوم.
المانع
المانع هو كل وصف منضبط دل الدليل السمعي على أن وجوده اقتضى علة تنافي الشيء الذي منعه، وذلك مثل الدين فإنه مانع من وجوب الزكاة مع اكتمال النصاب وحلول الحول. والموانع قسمان: أحدهما يمنع من الطلب والأداء، كزوال العقل بنوم أو جنون، فإنه يمنع طلب الصوم والصلاة والبيع ويمنع من أدائها. والثاني ما يمكن اجتماعه مع الطلب مثل الأنوثة فإنها تمنع من طلب صلاة الجمعة، ولا تمنع أداءها، وكذلك جميع أسباب الرخص هي موانع من الطلب لا من الأداء.
أثر السبب في خطاب الشارع المتعلق بالصوم والصلاة
حين طلب الشارع من العباد أداء الصوم والصلاة جعل لهما أوقاتاً محددة لا تتقدمانها ولا تتأخران عنها، فالصوم جعل له وقتاً يؤدى فيه وهو شهر رمضان، وجعل هلال رمضان أمارة دالة على وجود الصوم لا على وجوبه، فهو دائم الوجوب ولكنه لا يوجد، أي لا يؤدى إلا بدخول وقته لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، ولو أُدِّيَ فإنه لا يجزئ ولا يُبرئ، والصلاة جعل لها أوقاتا خمسة، وأداء الصلاة حسب هذه الأوقات عزيمة، أي حكم من أحكام الوضع، ولا يجوز أداء الصلاة المفروضة قبل دخول وقتها ولا بحال من الأحوال إلا أن يكون رخصة، كالجمع بين صلاتي الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، وذلك في حالتي السفر والمرض، وهذا رخصة، والرخصة حكم من أحكام الوضع، وما عدا ذلك فيبقى الحكم فيه هو العزيمة وهو الحكم العام، وأوقات الصلاة تختلف في بلد عنها في بلد آخر حسب طول النهار وقصره، ولما لم تكن أوقات الصلاة محددة بالساعات المعينة، وإنما هي أوقات محددة بظواهر طبيعية متكررة توجد ما وجد ليل أو نهار يلزم بالعمل بحسبها كل من كان في الأرض التي تظهر فيها، أما من كانوا في مكان أو أمكنة لا تظهر فيها هذه الظواهر الطبيعية والتي هي أمارات دالة على وجوب وجود الصوم أو الصلاة، فلا يلزمون بأداء الصوم أو الصلاة لعدم وجود أسبابها التي هو الأوقات، والسبب ما يلزم من وجوده وجود ويلزم من عدمه العدم، وهو حكم شرعي من أحكام الوضع ويجب العمل به ولا تجوز مخالفته.
والأوقات بالنسبة لرائد الفضاء والمقيم في مركز القطب ليس طارئة عليهم، وإنما مجيئهم هم لها أمر طارئ تماماً كالشخص الذي ينتقل إلى بلد يختلف فيها الوقت في بلده الأول فيسير حسب توقيت البدل الجديد، ولا يجوز له أن يظل على توقيت بلده الأول، لأن العبرة ليست بالساعات وإنما العبرة بالأمارات الدالة على دخول الوقت، فما لم يدخل الوقت الذي يوجب وجود الصلاة ويكون سبباً في وجودها لا توجد الصلاة، أي لا تُؤدَّى إلا إذا كانت نفلاً، فلرائد الفضاء ولمن هو في مركز القطبين حينئذ أن يصلي ما شاء، لأن أوقات النوافل غير محددة.
أما طروء الوقت فقد ورد نص في تقديره وهو وقت ظهور المسيح الدجال، وخاصة في أيامه التي ليست كبقية الأيام، في يومه الذي كسنة، والذي كشهر والذي كأسبوع، والحديث الذي استدل به الدكتور لا يصلح للاستدلال، لأنه ليس عاماً في كل وقت، بل هو خاص في موضوع معين، ولمعالجة الوقت في زمن معين، فهو في موضوع ظهور المسيح الدجال، ولمعالجة الوقت في أيامه فلا تتعداه إلى غيره، وليست علاجاً لوقت الصلاة قبل ظهور الدجال ولا لما بعد زوال ظهوره، والنهار الذي يبلغ طوله أربعاً وعشرين ساعة مرة واحدة في السنة على جميع الدائرة القطبية، والنهار الذي يصل إلى ستة أشهر في مركز الدائرة القطبية، موجود قبل ظهور الدجال، وسيظل موجوداً بعد زوال ظهوره، ولم يضع الله لوقت الصلاة والصوم فيه علاجاً خاصاً به، بل جعل الأوقات التي عينها عامة في كل زمان وفي كل مكان.
قد يقال إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن طول النهار أيام المسيح الدجال سيكون حادثة جديدة والحديث الوارد فيه عام، فهو عام فيه وفي غيره؛ لا يقال ذلك لأن الحديث إنما هو نص معين جاء في موضوع معين، (وهو ظهور المسيح الدجال) ولمعالجة وقت معين (هو وقت ظهور المسيح الدجال) ولمعالجة وقت معين (هو وقت الصلاة في الأيام التي تكون غير عادية أثناء ظهور المسيح الدجال) وليس علاجاً لما قبل ظهور الدجال، لأن ما قبل الدجال عولج بما هو موجود، ولا لما بعد الدجال، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الدجال؛ وأن يوماً من أيامه كسنة، وآخر كشهر، وثالث كأسبوع، سأله الصحابة ماذا يفعلون، قال: (قدروا له)، فالتقدير للوقت وارد في موضوع معين، وجواب على سؤال خاص في موضوع معين هو ظهور المسيح الدجال. وجواب السؤال إنما هو في موضوع السؤال وليس عاماً في كل شيء، أي هو لذلك الموضوع في تلك الحادثة فقط. فقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا تشمل موضوع السؤال، إذ إن عموم اللفظ في خصوص السبب إنما هو عموم في موضوع الحادثة أو السؤال وليس عموماً في كل شيء. ومثاله ما روي عنه عليه السلام أنه سئل عن الربا في مختلفي الجنس فقال: (لا ربا إلا في النسيئة)، فإنه خاص في الموضوع الذي سئل عنه، وهو الربا في مختلفي الجنس، وليس عاماً في جميع الربا، لأن الربا يحصل في متَّحِدَي الجنس في الحال وفي النسيئة، ومثاله عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله، أكنزٌ هو؟ فقال: (ما بلغ أن تُؤدَّى زكاته فليس بكنز)، والأوضاح معناه الحلي، والجواب خاص في الموضوع الذي سئل عنه وهو الحلي وليس عاماً في الذهب، إذ قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب، فالمسؤول عنه هو الأوضاح من الذهب وليس الذهب، فيكون الجواب خاصاً به، تماماً مثل سؤال الرسول عن الربا في مختلفي الجنس وليس عن الربا، فيكون الجواب خاصاً في موضوع السؤال وهو الأوضاح من الحلي.
وسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوقت أثناء ظهور الدجال، هو خاص في الوقت عند ظهور الدجال وليس عاماً في كل وقت، بل هو عام في كل وقت في نفس الموضوع، سواء أكان الوقت في اليوم الذي كسنة أو اليوم الذي كشهر أو اليوم الذي كجمعة، وعند ظهور الدجال ليس غير.
والله تعالى جلت حكته حينما وضع الأمارات الدالة على دخول وقت الصلاة والصوم إنما وضعها أمارات ليهتدي بها الإنسان لهذه الأوقات على الأرض التي يعيش عليها عيشاً طبيعياً، وليست على الأرض التي ليست محل عيش للإنسان، ولا يستطيع أن يعيش عليها إلا بمقدار قضاء غرضه الذي جاء إليها من أجله، كرائد الفضاء الذي لا يستطيع أن يمكث على ظهر القمر ساعة لو لم يكن مجهزاً بمكيفات تمنعه من الحر والقر، وكذلك الذي يقيم في مركز الدائرة القطبية.