وأما الإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه حديث طويل جامع لأحكام الموتى، وفيه التصريح بعود الروح إلى الجسد
اسم الكتاب: رسالة أهل السنة والجماعة في حديث الموتى وأشراط الساعة وبيان مفهوم أهل السنة والجماعة
تأليف العلامة الشيخ محمد هاشم أشعرى الرئيس الأكبر لجمعية نهضة العلماء
فصل في ذكر حديث الموتى في السماع والكلام، ومعرفته بمن يغسله ومن يحمله ومن يكفنه ومن يدليه في قبره، والإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد
أما السماع والكلام فقد رروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرآهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ}.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إِذَا وُضِعَتْ الْجَنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ}. وروى البخاري أيضا عن الليث بن سعد، فذكر بمثله، وقال: {قَالَتْ لأهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا، وقال: وَلَوْ سَمِعَ الإنْسَانُ لَصَعِقَ}.
وروى الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الميت يَعْرِفُ من يغسله ويحمله و يكفنه ومن يدليه في حفرته}، وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: {إن الأموات لتأتيهم أخبار الأحياء؟، فما من أحد له حميم} أي قريب {إلا ويأتيه خبر أقاربه، فإن كان خيرا سر به وفرح، وإن كان شرا عبس له وحزن}. وكان ابن منبه رحمه الله تعالى يقول: {إن الله تعالى بنى دارا في السماء السابعة، يقال لها البيضاء، تجمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم من سفرعليهم} رواه أبو نعيم في الحلية.
وأما الإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه حديث طويل جامع لأحكام الموتى، وفيه التصريح بعود الروح إلى الجسد. قال البراء: {خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله – كأنما على رؤوسنا الطير – فجعل يرفع بصره وينظر إلى السماء، ويخفض بصره وينظر إلى الأرض، ثم قال: “أعوذ بالله من عذاب القبر”، قالها مرارا، ثم قال: “إن العبد المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا جاءه ملك، فجلس عند رأسه، فيقول: “أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان”، فتخرج نفسه وتسيل كما تسيل قطرالسقاء، وتنزل الملائكة من الجنة، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من أكفان الجنة، وحنوط من حنوطها، فيجلسون منه مد البصر، فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين، فذلك قوله تعالى عز وجل: ” تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ”.
قال: فتخرج نفسه كأطيب ريح وجدت، فتعرج به الملائكة، فلا يأتون على جند}. وفي رواية: {فلا يزالون يمرون بالأمم السابقة والقرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح؟، فيقال: فلان بأحب أسمائه حتى ينتهوا به إلى باب السماء الدنيا، فتفتح له، ويشيعه من كل سماء مقربوها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة، فقول: اكتبوا كتابه في عليين، “وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ”، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: ردوه إلى الأرض، فإني وعدتهم إني منها خلقناهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى، فترد إلى الأرض، وتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان شديدان الإنتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان: مَنْ رَبُّكَ؟، وَمَا دِيْنُكَ؟ فَيَقُوْلُ: رَبِّيَ اللهُ، ودِيْنْي الإِسْلامُ، فَيَقُوْلاَنِ: فَمَا تَقُوْلُ فِيْ هَذَا الرَجُلِ الَّذِيْ بُعِثَ فِيْكُمْ؟، فَيَقُوْلُ: هُوَ رَسُوْلُ اللهِ. فَيَقُوْلاَنِ: وَمَا يُدْرِيْكَ؟ فَيَقُوْلُ: جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّنَا فآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ}. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلهُ تَعَالى: “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ”. قال: {وَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَمَاءِ: قَدْ صَدَقَ عَبْدِيْ. فالبسوه من الجنة، ويفرش منها، ويرى منزله ويفسح له مد بصره، ويمثل له عمله في صورة رجل حسن الوجه، طيب الريح حسن الثياب،
فيقول: أبشر بما أعد الله عز وجل لك، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، فيقول: بشّرك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي جاءنا بخير، فيقول: هذا يومك الذي كنت توعد، والأمر الذي كنت توعد، وأنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله، بطيئا عن معصية الله، فجزاك الله خيرا. فيقول: يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن كان فاجرا، فإذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا جاءه ملك، فجلس عند رأسه، فيقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، أبشري بسخط الله وغضبه.فتنزل ملائكة سود الوجوه، معهم مسوح، فإذا قيضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين.
قال: فتفرق في جسده، فيسخرجها تقطع معها العروق والعصب، كالسفود الكبير الشعب في الصوف المبلول، فتؤخذ من الملك فتخرج كأنتن ريح وجدت، فلا تمر على جند بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيث؟ فيقولون: هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فلا يفتح له، فيقول: ردوه إلى الأرض، إني وعدتهم أني منها خلقناهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى. قال: فيرمي به من السماء، قال: فتلا هذه الآية: “ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء” الآية. ويعاد إلى الأرض، وتعاد فيه روحه، ويأتيه ملكان شديدا الإنتهار فينتهرانه ويجلسانه، فيقول: من ربك؟ وما دينك؟، قال: لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك، فيقول: لا دريتَ، فيضيق قبره حتى تختلف أضلاعه، ويمثل له عمله في صورة رجل، قبيح الوجه ومنتن الريح، قبيح الثياب، فيقول: أبشر بعذاب من الله وسخطه، فيقول: من أنت؟ فوَجْهُكَ الوَجْهُ الذي جاء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، والله ما علمتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا إلى معصية الله، فيقبض له ملك أصم أبكم معه مرزبة لو ضربت بها جبل صار ترابا أو رميما، فيضربه ضربة يسمعها الخلائق إلا الثقلين، ثم تعاد فيه الروح، فيضربه ضربة أخرى}. وهذا الحديث أخرجه جماعة من الأئمة في مسانيدهم، منهم الإمام أحمد.
وقال إمام الحرمين والفقيه أبو بكر بن العربي والإمام سيف الدين الآمدي: اتفق سلف الأمة قبل ظهور المخالف، وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات أحياء الموتى في قبورهم، ومسألة الملكين لهم، وإثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين، وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي حياة المسألة في القبر وحياة الحشر، لأنهما حياتان عرفوا الله بهما، والحياة الأولى في الدنيا لم يعرفوا الله بها.
ثم اعلم أن ما تضمنه هذا الحديث، من ملك الموت ومنكر ونكير وغيرهم ومنازل الآخرة من الأمور المتشابهات وصفا، لا طريق لأحد في إدراك شيء من أوصافها بالعقل، فيكون العبد به مبتلى بنفس الإعتقاد لا غير، وأن أهل السنة اتفقوا على أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته، والثاني دعاء المسلمين و استغفارهم له والصدقة والحج عنه. واختلفوا في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فذهب جمهور السلف إلى وصولها، وذهب أهل البدع إلى عدم وصول شيء البتة، لا الدعاء ولا غيره. وقوله مردود بالكتاب والسنة، و استدلاله بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مدفوع بأنه سبحانه وتعالى لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملك غير سعيه. و أما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، و إن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه وتعالى لم إنه لا ينتفع إلا بما سعى.
و هذا آخر الكتاب. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع و المآب، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد و على آله وأصحابه والتابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.