الهامش
- كتاب التنديد بمن عدد التوحيد
- 2 التنديد بمن عدد التوحيد
- بيان أن من اعترف بوجود الله ولم يوحده فهو كافر إجماعا
- في إبطال تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية
- في إبطال القسم الثالث من التقسيم المزعوم وهو توحيد الأسماء والصفات
- التأويل من منهج السلف
- في ذكر مقالات الكرامية، وبيان أوصافها
- مسألة الجهة لله تعالي
في إبطال تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية
أعلم أن العبادة شرعا هي غاية الخضوع والتذلل لمن يعتقد الخاضع فيه أوصاف الربوبية، وأما في اللغة فالعبادة هي الطاعة، والعبودية هي الخضوع والذل، فالعبادة شرعا غير العبادة لغة، فلا يقال لمن خضع وذل لإنسان إنه عبده شرعا وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان، فمن تذلل عند قبر نبي أو ولي وتوسل به لا يقال إنه عبده من دون الله تعالى، لأن مجرد النداء والاستغاثة والخوف والرجاء لا يسمى عبادة شرعا ولو سمي عبادة لغة ودليل ذلك أمور منها: الصلاة، فالصلاة في اللغة هي التضرع والدعاء، وأما شرعا واصطلاحا فهي أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، فليس كل دعاء صلاة، ولا يقال لمن دعا فلانا بمعنى أنه طلب من فلان شيئا أنه صلى له فكذلك العبادة. وأما الدعاء فليس جميعه عبادة إلا إذا دعونا من نعتقد فيه صفات الربوبية أو صفة واحدة منها، فقول النبي ص: (الدعاء هو العبادة) كما رواه الحاكم وغيره بأسانيد صحيحة (15) ليس معناه أن كل دعاء عبادة، كما سيتضح بعد قليل إن شاء الله تعالى، وإنما يكون الدعاء عبادة إذا كان لله أو لمن يعتقد الداعي إن للمدعو صفة من صفات الربوبية، وقال بعض العلماء كما نقل المناوي في الفيض (3 / 540): (إن معنى حديث (الدعاء هو العبادة) أي أن الدعاء هو من أعظم العبادة، فهو كخبر (الحج عرفة) أي ركنه الأكبر، فالدعاء له عدة معان منها النداء، والنداء ليس عبادة وهذا المعنى موجود بكثرة في كلام العرب وفي القرآن الكريم فمن شواهده في كلام العرب قول الشاعر وهو: دثار بن شيبان النمري: فقلت ادعي وأدعو إن * أندى لصوت أن ينادي داعيان وهذا البيت من شواهد النحاة على نصب المضارع بعد الواو بعد الأمر، كما صرح به الأشموني وغيره عند قول صاحب الألفية: والواو كألفا إن تفد مفهوم مع كلا تكن جلدا وتظهر الجزع ومعنى قوله ادعي نادي فهو خطاب لأنثى وهي حليلة لدثار ومعنى أدعو أنادي أنا، ومعنى إن أندى أي أن أبعد وأرفع للصوت أن ينادي داعيان أي
(هامش)
(15) رواه الإمام أحمد (4 / 271) وابن أبي شيبة (7 / 23 الفكر) وأبو داود (2 / 77 برقم 1479) والترمذي (5 / 375 برقم 3247) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (6 / 450) وابن ماجة (2 / 1258) وأبو نعيم في الحلية (8 / 120) والطبراني في (معجمه الصغير (2 / 208 الروض الداني) والطبري في تفسيره (مجلد 12 / جزء 24 / ص 78) وابن حبان في صحيحه (2 / 124 دار الفكر) والحاكم في (المستدرك) (1 / 491) وصححه وأقره الذهبي وهو كما قالا. (*)
ص 32
مناديان فظهر من هذا البيت أن الدعاء عند العرب يأتي بمعنى النداء. وأما في القرآن فمنه قوله تعالى: *(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)* النور: 63، أي لا تجعلوا نداءه بينكم كما ينادي بعضكم بعضا، باسمه الذي سماه به أبوه، فلا تقولوا يا محمد ولكن قولوا يا نبي الله، ويا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض لقوله تعالى: *(ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)* الحجرات: 2. ويأتي الدعاء بمعنى العبادة وهو موجود في كلام العرب وفي القرآن الذي نزل بلغتهم الفصيحة، ومنه قوله تعالى: *(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)* فاطر: 13، أي والذين تعبدون من دونه، وكقوله تعالى أيضا: *(ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)* يونس: 106، أي ولا تعبد من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك. وللدعاء معنى آخر أيضا وهو الاستعانة نحو قوله تعالى: *(وادعوا شهداءكم)* البقرة: 23، ومن معانيه أيضا السؤال كقوله تعالى: *(أدعوني أستجب لكم)* غافر: 60، ومن معانيه أيضا الثناء كقوله تعالى: *(ادعوا الله أو ادعوا الرحمن)* الإسراء: 110، ومن معانيه أيضا التسمية كقوله تعالى: *(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)* الأعراف: 180، أي سموه بها، إلى غير ذلك من المعاني. فاتضح أن مجرد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرجاء أو التوسل أو التذلل لا يسمى عبادة، فقد يتذلل الولد لأبيه والجندي لقائده ويخافه ويرجو منه أشياء فلا يسمى ذلك عبادة له باتفاق العقلاء، وليس مجرد
ص 33
النداء عبادة، ولو كان هذا النداء لأموات، ففي الصحيحين: (أن النبي ص قال لأهل البئر واسمها القليب، التي ألقي فيها جماعة من الكفار في بدر: (هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا)، خاطب النبي كفار قليب بدر، قال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها، قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا على شيئا) رواه البخاري (7 / 301 فتح) ومسلم (4 / 2203). وليس التوسل عبادة للمتوسل به إلى الله، فقد علم رسول الله ص الأعمى أن يقول: (اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى..) الحديث وهو صحيح مشهور بين أهل العلم، رواه الترمذي (5 / 569) والبيهقي في (دلائل النبوة) (6 / 166 - 168) والحاكم (1 / 313) وصححه على شرطهما وأقره الذهبي وغيرهم بأسانيد صحيحة. كما أن الاستغاثة أيضا بمخلوق ليست عبادة له كما ثبت في الصحيحين (أن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد ص فيشفع ليقضى بين الخلق) انظر فتح الباري (3 / 338)، فما زعمه الجهلة أن كل نداء للميت عبادة له فهو من التخبط في الجهل القبيح. وملخص ما مر أن العبادة في اللغة هي مطلق الطاعة والخضوع لأي أحد كان بخلاف العبادة في اصطلاح الشرع فهي غاية التذلل والخضوع لمن يعتقد الخاضع له بعض صفات الربوبية، فإذا فهمت ذلك علمت يقينا أن من أطاع أحدا وخضع له لا لاعتقاده أن له بعض صفات الربوبية لا يسمى
ص 34
عابدا له شرعا وإن كان الخضوع والتذلل لغير الله تعالى قد يحرم في بعض صوره كما إذا كان لغني لأجل غناه، لكنه لا يسمى عبادة شرعا، ولا يكون صاحبه مشركا، كما أفاد ذلك العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي في زاد المسلم. ويوضح ذلك أيضا أن نقول: إن العبادة شرعا معناها الإتيان بأقصى الخضوع قلبا وقالبا، فهي إذن نوعان قلبية وقالبية، (فالقلبية): هي اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لمن اعتقد فيه ذلك، (والقالبية): هي الإتيان بأنواع الخضوع الظاهرية من قيام وركوع وسجود وغيرها مع ذلك الاعتقاد القلبي، فإن أتى بواحد منها بدون ذلك الاعتقاد لم يكن ذلك الخضوع عبادة شرعا ولو كان سجودا، وإنما قال العلماء بكفر من سجد للصنم لأنه أمارة وعلامة على ذلك الاعتقاد، لا لأنه كفر من حيث ذاته، إذ لو كان كفرا لذاته - السجود - لما حل في شريعة قط، وقد حل كما هو معلوم في آيات كثيرة، فكيف حل وهو كفر، والله لا يأمر بالفحشاء، قال تعالى: *(إن الله لا يأمر بالفحشاء)* الأعراف: 27. فقد كان كما هو معلوم السجود لغير الله عز وجل على وجه التحية والتكريم مشروعا في الشرائع السابقة وإنما حرم في هذه الشريعة، فمن فعله لأحد تحية وإعظاما من غير أن يعتقد فيه ربوبية كان آثما بذلك السجود، ولا يكون به كافرا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له، ويرشدك إلى ذلك قوله عز وجل في سيدنا يعقوب نبي الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وامرأته وبنيه حين دخلوا على سيدنا يوسف *(وخروا له سجدا)* يوسف: 100، قال ابن كثير في تفسيرها:
ص 35
(أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا، وقد كان هذا سائغا في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، لم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، فحرم هذا في هذه الملة) ا ه المقصود منه. ويوضح ذلك أيضا أمره عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان سجودهم له عليه الصلاة والسلام عبادة للآمر عز وجل، وإكراما لآدم عليه الصلاة والسلام. ومن هنا نعلم أن تعظيم الكعبة بالطواف حولها وتعظيم الحجر الأسود باستلامه وتقبيله والسجود عليه ليس عبادة شرعا للبيت ولا للحجر، وإنما هو عبادة للآمر بذلك سبحانه وتعالى، الذي اعتقد الطائف بالبيت ربوبيته سبحانه، فليس كل تعظيم لشيء عبادة له شرعا، حتى يكون شركا، بل منه ما يكون واجبا أو مندوبا إذا كان مأمورا به أو مرغبا فيه، ومنه ما يكون مكروها أو محرما، ومنه ما يكون مباحا، ولا يكون التعظيم لشيء شركا حتى يقترن معه اعتقاد ربوبية ذلك الشيء، أو خصيصة من خصائصها، فكل من عظم شيئا فلا يعتبر في الشرع عابدا له إلا إذا اعتقد فيه ذلك الاعتقاد، وقد استقر في عقول بني آدم ما داموا على سلامة الفطرة أن من ثبتت له الربوبية فهو للعبادة مستحق، ومن انتفت عنه الربوبية فهو غير مستحق للعبادة، فثبوت الربوبية واستحقاق العبادة متلازمان فيما شرع الله في شرائعه وفيما وضع في عقول الناس، وعلى أساس اعتقاد الشركة في الربوبية بنى المشركون استحقاق العبادة لمن اعتقدوهم أربابا من دون الله تعالى، ومتى انهدم هذا الأساس من نفوسهم تبعه ما بني عليه من استحقاق غير الله للعبادة، ولا
ص 36
يسلم المشرك بانفراد الله تعالى باستحقاق العبادة حتى يسلم بانفراده عز وجل بالربوبية، وما دام في نفسه اعتقاد الربوبية لغيره عز وجل استتبع ذلك الاعتقاد في هذا الغير الاستحقاق للعبادة ولذلك كان من الواضح عند أولي الألباب أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية شيء واحد ولا فرق بينهما وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد، وتقسيم التوحيد إلى توحيد ألوهية وربوبية باطل، كما سيتبين الآن إن شاء الله تعالى، فمن اعترف أنه لا رب إلا الله كان معترفا بأنه لا يستحق العبادة غيره، ومن أقر بأنه لا يستحق العبادة غيره كان مذعنا بأنه لا رب سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله في قلوب جميع المسلمين، ولذلك نرى القرآن في كثير من المواضع يكتفي بأحدهما عن الآخر، ويرتب اللوازم المستحيلة على انتفاء أي واحد منهما ليستدل بانتفائها على ثبوته فانظر إلى قوله تعالى: *(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)* الأنبياء: 22، وقوله تعالى: *(وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)* المؤمنون: 91، حيث عبر بالإله ولم يعبر بالرب. وكذلك في الميثاق الأول، قال سبحانه: *(ألست بربكم)* الأعراف: 172، ولم يقل بإلهكم، واستفاض عن رسول الله ص: أن الملكين يقولان للميت في قبره: (من ربك؟) ويكتفيان بالسؤال عن توحيد الربوبية، ويكون جوابه بقوله: (الله ربي)، كافيا، ولا يقولان له إنما عرفت توحيد الربوبية واعترفت به فقط، ولم تعترف بتوحيد الألوهية، ولا يقولان له ليس توحيد الربوبية كافيا في الإيمان. وهذا خليل الله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لذلك الجبار:
ص 37
*(ربي الذي يحيي ويميت)* البقرة: 258، فيجادله بأنه كذلك يحيي ويميت، إلى أن حاجه خليل الله بما يكذب دعوى ربوبيته فتندحض دعوى استحقاقه للعبادة. ويثبت أنه لا فرق بين توحيد الألوهية والربوبية أيضا أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال مرة: *(ما علمت لكم من إله غيري)* القصص: 38، ومرة أخرى: *(أنا ربكم الأعلى)* النازعات: 24، فاتضح أن الإله هو الرب، والرب هو الإله ولا فرق. وبالجملة فقد أومأ القرآن الكريم والسنة المستفيضة إلى تلازم توحيد الربوبية والألوهية وأن ذلك مما قرره رب العالمين، واكتفى سبحانه من عبده بأحدهما عن صاحبه، لوجود هذا التلازم، وكذلك اكتفى به الملائكة المقربون عند السؤال، وفهم الناس هذا التلازم حتى الفراعنة الكافرون بداهة، ولم يقل أحد من السلف ولا من الصحابة ولا من التابعين بالفرق، وأن هناك توحيد ألوهية يغاير توحيد الربوبية، ولم ينقل ذلك التفريق عن واحد منهم فضلا عن نقله من الكتاب أو السنة، حتى ابتدع وتكلم بذلك بعض أهل القرن الثامن الهجري، ولا عبرة بذلك قطعا، فما هذا الهذيان بهذا التقسيم الذي يفتريه أولئك المبتدعة الخراصون، فيرمون المسلمين بأنهم قائلون بتوحيد الربوبية دون توحيد العبادة - أي الألوهية - وأنه لا يكفي المسلمين توحيد الربوبية في إخراجهم من الكفر وإدخالهم في الإسلام. وينبغي لفت النظر أيضا إلى قوله تعالى: *(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا..)* فصلت: 30، وهي في موضعين من كتاب الله تعالى، ولم يقل إلهنا بل قال - ربنا الله -، وقول رسول الله ص لمن سأله عن وصية جامعة: (قل
ص 38
ربي الله ثم استقم)، ولم يقل له: قل إلهي الله ثم استقم، فاكتفى بتوحيد الربوبية في النجاة والفوز لاستلزامه وعدم تغايره لتوحيد الألوهية، وهذا بشهادة الله ورسوله كما ترى، فمن رافقه التوفيق وفارقه الخذلان ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف علم يقينا علما لا تخالطه ريبة أن مسمى العبادة شرعا لا يدخل فيه شيء مما عداه، كالتوسل والاستغاثة وغيرهما، بل لا يشتبه بالعبادة أصلا، فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم أو صفة من صفاتها الخاصة بها. ألا ترى الجندي يقوم بين يدي رئيسه ساعة وساعات احتراما له وتأدبا معه، فلا يكون هذا القيام عبادة لرئيسه لا شرعا ولا لغة، ويقوم المصلي بين يدي ربه في صلاته بضع دقائق قدر قراءة الفاتحة ونحوها، فيكون هذا القيام عبادة شرعا، وسر ذلك أن هذا القيام وإن قلت مسافته مقترنا باعتقاد القائم ربوبية من قام له. ولم يأت عن واحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم من أئمة السلف، ولا عن أتباع التابعين، ولا عن التابعين ولا عن الصحابة، ولا عن رسول الله ص في سنته الواسعة في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وغيرها أن التوحيد ينقسم إلى توحيد ربوبية وإلى توحيد ألوهية، وأن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية. وأما قوله تعالى: *(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)* الزمر: 38 وقوله تعالى: *(قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله)*.. المؤمنون: 86 - 87، معناه أنهم يقولون ذلك إذا سألتهم عند ظهور الحجج القاطعات عليهم والآيات البينات، وذلك مجرد
ص 39
قول بألسنتهم وليس ذلك في قلوبهم، لأنهم ما كانوا يقرون بوجود الخالق خلافا لمن زعم أنهم كانوا موحدين توحيد ربوبية، وخلافا لمن زعم أن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وأن توحيد الربوبية يعرفه المشركون والمسلمون مستدلا بقوله تعالى: *(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)* لقمان: 25، فهذا الزعم لا شك أنه باطل لأن هذا الزاعم لبس على البسطاء معنى الآية أو لم يفهمها هو!! وقد بينا معناها،: أنهم أقروا بألسنتهم فقط، لذلك قال الله تعالى: *(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون)* العنكبوت: 61، معناه كما قال القرطبي في التفسير (13 / 161): (أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي، معناه: أنهم يقولون ذلك بألسنتهم فقط عند إقامة الحجج عليهم وهم في الحقيقة لا يقولون بذلك). وأيضا قال الله تعالى: *(ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها)* العنكبوت: 63، قال الإمام القرطبي: أي جدبها وقحط أهلها *(ليقولن الله)* أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الإعادة *(قل الحمد لله)* أي على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته *(بل أكثرهم لا يعقلون)* انتهى من القرطبي. فإذا تنبهت لمعنى هذه الآيات وأمثالها عرفت بأنها ليست دليلا على أنهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية كما يتوهم بعض الناس، لأن القرآن وواقع هؤلاء الكفار يبين أنهم كانوا ينكرون الخالق وينكرون السجود له، كما سيأتي الآن إن شاء الله تعالى في ذكر الآيات الموضحة لذلك، وكانوا ينكرون البعث
ص 40
ويعتقدون التأثير والتدبير لغير الله فيقولون: (أمطرنا بنوء كذا ونوء كذا) ولو كانوا يقرون بتوحيد الربوبية كما زعم الخراصون لما قال لهم المولى سبحانه: *(يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)* البقرة: 21، بل كان اللازم أن يقول لهم: - أعبدوا إلهكم -، وقال تعالى: *(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)*.. الآية البقرة: 258، وكان اللازم على زعم من قال: إن النمرود كان يعرف توحيد الربوبية ويجهل توحيد الألوهية، أن يقول الله تعالى - ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في إلهه - وكان اللازم على زعمهم أن يقول الله تعالى بدل قوله: *(ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)* الأنعام: 1، أن يقول: - بإلههم يعدلون - ولكن ذلك فاسد لأنهم لم يكونوا مقرين، ودليل ذلك قوله تعالى: *(وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة)* يس 78 - 79، وقوله تعالى: *(ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السماوات والأرض)* النمل: 25، وقوله تعالى: *(وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي)* الرعد: 30، فأما هم فلم يجعلوه ربا، وقال تعالى: *(أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)* يوسف: 39، وقال تعالى: *(ولا تسبوا الذين يدعون)* - أي يعبدون - *(من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)* الأنعام: 108، وقد اشتهر إنكارهم للبعث أشد الإنكار، وأنهم ما يهلكهم إلا الدهر، وقد اشتهر ذلك في أقوالهم وأشعارهم، حتى قال أحدهم: أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي واشتهر عنهم أنهم كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع،
ص 41
فهل يقول عاقل في هؤلاء مع هذا الكفر الصريح أنهم موحدون توحيد الربوبية؟! ولو كانوا يقرون بتوحيد الربوبية عند إقامة الحجة عليهم، فإن مجرد الإقرار به لا يسمى توحيدا عند علماء المسلمين، ولو كان الإقرار بالربوبية توحيدا كما زعم الخراصون لكان تصديق عتاة قريش النبي ص وتكذيبهم بآيات الله تعالى توحيدا، ولا يقول بهذا عاقل، قال تعالى: *(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)* الأنعام: 33، ولو كان الإقرار بالربوبية توحيدا كما زعموا لكان علم عاد بالخالق مع تكذيبهم آياته ورسوله هودا عليه السلام لما هددهم بالعذاب توحيدا زاجرا لهم عن قولهم، كما أخبر الله عنهم: *(من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون)* فصلت: 15، ولا يقول بهذا عاقل، أيقول عاقل في فرعون الذي قال *(أنا ربكم الأعلى)* النازعات: 24، وقال *(يا أيها الملأ ما علمت لكم من آله غيري)* القصص: 38، وقوله *(لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين)* الشعراء: 29، مع قوله: *(إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون)* الشعراء: 27، لما أجابه سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام عن سؤاله عن حقيقة رب العالمين قائلا له: *(قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)* الشعراء: 24، وقوله له أيضا: *(ربكم ورب آبائكم الأولين)* الشعراء: 26، فهل يقال بعد هذا: إن فرعون كان يعرف توحيد الربوبية ويجهل توحيد الألوهية؟! فهذا التقسيم للتوحيد باطل غير صحيح، وكل من قال به مخطئ.
ص 42
وأما معنى قوله تعالى: *(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)* يوسف: 106، فمعناه وما يؤمن أكثرهم بالله في إقرارهم بوجود الخالق عند إقامة الحجة والبراهين عليهم تكذبه قلوبهم ويكذبه واقعهم، فإيمانهم أمامكم عند إقامة الحجة والبرهان على وجود الله تعالى بألسنتهم غير معتبر ولا مقبول عند الله تعالى *(يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم)* التوبة: 8، فهم كاذبون باتخاذهم آلهة يعبدونها غير الله، أو باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، أو اعتقادهم الولد له سبحانه والتعبير في هذه الآية في جانب شركهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام الواقعة حالا لازمة، والتعبير في جانب إيمانهم أي إقرارهم بالجملة الفعلية الدالة على التجدد دليل لغوي على أن شركهم دائم مستمر، وأن إقرارهم بوجود الخالق الرازق المحي المميت مع ارتكابهم ما ينافي ذلك الإقرار من أقوالهم وأفعالهم وعبادتهم لغير الله تعالى كما قال تعالى: *(واتخذوا من دون الله آلهة)* يس: 74، لا يكون توحيدا ولا إيمانا لغة ولا شرعا، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق بالقلب مطلقا، وفي الشرع تصديق النبي ص فيما علم مجيئه به بالضرورة، فقولهم عند إقامة الحجة عليهم: *(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)* الزمر: 3، كذب منهم ليبرئوا أنفسهم، والله تعالى بين أنهم كاذبون إذ قال كما في آخر هذه الآية: *(إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)* الزمر: 3.
ص 43