كتاب االحلال والحرام في الإسلام للقرضاوي
محتويات
- الأصل في الأشياء الإباحة
- التحليل والتحريم حق الله وحده
- تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله
- العودة الي الصفحة الرئيسية
الأصل في الأشياء الإباحة
كان أول مبدأ قرره الإسلام: أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع، هو الحل والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، فإذا لم يكن النص صحيحا -كبعض الأحاديث الضعيفة- أو لم يكن صريحا في الدلالة على الحرمة، بقي الأمر على أصل الإباحة.
وقد استدل علماء الإسلام على أن الأصل في الأشياء والمنافع الإباحة، بآيات القرآن الواضحة من مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) سورة البقرة:29، (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه) سورة الجاثية:13، (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) سورة لقمان:20.
وما كان الله سبحانه ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ويمن عليه بها، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه، وكيف وقد خلقها له، وسخرها له، وأنعم بها عليه؟
وإنما حرم جزئيات منها لسبب وحكمة سنذكرها بعد.
ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجيء نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.
وفي هذا ورد الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا (وما كان ربك نسيا)" سورة مريم:64.
وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" فلم يشأ عليه السلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ماعداه حلالا طيبا.
وقال رسول الله: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها "العادات أو المعاملات" فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقيد إلا ما حرمه الشارع وألزم به. وقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام 119، عام في الأشياء والأفعال.
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي. وفيها جاء الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يعبد إلا الله وألا يعبد الله إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده -كائنا من كان- فهي ضلالة ترد عليه. لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها. بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. الأصل فيه عدم الحظر. فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟
ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) سورة يونس:59.
وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم -كالأكل والشرب واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة -وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها- وما لم تحد الشريعة، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي".
ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نعزل، والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن).
فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع. وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم. وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة: ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.
التحليل والتحريم حق الله وحده
المبدأ الثاني: أن الإسلام حدد السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الخلق، أيا كانت درجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق الرب تعالى وحده. فلا أحبار او رهبان، ولا ملوك أو سلاطين، يملكون أن يحرموا شيئا تحريما مؤبدا على عباد الله. ومن فعل ذلك منهم فقد تجاوز حده واعتدى على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله واعتبر اتباعه هذا شركا (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
وقد نعى القرآن على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم، فقال تعالى في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) سورة التوبة:31.
وقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي -وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام- فلما سمع النبي هذه الآية، قال: يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم).
وفي رواية أن النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه).
ولا زال النصارى يزعمون أن المسيح أعطى تلامذته -عند صعوده إلى السماء- تفويضا بأن يحللوا ويحرموا كما يشاؤون، كما جاء في إنجيل متى 18:18 (الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء). كما نعى على المشركين الذين حرموا وحللوا بغير إذن من الله.
قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أن على الله تفترون) سورة يونس:59.
وقال سبحانه (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) سورة النحل:116.
ومن هذه الآيات البينات، والأحاديث الواضحات عرف فقهاء الإسلام معرفة يقينية أن الله وحده هو صاحب الحق في أن يحل ويحرم، في كتابه أو على لسان رسوله وأن مهمتهم لا تعدوا بيان حكم الله فيما أحل وما حرم (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119. وليست مهمتهم التشريع الديني للناس فيما يجوز لهم وما لا يجوز. وكانوا -مع إمامتهم واجتهادهم- يهربون من الفتيا، ويحيل بعضهم على بعض، خشية أن يقعوا -خطأ- في تحليل حرام أو تحريم حلال.
روى الإمام الشافعي في كتابه (الأم) عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن الربيع ابن خيثم -وكان من أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه! أو يقول: إن الله حرم هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه ولم أنه عنه". وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!
هذا ما نقله أبو يوسف عن السلف الصالح، ونقله عنه الشافعي وأقره عليه، كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.
وهكذا نجد إماما كأحمد بن حنبل يسأل عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه.
ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم.
تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله
وإذا كان الإسلام قد نعى على من يحرمون ويحللون جميعا، فإنه قد اختص المحرمين بحملة أشد وأعنف، نظرا لما في هذا الاتجاه من حجر على البشر وتضييق لما وسع الله عليهم بغير موجب، ولموافقة هذا الاتجاه لنزعات بعض المتدينين المتنطعين. وقد حارب النبي نزعة التنطع والتشدد هذه بكل سلاح، وذم المتنطعين وأخبر بهلكتهم إذ يقول: "ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون".
وأعلن عن رسالته فقال "بعثت بالحنيفية السمحة" فهي حنيفية في العقيدة والتوحيد، سمحة في جانب العمل والتشريع. وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال وهما اللذان ذكرهما النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".
فتحريم الحلال، قرين الشرك، ولهذا شدد القرآن النكير على مشركي العرب في شركهم وأوثانهم وفي تحريمهم على أنفسهم من الطيبات من أنواع الحرث والأنعام ما لم يأذن به الله، ومن ذلك تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فقد كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم، لا تنحر ولا يحمل عليها، ولا تطرد عن ماء أو مرعى، وسموها (البحيرة) أي مشقوقة الأذن، وكان الرجل إذا قدم من سفر، أو برأ من مرض أو نحو ذلك سيب ناقته وخلالها، وجعلها كالبحيرة، وتسمى (السائبة). وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهي لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وتسمى (الوصيلة) وكان الفحل إذا لقح ولده ولده قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه.. الخ، ويسمى (الحامي) وفي تفسير هذه الأربعة، أقوال كثيرة تدور حول هذا المحور.
أنكر القرآن عليهم هذا التحريم، ولم يجعل لهم عذرا في تقليد آبائهم في هذا الضلال (وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) سورة المائدة:103، 104.
وفي سورة الأنعام مناقشة تفصيلية لما زعموا تحريمه من الأنعام من إبل وبقر وضأن ومعز، ساقها القرآن في أسلوب تهكمي ساخر ولكنه مفحم (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، قل الذكرين حرم أن الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، قل آلذكرين حرم أن الأنثيين؟) الآية، سورة الأنعام:143، 144.
وفي سورة الأعراف مناقشة أخرى ينكر الله فيها على المحرمين، ويبين فيها أصول المحرمات الدائمة.
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق؟… قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي يغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) سورة الأعراف: 32، 33.
وهذه المناقشات في السور المكية التي تعنى دائما بإثبات العقيدة والتوحيد والآخرة، تدلنا على أن هذا الأمر -في نظر القرآن- ليس من الفروع والجزئيات، وإنما هو من الأصول والكليات.
وفي المدينة ظهر بين أفراد المسلمين من يميل إلى التشدد والتزمت وتحريم الطيبات على نفسه، فأنزل الله تعالى من الآيات المحكمة ما يقفهم عند حدود الله، ويردهم إلى صراط الإسلام المستقيم (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) سورة المائدة:87-88.