الكتاب: مختصر التبيان في آداب حملة القرآن
المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي
محتويات
- ترجمة المؤلف الإمام النووي
- المقدمة
- الباب الأول في أطراف من فضيلة تلاوة القرآن وحملته
- الباب الثاني: في ترجيح القراءة والقاريء على غيرهما
- الباب الثالث: في إكرام أهل القرآن، والنهي عن إيذاءَهُمْ
- الباب الرابع: في آداب مُعلِّم القُرآن، ومُتعَلمه
- الباب الخامس: في آداب حامل القرآن
- الباب السادس : في آداب قراءة القرآن
- الباب السابع: في آداب الناس كلهم مع القرآن
- الباب الثامن: في الآيات والسُور المستحبة في أوقات وأحوال مخصوصة
- الباب التاسع: فى كتابة القرءان وإكرام المصحف
- الباب العاشر في ضبط الأسماء واللغات المذكورة في الكتاب على ترتيب وقوعها
المقدمة
بِسْمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيم، وَبِهِ نَسْتَعِين.
الحمد للهِ الكريم المان ذيِ الطول، والفضل، والإحسان، الذي هدانا للإيمان، وفضل ديننا على سائر الأديان، ومنَّ عَلينا بإرسالهِ إلينا خيرَ خَلقهِ، مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، فمحا به عبادة الأوثان، وأكرمه صلى الله عليه وسلم، وأبانا بالقُرآنِ المُعجِزة المُستَمرة عَلى تَعاقبُ الأَزمَان التي يتحد بها الجنُّ، والإنسُ، بأَجمَعهم، وأقْحَمَ بِها جميعَ أهلِ الزيغ والطُغيان، وَجَعلهُ رَبيعاً لِقُلوبِ أهلِ البصائر والعِرفان، ولا يخلق عن كَثْرةَ الردِّ، وتغَاير الأَحيان، وَيسَرهُ حتى استظهره صَغائرُ الولدان، وضعَّف الأجرَ في تلاوتهِ، وأعظمَ بهِ في الامتنان.
أَحمدهُ أَبْلغَ الحمد على ذلك، وغيره من نِعمهِ التي أَسْبَغَها علينا في كُل حينٍ وأوان، وأسألهُ المِنَّة عليَّ، وَعلى جَميع أحبَّائي بالرّضوان.
وأَشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، شَهادة مُحصّلة للغُفْران، مُنقِذة صاحبها مِنَ النِّيران، مُوصلةً لَه إلى سُكنى الجِنان.
أمَّا بعد.. فإنَّ الله سُبحانه وَتعالى منَّ على هذه الأمَّة، وزادها شرفاً بالدينِ الذي ارتضاه لنفسهِ دين الإسلام، وإرساله إليها خيرته مِن خلقهِ، مُحمَّداً سيد الأنام عليه منه أفضل الصلوات، والبركات، والسّلام وأكرمهما بكتابهِ القُرآن أفضلَ الكلام، وجمع فيه جميع ما يحتاج إليه من أخبار الأولين، والآخرين، والمواعظ، والأمثال، والآداب، وأصناف الأحكام والحُجج القطعيات، الظَّاهرات في الدلالات على وحدانيته، وغيرها مما جاءت به رسله، صلوات الله وسلامه عليهم، الدامغات لأهل الإلحاد الضُّلال الطُغام، وحثَّ على تلاوته، والاعتناء به، ولإعظام وملازمة الآداب، وبذل الوسع في الاحترام، ورأيت بتلاوة القُرآن العزيز تعلُّماً وتعليماً، ودراسة في جماعات، وفُرادى مجتهدين في ذلك بالليالي، والأيام، وزادهم الله حرصاً عليه، وعلى سائر الطّاعات مُريدين به وجه اللهِ، ذي الجلال والإكرام، فدعاني ذلك إلى جمع مختصر في آداب حملته، وأوصاني حُفاظه وطلبته فجمعتُ ذلك وأوضحتهُ، وبيَّنتهُ وأتقنته، وسميته "كتابُ التِبيان في آداب حملة القُرآن" وذكرت فيه نفائس يحتاج حافظه إلى معرفتها، ويقبُح بهِ جهلها، وتفويت خبرتها، ثُمَّ رأيت المصلحة في اختصاره تسهيلاً لحفظه وانتشاره فَشَرعتُ في ذلك قاصداً المبالغة في الاختصار، معَ إيضاحِ العبارة، والرّمز للأدلة، وبعض الأحكام التي يَحصُل الفهم منها بالإشارة، فمن أُشكل عليه شيء مِمَّا أذكره هُنا، وأَراد زِيادة في بسطه فليطلبه من"التبيان" يجده إِنْ شاء الله تعالى واضِحاً في حُكْمِهِ وضبطِهِ، وعلى الله الكريم الاعتماد، وإليه التفويضُ والاستناد، وحسبي اللهُ ونعم الوكيل، وهذه فهرستُ أبوابه :
الباب الأول : في فضيلة تلاوة القُرآن وحملته.
الثاني : في ترجيح القراءة والقاري.
الثالث : في إكرام أهل القُرآن.
الرابع : في أداب مُعلِّمه ومُتَعَلمه.
الخامس : في آدابِ حامله.
السادس : في آداب القِراءة وهو معظم الكتاب، ومقصوده.
السابع : في آداب جميع النَّاس مع القُرآن.
الثامن : في الآيات والسور المستحبة في أوقات مخصوصة.
التاسع : في كتابة القُرآن، وإكرام المصحف
الباب الأول في أطراف من فضيلة تلاوة القرآن وحملته
قَالَ الله عَز وجلَّ : (( إِنّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأقاموا الصَّلاَة وَانْفَقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرَّاً وَعَلاَنِية يَرْجُونَ تِجَارةً لَنْ تَبُور لِيُوَفِيّهُــمْ أُجُــورَهمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ )) [غافر 29، 30].
وَثبتَ في صحيحي البُخاريُّ ومُسلم رحمهم الله عن عثمان رضي الله عنه عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَه).
وفي الصحيحين، عن عائشة ـ رضي الله عنها قالت : قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌ، لَهُ أَجْرَانِ ).
وفي الصحيحين، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم).
وفي الصحيحينِ عنِ بْنِ عُمر رضي اللهُ عنْهُمَا، عَن النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ القُرْآن ؛ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آَنَاءَ اللَيْلِ، وَأَنَاءَ النَّهَار، وَرَجُلٌ آَتَاهُ اللهُ مَالٌ فَهُوَ يُنْفقهُ أَنَاءَ اللَيْلِ وَأَنَاءَ النَّهَار).
وَرَوَياهُ في الصَّحِيحينِ من رِوَاية عَبدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (لاَ حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتهِ في الحَقِّ، وَرَجُلاً آَتَاهُ حِكْمَةُ فَهُوَ يَقْضِي بِهَاَ وَيُعَلِّمهَاَ ).
وفي صَحِيحِ مسلمٍ عَنْ أَبي أُمَامَة رضي الله عنه، عَنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (اقْرَءوا القُرْآن ؛ فَإنَّهُ يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعَاً لأَصْحَابَهِ).
وفيهِ عنِ ابْنِ عُمَر رضي الله عنه، أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال : ( إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَاَ الكِتَابِ أَقْوَامَاً، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِين ).
وفي كِتاب التِّرمذيُّ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الَّذي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِب) قال الترمذيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.
الباب الثاني: في ترجيح القراءة والقاريء على غيرهما
ثبتَ في صحيح مسلمٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَأَهُمْ لِكِتَابِ اللهِ).
وفي صحيحِ البُخَاريُّ عَنْ ابن عَبَّاس رضي الله عنه : كَاَنَ القُراء أَصْحَاب مَجْلِس عُمَر رضي الله عنه، ومُشاوريه كُهُولاً كَانوا أو شُبانا
وفيه أنَّه صلى الله عليه وسلم، كَاَنَ يَأَمرُ في قَتلا أُحد أَنْ يُقَدَّم إلى القِبْلَة أَقْرَاَهُمْ، وَأَعْلَم
إنَّ المَذْهبَ المُخْتَار الَّذي عَلَيْهِ الشّافعيُّ، وَمن لا يُحصَى سُنن العُلماء، أَنَّ قِرَاءة القُرْآنِ أَفْضَلَ مِن سَائِرِ الأَذْكَار، وَقَد تَظَاهَرت الأَدِلَّة عَلَى ذَلِك
الباب الثالث: في إكرام أهل القرآن، والنهي عن إيذاءَهُمْ
قال الله تعالى : (( وَمَنْ يُعَظِّم شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَأَ مِنْ تَقْوَى القُلُوب )) [الحج :32] وقال تعالى : (( وَمَنْ يُعَظِّم حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه )) [الحج:30]. وقال الله سبحانه وتعالى : (( وَالَّذِين يُؤْذُونَ المُؤمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَاَ اكْتَسَبوا فَقَدْ احتَمَلوا بُهْتَانَاً وَإثْمَاً مُبِيْناً ))[الأحزاب:58].
وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.
وعنْ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيُّ ـ رضي الله عنه قَال : قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم : (مِنْ إِجْلاَلِ الرُّفْقة إِكْرَامِ ذِي الشَيْبَة المُسْلِمْ، وَحَامِلِ القُرْآن، غَيْرِ الغَالي فِيهِ، والجَافِي عَنْهُ، وإِكْرَامِ ذِي السُّلْطَان) رواهُ أبو داود وهو حديثٌ حسن.
وفي صَحيح البُخاريُّ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الله عزوجل قال: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنَنِي بِالحَرْبِ)
وَقال الإمَامَان الجَلِيلاَنِ : أَبو حَنِيفة، وَالشّافِعيُّ رحِمَهُمَاَ الله: إِنْ لَمْ يَكُن العُلَمَاء أَوْلِياءُ الله فَلَيْسَ للهِ وَلِيّ.
الباب الرابع: في آداب مُعلِّم القُرآن، ومُتعَلمه
ينبغي لكل واحدٍ منهما أن يقصد به رضا الله تعالى لقوله تعالى : (( وَمَاَ أُمِروا إلاَّ لِيَعْبدو اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء.. الآية )) [البينة:5].
وفي الصَّحِيحَينِ عَن عُمَر بْنِ الخَطَّاب رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّمـَاَ الأَعْمَــالُ بِالنِّــيَاتِ، وَإِنَّمَاَ لِكُلِّ امْرِيءٍ مَاَ نَوَى.. )
وَرَوَينَاَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّمَاَ يحفظُ الرَّجل على قَدر نِيَّتِه
قال العارِفون : الإخلاص: تصفية الفِعل عن مُلاَحَظةِ المخلوقات، وقيِل هُو استواء أفعَال العبد ظاهراً، وباطنه
فصل
ولا يقصد بتعلمه، ولا تعليمه توصّلاً إلى غرض من أغراض الدنيا، من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عِند الناس، أو صرف وجوه النَّاسِ إلَيه، أو نحو ذلك قال الله تعالى: (( ومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدُنياَ نُؤْتِهِ مِنْهَاَ وَمَاَ لهُ في الآخِرة مِنْ نَصِيب )) [الشورى:20]، وقال تعالى : (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَاَ لَهُ فِيهَاَ مَاَ نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيد ثُمَّ جَعَلْنَاَ لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَاَ مَذْمُومَاً مَدْحُورَاً )) [الإسراء:18].
فصل
ولا يُشين المقريء إقراؤه بطمع في رفق يحصُل له من بعض مَن يَقرأ عليه سواء كان الرفق مالاً أو خدمة، وإن قلَّ، وإن كان على صُورة الهدية التي لولاَ قرائته عليه لما أهداها إليه، وليحذر كل الحذر مِن قصده التكثر بكثرة المشتغلين عليه، والمترددين إليه، وليحذر مِن كراهته قراءة أصحابه على غيره، ممن ينتفعو بقرائتهم عليه، وهذه معصية يُبتلى بها بعض المعلمين، الجاهلين، وهي دلالة بينة من فاعلها على سوء نيته، وفساد طويته وعدم إرادته بتعليمه وجه الله الكريم.
وقد روينا في مسند الدارميُّ عَنْ عليّ رضي الله عنه قال : (ياَ حَملَة العِلمِ اعملوا به، فَإنَّما العالم من عَمِل بعلمِهِ، ووافق علمه عمله، وسيكونُ أقوام يَحْمِلون العلم لا يُجاوزُ تَراقِيهم يخالف عملهم علمهم، ويُخالف سرِيرتهم علاَنِيهم يجلسون حلقاً يُباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرَّجل ليَغُضُّ على جليسهِ أن يجلس إلى غيره، ويدعه أولئك لا يتَصَعَّد أَعمالهُم في مَجالسهم تلكَ إلى الله تعالى) [إسناده ضعبف جداً]
فصل
وينبغي للمُعلم أن يتخلق بآدابِ الشرع من الخلال الحميدة، والشيم المرضية، والزهادة في الدنيا، والتقللِ منها، وعدمِ الإلتفات إليها، وإلى أهلها، والسخاء والجود، ومكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، والحلم والصبر، والتنَزّه عن دنيء الإكتساب ومُلازمة الورع، والخشوع، والسكينة، والوقار، والتواضع، والخضوع، واجتناب الضحك والإكثارِ من المزْح، وليعْتني بالتنَظُّف بإزالة الأوساخ، والشعور التي ورد الشرع بإزالتها، كقص الشارب، وتقليم الأظفار، وتسريح اللحية، وإزالة الروائح الكريهة، والملابس المكروهة، ويراقب الله تعالى في جميع تقلباته في سره وعلانيتِهِ.
فصل
وليحذر كل الحذر من أمراض القلوب كالحسد، والعجب، والرياء، واحتقار الناس والإرتفاع عليهم، وإن كانوا دونه، وعليه أن لا يرى نفسهُ خيراً من أحد
فصل
وينبغي أن يُرفق بالذين يقرؤن عليه، ويرحب بهم، ويُحسن إليهم بحسب حاله وحالهم ويبذل لهم النَّصيحة ما استطاع، فإن نصيحة غيرهم واجبة فهم أولى ولا يتعظَّم عليهم، وأن يكون سمحاً بتعليمهم برفق وتطلف، ويحرضهم على التعلم، ويتألفهم عليه ويُعرّفهم أنَّ العلماء ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ويحنق عليهم، ويعتني بمصالحهم كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ويجري المتعلم منه مجرى ولده في الشفقة عليه والإهتمام بمصالحه، والصبر على جنابه وسؤاديه، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان ويعرفه قبح ذلك ؛ بتلطفٍ لئلا يعود إلى مثله، وينبغي أن يحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من النقص ما يكره لنفسه
فصل
وينبغي أن يذكر للمتعلم فضيلة التعلم ليكون سبباً لنشاطه وزيادة رغبته ويزهده في الدنيا ويرغبه في التأهب للآخرة، ويكون حريصاً على تعليهم، مؤْثراً لهم على مصالح نفسه الدنيوية التي ليست بضرورية ويكون حريصاً على تفهيمهم، وأن يعطي كل إنسان منهم ما يليق به فلا يكثر على شيء لا يحتمل الإكثار، ولا يغتفر لمن يحمل الزيادة ويفرغ قلبه في حال جلوسه عن الأسباب الشاغلة كلها وهي كثيرة معروفة.
فصل
وينبغي أن يكون مُؤدِّباً لهم على التدريج بالآداب السُّنية، والشِّيم المرضِية، ورياضة النَّفس بالدّقائق الخفيّة، ويعودهم الصِّيانة في جميع أمورهم الباطنية والجلية، ويحرضهم بأقواله، وأفعاله المتكررات على الإخلاص، والصِّدق، وحُسنِ النِّيات ومُراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، ويُعرّفهم أن بذلك تتفتحُ عليهم أنوار المعارف، وتنشرح صدورهم، وتتفجر من قلوبهم ينابيع الحكم واللطائف، ويُبارك لهم في علمهم، وأحوالهم ويُوفقون في أفعالهم وأقوالهم.
فصل
ويأخذهم في إعادة محفوظاتهم، ويُثني على من ظهرت نجابته ما لم يخشى عليه فتنةً بإعجابٍ ونحوه، ويُعنَّف من قَصَّر تعنيفاً لطيفاً ما لم يخشى تنفيره، ويُقدم في تعليمهم إذا ازدحموا، الأول فالأول، ولا يُمَكَّن السَّابق من إيثاره بتوبته إلا لمصلحة شرعية، فإن الإيثار في القرب مكروه.وينبغي أن يتفقد أحوالهم، ويسأل عمن غاب منهم، ولا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النِّية، فقد قال سُفيان وغيره : طلبهم للعلم نيِّة.
فصل
ويصون يديه حال اقراء عن العبث، وعينيه عن تفريق النَّظر من غير حاجة شرعية، وأُذنيه عن الاستماع لغير القارئ، ويقعد على طهارة مستقبلاً القبلة بوقار في ثياب بيض نظيفة، وإذا وصل إلى موضع جلوسه صلى ركعتين قيل الجلوس، سواء كان الوضع مسجداً أو غيره، فإن كان مسجداً كان آكد فإنه يكره الجلوس فيه قبل الصلاة، ويجلس متربعاً إن شاء أو غيره متربع ولو جلس جاثياً على ركبته كما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان حسناً ويكون مجلسه واسعاً يمكن جلساؤه فيه.
وممَّا يتأكد الاعتناء به أن لا يذل العلم فيذهب إلى موضع يُنسب إلى من يتعلم ليُعلّمه فيه، وإن كان المتعلم خليفة فمن دونه، بل يصونه عن ذلك كما صانه السلف رضي الله عنهم.
فصل
تعليم المتعلمين فرض كفاية، فإن لم يكن من يصلح له إلا واحد تعيّن عليه، وإن كان هناك جماعة يحصل التعليم ببعضهم، فقام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين وإن امتنعوا كلهم أثموا إن لم يكن لهم عُذر شرعي.
فصل
في آداب المتعلم جميع ما ذكرناه من آداب المعلم في نفسه آداب للمتعلم، ومن آدابه أن يجتنب الأسباب الشاغلة عن تحصيل كمال إلا سبباً لابد منه للحاجة، وينبغي أن يُطهر قبله من الأدناس ليصلح لقبول القرآن، واستثماره، ويتواضع للعلم، فبتواضعه يدركه وقد قالوا: العلم حرب للمتعالي كما أَنّ السيل حرب للمكان العالي، ويتواضع لعلمه ويتواضع معه وإن كان أصغر سناً منه، وأقلَّ شُهرةً وَنسباً وصلاحاً وغير ذلك وينقاد له، ويشاوره في أموره ويقل قول كالمريض العاقل يقبل قول الطبيب النَّاصح الحاذق، وهذا أولى.
فصل
ولا يتعلم إلا ممن كملت أهليته وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته، فقد قال السلف : ( هذا العم دين فانظروا عمن تأخذوا دينكم ).
وعليه أن ينظر معلمه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته، ورجحانه على طبقته، ويدخل عليه كامل الحال متنظفاً بما ذكرناه في المعلم متطهراً مستعملاً للسواك، فارغ القلب من الأمور الشاغلة، ولا يدخل بغير استئذان إلاَّ إذا كان المعلم في موضع لا يحتاج فيه إلى استئذان، ويسلم على الحاضرين إذا دخل، ويخصه بزيادة وتودد، ويسلم عليه وعليهم إذا انصرف ولا يتخطى رقاب النَّاس ؛ بل يجلس حتى ينتهي به المجلس، إلا أن يأذن له المعلم في التقدم، ويعلم من حالهم إيثار ذلك، ولا يُقيم أحداً من موضعه، ولا يجلس بين صاحبين بغير إذنهما، فإن فسحا له قعد وضمَّ نفسه.
وروينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (من حق العالم عليك أن تُسلم على النَّاس عامة، وتخصّه دونهم بالتحية، ون تجلس أمامه، ولا تُشيرن عنده بيدك، ولا تغمزنَّ بعينيك، ولا تقولنَّ : قال فلان خلاف لقوله، ولا تغتابنَّ عنده أحد، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذن بثوبه، ولا تُلح عليه إذا كسل، ولا تُعرض ولا تشبع أي من طول صُحبته و عليه أن يرد غيبة شيخه إن قدر فإن تعذّر عليه ردها فارق ذلك المجلس).
فصل
وينبغي أن يتأدب مع رفقته، وحاضري مجلس شيخه، فإن ذلك أدب مع شيخه، وصيانة لمجلسه، ويقعد بين يديّ الشيخ قعدة المتعلمين، ولا يرفع صوته رفعاً بليغاً من غير حاجة ولا يضحك ولا يكثر الكلام من غير حاجة، ولا يعبث بيده ولا غيرها، ولا يلتفت يميناً وشمالاً من غير حاجة ؛ بل يكون متوجّهاً إلى الشيخ مصغياً إلى كلامه، ولا يقرأ عليه في حال شُغل طلب الشيخ وملله واستنفاره، وغمِّه، وفرحه، وجوعه، وعطشه، ونُعاسه، وقلقه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه من كمال حضور القلب، والنشاط ويغتنم أوقات نشاطه، ويتحمل جفوة الشيخ، وسوء خُلقه، ولا يصده ذلك عن ملازمته، واعتقاد كماله، ويتأول لأقواله، وأفعاله المنكرة في الظاهر تأويلات صحيحة، وإذا جفاه الشيخ ابتدأه هو بالاعتذار، وإظهار الذنب له، والعتب عليه.
فصل
ومن آدابه المتأكدة أن يكون حريصاً على التعلم مواظباً عليه في جميع الأوقات التي يتمكن منه فيها، ولا يقنع بالقليل مع تمكنه من الكثير، ولا يُحمِّل نفسه ما لا يطيق مخافة من الملل، وضياع ما حصَّل، وهذا يختلف باختلاف النَّاس، والأحوال، وإذا جاء إلى مجلس الشيخ ولم يجده انتظره ولازم بابه، ولا يفوت وظيفته إلا أن يخاف كراهة الشيخ لذلك بأن يعلم من حاله الإقراء في وقت بعينه، وأنه لا يقرأ في غيره، وإذا وجد الشيخ نائماً أو مشغولاً انتظره، ولا يزعجه بالاستئذان وينبغي أن يأخذ نفسه بالاجتهاد في التحصيل وقت الفراغ، والنشاط، وقوة البدن ونباهة الخاطر، وقلة الشاغلات قبل عوارض البطالة وارتفاع السن والمنزلة وينبغي أن يُبكر بأخذ وظيفتة أول النهار لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ بَارِك لأُمَّتي في بُكُورِهَا).
وقد قدّمنا أنَّهُ يُكره الإيثار بنوبتهِ ؛ فإنْ رأى الشيخ الإيثار في بعض الأوقات لمعنىً شرعي فأشار عليه به امتثل أمره.
فصل
وممَّا يجب ويتأكد الاعتناء به أن لا يسد أحداً من رفقته أو غيرهم، ولا يعجب بما حصله، ولا يُرائي به، وطريقه في نفي العُجب أن يذكر نفسه أنه لم يُحصِّل ما معه بحوله وقوته ؛ وإنما هو فضل من الله تعالى أودعه فيه فلا ينبغي أن يفتخر بما لم يصنعه، وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل هذه الفضيلة في هذا فلا يُعترض عليها، ولا يكره ما أراده الله تعالى ولم يكرهه، وطريقه في نفي الرياء أن يعلم أن بالرياء يُذهب ما معه في الآخرة، وتذهب بركته في الدنيا، ويستحق الذم، فلا يبقى معه في التحقيق شيء يُرائي به عافانا الله من سخطاته، ووفقنا لمرضاته.
الباب الخامس: في آداب حامل القرآن
قد تقدم جُملٌ منهُ في الباب الرابع، من آدابه أن يكون على أكمل الأحوال، وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القُرآن عنه، وأن يكون متصوِّنَاً عن دنيء الاكتساب، شريف النَّفس، مُتَرَفِّعاً عن الجبَابِرة، والجُفاة من أهل الدنيا متواضعاً للصالحين، وأهل الخير والمساكين، وأن يكون مُتخشِّعَاً ذا سكينةٍ ووقار.
فقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : "ينبغي لحامل القُرآن أن يُعرف بليلهِ إذا النَّاس نائمون، وبنهاره إذا النَّاس مفطرون، وبحزنه إذا النَّاس يفرحون، وببكائهِ إذا النَّاس يضحكون، وبصمتهِ إذا النَّاس يخوضون، وبخشوعه إذا النَّاس يختالون ".
وعن الحسن البصريُّ رحمه الله قال : إن من كَان قبلكم رأوا القُرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار.
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال : "حامل القُرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهوا مع من يلهوا، ولا يسهو مع من يسهوا، ولا يلغوا مع من يلغوا تعظيماً لحق القرآن".
فصل
ومن أهم ما يُؤمرُ به أن يحذر كل الحذر من اتخاذ القرآن عيشة يكتسب بها، فقد جاء في النهي عن ذلك أشياء كثيرة مشهورة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، والسَّلف، وأما أخذ الأجرة على تعليم القرآن فقد اختلف العلماء في جوازه، فجوزه عطاء، ومالك والشافعي، وآخرون إذا استأجره إجارة صحيحة. ومنعه الزُّهريّ، وأبو حنيفة، وآخرون.
والأحاديث الصحيحة تقتضي الجواز.
أمَّا الحديث الوارد بالمنع، فعنه جوابان أوضحتهما مع غيرهما.
فصل
وينبغي أن يُحافظ على تلاوته، ويُكثر منها، وقد كانت للسَّلف رضي الله عنهم عادات في قدر ما يختمون فيه، فمنهم من كان يختم في كل شهرين ختمة، ومنهم من كان يختم في كل شهرين ختمة، ومنهم من كان يختم في كل شهر، وكان بعضهم يختم في عشر ليالٍ، وبعضهم في ثمان ليالٍ، وبعضهم في سبعٍ، وبعضهم في ستٍ، وبعضهم في خمس، وبعضهم في أربع، وبعضهم كل ليلة، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمتين، وبعضهم في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وأربع في النهار، وكان أكثرهم يختم في كل سبع ليال، وكثيرون في كل ثلاث، وقد بينت من كل فرقة من هؤلاء جماعة في "التبيان" وذكرت دلائلهم، والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يُحصل له معه كمال فهم ما يقرأه، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم، والحُكم بين المسلمين أو غير ذلك من مهمات الدِّين والمصالح العامة ؛ فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصداً له، أو لا تفويت وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد يحصل به الملل والهذرمة في القرآن.
فصل
وأمَّا وقت الختم فالأفضل أن يكون أول النَّهار أو الليل وقيل الأفضل أن يختتم ختمة أول النَّهار وأخرى أول الليل، وإنَّهُ إن كان أول النَّهار ختم في ركعتين الفجر أو بعدهما، وإن كان أول الليل ففي ركعتي سنة المغرب على من ختم أول النَّهار حتى يُمسي، وعلى من ختم أول الليل حتى يصبح
فصل
في المحافظة على قراءة القُرآن بالليل
ينبغي أن يحافظ على قراءة القُرآن في الليل، ويكون إعتناؤه بها فيه أكثر وفي صلاة الليل أكثر ؛ لأن الليل أجمع للقلب، وأبعد من الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصون من تطرق الرياء، وغيره من المحبطات مع ما جاء في الشرع من إيجاد الخيرات في الليل كل إسراء، وحديث النُّزول، وحديث : في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء كل ليلة
وقد تظاهرة نصوص القُرآن والسُّنّة وإجماع الأمَّة على فضيلة القراءة والقيام بالليل، والحث عليه، وذلك يحصل بالكثير، والقليل، وما كثر أفضل إلا أن يستوعب الليل كله ؛فإنه يُكره الدَّوام عليه، وكذا يُكره إن أضرَّ بنفسه ما دون الجميع
وقد روى أبو داود في "سننه" أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آياتٍ لَمْ يُكْتَب مِنَ الغَافلِين، وَمَنْ قَامَ بِمائَةِ آيَة كُتِبَ مِنَ القَانِتِين، وَمَنْ قَامَ بَأَلْفِ آية كُتِبَ مِنَ المُقَنْطَرِين)
فإن فاتتهُ وظيفته بالليل فليحرص على قِراءتها في أول النَّهار.
ففي صحيح مسلم عن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنهُ قَــال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ نَامَ عَنْ حِزبِهِ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ عَنْ شَيءٍ مِنهُ فَقَرَأَهُ بَيْنَ صَلاَةِ الفَجْر، وَصَلاَةِ الظُّهر، كُتِبَ كَأَنَّمَاَ قَرَأَ مِنَ اللَّيْلِ)
فصل
وليحذر كل الحذر من نسيانه، أو نسيان بعضه، ومن تعريضه للنسيان
فقد روى أبو داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عُرِضَتْ عَليَّ ذُنوبُ أُمَّتي فَلَمْ أَرى ذَنبَاً أَعْظَمَ مِنْ سُورةِ القُرْآن، أَوْ آية أُوتِيهَاَ رَجُلٌ، ثُمَّ نَسِيهَاَ).
وأنَّهُ صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ الله تَعَالَى يَوْمَ القِياَمَ أَجْذَم). [إسنادهُ ضعيف]