معجزات النبي محمد رسول الله عليه السلام
كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للخضري
محتويات
- معجزاته عليه السلام
- إعجاز القرآن الكريم
- أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته
- الوجه الثاني من إعجاز القران: صورة نظمه العجيب
- الوجه الثالث من الإعجاز: ما أنطوى عليه من الأخبار بالمغيبات
- الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبا
- كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله بحفظه
- انشقاق القمر
- نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره ببركته
- قصة حنين الجذع
- إبراء المرضى، وذوي العاهات
- العودة الي الصفحة الرئيسية من كتاب نور اليقين
مُعْجزاتُهُ عليه السلام
إذا تأمل المتأمل ما قدّمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم، وحميد سيره، وبراعة علمه، ورجاحة عقله وحلمه، وجملة كماله، وجميع خصاله، وشَاهد حاله، وصواب مقاله. لم يمتر في صحة نبوّته، وصدق دعوته، وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به كعبد اللهبن سلام. فإنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئته لأنظر إليه فلما استَبَنْتُ وجهه عرفت أَنَّ وجهه ليس بوجه كذاب.
وروى مسلم أنَّ ضِماداً لما وفد عليه قال له صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله» فقال له ضِماد: أعِدْ عليّ كلماتِك هؤلاء، فلقد بلغن قاموس البحر، هاتِ يدك أُبايعك.
ولما بلغ ملكَ عُمان أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعوه إلى الإِسلام، قال: والله لقد دلّني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يَغْلبُ فلا يبطر، ويُغلب فلا يَضْجَر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي.
إعجاز القرآن الكريم
وقال ابن رواحة:
لو لم تكنْ فيه آيات مبيِّنة لكانَ منظرُهُ يُنبيكَ بالخَبَر كيف وقد أظهر الله على يده تصديقاً لدعوته من المعجزات ما لا يفي به العدّ، فهو أكثر الأنبياء آيةً، وأظهرهم برهاناً، وسنذكر لك في هذا الفصل من الآيات ما تقرُّ به عينكَ، ويزداد به يقينك، مما رواه الجمّ الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وأثبته المحدّثون في صحاحهم، ونبدأ منها بأظهرها شأناً، وأوضحها بياناً، وهو القرآن الشريف وإعجازه.
اعلم أن كتاب الله العزيز مُنْطوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة:
ولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته
أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أربابَ هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خُصُّوا من البلاغة والحكم بما لم يُخَصَّ به غيرهم من الأمم، وأُوتوا من ذَرابة اللسان ما لم يُؤتَ إنسان، ومن فصل الخطاب ما يُقَيِّد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخِلْقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويُدْلُون به إلى كل سبب، يخطبون بديهاً في المقامات، وشديد الخَطْب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويقدحون ويمدحون، ويتوسلون ويتوصلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسِّحر الحلال، ويُطَوِّقون من أوصافهم أَجْمَلَ من سِمْط اللآل، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويُذْهبون الإِحن، ويُهيجون الدِّمَن، ويجرِّئون الجبان، ويصيرون الناقص كاملاً، ويتركون النبيه خاملاً، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل، والقول الفَصْل، والكلام الفخم، والطبع الجوهري، والمنزع القوي، ومنهم الحضري، ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرونق، الرقيق الحاشية، وكلاهما له في البلاغة الحجة البالغة، والقوة الدامغة، والقِدحُ الفالج، والمَهْيعُ الناهج، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حَووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوا صرحاً لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القُّل والكُثْر، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعَهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز: لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42) (38) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ(23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 23 ــــ 24)، {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)
فلم يزل يقرعهم أشدّ التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحُط أعلامَهم، ويشتِّتُ نظامهم، ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والاغترار بالافتراء، وقولهم: إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2). و{إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4). و{أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ} (الأنعام: 25). والمباهتة، والرضا بالدنية. كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88)، و{فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5)، و{لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ} (فصلت: 26)، والادعاء مع العجز، كقولهم: {لَوْ نَشَآء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ} (الأنفال: 31) وقد قال لهم: {وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلِمة، كُشِفَ عواره لجميعهم. وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا لم يَخْفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم، بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا إليه مذعنين، وأنت إذا تأملت قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ} (البقرة: 179) وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ(51) ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) وقوله: {وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى
مَآءكِ وَياسَمَآء أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآء وَقُضِىَ الاْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)
لوجه الثاني من إعجاز القران: صورة نظمه العجيب
الوجه الثاني من إعجاز القرآن: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفتْ عليه مقاطع آيِه وانتهتْ فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحدٌ مماثلة شيء منه، بل حارَت فيه عقولهم، وتدَلَّهتْ دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر، أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر.
والإِعجاز بكل واحد من النوعين، والإِيجاز والبلاغة بذاتها، أو الأسلوب الغريب بذاته، كل واحد منهما نوع إعجاز، لم تقدر العرب على الإِتيان بواحد منهما، إذ كل واحد منهما خارج عن قدرتها مباينٌ لفصاحتها وكلامها.
الوجه الثالث من الإعجاز: ما أنطوى عليه من الأخبار بالمغيبات
الوجه الثالث من الإعجاز: ما انطوى عليه من الإخبار بالمُغَيباتِ، وما لم يكن ولم يقع فوقع، فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآء اللَّهُ ءامِنِينَ} (الفتح: 27)، وقوله عن الروم: {وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 3 ــــ 4)، وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ} (الصف: 9) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: 55) وقوله: {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً(2) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45) قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: 14) فكان كذلك مما اطّلع عليه قارىء هذه السيرة، وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود، ومقالهم وكذبهم في حَلفِهِم كقوله: {وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: 8) وقوله: {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} (آل عمران: 154) وقوله: {مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ} (النساء: 46) إلى غير ذلك من الآيات البيّنات.
الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبا
الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلّم ذلك، فيورده عليه الصلاة والسلام على وجهه، ويأتي به على نصه، فيقرُّ العالم بذلك بصحته وصدقه، وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أُميّ، لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا مجالسة، لم يغب عنهم، ولا جَهِلَ حالَه أحد منهم، وكثيراً ما كان يسأله كثير من أهل الكتاب عن هذا، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً، كقصص الأنبياء، وبدء الخلق، وما في الكتب السابقة مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذُكر منها، ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحاً، ولا سقيماً من صحفه، بعد أن قرّعهم ووبَّخهم بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93).
ومما يدلّ على أن أهل الكتاب يعلمون صدقه ما تحدّاهم فيه الله بقوله: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ(94)
ومما يدل على أن هذا القرآن ليس من كلام البشر: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، لقوّة حاله، وإنافة خطره، حتى كانوا يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفوراً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن صعب مستصعَب على مَن كرهه، وهو الحكم».
وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه إقبالاً، وتَكْسِبُهُ هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23). وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: 21).
كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله بحفظه
ومن وجوه إعجاز القرآن: كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) وسائر معجزات الأنبياء لم يبق إلا خبرها، والقرآن إلى وقتنا هذا حجة قاهرة، ومعارضة ممتنعة، والأعصار كلها طافحة بأهل البيان، وحملة علم اللسان، وأئمة البلاغة، وفرسان الكلام، وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته، ولا ألّف كلمتين في مناقضته، ولا قدر فيه على مطعن صحيح، ولا قدح المتكلفُ من ذهنه في ذلك إلا بِزَنْد شحيح، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاءه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه.
ولنختم لك هذا الباب بحديثه عليه الصلاة والسلام في القرآن قال: «إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنّة خالية، ومثلاً مضروباً، فيه نبؤكم وخبر من كان قبلكم ونبأ ما بعدكم وحُكْم ما بينكم، لا يخلقه طول الرَّدِّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الحق ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فَلَجَ، ومن حكم به أقسط، ومن عمل به أُجِرَ، ومن تمسك به هُديَ إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضلّه الله، ومن حَكَمَ بغيره قَصَمه الله، هو الذكرُ الحكيم، والنورُ المبين، والصراطُ المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاءُ النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاةٌ لمن اتّبعه، لا يعوج فيقَوَّم، ولا يزيغ فَيُسْتَعْتَبَ».
نشقاق القمر
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر وقد قدّمنا حديثه مستوفى.
بع الماء من بين أصابعه، وتكثيره ببركته
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيرُه ببركته، وقد روى هذا الجمُّ الغفير من الصحابة، منهم أنس وجابر وابن مسعود.
قال أنس: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حانتْ صلاة العصر، فالتمسَ الناس ماءً للوضوء، فلم يجدوه، فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِوَضوء، فوضع في الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيتُ الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناسُ حتى توضؤوا عن آخرهم، فقيل: كم كنتم؟ قال زهاء ثلاثمائة.
وقال ابن مسعود: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معنا ماء، فقالَ لنا: «اطلبوا من معه فضلُ ماءٍ»، فأُتي بماء، فصبّه في إناء، ثم وضَع كفّه فيه فجعل الماءُ ينبع من بين أصابعه.
وقال جابر: عطش الناسُ يوم الحُدَيبية ورسول الله بين يديه رِكوةٌ فتوضأ منها، وأقبل الناس نحوه، وقالوا ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك، فوضع يده في الرِّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قيل كم كنتم؟ قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا، كنّا خمس عشرة مائة.
وروى هذه القصة جمع عظيم من الصحابة، ومثل هذا في هذه المواطن الحفيلة، والجموع الكثيرة، لا تتطرق التهمة إلى المحدّث به، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه، لما جُبلت عليه نفوسُهم من ذلك، ولأنهم كانوا ممّن لا يسكتُ على باطل، فهؤلاء قد رووا هذا، وأشاعوه ونسبوا حضور الجم الغفير له، ولم ينكر عليهم أحد من الناس ما حدَّثوا به عنهم أنهم فعلوه وشاهدوه، فصار كتصديق جميعهم لهم.
ومما يشبه هذا تفجير الماء ببركته، وانبعاثه بمسّه ودعوته، كما ورد عن معاذبن جبل في قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين وهي تلمعُ بشيء من ماء مثل الشِّراك، فغرفُوا من العين بأيديهم حتى اجتمع فيه شيء، ثم غسل عليه الصلاة والسلام فيه وجهه ويديه، وأعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس ــــ وفي رواية ابن إسحاق فانخرق من الماء ما له حس كحسِّ الصواعق ــــ ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هنا قد ملىء جناناً». وقد قدّمنا ذلك في غزوة تبوك. وروي عن البرَاء وسلمةبن الأكوع تكثير عين الحدَيبية بدعوته عليه الصلاة والسلام. وروى أبو قتادة أن الناس شَكَوا إلى رسول الله العطش في بعض أسفاره فدعا بالمِيْضَأَةِ فجعلها في ضِبْنه (ما بين الكشح إلى الإبط) ثم التقم فمها، فالله أعلم، أنفث فيها أم لا؛ فشرب الناس حتى رووا وملؤوا كل إناء معهم، فخيّل لي أنها كما أخذها مني. وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.
ورويت قصص مشابهة لهذه عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم في محالَّ مختلفة، بحيث لا يشك أحد في صدقها بعد تضافر الثقات على روايتها.
ومن ذلك تكثير الطعام ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم، روى أبو طلحة أنه عليه الصلاة والسلام أطعم ثمانين أو سبعين رجلاً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت إبطه، فأمر بها عليها الصلاة والسلام ففُتِّتت، وقال فيها ما شاء الله أن يقول.
وروى جابر أنه عليه الصلاة والسلام أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعَنَاق، وقال جابر: فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن بُرْمَتنا لَتَغِطُّ كما هي، وإن عجيننا ليخبز. وكان عليه الصلاة والسلام قد بصق في العجين والبرمة وبارك. وروى أبو أيوب أنه صنع لرسول الله وأبي بكر طعاماً يكفيهما، فأطعم منه عليه الصلاة والسلام مائة وثمانين رجلاً. وروى مثل ذلك كثير من الصحابة كعبد الرحمانبن أبي بكر، وسلمةبن الأكوع، وأبي هريرة، وعمربن الخطاب، وأنسبن مالك، رضوان الله عليهم أجمعين.
قصة حنين الجذع
ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام قصة حنين الجذع، قال جابربن عبد الله: كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العِشَار. وفي رواية أنس: حتى ارتجَّ المسجد لخواره. وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوه به. وفي رواية المطلب: وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت. زاد غيره: فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ هذا بكى لما فقد من الذكر». وزاد غيره: «والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم» فأمر به فدفن تحت المنبر. وهذا الحديث خرَّجه أهل الصحة، ورواه من الصحابة كثيرون، ورواه عنهم من التابعين ضِعفُهم، وبمن دون عدّتهم يقع العلم لمن عُنِيَ بهذا الباب، والله المثبِّت على الصواب.
إبراء المرضى، وذوي العاهات
ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام إبراء المرضى، وذوي العاهات، فقد أُصيبت يوم أُحُد عينُ قتادةبن النعمان حتى وقعت على وجنتيه، فردّها عليه الصلاة والسلام، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما، وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قَرد، فما ضرب عليه ولا قَاحَ، وأصاب ابن ملاعب الأَسِنَّةِ استسقاء، فبعث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذ بيده حَثْوَةً من الأرض، فتفل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها يرى أنه قد هُزىءَ به، فأتاه بها وهو على شَفًى، فشربها فشفاه الله. وتقدم حديث علي ورمده في غزوة خيبر، وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن عدّه، ورواه ثقات المسلمين الأعلام.
أما ما منحه الله إياه من إجابة دعواته، فروي عن أنسبن مالك، قال: قالت أمي أُمُّ سُلَيْمٍ: يا رسول الله خادمك أنس ادعُ الله له، فقال: «اللهمّ أكثر ماله وولده، وبارك له فيما آتيته». قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير، وإنَّ ولدي وولد ولدي ليُعادّون اليوم نحو المائة.
ودعا لعبد الرحمانبن عوف بالبركة، فكان نصيب كل زوجة من زوجاته الأربع من تركته ثمانين ألفاً، وتصدق مرّة بعِير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء، فتصدّق بها، وبما عليها، وبأقتابها، وأحلاسها.
ودعا لمعاوية بالتمكين في الأرض فنال الخلافة، ودعا لسعد بإجابة الدعوة، فما دعا على أحد إلا استجيب له، وتقدم دعاؤه لعمربن الخطاب أن يعزّ الإسلام به، وقال لأبي قتادة: «أفلحَ وجهك، اللهمّ بارك في شعره وبشره»، فمات وهو ابن سبعين سنة، كأنه ابن خمس عشرة، ودعواته عليه الصلاة والسلام المستجابة أكثر من أن تُحصى يطّلع عليها قارىء سيرتنا هذه.
أما ما أطلعه الله عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان، فعن حذيفة رضي الله عنه، قال: قام فينا رسولُ الله مقاماً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاّ حدّثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، وما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سمَّاه لنا باسمه، واسم أبيه، واسم قبيلته. وقد خرَّج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه، وفتح مكة، وبيت المقدس، واليمن، والشام، والعراق، وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة، لا تخاف إلا الله، وأنّ المدينة ستُغزى، وتُفتح خيبر على يد علي في غد يومه، وما يفتح الله على أمّته من الدنيا، ويُؤْتَون من زهرتها، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وقد قدمنا كثيراً من ذلك في هذه السيرة، وقدّمنا ما في القرآن من ذلك، وهذا يُغنينا عن الإطالة في هذا المقام فحسبك ما سمعت.
ومما ينير بصيرتك ــــ أيها القارىء ــــ ما مَنّ الله به على رسولنا من عصمته له من الناس، وكفايته من آذاه، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48)، وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36)، وقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ(95) وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) صرف حُجَّابه، وقال: «انصرفوا فقد عصمني الله». وقدّمنا حديث دُعثور وإرادته قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وعصمة الله لنبيّنا، وذكرنا كثيراً مما حصل من أبي جهل لما أراد بالرسول المكايد، فكفاه الله شرّه، وما منّ الله به عليه ليلة الهجرة، وحديث سُراقة في الطريق، وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه عليه الصلاة والسلام مكث بين أعداء ألدّاء بمكة ثلاث عشرة سنة، وبين مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين. فما تمكن أحد من إيصال أذى إليه صلى الله عليه وسلم، بل كفاه مولاه شرّ أعدائه حتى أظهر الدين وتمّمه.