خَاتِمَةٌ فِيْ ذِكْرِ أَحْوَالِ بَعْضِ النِسَاءِ
االعودة إلي كتاب عقود اللجين للنووي البنتني
محتويات
خَاتِمَةٌ فِيْ ذِكْرِ أَحْوَالِ بَعْضِ النِسَاءِ
(اعْلَمْ أَنَّهُ) أي الشأن (قَدْ غَلَبَ) أي كثر (عَلَى النِّسَاءِ فِيْ هَذَا الزَّمَانِ التَّبَرُّجُ) أي إبراز الزينة وإبراو المحاسن للرجال (وَ قِلَّةُ الْحَيَاءِ) أي عدم الحياء، بأن تمشي بين الرجال، فذلك التبرج كما قاله مجاهد (وَالْمَشْيُ بِالتَغَنُّجِ) أي التدلل والتكسر كماقاله مجاهد وقتادة في تفسير التبرج (فِيْ جُمُوْعَاتِ الرِّجَالِ وَ الأَسْوَاقِ وَ فِيْ الْمَسَاجِدِ بِيْنَ الصُّفُوْفِ خُصُوْصًا فِيْ النَهَارِ، وَ إِنْ كَانَ) أي مشيها (لَيْلاً قَرِبَتْ) أي المرأة (الْضَّوْءَ) فقَرِبَ إن كان من باب سَمِعَ فهو متعدّ كما هنا، وإن كان من باب كَرُمَ فهو لازم كما في القاموس (لإِظْهَارِ زِيْنَتِهَا لِلنَّاسِ.
وَقَدْ قِيْلَ: إِذَا ظَهَرَ فِيْ امْرَأَةٍ ثَلاَثُ خِصَالٍ تُسَمَّى) تلك المرأة (قَحْبَةً) أي مغنية فاسقة زانية، الأولى (خُرُوْجُهَا فِيْ النَهَار مُتَبَرِّجَةً) أي مبرزة للزينة والمحاسن ماشيةً بين الرجال (وَ) الثانية (نَظَرُهَا إِلَى) الرجال (الأَجَانِبِ، وَ) الثالثة (رَفْعُ صَوْتِهَا حَيْثُ تُسْمِعَ) أي المرأة الرجال (الأَجَانِبَ) ذلك الصوت (وَلَوْ كَانَتْ صَالِحَةً) أي عفيفة (لأَنَّهَا شَبَّهَتْ نَفْسَهَا الْخَبِيْثَةَ) أي الفاجرة، ولا يراد بذلك الإسم الشتم، لأنها جعل كاللقب.
(وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصْطَفَى) صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ) أي في لبسهم وبعض أفعالهم (فَهُوَ مِنْهُمْ) أي من تشبه بالصالحين يكرم كما يكرمون، ومن تشبه بالفساق لم يكرم. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن من تشبه من الجان بالحيات المؤذيات وظهر لنا فإنه يقتل، وأنه لا يجوز في زماننا لبس العماة الصفراء أو الزرقاء إذا كان مسلما. رواه ابن رسلان وأبوداود عن ابن عمر، والطبراني عن حذيفة.
(حَاشَا) مصدر منصوب بفعل مخذوف، والتقدير أحاشي حاشا كماقاله الشيخ خالد أي أنزه تنزيها (أَنْ تَرْضَى امْرَأَةٌ ذَاتُ حَيَاءٍ وَ دِيْنٍ بِهَذَا الاِسْمِ) أي الذي هو قحبة (عَلَى نَفْسِهَا، فَيَنْبَغِى) أي يجب (لِمَنْ يَخَافُ اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَمَنْ لَهُ مُرُوْءَةٌ) بفتح الميم وضمها بالهمز وتركه مع إبدالها واوا، وهي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات (اَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهُ) أي زوجته وبناته (مِنَ الْخُرُوْجِ مِنَ الْبُيُوْتِ مُتَبَرِّجَاتٍ) أي مظهرات للزينة والمحاسن للرجال. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {قَد أَذِنَ لَهُنَّ فِيْ الأَعْيَادِ خَاصَّةً أَنْ يَخْرُجْنَ}. والخروج مباح للمرأة العفيفة برضا زوجها، ولكن القعود أسلم. وينبغى أن لاتخرج إلا لمهمّ، فإذا خرجت فينبغى أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول: إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنةٌ فلا إذا لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجه، والنساء يخرجن متنقّبات. ولوكان وجوه الرجال
عورة في حق النساء لأُمِروا بالتنقب، أو مُنِعْنَ من الخروج إلا لضرورة.
(وَأَنْ يُبَالِغَ فِيْ حِفْظِهِنَّ خُصُوْصًا فِيْ هَذَا الزَمَانِ، وَلاَيُقَصِّرُ فِيْ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يُطِيْقُ) أي يقدر عليه (وَ لاَ يَأْذَنَ فِيْ الْخُرُوْجِ إلاَّ فِيْ اللَيْلِ مَعَ مَحْرَمٍ) بنسب أوغيره (أَوْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ) ولو إماءً (فَلاَ يَكْفِى عَبْدٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ، لأَنَّهَا الأَمَانَةَ فِيْ الْعَبِيْدِ نَادِرَةٌ) ولأنّ المرأة تستحي بحضرة مثلها ما لا يستحيه الذكر بحضرة مثله، ومن ثم لم تجز خلوة رجل بأمردين أو أكثر. ولايجوز للمرأة أن تخرج خارج السور ولو مع النسوة الثقات، أو إذن الزوج بل لابد من خروجه هو أو المحرم معها. فما يقع الأن من خروج النساء إلى المقابر التي خارج السور معصية يجب منعهن منه.
(وَحُكِيَ) أَنَّ امْرأةً من بَنِي تَيْمِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، كانتْ تَبِيْعُ السَمِنَ في الجاهليَّةِ، فأَتاها خَوَّاتُ بْنُ جُبَيرٍ الأَنْصَارِيّ فَسَاوَمَها فحَلَّت نِحْياً مَمْلُوْأً بِالسَمِنِ، فَقَالَ: أَمْسِكِيْهِ، حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ حلّ آخرَ، وَقَالَ لَهَا: أَمْسِكِيْهِ، فلما شَغَلَ يديها ساوَرَها حتى قضي ما أراد وهرَب، ثم أسلم خَوَّات، وشَهِد بَدْراً، فقال له رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "يَا خَوَّات كيف شِرَاؤُكَ ؟"، وتبسَّمَ رسولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسولَ اللهِ قد رَزَقَ اللهُ خَيْرًا، وَأُعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْحَوْرِ بعْدَ الكَوْرِ. أي من النُّقصان بعد الزيادة.
{وحكي} أن رجلا من أشراف أهل الهند اشترى غلاما فرباه وتبناه، فلما كبر اشتد به هوى مولاته فراودها عن نفسها، فأجابتها، فدخل مولاه يوما فإذا هو على صدر مولاته فعمد إليه فجب ذكره ثم ندم على ذلك، فعالجه إلى أن برئ من علته، فأقام الغلام بعدها مدة يطلب أن يأخذ ثأره من مولاه. وكان لمولاه ابنان، أحدهما طفل والآخر يافع، كأنهما الشمس والقمر، فغاب الرجل يوما عن منزله لبعض الأمور، فأخذ الأسود الصبيين فصعد بهما على ذروة سطح، وجعل يطعمهما ويلعب معهما إلى أن دخل مولاه، فرفع رأسه فرأى ابنيه في شاهق مع الغلام، فقال: "ويلك، عرضت ابني للموت"، قال: أجل، لئن لم تجب ذكرك مثل ما جببتني لأرمينّ بهما، فقال: الله الله، يا ولدي في تربيتي لك، قال: "دع هذا عنك"، فجعل يكرر عليه وهو لا يقبل ذلك، فلما أراد الرجل الصعود إليه أدلاهما الأسود من ذلك الشاهق، فقال الرجل: "ويلك، اصبر حتى أخرج مدية، وأفعل ما أردتَ"، ثم أخذ مدية وجبّ ذكره وهو يراه، فلما رأى الأسود ذلك رمى الصبيين من ذلك الشاهق فماتا، وقال: "إن جبك ثأري وقتل أولادك زيادة فيه".
(وَإِذَا كَانَ) أي الأمر (كَذَلِكَ) أي المذكور (فَيُمْنَعُ الْعَبْدُ والسَقَّاءُ) بفتح السين والقاف المشددة، وهو من يملأ الجرة من الماء (مِنْ دُخُوْلِهِ) أي كل منهما (عَلَى النِسَاءِ إِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا) أي العبد والمرأة أو هي والسقّاء (خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً، لأَنَّ عَامَّةَ الفِتْنَةِ بِهِمْ، وَحِفْظُ النَسْلِ) أي الولد (مِنْ أَعْظَمِ الأُمُوْرِ. وَ) قال الغزالي (فِيْ الإحْياءِ: قَالَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَغَيُّوْرٌ وَمَا مِنِْ امْرِئٍ لاَ يَغَارُ إِلاَّ مَنْكُوْسُ القَلْبِ") والطريق المغنى عن الغيرة أن لا يدخل عليها الرجال وهي لا تخرج الأسواق. وقال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ. وَإِنّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ. وَغَيْرَةُ اللّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرّمَ عَلَيْهِ}. رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أبي هريرة.
(وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُوْلُ: "أَلاَ تَسْتَحْيُوْنَ أَلاَ تَغَارُوْنَ، يَتْرُكُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ تَخْرُجُ بَيْنَ الرِجَالِ، تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُوْنَ إِلَيْهَا"). وقال علي رضي الله عنه: {لاَ تُكْثِرْ الغَيْرَةَ عَلَى أَهْلِكَ، فَتَرْمِى بِالسُوْءِ مِنْ أَجْلِكَ}. فقوله: "يترك" بمعنى يجعل، وقوله: "امرأته" مفعل أول، وجملة قوله: "تخرج" مفعول ثان. وقال عليه السلام: {إِنَّ مِنَ الغَيْرَةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يَبْغَضُهُ اللهُ. وَمِنَ الخُيَلاَءِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يَبْغَضُهُ اللهُ. فأمَّا الغَيْرَةُ التي يُحِبَّهَا اللهُ فالغَيْرَةُ فِيْ الرِيْبَة ِ، وَالغَيْرَةُ التِيْ يَبْغَضُهَا اللهُ فَالغَيْرَةُ فِيْ غَيْرِ رِيْبَةٍ. وَالاخْتِيَالُ الذِيْ يُحِبُّهُ اللهُ اخْتِيَالُ الرَجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ القِتَالِ وَعِنْدَ الصَدَقَةِ وَالاخْتِيَالُ الذِيْ يَبْغَضُهُ اللهُ َالاخْتِيَالُ فِيْ البَاطِلِ}.
(أَمَّا زَمَانُنَا) هذا (إِذَا خَرَجَتْ) أي المرأة (مِنْ بَيْتِهَا، فَهَذَا) أي الرجل (يَغْمزُ بِعَيْنِهِ) أي يشير إليها بعينه وحاجبه ويُجُّسها بيده (وَهَذَا) أي الرجل (يَقْبِصُ بِيَدِهِ) والقبص بالصاد المهملة: التناول بأطراف الأصابع (وَهَذَا) أي الرجل (يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ فَاحِشٍ لاَ يَرْضَاهُ) أي ذلك الكلام (ذُوْ دِيْنٍ لأَهْلِهِ) أي زوجاته وبناته وأتباعه (وَلاَ امْرَاَةٌ صَالِحَةٌ. وَقَالَ) أحمد بن محمد بن علي (ابْنُ حَجَرٍ) في الزواجر عن اقتراف الكبائر (إِذَا اضْطُرَّتْ امْرَأَةٌ لِلْخُرُوْجِ لِزِيَارَةِ وَالِدٍ) أي مثلا (خَرَجَتْ، لَكِنْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ) أي غير مظهرة للزينة والمحاسن للرجال وحال كونها (فِيْ مِلْحَفَةٍ) بكسر الميم، وهي الملاءة التي تلتحف بها المرأة (وَسِخَةٍ) بكسر السين، إسم فاعل (وَثِيَابٍ بِذْلَةٍ) بكسر الباء على الأفصح، والفتح لغة وهي الممهنة (وَتَغُضُّ طَرِفَهَا) بكسر الراء (فِيْ مَشْيِهَا، وَلاَ تَنْظُرُ) أي المرأة (يَمِيْنًا وَلاَ شِمَالاً، وَإِلاَّ) تكن كذلك، بأن خالفت المذكور (كَانَتْ عَاصِيَةً) لله ولرسوله ولزوجها.
(وَ) حكي أنه (مَاتَتْ امْرَأَةٌ مُتَبَرِّجَةٌ) أي مبرزة للزينة ماشية بين الرجال (فَرَآهَا بَعْضُ أَهْلِهَا فِيْ النَوْمِ وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى اللهِ فِيْ ثِيَابٍ رُقَاقٍ) بضم الراء (فَهَبَّتْ رِيْحٌ فَكَشَفَتْهَا فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهَا، وَقَالَ خُذُوْا بِهَا ذَات الشِّمَالِ) أي ناحيته (إِلَى النَارِ، فَإِنَّهَا) أي هذه المرأة (كَانَتْ مِنَ المتَبَرِّجَاتِ) أي المبرزات للزينة والمسنات للمشي (فِيْ الدُنْيَا.
(وَحُكِيَ أَنَّهُ) أي الشأن (لَمَّا مَاتَ زَوْجُ الوَلِيَّةِ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اسْتَأْذَنَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ) وهو من أكبر التابعين (وَأَصْحَابُهُ) رضي الله عنهم في الدخول (فَأَذِنَتْ) أي رابعة (لَهُمْ بِالدُخُوْلِ وَأَرْخَتْ) أي أرسلت رابعة (سِتْرًا) بكسر السين، وهو ما يستر به (وَجَلَسَتْ وَرَاءَ السِتْرِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ: "إِنَّهُ) أي الشأن (قَدْ مَاتَ بَعْلُكِ، فَاخْتَارِيْ مِنْ هَؤُلاَءِ الزُهَّادِ مَنْ شِئْتِ". فَقَالَتْ: "نَعَمْ، حُبًّا وَكَرَامَةً، وَلَكِنْ) سألتكم (مَنْ أَعْلَمُكُمْ حَتَّى أُزَوِّجَهُ) أي الأعلم (نَفْسِيْ" ؟. فَقَالُوْا) أي أصحاب الحسن: أعلمنا ("الْحَسَنُ البَصْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ"، فَقَالَتْ) أي رابعة ("إِنْ أَجَبْتَنِيْ عَنْ أَربَعَةِ مَسَائِلَ فَأَنَا زَوْجَةٌ لَكَ"، فَقَالَ) أي الحسن ("اسْأَلِيْ إِنْ وَفَّقَنِيْ اللهُ) أي أقدرني على الجواب (أَجَبْتُكِ". فَقَالَتْ: "مَا تَقُوْلُ لَوْ مُتُّ، خَرَجْتُ مِنَ الدُنْيَا مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً" ؟، قَالَ) أي الحسن ("هَذَا) أي معرفة الخروج مع تلك الصفة (غَيْبٌ") عن الخلق (فَقَالَتْ: "مَا تَقُوْلُ إِذَا وُضِعْتُ فِيْ قَبْريْ وَسَأَلَنِيْ مُنْكَرٌ وَ نَكِيْر، أَأَقْدِرُ عَلَى جَوَابِهَا أَمْ لاَ" ؟، فَقَالَ: "هَذَا) أي معرفة قدرة الجواب لسؤالهما أم لا (أَيْضًا) أي كما غاب ما تقدم (غَيْبٌ". فَقَالَتْ: "إِذَا حُشِرَ النَّاسُ) في الموقف (يَوْمَ القِيَامَةِ وَتَطَايَرَتِْ الكُتُبُ) أي كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة الحفظة من خزانة تحت العرش بتطيير الريح إياها بأمر الله تعالى وتلتصق بعنق صاحبها ثم تأخذها الملائكة من الأعناق ليعطوها لصاحبها (فَيُعْطَى بَعْضُهُمْ الكِتَابَ) أي كتاب أعماله (بِيَمِيْنِهِ) أي من أمامه وهو المؤمن المطيع (وَبَعْضُهُمْ بِشِمَالِهِ) من وراء ظهره وهو الكافر (أَأُعْطِيَ كِتَابِيْ بِيَمِيْنِيْ أَمْ بِشِمَالِيْ" ؟، فَقَالَ: "هَذَا) أي معرفة إعطاء الكتب (أَيْضًا غَيْبٌ". فَقَالَتْ: "إِذَا نُوْدِيَ فِيْ القِيَامَةِ فَرِيْقٌ فِيْ الجَنَةِ وَ فَرِيْقٌ فِيْ السَعِيْرِ، أَأَكُوْنُ مِنْ أَهْلِ الجَنَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَارِ ؟"، فَقَالَ) أي الحسن ("هَذَا) أي معرفة كونكِ من أهل الجنة أو من أهل النار (غَيْبٌ أَيْضًا") أي كما غاب ما تقدم (فَقَالَتْ) أي رابعة ("أَمَنْ لَهُ هَمُّ هَذِهِ الأَرْبَعَةِ يَحْتَاجُ إِلَى زَوْجٍ ؟، أَويَتَفَرَّغُ إِلَى اخْتِيَارِ زَوْجٍ" ؟.
فَانْظُرُوْا) أي أيها السامعون (إِلَى هَذِهِ العَابِدَةِ الزَاهِدَةِ، كَيْفَ خَافَتْ) أي هذه العابدة، وهي رابعة البصرية (خَاتِمَتَهَا ؟. وَمَا هَذَا) أي الخوف (إِلاّ بِصَفَاءِ قَلْبِهَا مِنْ كُدُوْرَاتِهَا، وَرُسُوْخِ) أي ثبوت (حِكْمَتِهَا) أي علمها المصاحب للعمل.
روي عن بعض الصالحين قال: كان لرابعة العدوية أحوال شتى، فكانت مرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها الانس، ومرة يغلب عليها الخوف. وقال زوجها: جلست يوما من الأيام آكل وهي جالسة بجانبي فقعدت تُذكّر أهوالَ يوم القيامة، فقلت: "دعينا نتهنأ بطعامنا"، فقالت: "لست أنا وأنت ممن ينغص عليه الطعام بذكر الآخرة"، ثم قالت: "والله، إني لست أحبك حب الأزواج، إنما أحبك حب الإخوان". وكانت إذا طبخت قِدْرا قالت كله: "ياسيدي فما يصح جسمي إلا بالتسبيح". ثم قالت لي: "اذهب فتزوج". فتزوّجتُ بثلاث نساء، فكانت تطعمني اللحم وتقول: "اذهب بقوتك إلى أهلك". وكنت تأتيها الجن بكل ما نطلب. وكان لها كرامات كثيرة حتى ماتت.
فمنها ما حكي: أن لِصًّا دخل بيت رابعة العدوية، وهي نائمة، فجمع أمتعة البيت وهمّ بالخروج من الباب، فخفي عليه الباب، فقعد ينتظر الباب، وإذا هاتف يقول: "ضع الثياب واخرج من الباب"، فوضع الثياب فظهر له الباب فعلمه، ثم أخذ الثياب فخفي عليه الباب، فوضعها فظهرله الباب، فأخذها فخفي، وهكذا ثلاث مرات أو أكثر. فناداه الهاتف: إن كانت رابعة قد نامت فالحبيب لا ينام، ولاتأخذه سِنَةٌ ولا نوم. فوضع الثياب وخرج من الباب.
(وَكَانَتْ المَرْأَةُ الصَالِحَةُ إِذَا وَقَعَ) أي حصل (مِنْهَا زَلّةٌ) أي خطأ في المنطق أو الفعل (فِيْ زَوْجِهَا نَدِمَتْ) بكسر الدال وتابت (حَالاًّ) أي بسرعة (وَاسْتَعْطَفَتْ) أي طلبت (رِضَاهُ) أي الزوج بالتلطف (وَتَبْكِى) أي هذه المرأة (أَيَّامًا) عديدة (خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى) على زلتها (وَتَقُوْلُ) أي تلك المرأة (لِزَوْجِهَا إِذَا رَأَتْهُ مَهْمُوْمًا) أي محزونا (إِنْ كَانَ اهْتِمَامُكَ) أي إغتمامك (لأَمْرِ الآخِرَةِ فَطُوْبَى) أي العيش الطيب أو الخير الكثير (لَكَ، وَإِنْ كَانَ) اهتمامك (لأَمْرِ الدُنْيَا، فَأَنَا لاَ نُكَلِّفُكَ مَالاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ) فالكاف مفعول أول، وما مفعول ثان.
(وَ) حُكي أنه (كَانَتْ رَابِعَةُ) بنتُ إسماعيل (الشَّامِيَّةُ) نسبةٌ إلى الشام (امْرَأَةُ) أبي الحسين (أَحْمَدَ بْنِ أَبِيْ الحَوَارِي) من أهل دِمَشْقَ. وكان الجنيد يقول: أحمد بن أبي الحواري رَيحانةُ الشام (تُطْعِمُهُ الطَعَامَ الطَّيِّبَ) أي المستلذ (وَتُطَيِّبُهُ) أي تضمخه بالطيب (وَتَقُوْلُ لَهُ) أي للشيخ أحمد (اذْهَبْ بِنَشَاطِكَ) أي بخفتك وإسراعك (وَقُوَّتِكَ إِلَى أَهْلِكَ) وزوجاتك (وَكَانَ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا) أي رابعة أي كان له ثلاث نسوة غيرها. وكانت رابعة هذه تشبه في أهل الشام رابعة العدوية بالبصرة (وَكَانَتْ) أي رابعة هذه إذا كان بعد صلاة العشاء (تَطَيَّبَتْ) أي استعملت الطيب (وَلَبِسَتْ ثِيَابَهَا) أي التي للمباشرة (وَأَتَتْ إِلَى فِرَاشِهِ) أي الشيخ أحمد (فَقَالَتْ: "أَلَكَ حَاجَةٌ ؟") في نفسي بالمباشرة أم لا (فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ كَانَتْ مَعَهُ) إلى أن يرضى عنها (وَإِلاَّ) تكن له حاجة (نَزَعَتْ ثِيَابَهَا) التي كانت عليها، وهي أفخر الثياب، ولبست ثيابا أُخر للعبادة (وَانْتَصَبَتْ) أي ثبتت (فِيْ مُصَلاَّهَا حَتَّى تُصْبِحَ) أي تدخل في الصباح.
(وَكَانَتْ هِيَ) أي رابعة بنت إسماعيل (دَعَتْ ابْنَ أَبِي الحَوَارِي إِلَى التَزَوُّجِ بِهَا، لأَنَّهُ) أي الشأن (كَانَ لَهَا) أي رابعة (زَوْجٌ قَبْلَهُ) أي أحمد بن أبي الحواري (فَمَاتَ) أي الزوج الأول (عَنْهَا) أي رابعة (وَوَرِثَتْ مِنْهُ) أي الزوج (مَالاً) جزيلا (فَأَرَادَتْ) أي رابعة (مِنْ ابْنِ أَبِيْ الحَوَارِي أَنْ يَتَصَدَّى) أي يتوجه (لإِنْفَاقِ ذَلِكَ المَالِ عَلَى أَهْلِ الدِيْنِ وَ الخَيْرِ فِيْ إِطْعَامٍ وَنَحْوِهِ، لأَنَّ الرَجُلَ أَوْفَقُ) أي أصلح (لِذَلِكَ) أي الإنفاق (والمَرْأَةُ أَقْوَمُ) أي أعدل (بِهِ) أي بذلك الإنفاق (فَلِذَلِكَ) أي الغرض المذكور (دَعَتْهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا) وكان أحمد أوّلاً كره التزوج لما خطبته رابعة لما كان فيه من العبادة، وقال لها: "والله مالي همة في النساء لشغلي بحالي". فقالت: " إني لأشغل بحالي منكَ، ومالي شهوة، ولكن ورثتُ مالا جزيلا من زوجي، فأردت أن تنفقه على إخوانك، وأعرف بك الصالحين، فيكون لي طريق إلى الله تعالى. فقال: "حتى أستأذن أستاذي". فرجع إلى أبي سليمان الداراني. قال: "وكان ينهاني عن التزوج، ويقول: ما تزوج أحد من أصحابه إلا تعير". فلما سمع أبو سليمان كلامها قال لابن أبي الحواري: تزوج بها، فإنها ولية.
(وَأَخْبَارُ النِسَاءِ الصَالِحَاتِ فِيْ زَمَنِ السَلَفِ) أي المتقدمين (مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ كَثِيْرَةٌ).
{حكي} عن بعضهم: أنه قال: عندنا رجل حداد كان يدخل يده في النار، ويخرج بها الحديد المحمي ولا تمسه النار، فقصده رجل لينظر صدق ذلك لأمر، وسأل عن الحداد. فلما رآه يصنع كما وصف له أمهله الرجل، حتى فرغ من صنعته، فأتاه وسلم عليه، فردّ عليه السلام. فقال له الرجل: "إني ضيفك في هذه الليلة". فقال: "الحداد حبا وكرامة"، فمضى به إلى منزله، وتعشى معه، وبات وهو معه، فلم يزد على فرضه، ونام إلى الصبح. فقال الرجل في نفسه: "لعله استتر مني في هذه الليلة". فبات عنده ثاني ليلة، وهو على حاله، لايزيد على الفرض.فقال له الرجل: "يا أخي، إني سمعت ما أكرمك الله به، ورأيته ظاهرا عليك، ثم نظرت، فما رأيت منك كثرة عمل، ولم تزد على فرضك. فمن أين لك هذه المرتبة ؟". فقال له الحداد: "يا أخي، إنه كان لي حديث عجيب وأمر غريب، وذلك أنه كان لي جارة جميلة، وكنت بها مولعا، فراودتها عن نفسها مرارا عديدة، فلم أقدر عليها لاعتصامها بالورع، فجاءت سنة قحط، وعدم تالطعام وعم الجوع الأنام، فبينما أنا يوما من الأيام جالس ببيتي إذا بقارع يقرع الباب فخرجت لأنظر إليه، فإذا بها واقفة بالباب، فقالت: "يا أخي، أصابني جوع شديد، فهل لك أن تطعمني لله ؟". فقلت لها: "أما تعلمين ما أنا فيه من حبك، فما أطعمك إلاّ إن مكنتني من نفسك". فقالت: "الموت، ولا معصية مع الله". ومضت إلى منزلها. فلما كانت بعد يومين عادت إليّ، وقالت لي كالمرة الأولى، فأجبتها مثل جوابي الأول، فدخلت وقعدت في البيت وقد أشرفت على الهلاك، فلما جعلت الطعام بين يديها ذرفت عيناها بالدموع، ثم قالت: "هذا لله"، فقلت: "لأن تمكنيني من نفسك". فقامت ولم تأكل منه شيئا وخرجت من عندي إلى منزلها. فلما كان بعد يومين إذا بها تقرع الباب، فخرجت إليها، وهي واقفة بالباب، وقد قطع الجوع صوتها وقصم ظهرها فقالت: "يا أخي، أعيتني الحيل ولم أقدر على التوجه لأحد غيرك، فهل لك أن تطعمني لله ؟". فقلت: "نعم، إن مكنتني من نفسك". فأطرقت رأسها ساعة، ثم دخلت وقعدت في البيت، ولم يكن عندي طعام، فقمت وأضرمت النار وصنعت لها طعاما. فلما وضعته بين يديها تداركني لطف الله تعالى، وقلت في نفسي: "ويحك يا هذا، انّ هذه امرأة ناقصة عقل ودين تمتنع من طعام لا قدرة لها عليه، وهي تتردد المرة بعد المرة من ألم الجوع، وأنت لا تنتهى عن معصية الله تعالى". ثم قلت: اللهم إني تائب إليك مما كان مني. إني لا أقربها في معصية أبدا، فدخلتُ إليها فقلت لها: "كلي ولا روع عليك فإنه لله تعالى". فلما سمعتْ ذلك رفعتْ رأسها إلى السماء، وقالت: "اللهم إن كان صادقا فحرّم عليه النار في الدنيا والآخرة. قال: فتركتُها تأكل، وقمت لأزيل النار. وكان ذلك في زمان الشتاء، فوقعت جمرة على قدمي فلم تحرقني. فدخلت إليها، وأنا فرح مسرور. وقلت: "أبشري، فإن الله تعالى أجاب دعاءك". فرمت اللقمة من يدها، وسجدت شكرا لله تعالى، وقالت: "اللهم أريتني في هذا الرجل، فاقبض روحي هذه الساعة". فقبض الله روحها وهي ساجدة. وهذا حيثي يا أخي والله أعلم.
{وحكي} أن امرأة خرجت من بيتها لتسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فرآها رجل شاب في الطريق فقال لها: "يا حرمة أين قصدك ؟"، فقالت: "أنا قاصدة النبي صلى الله عليه وسلم، أجلس عنده وأسمع كلامه المليح". فقال لها الشاب: "هل تحبينه ؟". قالت: "نعم، أحبه". فقال لها: "بحق حبه عليك، ارفعي نقابك حتى أنظر وجهك". فلما حلفها بحب النبي صلى الله عليه وسلم كشفت له عن وجهها فرآه. ثم إنها لما رجعت أخبرت زوجها بما جرى لها مع الشاب، فلما سمع زوجها كلامها تغير خاطره، وقال في نفسه: "لابد من أن أعلم صدقها من كذبها لأرتاح منها، ولا بد من أن أمتحنها". فأوقد لها تنورا، وهو المحل الذي يقمر فيه الخبز على هيئة الجرة وصبر عليه حتى اشتد لهيبها، ثم قال لها: "بحق النبي صلى الله عليه وسلم، ادخُلِيْ التنور". فلما حلفها بحق النبي صلى الله عليه وسلم ألقتْ نفسَها فيه، وهونت بروحها، لكونها صادقة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رآها زوجها وقعت في التنور وغطست فيه حزن عليها، وعلم أنها صادقة في قولها. فذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما جرى لزوجته. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع واكشف عنها التنور، فرجع وكشف عنها النار فوجدها سالمة وقد بلها العرق كأنها في حمام أي مغتسل بالماء الحار.
(اللهمَّ أَصْلِحْنَا) في جميع أمورنا (وَأَصْلِحْ أَهْلِيْنَا) أي أقاربنا وأتباعنا (وَذَرَارِيْنَا) أي أولادنا (وَجَمِيْع ِالمُسْلِمِيْنَ) في جميع أمورهم (والْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَْ) ختم المصنف كتابه بالحمدلة كما ختم أهلُ الجنة دعائهم بها. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالرضوان الأكبر، وبالنعمة السابغة، فبذلك تتم السعادات. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله نفوز بالجنات. والصلاة والسلام على سيد السادات، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والزوجات، ما دامت الأرض والسموات. والحمدلله وحده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
{قال مؤلفه}: قد تم هذا الكتاب بعون الملك الجليل في وقت الضحى نهار الأحد في السابع والعشرين من شهرالله المحرم سنة ألف ومأئتين وأربع وتسعين على يد الحقير محمد بن عمر بن عربي بن على. تاب الله عليهم. آمـين.