علاج حكة الجسم وما يولد القمل
كتاب الطب النبوي لابن القيم الجوزية
محتويات
- صل: في علاج عرق النسا
- فصل: في علاج يبس الطبع
- فصل: في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
- فصل: في علاج القمل الذي في الرأس وإزالته
- في علاج ذات الجنب
- فصل: في علاج الصداع والشقيقة
- فصل : التداوي بالحناء
- فصل: في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه
- فصل: ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم
- فصل: في دفع ضرر الأغذية والفاكهة
- فصل: في الحمية
- فصل: ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرًا مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح
- فصل: في علاج الرمد بالسكون
- االعودة إلي كتاب الطب النبوي لابن القيم
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج عرق النسا
روى ابن ماجه في سننه من حديث محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء).
عرق النساء: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدته، زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ، وهذا الحديث فيه معنى لغوي، ومعنى طبي. فأما المعنى اللغوي، فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافًا لمن منع هذه التسمية، وقال: النسا هو العرق نفسه، فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين. أحدهما: أن العرق أعم من النسا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كل الدراهم أو بعضها.
الثاني: أن النسا: هو المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه. قيل: وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي: فقد تقدم أن كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نوعان: أحدهما: عام بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثاني: خاص بحسب هذه الأمور أو بضعها، وهذا من هذا القسم، فإن هذا خطاب للعرب، وأهل الحجاز، ومن جاورهم، ولا سيما أعراب البوادي، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح، والقيصوم، ونحوهما، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان، صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها، ويكسبها مزاجًا ألطف منها، ولا سيما الألية، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة، وعليه أطباء الهند.
وأما الروم واليونان، فيعتنون بالمركبة، وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء، فإن عجز فبالمفرد، فإن عجز، فبما كان أقل تركيبًا.
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة، فالأدوية البسيطة تناسبها، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة، فغالبًا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركبة، والله تعالى أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج يبس الطبع
واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بماذا كنت تستمشين؟ قالت: بالشبرم، قال: حار جار، قالت: ثم استمشيت بالسنا، فقال: لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا).
وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: سمعت عبد الله بن أم حرام، وكان قد صلى مع رسول الله ـ صلى الله وسلم ـ القبلتين يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (عليكم بالسنا والسنوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام، قيل: يا رسول الله ! وما السام؟ قال: الموت).
قوله: بماذا كنت تستمشين؟ أي: تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذي باحتباس النجو، ولهذا سمي الدواء المسهل مشيًا على وزن فعيل. وقيل: لأن المسهول يكثر المشي والإختلاف للحاجة وقد روي: بماذا تستشفين؟ فقالت: بالشبرم، وهو من جملة الأدوية اليتوعية، وهو قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وأجوده المائل إلى الحمرة، الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف، وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها، وفرط إسهالها.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حار جار ويروى: حار يار، قال أبو عبيد: وأكثر كلامهم بالياء. قلت: وفيه قولان، أحدهما: أن الحار الجار بالجيم: الشديد الإسهال، فوصفه بالحرارة، وشدة الإسهال وكذلك هو، قاله أبو حنيفة الدينوري.
والثاني ـ وهو الصواب ـ أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول، ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي، ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه، كقولهم: حسن بسن، أي: كامل الحسن، وقولهم: حسن قسن بالقاف، ومنه شيطان ليطان، وحار جار، مع أن في الجار معنى آخر، وهو الذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له، كأنه ينزعه ويسلخه. ويار: إما لغة في جار، كقولهم: صهري وصهريج، والصهاري والصهاريج، وإما إتباع مستقل.
وأما السنا، ففيه لغتان: المد والقصر، وهو نبت حجازي أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الإعتدال، حار يابس فى الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء، ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه، وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي، ومن الشقاق العارض في البدن، ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر، ومن القمل والصداع العتيق، والجرب، والبثور، والحكة، والصرع، وشرب مائه مطبوخًا أصلح من شربه مدقوقًا، ومقدار الشربة منه ثلاثة دراهم، ومن مائه خمسة دراهم، وإن طبخ معه شيء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم، كان أصلح.
قال الرازي: السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكة، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم.
وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال، أحدها: أنه العسل. والثاني: أنه رب عكة السمن يخرج خططًا سوداء على السمن، حكاهما عمرو بن بكر السكسكي. الثالث: أنه حب يشبه الكمون وليس به، قاله ابن الأعرابي.
الرابع: أنه الكمون الكرماني. الخامس: أنه الرازيانج. حكاهما أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب. السادس: أنه الشبت. السابع: أنه التمر حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ. الثامن: أنه العسل الذي يكون في زقاق السمن، حكاه عبد اللطيف البغدادي. قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب، أي: يخلط السناء مدقوقًا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردًا لما في العسل والسمن من إصلاح السنا، وإعانته له على الإسهال. والله أعلم.
وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه: (إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي) والمشي: هو الذي يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
في الصحيحين من حديث قتادة، (عن أنس بن مالك قال: رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكة كانت بهما).
وفي رواية: (أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما، شكوا القمل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزاة لهما، فرخص لهما في قمص الحرير، ورأيته عليهما).
هذا الحديث يتعلق به أمران: أحدهما: فقهي، والآخر طبي.
فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إباحة الحرير للنساء مطلقًا، وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ومصلحة راجحة، فالحاجة إما من شدة البرد، ولا يجد غيره، أو لا يجد سترة سواه. ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحكة، وكثرة القمل كما دل عليه حديث أنس هذا الصحيح.
والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمد، وأصح قولي الشافعي، إذ الأصل عدم التخصيص، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعم بعموم سببه.
ومن منع منه، قال: أحاديث التحريم عامة، وأحاديث الرخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير، ويحتمل تعديها إلى غيرهما. وإذا احتمل الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث: فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما، أم لا؟
والصحيح: عموم الرخصة، فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح بالتخصيص، وعدم إلحاق غير من رخص له أولًا به، كقوله لأبي بردة في تضحيته بالجذعة من المعز: (تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك) وكقوله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نكاح من وهبت نفسها له: (خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50].
وتحريم الحرير: إنما كان سدًا للذريعة، ولهذا أبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع، فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سدًا لذريعة الفعل، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سدًا لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حرم ربا الفضل سدًا لذريقة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير
فصل: وأما الأمر الطبي
فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان، ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية، لأن مخرجه من الحيوان، وهو كثير المنافع، جليل الموقع، ومن خاصيته تقوية القلب، وتفريحه، والنفع من كثير من أمراضه، ومن غلبة المرة السوداء، والأدواء الحادثة عنها، وهو مقو للبصر إذا اكتحل به، والخام منه ـ وهو المستعمل في صناعة الطب ـ حار يابس في الدرجة الأولى. وقيل: حار رطب فيها: وقيل: معتدل. وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخنًا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه.
قال الرازي: الإبريسم أسخن من الكتان، وأبرد من القطن، يربى اللحم، وكل لباس خشن، فإنه يهزل، ويصلب البشرة وبالعكس. قلت: والملابس ثلاثة أقسام: قسم يسخن البدن ويدفئه، وقسم يدفئه ولا يسخنه، وقسم لا يسخنه ولا يدفئه، وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه، إذ ما يسخنه فهو أولى بتدفئته، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ، و ملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتان باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه.
قال صاحب المنهاج: ولبسه لا يسخن كالقطن، بل هو معتدل، كل لباس أملس صقيل، فإنه أقل إسخانًا للبدن، وأقل عونًا في تحلل ما يتحلل منه، وأحرى أن يلبس في الصيف، وفي البلاد الحارة. ولما كانت ثياب الحرير كذلك، وليس فيها شيء من اليبس والخشونة الكائين في غيرها، صارت نافعة من الحكة، إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة، وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها، إذ كان مزاجها مخالفًا لمزاج ما يتولد منه القمل.
وأما القسم الذي لا يدفئ ولا يسخن، فالمتخذ من الحديد والرصاص، والخشب والتراب، ونحوها، فإن قيل: فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن، فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي أباحت الطيبات، وحرمت الخبائث؟
قيل: هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف المسلمين بجواب، فمنكرو الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال.
ومثبتو التعليل والحكم ـ وهم الأكثرون ـ منهم من يجيب عن هذا بأن الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه، وتتركه لله، فتثاب على ذلك لا سيما ولها عوض عنه بغيره.
ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء، كالحلية بالذهب، فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء، ومنهم من قال: حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب. ومنهم من قال: حرم لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتخنث، وضد الشهامة والرجولة، فإن لبسه يكسب القلب صفة من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث والتأنث، والرخاوة ما لا يخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولية ورجولية، فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها، وإن لم يذهبها، ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا، فليسلم للشارع الحكيم، ولهذا كان أصح القولين: أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث.
وقد روى النسائي من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب، وحرمه على ذكورها). وفي لفظ: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم).
وفي صحيح البخاري عن حذيفة قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه، وقال: (و لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة).
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج القمل الذي في الرأس وإزالته
في الصحيحين عن كعب بن عجرة، قال: كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقمل يتناثر على وجهي، فقال: (ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى)، وفي رواية: فأمره أن يحلق رأسه، وأن يطعم فرقًا بين ستة، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام.
القمل يتولد في الرأس والبدن من شيئين: خارج عن البدن وداخل فيه، فالخارج: الوسخ والدنر المتراكم في سطح الجسد، والثاني من خلط رديء عفن تدفعه الطبيعة بين الجلد واللحم، فيتعفن بالرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المسام، فيكون منه القمل، وأكثر ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام، وبسبب الأوساخ، وإنما كان في رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الاسباب التي تولد القمل، ولذلك حلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رؤوس بني جعفر. ومن أكبر علاجه حلق الرأس لتنفتح مسام الأبخرة، فتتصاعد الأبخرة الرديئة، فتضعف مادة الخلط، ويبنغي أن يطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القمل، وتمنع تولده.
وحلق الرأس ثلاثة أنواع: أحدها: نسك وقربة. والثاني: بدعة وشرك، والثالث: حاجة ودواء، فالأول: الحلق في أحد النسكين، الحج أو العمرة. والثاني: حلق الرأس لغير الله سبحانه، كما يحلقها المريدون لشيوخهم، فيقول أحدهم: أنا حلقت رأسي لفلان، وأنت حلقته لفلان، وهذا بمنزلة أن يقول: سجدت لفلان، فإن حلق الرأس خضوع وعبودية وذل، ولهذا كان من تمام الحج، حتى إنه عند الشافعي ركن من أركانه لا يتم إلا به، فإنه وضع النواصي بين يدي ربها خضوعًا لعظمته، وتذللًا لعزته، وهو من أبلغ أنواع العبودية، ولهذا كانت العرب إذا أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه، حلقوا رأسه وأطلقوه، فجاء شيوخ الضلال، والمزاحمون للربوبية الذين أساس مشيختهم على الشرك والبدعة، فأرادوا من مريديهم أن يتعبدوا لهم، فزينوا لهم حلق رؤوسهم لهم، كما زينوا لهم السجود لهم، وسموه بغير اسمه، وقالوا: هو وضع الرأس بين يدي الشيخ، ولعمر الله إن السجود لله هو وضع الرأس بين يديه سبحانه، وزينوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذهم أربابًا وآلهة من دون الله، قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 79 ـ 80].
وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضًا ركع له كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منهم القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها. مخالفة صريحة له، فنهى عن السجود لغير الله وقال: (لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد). وأنكر على معاذ لما سجد له وقال: مه.
وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز العبودية لغير الله، وقد صح أنه قيل له: الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا . قيل: أيلتزمه ويقبله قال: لا . قيل: أيصافحه؟ قال: نعم.
وأيضًا: فالإنحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا} [البقرة: 58] أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه، وصح عنه النهي عن القيام، وهو جالس، كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا، حتى منع من ذلك في الصلاة، وأمرهم إذا صلى جالسًا أن يصلوا جلوسًا، وهم أصحاء لا عذر لهم، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس، مع أن قيامهم لله، فكيف إذا كان القيام تعظيمًا وعبودية لغيره سبحانه.
والمقصود: أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصلاة، وحلفت بغيره، ونذرت لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لغير بيته، وعظمته بالحب، والخوف، والرجاء، والطاعة، كما يعظم الخالق، بل أشد، وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل، وهم الذين بربهم يعدلون، وهم الذين يقولون ـ وهم في النار مع آلهتهم يختصمون ـ: {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} [الشعراء: 98]. وهم الذين قال فيهم: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165]، وهذا كله من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به. فهذا فصل معترض في هديه في حلق الرأس، ولعله أهم مما قصد الكلام فيه، والله الموفق.
في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج ذات الجنب
روى الترمذي في جامعه من حديث زيد بن أرقم، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت).
وذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي. فالحقيقي: ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع. وغير الحقيقى: ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات، فتحدث وجعًا قريبًا من وجع ذات الجنب الحقيقي، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود، وفي الحقيقي ناخس.
قال صاحب القانون: قد يعرض في الجنب، والصفاقات، والعضل التي في الصدر، والأضلاع، ونواحيها أورام مؤذية جدًا موجعة، تسمى شوصة وبرسامًا، وذات الجنب. وقد تكون أيضًا أوجاعًا في هذه الأعضاء ليست من ورم، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العلة، ولا تكون منها. قال: واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقًا من مكان الألم، لأن معنى ذات الجنب صاحبة الجنب، والغرض به ها هنا وجع الجنب، فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه، وعليه حمل كلام بقراط في قوله: إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام. قيل: المراد به كل من به وجع جنب، أو وجع رئة من سوء مزاج، أو من أخلاط غليظة، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى.
قال بعض الأطباء: وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان، فهو ورم الجنب الحار، وكذلك ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة، وإنما سمي ذات الجنب ورم ذلك العضو إذا كان ورمًا حارًا فقط.
ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض: وهي الحمى والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفس، والنبض المنشاري.
العلاج الموجود في الحديث، ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة، فإن القسط البحري ـ وهو العود الهندي على ما جاء مفسرًا في أحاديث أخر ـ صنف من القسط إذا دق دقًا ناعمًا، وخلط بالزيت المسخن، ودلك به مكان الريح المذكور، أو لعق، كان دواء موافقًا لذلك، نافعًا له، محللًا لمادته، مذهبًا لها، مقويًا للأعضاء الباطنة، مفتحًا للسدد، والعود المذكور في منافعه كذلك.
قال المسبحي: العود: حار يابس، قابض يحبس البطن، ويقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، ويفتح السدد، نافع من ذات الجنب، ويذهب فضل الرطوبة، والعود المذكور جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضًا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة، والله أعلم.
وذات الجنب: من الأمراض الخطرة، وفي الحديث الصحيح: عن أم سلمة، أنها قالت: بدأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمرضه في بيت ميمونة، وكان كلما خف عليه، خرج وصلى بالناس، وكان كلما وجد ثقلًا قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، واشتد شكواه حتى غمر عليه من شدة الوجع، فاجتمع عنده نساؤه، وعمه العباس، وأم الفضل بنت الحارث وأسماء بنت عميس، فتشاوروا في لده، فلدوه وهو مغمور، فلما أفاق قال: (من فعل بي هذا، هذا من عمل نساء جئن من ها هنا، وأشار بيده إلى أرض الحبشة، وكانت أم سلمة وأسماء لدتاه، فقالوا: يا رسول الله ! خشينا أن يكون بك ذات الجنب. قال: فبم لددتموني؟ قالوا: بالعود الهندي، وشيء من ورس، وقطرات من زيت. فقال: ما كان الله ليقذفني بذلك الداء، ثم قال: عزمت عليكم أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس).
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: لددنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأشار أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: (ألم أنهكم أن تلدوني، لا يبقى منكم أحد إلا لد غير عمي العباس، فإنه لم يشهدكم).
قال أبو عبيد عن الأصمعي: اللدود: ما يسقى الإنسان في أحد شقي الفم، أخذ من لديدي الوادي، وهما جانباه. وأما الوجور: فهو في وسط الفم.
قلت: واللدود ـ بالفتح: ـ هو الدواء الذي يلد به. والسعوط: ما أدخل من أنفه.
وفي هذا الحديث من الفقه معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء، إذا لم يكن فعله محرمًا لحق الله، وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلًا قد ذكرناها في موضع آخر، وهو منصوص أحمد وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين، وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة، وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة، فيتعين القول بها.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الصداع والشقيقة
روى ابن ماجه في سننه حديثًا في صحته نظر: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا صدع، غلف رأسه بالحناء، ويقول: (إنه نافع بإذن الله من الصداع).
الصداع ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد شقي الرأس لازمًا يسمى شقيقة، وإن كان شاملًا لجميعه لازمًا، يسمى بيضة وخودة تشبيهًا ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله، وربما كان في مؤخر الرأس أو في مقدمه.
أنواعه كثيرة، وأسبابه مختلفة. وحقيقة الصداع سخونة الرأس، واحتماؤه لما دار فيه من البخار يطلب النفوذ من الرأس، فلا يجد منفذًا فيصدعه كما يصدع الوعي إذا حمي ما فيه وطلب النفوذ، فكل شيء رطب إذا حمي، طلب مكانًا أوسع من مكانه الذي كان فيه، فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله بحيث لا يمكنه التفشي والتحلل، وجال في الرأس، سمي السدر.
والصداع يكون عن أسباب عديدة:
أحدها: من غلبة واحد من الطبائع الأربعة.
الخامس: يكون من قروح تكون في المعدة، فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة.
السادس: من ريح غليظة تكون في المعدة، فتصعد إلى الرأس فتصدعه.
السابع: يكون من ورم في عروق المعدة، فيألم الرأس بألم المعدة للاتصال الذي بينهما.
الثامن: صداع يحصل عن امتلاء المعدة من الطعام، ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئًا، فيصدع الرأس ويثقله.
التاسع: يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم، فيصل إليه من حر الهواء أكثر من قدره.
العاشر: صداع يحصل بعد القئ والاستفراغ، إما لغلبة اليبس، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه.
الحادي عشر: صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء.
الثاني عشر: ما يعرض عن شدة البرد، وتكاثف الأبخرة في الرأس وعدم تحللها.
الثالث عشر: ما يحدث من السهر وعدم النوم.
الرابع عشر: ما يحدث من ضغط الرأس وحمل الشيء الثقيل عليه.
الخامس عشر: ما يحدث من كثرة الكلام، فتضعف قوة الدماغ لأجله.
السادس عشر: ما يحدث من كثرة الحركة والرياضة المفرطة.
السابع عشر: ما يحدث من الأعراض النفسانية، كالهموم، والغموم، والأحزان، والوساوس، والأفكار الرديئة.
الثامن عشر: ما يحدث من شدة الجوع، فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه.
التاسع عشر: ما يحدث عن ورم في صفاق الدماغ، ويجد صاحبه كأنه يضرب بالمطارق على رأسه.
العشرون: ما يحدث بسبب الحمى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم، والله أعلم.
سبب صداع الشقيقة
مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها، أو مرتقية إليها، فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه، وتلك المادة إما بخارية، وإما أخلاط حارة أو باردة، وعلامتها الخاصة بها ضربان الشرايين، وخاصة في الدموي. وإذا ضبطت بالعصائب، ومنعت من الضربان، سكن الوجع.
وقد ذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي له: أن هذا النواع كان يصيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمكث اليوم واليومين، ولا يخرج.
وفيه: عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد عصب رأسه بعصابة.
وفي الصحيح، أنه قال في مرض موته: (وارأساه) وكان يعصب رأسه في مرضه، وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.
علاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه
فمنه ما علاجه بالإستفراغ، ومنه ما علاجه بتناول الغذاء، ومنه ما علاجه بالسكون والدعة، ومنه ما علاجه بالضمادات، ومنه ما علاجه بالتبريد، ومنه ما علاجه بالتسخين، ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات.
إذا عرف هذا، فعلاج الصداع في هذا الحديث بالحناء، هو جزئي لا كلي، وهو علاج نوع من أنواعه، فإن الصداع إذا كان من حرارة ملهبة، ولم يكن من مادة يجب استفراغها، نفع فيه الحناء نفعًا ظاهرًا، وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل، سكن الصداع، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به، سكنت أوجاعه، وهذا لا يختص بوجع الرأس، بل يعم الأعضاء، وفيه قبض تشد به الأعضاء، وإذا ضمد به موضع الورم الحار والملتهب، سكنه.
وقد روى البخاري في تاريخه وأبو داود في السنن أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما شكى إليه أحد وجعًا في رأسه إلا قال له: (احتجم)، ولا شكى إليه وجعًا في رجليه إلا قال له: (اختضب بالحناء).
وفي الترمذي: عن سلمى أم رافع خادمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: كان لا يصيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء
فصل : التداوي بالحناء
شجر الحناء وأغصانها مركبة من قوة محللة اكتسبتها من جوهر فيها مائي، حار باعتدال، ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضي بارد.
ومن منافعه أنه محلل نافع من حرق النار، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به، وينفع إذا مضغ، من قروح الفم والسلاق العارض فيه، ويبرئ القلاع الحادث في أفواه الصبيان، والضماد به ينفع من الأورام الحارة الملهبة، ويفعل في الجراحات فهل دم الأخوين. وإذا خلط نوره مع الشمع المصفى، ودهن الورد، ينفع من أوجاع الجنب. ومن خواصه أنه إذا بدأ الخدري يخرج بصبي، فخضبت أسافل رجليه بحناء، فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شيء منه، وهذا صحيح مجرب لا شك فيه. وإذا جعل نوره بين طي ثياب الصوف طيبها، ومنع السوس عنها، وإذا نقع ورقه في ماء يغمره، ثم عصر وشرب من صفوه أربعين يومًا كل يوم عشرون درهمًا مع عشرة دراهم سكر، ويغذى عليه بلحم الضأن الصغير، فإنه ينفع من ابتداء الجذام بخاصية فيه عجيبة.
وحكي أن رجلًا تشققت أظافير أصابع يده، وأنه بذل لمن يبرئه مالًا، فلم يجد، فوصفت له امرأة، أن يشرب عشرة أيام حناء، فلم يقدم عليه، ثم نقعه بماء وشربه، فبرأ ورجعت أظافيره إلى حسنها.
الحناء إذا ألزمت به الأظفار معجونًا حسنها ونفعها، وإذا عجن بالسمن وضمد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر، نفعها ونفع من الجرب المتقرح المزمن منفعة بليغة، وهو ينبت الشعر ويقويه، ويحسنه، ويقوي الرأس، وينفع من النفاطات، والبثور العارضة في الساقين والرجلين، وسائر البدن.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه
من الطعام والشراب، وأنهم لا يكرهون على تناولهما روى الترمذي في جامعه، وابن ماجه، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله ـ عز وجل ـ يطعمهم ويسقيهم).
قال بعض فضلاء الأطباء: ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية، لا سيما للأطباء، ولمن يعالج المرضى، وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض، أو لسقوط شهوته، أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها، وكيفما كان، فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة.
واعلم أن الجوع إنا هو طلب الأعضاء للغذاء لتخلف الطبيعة به عليها عوض ما يتحلل منها، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهي الجذب الى المعدة، فيحس الإنسان بالجوع، فيطلب الغذاء، وإذا وجد المرض، اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء، أو الشراب، فإذا أكره المريض على استعمال شيء من ذلك، تعطلت به الطبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه، فيكون ذلك سببًا لضرر المريض، ولا سيما في أوقات البحران، أو ضعف الحار الغريزي أو خموده، فيكون ذلك زيادة في البلية، وتعجيل النازلة المتوقعة، ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها من غير استعمال مزعج للطبيعة البتة، وذلك يكون بما لطف قوامه من الأشربة والأغذية، واعتدل مزاجه كشراب اللينوفر، والتفاح، والورد الطري، وما أشبه ذلك، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط، وإنعاش قواه بالأراييح العطرة الموافقة، والأخبار السارة، فإن الطبيب خادم الطبيعة، ومعينها لا معيقها.
واعلم أن الدم الجيد هو المغذي للبدن، وأن البلغم دم فج قد نضج بعض النضج، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير، وعدم الغذاء، عطفت الطبيعة عليه، وطبخته، وأنضجته، وصيرته دمًا، وغذت به الأعضاء، واكتفت به عما سواه، والطبيعة هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته، وحراسته مدة حياته.
واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب، وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل، وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص، أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل، ومعنى الحديث: أن المريض قد يعيش بلا غذاء أيامًا لا يعيش الصحيح في مثلها.
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (فإن الله يطعمهم ويسقيهم) معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح، وتأثيرها في طبيعة البدن، وانفعال الطبيعة عنها، كما تنفعل هي كثيرًا عن الطبيعة، ونحن نشير إليه إشارة، فنقول: النفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف، اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب، فلا تحس بجوع ولا عطش، بل ولا حر ولا برد، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم، فلا تحس به، وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئًا منه، وإذا اشتغلت النفس بما دهمها، وورد عليها، لم تحس بألم الجوع، فإن كان الوارد مفرحًا قوي التفريح، قام لها مقام الغذاء، فشبعت به، وانتعشت قواها، وتضاعفت، وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه، فيشرق وجهه، وتظهر دمويته، فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب، فينبعث في العروق، فتمتلئ به، فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها، وإلى الطبيعة منه، والطبيعة إذا ظفرت بما تحب، آثرته على ما هو دونه.
وإن كان الوارد مؤلمًا أو محزنًا أو مخوفًا، اشتغلت بمحاربته وققاومته ومدافعته عن طلب الغذاء، فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب. فإن ظفرت في هذا الحرب، انتعشت قواها، وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة، انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك، وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالًا، فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى، وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين، والنصر للغالب، والمغلوب إما قتيل، وإما جريح، وإما أسير.
فالمريض: له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدًا على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه ـ عز وجل ـ فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربًا من ربه، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه، ورحمة ربه عندئذ قريبة منه، فإن كان وليًا له، حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته، وتنتعش به قواه أعظم من قوتها، وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قوي إيمانه وحبه لربه، وأنسه به، وفرحه به، وقوي يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه، ولا يدركه وصف طبيب، ولا يناله علمه.
ومن غلظ طبعه، وكثفت نفسه عن فهم هذا والتصديق به، فلينظر حال كثير من عشاق الصور الذين قد امتلأت قلوبهم بحب ما يعشقونه من صورة، أو جاه، أو مال، أو علم، وقد شاهد الناس من هذا عجائب في أنفسهم وفي غيرهم.
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يواصل في الصيام الأيام ذوات العدد، وينهى أصحابه عن الوصال ويقول: (لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني).
ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الإنسان بفمه، وإلا لم يكن مواصلًا، ولم يتحقق الفرق، بل لم يكن صائمًا، فإنه قال: (أظل يطعمني ربي ويسقيني).
وأيضًا فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال، وأنه يقدر منه على ما لا يقدرون عليه، فلو كان يأكل ويشرب بفمه، لم يقل لست كهيئتكم، وإنما فهم هذا من الحديث من قل نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب، وتأثيره في القوة وإنعاشها، واغتذائها به فوق تأثير الغذاء الجسماني، والله الموفق.
فصل: ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم
فيكون الحديث من العام المخصوص، ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد، وتلك التربة الخاصة من كل سم، ولكن ها هنا أمر لا بد من بيانه، وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله، واعتقاد النفع به، فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العلة، حتى إن كثيرًا من المعالجات ينفع بالإعتقاد، وحسن القبول، وكمال التلقي، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له، وتفرح النفس به، فتنتعش القوة، ويقوى سلطان الطبيعة، وينبعث الحار الغريزي، فيساعد على دفع المؤذي، وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعًا لتلك العلة، فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه، وعدم أخذ الطبيعة له بالقبول، فلا يجدي عليها شيئًا. واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأشفية، وأنفعها للقلوب والأبدان، والمعاش والمعاد، والدنيا والآخرة، وهو القرآن الذي هو شفاء من كل داء، كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع، بل لا يزيدها إلا مرضًا إلى مرضها، وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقمًا إلا أبرأه، ويحفظ عليها صحتها المطلقة، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر، ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك، وعدم استعماله، والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به، وغلبت العوائد، واشتد الإعراض، وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب، وتربى المرضى والاطباء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم، ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم، فعظم المصاب، واستحكم الداء، وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها، وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها، وقويت، ولسان الحال ينادي عليهم:
ومـــن العجــائب والعجــائب جمة ** قـرب الشفاء وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دفع ضرر الأغذية والفاكهة
وإصلاحها بما يدفع ضررها، ويقوي نفعها ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن جعفر، قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل الرطب بالقثاء. والرطب: حار رطب في الثانية، يقوي المعدة الباردة، ويوافقها، ويزيد في الباه، ولكنه سريع التعفن، معطش معكر للدم، مصدع مولد للسدد، ووجع المثانة، ومضر بالأسنان، والقثاء بارد رطب في الثانية، مسكن للعطش، منعش للقوى بشمه لما فيه من العطرية، مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة، وإذا جفف بزره، ودق واستحلب بالماء، وشرب، سكن العطش، وأدر البول، ونفع من وجع المثانة. وإذا دق ونخل، ودلك به الأسنان، جلاها، وإذا دق ورقه وعمل منه ضماد مع الميبختج، نفع من عضة الكلب الكلب. وبالجملة: فهذا حار، وهذا بارد، وفي كل منهما صلاح للآخر، وإزالة لأكثر ضرره، ومقاومة كل كيفية بضدها، ودفع سورتها بالأخرى، وهذا أصل العلاج كله، وهو أصل في حفظ الصحة، بل علم الطب كله يستفاد من هذا. وفي استعمال ذلك وأمثاله في الأغذية والأدوية إصلاح لها وتعديل، ودفع لما فيها من الكيفيات المضرة لما يقابلها، وفي ذلك عون على صحة البدن، وقوته وخصبه، قالت عائشة رضي الله عنها: سمنوني بكل شيء، فلم أسمن، فسمنوني بالقثاء والرطب، فسمنت.
وبالجملة: فدفع ضرر البارد بالحار، والحار بالبارد، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وتعديل أحدهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات، وحفظ الصحة، ونظير هذا ما تقدم من أمره بالسنا والسنوت، وهو العسل الذي فيه شيء من السمن يصلح به السنا، ويعدله، فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والأبدان، وبمصالح الدنيا والآخرة.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحمية
الدواء كله شيئان: حمية وحفظ صحة. فإذا وقع التخليط، احتيج إلى الاستفراغ الموافق، وكذلك مدار الطب كله على هذه القواعد الثلاثة. والحمية: حميتان: حمية عما يجلب المرض، وحمية عما يزيده، فيقف على حاله، فالأول: حمية الأصحاء. والثانية: حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى، وقف مرضه عن التزايد، وأخذت القوى في دفعه. والأصل في الحمية قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43، المائدة:6]، فحمى المريض من استعمال الماء، لأنه يضره.
وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية، قالت: (دخل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه علي، وعلي ناقه من مرض، ولنا دوالي معلقة، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل منها، وقام علي يأكل منها، فطفق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لعلي: إنك ناقة حتى كف. قالت: وصنعت شعيرًا وسلقًا، فجئت به، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي: من هذا أصب، فإنه أنفع لك) وفي لفظ فقال: (من هذا فأصب، فإنه أوفق لك).
وفي سنن ابن ماجه أيضًا عن صهيب قال: (قدمت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين يديه خبز وتمر، فقال: ادن فكل، فأخذت تمرًا فأكلت، فقال: أتأكل تمرًا وبك رمد؟ فقلت: يا رسول الله ! أمضع من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ).
وفي حديث محفوظ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله إذا أحب عبدًا، حماه من الدنيا، كما يحمي أحدكم مريضه عن الطعام والشراب). وفي لفظ: (إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا).
وأما الحديث الدائر على ألسنة كثير من الناس: الحمية رأس الدواء، والمعدة بيت الداء، وعودوا كل جسم ما اعتاد فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ولا يصح رفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله غير واحد من أئمة الحديث. ويذكر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أن المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا سقمت المعدة، صدرت العروق بالسقم).
وقال الحارث: رأس الطب الحمية، والحمية عندهم للصحيح في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض، فإن طبيعته لم ترجع بعد إلى قوتها، والقوة الهاضمة ضعيفة، والطبيعة قابلة، والأعضاء مستعدة، فتخليطه يوجب انتكاسها، وهو أصعب من ابتداء مرضه.
واعلم أن في رفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي من الأكل من الدوالي، وهو ناقه أحسن التدبير، فان الدوالي أقناء من الرطب تعلق في البيت للأكل بمنزلة عناقيد العنب، والفاكهة تضر بالناقه من المرض لسرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن بعد من قوتها، وهي مشغولة بدفع آثار العلة، وإزالتها من البدن.
وفي الرطب خاصة نوع ثقل على المعدة، فتشتغل بمعالجته وإصلاحه عما هي بصدده من إزالة المرض وآثاره، فإما أن تقف تلك البقية، وإما أن تتزايد، فلما وضح بين يديه السلق والشعير، أمره أن يصيب منه، فإنه من أنفع الأغذية للناقه، فإن في ماء الشعير من التبريد والتغذية، والتلطيف والتليين، وتقوية الطبيعة ما هو أصلح للناقه، ولا سيما إذا طبخ بأصول السلق، فهذا من أوفق الغذاء لمن في معدته ضعف، ولا يتولد عنه من الأخلاط ما يخاف منه.
وقال زيد بن أسلم: حمى عمر ـ رضي الله عنه ـ مريضًا له، حتى إنه من شدة ما حماه كان يمص النوى.
وبالجملة: فالحمية من أنفع الأدوية قبل الداء، فتمنع حصوله، وإذا حصل، فتمنع تزايده وانتشاره.
فصل: ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرًا مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح
إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشيء اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه، لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة، وتدفعه من الدواء، ولهذا أقر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صهيبًا وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة، وعلم أنها لا تضره، ومن هذا ما يروى عن علي أنه دخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أرمد، وبين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمر يأكله، فقال: (يا علي ! تشتهيه؟ ورمى إليه بتمرة، ثم بأخرى حتى رمى إليه سبعًا، ثم قال: حسبك يا علي). ومن هذا ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد رجلًا فقال له: (ما تشتهي؟ فقال: أشتهي خبز بر. وفي لفظ: أشتهي كعكًا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من كان عنده خبز بر فيبعث إلى أخيه ثم قال: إذا اشتهى مريض أحدكم شيئًا، فليطعمه). ففي هذا الحديث سر طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي، وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررًا مما لا يشتهيه، وإن كان نافعًا في نفسه، فإن صدق شهوته، ومحبة الطبيعة يدفع ضرره، وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع، قد يجلب لها منه ضررًا. وبالجملة: فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية، فتهضمه على أحمد الوجوه، سيما عند انبعاث النفس إليه بصدق الشهوة، وصحة القوة، والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الرمد بالسكون
والدعة، وترك الحركة، والحمية مما يهيج الرمد وقد تقدم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حمى صهيبًا من التمر، وأنكر عليه أكله، وهو أرمد، وحمى عليًا من الرطب لما أصابه الرمد. وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها.
الرمد : ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط الأربعة، أو ريح حارة تكثر كميتها في الرأس والبدن، فينبعث منها قسط إلى جوهر العين، أو ضربة تصيب العين، فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقدارًا كثيرًا تروم بذلك شفاءها مما عرض لها، ولأجل ذلك يرم العضو المضروب، والقياس يوجب ضده. واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجو بخاران، أحدهما: حار يابس، والآخر: حار رطب، فينعقدان سحابًا متراكمًا، ويمنعان أبصارنا من إدراك السماء، فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك، فيمنعان النظر، ويتولد عنهما علل شتى، فإن قويت الطبيعة على ذلك ودفعته إلى الخياشيم، أحدث الزكام، وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخناق، وإن دفعته إلى الجنب، أحدث الشوصة، وإن دفعته إلى الصدر، أحدث النزلة، وإن انحدر إلى القلب، أحدث الخبطة، وإن دفعته إلى العين أحدث رمدًا، وإن انحدر إلى الجوف، أحدث السيلان، وإن دفعته إلى منازل الدماغ أحدث النسيان، وإن ترطبت أوعية الدماغ منه، وامتلأت به عروقه أحدث النوم الشديد، ولذلك كان النوم رطبًا، والسهر يابسًا. وإن طلب البخار النفوذ من الرأس، فلم يقدر عليه، أعقبه الصداع والسهر، وإن مال البخار إلى أحد شقي الرأس، أعقبه الشقيقة، وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة. أعقبه داء البيضة، وإن برد منه حجاب الدماغ، أو سخن، أو ترطب وهاجت منه أرياح، أحدث العطاس، وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزي، أحدث الإغماء والسكات، وإن أهاج المرة السوداء حتى أظلم هواء الدماغ، أحدث الوسواس، وإن فاض ذلك إلى مجاري العصب، أحدث الصرع الطبيعي، وإن ترطبت مجامع عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه، أعقبه الفالج، وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ، أحدث البرسام، فإن شركه الصدر في ذلك، كان سرسامًا، فافهم هذا الفصل.
والمقصود: أن أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هائجة في حال الرمد، والجماع مما يزيد حركتها وثورانها، فإنه حركة كلية للبدن والروح والطبيعة. فأما البدن، فيسخن بالحركة لا محالة، والنفس تشتد حركتها طلبًا للذة واستكمالها، والروح تتحرك تبعًا لحركة النفس والبدن، فإن أول تعلق الروح من البدن بالقلب، ومنه ينشأ الروح، وتنبث في الأعضاء. وأما حركة الطبيعة، فلأجل أن ترسل ما يجب إرساله من المني على المقدار الذي يجب إرساله.
وبالجملة: فالجماع حركة كلية عامة يتحرك فيها البدن وقواه، وطبيعته وأخلاطه، والروح والنفس، فكل حركة فهى مثيرة للأخلاط مرققة لها توجب دفعها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة، والعين في حال رمدها أضعف ما تكون، فأضر ما عليها حركة الجماع.
قال بقراط في كتاب الفصول: وقد يدل ركوب السفن أن الحركة تثور الأبدان. هذا مع أن في الرمد منافع كثيرة، منها ما يستدعيه من الحمية والإستفراغ، وتنقية الرأس والبدن من فضلاتهما وعفوناتهما، والكف عما يؤذي النفس والبدن من الغضب، والهم والحزن، والحركات العنيفة، والأعمال الشاقة. وفي أثر سلفي: لا تكرهوا الرمد، فإنه يقطع عروق العمى.
ومن أسباب علاجه ملازمة السكون والراحة، وترك مس العين والاشتغال بها، فإن أضداد ذلك يوجب انصباب المواد إليها. وقد قال بعض السلف: مثل أصحاب محمد مثل العين، ودواء العين ترك مسها. وقد روي في حديث مرفوع، الله أعلم به: (علاج الرمد تقطير الماء البارد في العين) وهو من أنفع الأدوية للرمد الحار، فإن الماء دواء بارد يستعان به على إطفاء حرارة الرمد إذا كان حارًا، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لامرأته زينب وقد اشتكت عينها: لو فعلت كما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان خيرًا لك وأجدر أن تشفي، تنضحين في عينك الماء، ثم تقولين: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا). وهذا مما تقدم مرارًا أنه خاص ببعض البلاد، وبعض أوجاع العين، فلا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كليًا عامًا، ولا الكلي العام جزئيًا خاصًا، فيقع من الخطأ، وخلاف الصواب ما يقع، والله أعلم.