علاجات السحر الأدوية الإلهية وسحر اليهود
كتاب الطب النبوي لابن القيم الجوزية
محتويات
- فصل: في علاج الخدران الكلي
- فصل: في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب
- فصل: في علاج البثرة
- فصل: في علاج الأورام
- فصل: في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم
- فصل: في تغذية المريض
- في هديه في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود
- فصل: في علاج السحر الذي سحرته اليهود به
- فصل: ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية
- فصل: في الاستفراغ بالقيء
- فصل: ولما كانت الأخلاط فى البلاد الحارة
- فصل: والقيء ينقي المعدة ويقويها
- فصل: في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين
- فصل: في علاج المصاب بالعين
- فصل: والمقصود: العلاج النبوي لهذه العلة
- فصل: وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين
- فصل:أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره
- فصل: علاج ذلك أيضًا والاحتراز منه ستر محاسن
- فصل: ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي
- فصل: في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
- فصل: في رقية اللديغ بالفاتحة
- فصل: وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع
- فصل: في علاج الكرب والهم والغم والحزن
- فصل: في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
- االعودة إلي كتاب الطب النبوي لابن القيم
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الخدران الكلي
الذي يجمد معه البدن ذكر أبو عبيد في غريب الحديث من حديث أبي عثمان النهدي: أن قومًا مروا بشجرة فأكلوا منها، فكأنما مرت بهم ريح، فأجمدتهم، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (قرسوا الماء في الشنان، وصبوا عليهم فيما بين الأذانين)، ثم قال أبوعبيد: قرسوا: يعني بردوا. وقول الناس: قد قرس البرد، إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد. والشنان: الأسقية والقرب الخلقان، يقال للسقاء: شن، وللقربة: شنة. وإنما ذكر الشنان دون الجدد لأنها أشد تبريدًا للماء. وقوله: بين الأذانين، يعني أذان الفجر والإقامة، فسمى الإقامة أذانًا، انتهى كلامه.
قال بعض الأطباء: وهذا العلاج من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أفضل علاج هذا الداء إذا كان وقوعه بالحجاز، وهي بلاد حارة يابسة، والحار الغريزي ضعيف في بواطن سكانها، وصب الماء البارد عليهم في الوقت المذكور، وهو أبرد أوقات اليوم ـ يوجب جمع الحار الغريزي المنتشر في البدن الحامل لجميع قواه، فيقوي القوة الدافعة، ويجتمع من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محل ذاك الداء، ويستظهر بباقي القوى على دفع المرض المذكور، فيدفعه بإذن الله ـ عز وجل ـ ولو أن بقراط، أو جالينوس، أو غيرهما، وصف هذا الدواء لهذا الداء، لخضعت له الأطباء، وعجبوا من كمال معرفته.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب
وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء).
وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحد جناحي الذباب سم، والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام، فامقلوه، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء).
هذا الحديث فيه أمران: أمر فقهي، وأمر طبي، فأما الفقهي، فهو دليل ظاهر الدلالة جدًا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا ينجسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك. ووجه الإستدلال به أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بمقله، وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولا سيما إذا كان الطعام حارًا. فلو كان ينجسه لكان أمرًا بإفساد الطعام، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزنبور، والعنكبوت وأشباه ذلك، إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي لانتفاء سببه، فلما كان سجب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودًا فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.
ثم قال من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة: إذا كان هذا ثابتًا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعد عن الرطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا في غاية القوة، فالمصير إليه أولى. وأول من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة، فقال: ما لا نفس له سائلة، إبراهيم النخعي، وعنه تلقاها الفقهاء ـ والنفس في اللغة: يعبر بها عن الدم، ومنه نفست المرأة ـ بفتح النون ـ إذا حاضت، ونفست ـ بضمها ـ إذا ولدت. وأما المعنى الطبي، فقال أبو عبيد: معنى امقلوه: اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداء، يقال للرجلين: هما يتماقلان، إذا تغاطا في الماء.
واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم، والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية المادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.
وقد ذكر غير واحد من الأطباء أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب نفع منه نفعًا بينًا، وسكنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء، وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين المسمى شعرة بعد قطع رؤوس الذباب، أبرأه.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج البثرة
ذكر ابن السني في كتابه عن بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: (دخل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد خرج في أصبعي بثرة، فقال: عندك ذريرة؟ قلت: نعم. قال: ضعيها عليها وقولي: اللهم مصغر الكبير، ومكبر الصغير، صغر ما بي).
الذريرة: دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة، وهي حارة يابسة تنفع من أورام المعدة والكبد والاستسقاء، وتقوي القلب لطيبها، وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: طيبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.
والبثرة: خراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترق مكانًا من الجسد تخرج منه، فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها، والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك، فإن فيها إنضاجًا وإخراجًا مع طيب رائحتها، مع أن فيها تبريدًا للنارية التي في تلك المادة، وكذلك قال صاحب القانون: إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الأورام
والخرجات التي تبرأ بالبط والبزل يذكر عن علي أنه قال: دخلت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رجل يعوذه بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله ! بهذه مدة. قال: بطوا عنه، قال علي: فما برحت حتى بطت، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاهد. ويذكر عن أبي هريرة، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر طبيبًا أن يبط بطن رجل أجوى البطن، فقيل: يا رسول الله: هل ينفع الطب؟ قال: (الذي أنزل الداء، أنزل الشفاء، فيما شاء).
الورم: مادة في حجم العضو لفضل مادة غير طبيعية تنصب إليه، ويوجد في أجناس الأمراض كلها، والمواد التي تكون عنها من الأخلاط الأربعة، والمائية، والريح، وإذا اجتمع الورم سمي خراجًا، وكل ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء: إما تحلل، وإما جمع مدة، وإما استحالة إلى الصلابة. فإن كانت القوة قوية، استولت على مادة الورم وحللته، وهي أصلح الحالات التي يؤول حال الورم إليها، وإن كانت دون ذلك، أنضجت المادة، وأحالتها مدة بيضاء، وفتحت لها مكانًا أسالتها منه. وإن نقصت عن ذلك أحالت المادة مدة غير مستحكمة النضج، وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعها منه، فيخاف على العضو الفساد بطول لبثها فيه، فيحتاج حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبط، أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو.
وفي البط فائدتان: إحداهما: إخراج المادة الرديئة المفسدة.
والثانية: منع اجتماع مادة أخرى إليها تقويها.
وأما قوله في الحديث الثاني: (إنه أمر طبيبًا أن يبط بطن رجل أجوى البطن)، فالجوى يقال على معان منها: الماء المنتن الذي يكون في البطن يحدث عنه الاستسقاء. وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة، فمنعته طائفة منهم لخطره، وبعد السلامة معه، وجوزته طائفة أخرى، وقالت: لا علاج له سواه، وهذا عندهم إنما هو في الإستسقاء الزقي، فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع: طبلي، وهو الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضربت عليه سمع له صوت كصوت الطبل، ولحمي: وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء، وهو أصعب من الأول، وزقي: وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كخضخضة الماء في الزق، وهو أردأ أنواعه عند الأكثرين من الأطباء. وقالت طائفة: أردأ أنواعه اللحمي لعموم الآفة به. ومن جملة علاج الزقي إخراج ذلك بالبزل، ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق لإخراج الدم الفاسد، لكنه خطر كما تقدم، وإن ثبت هذا الحديث، فهو دليل على جواز بزله، والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم
روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا دخلتم على المريض، فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئًا، وهو يطيب نفس المريض).
وفي هذا الحديث نوع شريف جدًا من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعش به القوة، وينبعث به الحار الغريزي، فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غاية تأثير الطبيب.
وتفريح نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال ما يسره عليه، له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي، وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه، ويعظمونه، ورؤيتهم لهم، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم، وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم، فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد: نوع يرجع إلى المريض، ونوع يعود على العائد، ونوع يعود على أهل المريض، ونوع يعود على العامة. وقد تقدم في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه، ويضع يده على جبهته، وربما وضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه في علته، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه، وربما كان يقول للمريض: (لا بأس طهور إن شاء الله)، وهذا من كمال اللطف، وحسن العلاج والتدبير.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تغذية المريض
بألطف ما اعتاده من الأغذية في الصحيحين من حديث عروة عن عائشة، أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، واجتمع لذلك النساء، ثم تفرقن إلى أهلهن، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، وصنعت ثريدًا ثم صبت التلبينة عليه، ثم قالت: كلوا منها، فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن).
وفي السنن من حديث عائشة أيضًا قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (عليكم بالبغيض النافع التلبين)، قالت: وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه. يعني يبرأ أو يموت.
وعنها: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قيل له: إن فلانًا وجع لا يطعم الطعام، قال: (عليكم بالتلبينة فحسوه إياها)، ويقول: (والذي نفسي بيده إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ).
التلبين: هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن، ومنه اشتق إسمه، قال الهروي: سميت تلبينة لشبهها باللبن لبياضها ورقتها، وهذا الغذاء هو النافع للعليل، وهو الرقيق النضيج لا الغليظ النيء، وإذا شيءت أن تعرف فضل التلبينة، فاعرف فضل ماء الشعير، بل هي ماء الشعير لهم، فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحًا، والتلبينة تطبخ منه مطحونًا، وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن، وقد تقدم أن للعادات تأثيرًا في الإنتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونًا لا صحاحًا، وهو أكثر تغذية، وأقوى فعلًا، وأعظم جلاء، وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحًا ليكون أرق وألطف، فلا يثقل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها، وثقل ماء الشعير المطحون عليها. والمقصود : أن ماء الشعير مطبوخًا صحاحًا ينفذ سريعًا، ويجلو جلاء ظاهرًا، ويغذي غذاء لطيفًا. وإذا شرب حارًا كان جلاؤه أقوى، ونفوذه أسرع، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيها : (مجمة لفؤاد المريض) يروى بوجهين. بفتح الميم والجيم، وبضم الميم، وكسر الجيم، والأول: أشهر، ومعناه : أنها مريحة له، أي : تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة. وقوله : (تذهب ببعض الحزن) هذا - والله أعلم - لأن الغم والحزن يبردان المزاج، ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها، وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها، فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن. وقد يقال ـ وهو أقرب ـ : إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية، والله أعلم.
وقد يقال: إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء، وهذا الحساء يرطبها، ويقويها، ويغذيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريض كثيرًا ما يجتمع في معدته خلط مراري، أو بلغمي، أو صديدي، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه، ويحدره، ويميعه، ويعدل كيفيته، ويكسر سورته، فيريحها ولا سيما لمن عادته الإغتذاء بخبز الشعير، وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك، وكان هو غالب قوتهم، وكانت الحنطة عزيزة عندهم. والله أعلم.
في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود
ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: (أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاة مصلية بخيبر، فقال: ما هذه ؟ قالت: هدية، وحذرت أن تقول: من الصدقة، فلا يأكل منها، فأكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكل الصحابة، ثم قال: أمسكوا، ثم قال للمرأة: هل سممت هذه الشاة ؟ قالت: من أخبرك بهذا؟ قال: هذا العظم لساقها، وهو في يده؟ قالت: نعم. قال: لم؟ قالت: أردت إن كنت كاذبًا أن يستريح منك الناس، وإن كنت نبيًا، لم يضرك، قال: فاحتجم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة على الكاهل، وأمر أصحابه أن يحتجموا، فاحتجموا، فمات بعضهم). وفي طريق أخرى: واحتجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبي بياضة من الأنصار، وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه، فقال: (ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر حتى كان هذا أوان انقطاع الأبهر مني) فتوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهيدًا، قاله موسى بن عقبة.
معالجة السم تكون بالإستفراغات، وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها، وإما بخواصها، فمن عدم الدواء، فليبادر إلى الإستفراغ الكلي وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارًا، والزمان حارًا، فإن القوة السمية تسري إلى الدم، فتنبعث في العروق والمجاري حتى تصل إلى القلب، فيكون الهلاك، فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم، وأخرج الدم، خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته، فإن كان استفراغًا تامًا لم يضره السم، بل إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة، فتبطل فعله أو تضعفه.
ولما احتجم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ احتجم في الكاهل، وهو أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فخرجت الماده السمية مع الدم لا خروجًا كليًا، بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله سبحانه من تكميل مراتب الفضل كلها له، فلما أراد الله إكرامه بالشهادة، ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87]، فجاء بلفظ كذبتم بالماضي الذي قد وقع منه، وتحقق، وجاء بلفظ: تقتلون بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه، والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج السحر الذي سحرته اليهود به
قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا: لا يجوز هذا عليه، وظنوه نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنه ـا ـ أنها قالت: سحر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه، ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر.
قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنواع الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته، وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقة، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها، ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان.
المقصود: ذكر هديه في علاج هذا المرض، وقد روي عنه فيه نوعان:
أحدهما ـ وهو أبلغهما ـ: استخراجه وإبطاله، كما صح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سأل ربه سبحانه في ذلك، فدل عليه، فاستخرجه من بئر، فكان في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر، فلما استخرجه، ذهب ما به، حتى كأنما أنشط من عقال، فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ.
والنوع الثاني: الإستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر، فإن للسحر تأثيرًا في الطبيعة، وهيجان أخلاطها، وتشويش مزاجها، فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو، نفع جدًا.
وقد ذكر أبو عبيد في كتاب غريب الحديث له بإسناده، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ احتجم على رأسه بقرن حين طب. قال أبو عبيد: معنى طب: أي سحر.
وقد أشكل هذا على من قل علمه، وقال: ما للحجامة والسحر، وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء، ولو وجد هذا القائل أبقراط، أو ابن سينا، أو غيرهما قد نص على هذا العلاج، لتلقاه بالقبول والتسليم، وقال: قد نص عليه من لا يشك في معرفته وفضله.
فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.
والسحر: هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القوى الطبيعية عنها، وهو أشد ما يكون من السحر، ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه، واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي.
قال أبقراط: الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها.
وقالت طائفة من الناس: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أصيب بهذا الداء، وكان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدم منه، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له، وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة، فاحتجم، وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر، فلما جاءه الوحي من الله تعالى، وأخبره أنه قد سحر، عدل إلى العلاج الحقيقي وهو استخراج السحر وإبطاله، فسأل الله سبحانه، فدله على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أنشط من عقال، وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده، وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض، والله أعلم.
فصل: ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية
بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد، كانت أبلغ في القشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه. وعند السحرة: أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية.
وبالجملة: فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السفليات، قالوا: والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا بشيء كثير الإلتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والإلتفات، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها، فتجدها فارغة لا عدة معها، وفيها ميل إلى ما يناسبها، فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره، والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاستفراغ بالقيء
روى الترمذي في جامعه عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاء، فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه. قال الترمذي: وهذا أصح شيء في الباب.
القيء: أحد الإستفراغات الخمسة التي هي أصول الاستفراغ، وهي الإسهال، والقيء، وإخراج الدم، وخروج الأبخرة والعرق، وقد جاءت بها السنة.
فأما الإسهال: فقد مر في حديث (خير ما تداويتم به المشي) وفي حديث (السنا).
وأما إخراج الدم، فقد تقدم في أحاديث الحجامة.
وأما استفراغ الأبخرة، فذكره عقب هذا الفصل إن شاء الله.
وأما الإستفراغ بالعرق، فلا يكون غالبًا بالقصد، بل بدفع الطبيعة له إلى ظاهر الجسد، فيصادف المسام مفتحة، فيخرج منها.
والقيء استفراغ من أعلا المعدة، والحقنة من أسفلها، والدواء من أعلاها وأسفلها، والقيء: نوعان: نوع بالغلبة والهيجان، ونوع بالاستدعاء والطلب. فأما الأول: فلا يسوغ حبسه ودفعه إلا إذا أفرط وخيف منه التلف. فيقطع بالأشياء التي تمسكه. وأما الثاني: فأنفعه عند الحاجة إذا روعي زمانه وشروطه التي تذكر.
وأسباب القيء عشرة.
أحدها: غلبة المرة الصفراء، وطفوها على رأس المعدة، فتطلب الصعود.
الثاني: من غلبة بلغم لزج قد تحرك في المعدة، واحتاج إلى الخروج.
الثالث: أن يكون من ضعف المعدة في ذاتها، فلا تهضم الطعام، فتقذفه إلى جهة فوق.
الرابع: أن يخالطها خلط رديء ينصب إليها، فيسيء هضمها، ويضعف فعلها.
الخامس: أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المعدة، فتعجز عن إمساكه، فتطلب دفعه وقذفه.
السادس: أن يكون من عدم موافقة المأكول والمشروب لها، وكراهتها له، فتطلب دفعه وقذفه.
السابع: أن يحصل فيها ما يثور الطعام بكيفيته وطبيعته، فتقذف به.
الثامن: القرف، وهو موجب غثيان النفس وتهوعها.
التاسع: من الأعراض النفسانية، كالهم الشديد، والغم، والحزن، وغلبة اشتغال الطبيعة والقوى الطبيعية به، واهتمامها بوروده عن تدبير البدن، وإصلاح الغذاء، وإنضاجه، وهضمه، فتقذفه المعدة، وقد يكون لأجل تحرك الأخلاط عند تخبط النفس، فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه، ويؤثر في كيفيته.
العاشر: نقل الطبيعة بأن يرى من يتقيأ، فيغلبه هو القيء من غير استدعاء، فإن الطبيعة نقالة.
وأخبرني بعض حذاق الأطباء، قال: كان لي ابن أخت حذق في الكحل، فجلس كحالًا، فكان إذا فتح عين الرجل، ورأى الرمد وكحله، رمد هو، وتكرر ذلك منه، فترك الجلوس. قلت له: فما سبب ذلك؟ قال: نقل الطبيعة، فإنها نقالة، قال: وأعرف آخر، كان رأى خراجًا في موضع من جسم رجل يحكه، فحك هو ذلك الموضع، فخرجت فيه خراجة. قلت: وكل هذا لا بد فيه مناستعداد الطبيعة، وتكون المادة ساكنة فيها غير متحركة، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب، فهذه أسباب لتحرك المادة لا أنها هي الموجبة لهذا العارض.
فصل: ولما كانت الأخلاط فى البلاد الحارة
والأزمنة الحارة ترق وتنجذب إلى فوق، كان القيء فيها أنفع. ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلظ، ويصعب جذبها إلى فوق، كان استفراغها، بالإسهال أنفع. وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والإستفراغ، والجذب يكون من أبعد الطرق، والإستفراغ من أقربها، والفرق بينهما أن المادة إذا كانت عاملة في الإنصباب أو الترقي لم تستقر بعد، فهي محتاجة إلى الجذب، فإن كانت متصاعدة جذبت من أسفل، وإن كانت منصبة جذبت من فوق، وأما إذا اسقرت في موضعها، استفرغت من أقرب الطرق إليها، فمتى أضرت المادة بالأعضاء العليا، اجتذبت من أسفل، ومتى أضرت بالأعضاء السفلى، اجتذبت من فوق، ومتى استقرت، استفرغت من أقرب مكان إليها، ولهذا احتج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كاهله تارة، وفي رأسه أخرى، وعلى ظهر قدمه تارة، فكان يستفرغ مادة الدم المؤذي من أقرب مكان إليه. والله أعلم.
فصل: والقيء ينقي المعدة ويقويها
ويحد البصر، ويزيل ثقل الرأس، وينفع قروح الكلى، والمثانة، والامراض المزمنة كالجذام والاستسقاء، والفالج والرعشة، وينفع اليرقان. ويبنغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور، ليتدارك الثاني ما قصر عنه الأول، وينقي الفضلات التي انصبت بسببه، والإكثار منه يضر المعدة، ويجعلها قابلة للفضول، ويضر بالأسنان والبصر والسمع، وربما صدع عرقًا، ويجب أن يجتنبه من به ورم في الحلق، أو ضعف في الصدر، أو دقيق الرقبة، أو مستعد لنفث الدم، أو عسر الإجابة له.
وأما ما يفعله كثير ممن يسيء التدبير، وهو أن يمتلئ من الطعام، ثم يقذفه، ففيه آفات عديدة، منها: أنه يعجل الهرم، ويوقع في أمراض رديئة، ويجعل القيء له عادة. والقيء مع اليبوسة، وضف الأحشاء، وهزال المراق. أو ضعف المستقيء خطر.وأحمد أوقاته الصيف والربيع دون الشتاء والخريف، وينبغي عند القيء أن يعصب العينين، ويقمط البطن، ويغسل الوجه بماء بارد عند الفراغ، وان يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مصطكى، وماء الورد ينفعه نفعًا بينًا.
القيء يستفرغ من أعلى المعدة، ويجذب من أسفل، والإسهال بالعكس، قال أبقراط: وينبغي أن يكون الإستفراغ في الصيف من فوق أكثر من الإستفراغ بالدواء، وفي الشتاء من أسفل.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين
ذكر مالك في موطئه: عن زيد بن أسلم، أن رجلًا في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصابه جرح، فاحتقن الجرح الدم، وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار، فنظرا إليه فزعما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهما: (أيكما أطب؟ فقال: أوفي الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذي أنزل الداء). ففي هذا الحديث أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقرب. وهكذا يجب على المستفتي أن يستعين على ما نزل به بالأعلم فالأعلم، لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه. وكذلك من خفيت عليه القبلة، فإنه يقلد أعلم من يجده، وعلى هذا فطر الله عباده، كما أن المسافر في البر والبحر إنما سكون نفسه، وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما، وله يقصد، وعليه يعتمد، فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والفعل.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أنزل الدواء الذي أنزل الداء)، قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة، فمنها ما رواه عمرو بن دينار، عن هلال بن يساف، قال: (دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مريض يعوده، فقال: أرسلوا إلى طبيب، فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، وقد تقدم هذا الحديث وغيره.
واختلف في معنى أنزل الداء والدواء، فقالت طائفة: إنزاله إعلام العباد به، وليس بشيء، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه، وأكثر الخلق لا يعملون ذلك، ولهذا قال: (علمه من علمه، وجهله من جهله ).
وقالت طائفة: إنزالهما: خلقهما ووضعهما في الأرض، كما في الحديث الآخر: (إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء)، وهذا وإن كان أقرب في الذي قبله، فلفظة الإنزال أخص من لفظة الخلق والوضع، فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة بلا موجب.
وقالت طائفة: إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغير ذلك، فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم، وأمر النوع الإنساني من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته، فإنزال الداء والدواء مع الملائكة، وهذا أقرب من الوجهين قبله.
وقالت طائفة: إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية، والأقوات، والأدوية، والأدواء، وآلات ذلك كله، وأسبابه ومكملاته، وما كان منها من المعادن العلوية، فهي تنزل من الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار، فداخل في اللفظ على طريق التغليب والاكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأمم، كقول الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردًا ** حتى غدت همالة عيناها
وقول الآخر:
ورأيت زوجك قــد غدا **متقلـــدًا سيفـــًا ورمحـــًا
وقول الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يومًا ** وزججن الحواجب والعيونا
وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الرب عز وجل، وتمام ربوبيته، فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء، أعانهم عليها بما يسره لهم من الأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسنات الماحية والمصائب المكفرة، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة من الشياطين، أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة، وهم الملائكة. وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعًا وقدرًا من المشتهيات اللذيذة النافعة، فما ابتلاكم سبحانه بشيء إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء، ويدفعونه به، ويبقى التفاوت بينهم في العلم بذلك، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه، وبالله المستعان.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج المصاب بالعين
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (العين حق ولو كان شيء سابق القدر، لسبقته العين). وفي صحيحه أيضًا عن أنس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة.
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (العين حق ).
وفي سنن أبي داود عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت: كان يؤمر العائن فيتوضأ، ثم يغتسل منه المعين.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: أمرني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أمر أن نسترقي من العين.
وذكر الترمذي، من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي، أن أسماء بنت عميس، قالت: يا رسول الله ! إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ فقال: (نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروى مالك رحمه الله: عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: (رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ! قال: فلبط سهل، فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامرًا، فتغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له، فغسل له عامر وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح مع الناس).
وروى مالك رحمه الله أيضًا عن محمد بن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه هذا الحديث، وقال فيه: (إن العين حق، توضأ له). فتوضأ له.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه مرفوعًا (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر، لسبقته العين، وإذا استغسل أحدكم، فليغتسل) ووصله صحيح.
قال الزهري: يؤمر الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة.
والعين: عينان: عين إنسية، وعين جنية، فقد صح عن أم سلمة، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال: (استرقوا لها، فإن بها النظرة).
قال الحسين بن مسعود الفراء: وقوله: سفعة . أي نظرة، يعني: من الجن، يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح.
ويذكر عن جابر يرفعه: (إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر).
وعن أبي سعيد، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان.
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة له، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس. وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين.
فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين، فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.
وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر.
وقالت فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلًا، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.
ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينًا، ولهذا أمر الله ـ سبحانه ـ رسوله أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابل المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر في طمس البصر، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأبتر، وذي الطفيتين من الحيات: (إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل).
ومنها، ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الإتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالإتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} [القلم: 51]. وقال: {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق:1: 5]، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه، أثرت فيه، ولا بد، وإن صادفته حذرًا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح. وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين، وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعًا.
فصل: والمقصود: العلاج النبوي لهذه العلة
وهو أنواع، وقد روى أبو داود في سننه عن سهل بن حنيف، قال: مررنا بسيل، فدخلت، فاغتسلت فيه، فخرجت محمومًا، فنمي ذلك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (مروا أبا ثابت يتعوذ، قال: فقلت: يا سيدي ! والرقى صالحة؟ فقال: لا رقية إلا في نفس، أو حمة أو لدغة). والنفس: العين، يقال: أصابت فلانًا نفس، أي: عين. والنافس: العائن. واللدغة ـ بدال مهملة وغين معجمة ـ وهي ضربة العقرب ونحوها. فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، ومنها التعوذات النبوية.
نحو: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
ونحو: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.
ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاورهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل، والنهار، ومن شر طوارق الليل إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن.
ومنها: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
ومنها: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم إنه لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، سبحانك وبحمدك.
ومنها: أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاورهن بر لا فاجر، وأسماء الله الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي على صراط مستقيم.
ومنها: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.
وإن شاء قال: تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو، إلهي وإله كل شيء، واعتصمت بربي ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوق، حسبي الرازق من المرزوق، حسبي الذي هو حسبي، حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.
ومن جرب هذه الدعوات والعوذ، عرف مقدار منفعتها، وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوة نفسه، واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه، فإنها سلاح، والسلاح بضاربه.
فصل: وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين
فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: (ألا بركت) أي: قلت: اللهم بارك عليه.
ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه، أو دخل حائطًا من حيطانه قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي رواها مسلم في صحيحه (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك).
ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن، ثم يشربها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن، ويغسله، ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن، ثم يغسل وتسقى. وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلًا كان به وجع.
فصل:أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره
وفيه قولان. أحدهما: أنه فرجه. والثاني: أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن، ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء، ولا ينتفع به من أنكره، أو سخر منه، أو شك فيه، أو فعله مجربًا لا يعتقد أن ذلك ينفعه.
وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة، بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصية، فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بهذا الإستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة، وتقر لمناسبته، فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يدك عليه، والمسح عليه، وتسكين غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من نار، وقد أراد أن يقذفك بها، فصببت عليها الماء، وهي في يده حتى طفئت، ولذلك أمر العائن أن يقول: اللهم بارك عليه ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسان إلى المعين، فإن دواء الشيء بضده. ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد، لأنها تطلب النفوذ، فلا تجد أرق من المغابن، وداخلة الإزار، ولا سيما إن كان كناية عن الفرج، فإذا غسلت بالماء، بطل تأثيرها وعملها، وأيضًا فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.
والمقصود: أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية، ويذهب بتلك السمية.
وفيه أمر آخر، وهو وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها تنفيذًا، فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء، فيشفى المعين، وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها، خف أثر اللسعة عن الملسوع، ووجد راحة، فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها، وتوصله إلى الملسوع. فإذا قتلت، خف الألم، وهذا مشاهد. وإن كان من أسبابه فرح الملسوع، واشتفاء نفسه بقتل عدوه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه.
وبالجملة: غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبة الغسل، فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين؟ قيل: هو في غاية المناسبة، فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل طفئت به، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن، والماء الذي يطفأ به الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذي طفئ به نارية العائن، لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء. وبالجملة: فطب الطبائعية وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم، وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا يدرك الإنسان مقدراه، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع، وعدم مناقضة أحدهما للآخر، والله يهدي من يشاء إلى الصواب، ويفتح لمن أدام قرع باب التوفيق منه كل باب، وله النعمة السابغة، والحجة البالغة.
فصل: علاج ذلك أيضًا والاحتراز منه ستر محاسن
من يخاف عليه العين بما يردها عنه، كما ذكر البغوي في كتاب شرح السنة : أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ رأى صبيًا مليحًا، فقال: دسموا نونته، لئلا تصيبه العين، ثم قال في تفسيره: ومعنى: دسموا نونته: أي: سودوا نونته، والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير.
وقال الخطابي في غريب الحديث له عن عثمان: إنه رأى صبيًا تأخذه العين، فقال: دسموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النقرة التي في ذقنه. والتدسيم: التسويد. أراد: سودوا ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العين. قال: ومن هذا حديث عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب ذات يوم، وعلى رأسه عمامة دسماء. أي: سوداء. أراد الإستشهاد على اللفظة، ومن هذا أخذ الشاعر قوله:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ** عيـــب يـوقيــه مـن العين
فصل: ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي
أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، وكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: إحفظ ناقتك من العائن، فقال: ليس له إلى ناقتي سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأخبر أن العائن قد عانها، وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه، فدل، فوقف عليه، وقال: بسم الله، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، {فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} [الملك: 3، 4] فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (من اشتكى منكم شيئًا، أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ بإذن الله).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، (أن جبريل ـ عليه السلام ـ أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا محمد ! أشتكيت؟ فقال: نعم، فقال جبريل ـ عليه السلام ـ: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك).
فإن قيل: فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود: (لا رقية إلا من عين، أو حمة،.. ) والحمة: ذوات السموم كلها.
فالجواب أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرها، بل المراد به: لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة، ويدل عليه سياق الحديث، فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين: أوفي الرقى خير؟ فقال: (لا رقية إلا في نقس أو حمة) ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ).
وفي صحيح مسلم عنه أيضًا: رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرقية من العين والحمة والنملة.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، قال: انطلق نفر من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط ! إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكروا له ذلك، فقال: (وما يدريك أنها رقية؟، ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا).
وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث علي قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خير الدواء القرآن).
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]، ومن ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصح القولين، كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} [الفتح: 129] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها، المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب ـ تعالى ـ ومجامعها، وهي الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته ـ بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير مدارج السالكين في شرحها. وحقيق بسورة هذا بعض شأنها، أن يستشفى بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ.
وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه، والإستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها، وهي الهداية التي تجلب النعم، وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إن موضع الرقية منها: (إياك نعبد وإياك نستعين)، ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقار والطلب، والجمع بين أعلى الغايات، وهي عبادة الرب وحده، وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته ما ليس في غيرها، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارًا، ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع.
فصل: وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع
فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة، كما تقدم، وسلاحها حماتها التي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت، ثار فيها السم، فتقذفه بآلتها، وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء، ولكل شيء ضدًا، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقي، فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء، والدواء، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن الله، ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحاني، والطبيعي، وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس، كانت أتم تأثيرًا، وأقوى فعلًا ونفوذًا، ويحصل بالإزدواج بينهما كيفية موثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة: فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه.
وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتم، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها.
وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان. قال تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد}[الفلق: ]، وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهامًا لها، وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شيء من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوي كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه، وبعده من عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود: أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم).
وفي جامع الترمذي عن أنس، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا حزبه أمر، قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث).
وفيه: عن أبي هريرة، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أهمه الأمر، رفع طرفه إلى السماء فقال: (سبحان الله العظيم)، وإذا اجتهد في الدعاء قال: (يا حي يا قيوم).
وفي سنن أبي داود عن أبي بكرة، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت).
وفيها أيضًا عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب، أو في الكرب: الله ربى لا أشرك به شيئًا). وفي رواية أنها تقال سبع مرات.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحًا).
وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له).
وفي رواية: (إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه: كلمة أخي يونس).
وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: (يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟ فقال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، فقال: ألا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله ـ عز وجل ـ همك وقضى دينك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله ـ عز وجل ـ همى، وقضى عني ديني.
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من لزم الإستغفار، جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب).
وفي المسند أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة، وقد قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45].
وفي السنن: (عليكم بالجهاد، فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع الله به عن النفوس الهم والغم).
ويذكر عن ابن عباس، عن النبي ـ صلى الله على وسلم ـ: (من كثرت همومه وغمومه، فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله).
وثبت في الصحيحين (أنها كنز من كنوز الجنة).
وفي الترمذي: (أنها باب من أبواب الجنة).
هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعًا من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن، فهو داء قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كلي.
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمى الاعتقادي.
الرابع: تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: الحي القيوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيق التوكل عليه، والتفويض إليه، والإعتراف له بأن ناصيته في يده، يصرفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات واللهوات، وأن يتسلى به عن كل فائت، ويتعزى به عن كل مصيبة، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.
فصل: في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله ـ سبحانه ـ ابن آدم وأعضاءه، وجعل لكل عضو منها كمالًا إذا فقده أحس بالألم، وجعل لملكها وهو القلب كمالًا، إذا فقده، حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان. فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع، واللسان ما خلق له من قوة الكلام، فقدت كمالها. والقلب: خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والإبتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، وارجي عنده من كل ما سواه، وأجل في قلبه من كل ما سواه، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته، فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه، ورهن مقيم عليه. ومن أعظم أدوائه: الشرك والذنوب والغفلة والإستهانة بمحابه ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الإعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده. وإذا تأملت أمراض القلب، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها، فدواؤه الذي لا دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء، فإن المرض يزال بالضد، والصحة تحفظ بالمثل، فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية، وأمراضه بأضدادها.
فالتوحيد: يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج، والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه، وحمية له من التخليط، فهي تغلق عنه باب الشرور، فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد، ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: من أراد عافية الجسم، فليقلل من الطعام والشراب، ومن أراد عافية القلب، فليترك الآثام. وقال ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
والذنوب للقلب، بمنزلة السموم، إن لم تهلكه أضعفته، ولا بد، وإذا ضعفت قوته، لم يقدر على مقاومة الأمراض، قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك.
رأيت الذنوب تميت القلوب ** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ** وخيــر لنفسك عصيانها
فالهوى أكبر أدوائها، ومخالفته أعظم أدويتها، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة، فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها، وإنما فيه تلفها وعطبها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولد من بين إيثارها للداء، واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء. والمصيبة العظمى، أنها تركب ذلك على القدر، فتبرئ نفسها، وتلوم ربها بلسان الحال دائمًا، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان. وإذا وصل العليل إلى هذه الحال، فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيحييه حياة جديدة، ويرزقه طريقة حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملًا على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها، والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه. وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه، ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها، وباشر قلبه حقائقها.
وفي تأثير قوله: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث في دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى: هو اسم الحي القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات. ونقصان الحياة تضر بالأفعال، وتنافي القيومة، فكمال القيومية لكمال الحياة، فالحي المطلق التام الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة، فالتوسل بصفة الحياة القيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة، ويضر بالأفعال.
ونظير هذا توسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإن حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير في حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم الحي القيوم تأثيرًا خاصًا في إجابة الدعوات، وكشف الكربات، وفي السنن و صحيح أبي حاتم مرفوعًا: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين). {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} [البقرة: 163]، وفاتحة آل عمران {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 1].، قال الترمذي: حديث صحيح.
وفي السنن وصحيح ابن حبان أيضًا: من حديث أنس أن رجلًا دعا، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اجتهد في الدعاء قال: (يا حي يا قيوم).
وفي قوله: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت) من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، والتضرع إليه، أن يتولى إصلاح شأنه، ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده مما له تأثير قوي في دفع هذا الداء، وكذلك قوله: الله ربي لا أشرك به شيئًا.
وأما حديث ابن مسعود: (اللهم إني عبدك ابن عبدك)، ففيه من المعارف الإلهية، وأسرار العبودية ما لا يتسع له كتاب، فإنه يتضمن الاعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء، فلا يملك العبد دونه لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، لأن من ناصيته بيد غيره، فليس إليه شيء من أمره، بل هو عان في قبضته، ذليل تحت سلطان قهره.
وقوله: (ماض في حكمك عدل في قضائك) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد.
أحدهما: إثبات القدر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها.
والثاني: أنه ـ سبحانه ـ عدل في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم، أو جهله، أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء، وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده، كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته، ولهذا قال نبي الله هود صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وقد خوفه قومه بآلهتهم: {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 54 ـ 57]، أي: مع كونه سبحانه آخذًا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراط مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: ماض في حكمك، مطابق لقوله: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} [هود: 56]، وقوله: (عدل في قضاؤك) مطابق لقوله: {إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 56]، ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا. ومنها: ما استأثره في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل، وأحبها إلى الله، وأقربها تحصيلًا للمطلوب.
ثم سأله أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وكذلك القرآن ربيع القلوب، وأن يجعله شفاء همه وغمه، فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية، وغيرها، فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه، ويعقبه شفاء تامًا، وصحة وعافية، والله الموفق.
وأما دعوة ذي النون: فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم، وأبلغ الوسائل إلى الله ـ سبحانه ـ في قضاء الحوائج، فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال الله، وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه. والاعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب، ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله، واستقالته عثرته، والإعتراف بعبوديته، وافتقاره إلى ربه، فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها: التوحيد، والتنزيه، والعبودية والاعتراف.
وأما حديث أبي أمامة: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)، فقد تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزدوجان، فالهم والحزن أخوان، والعجز والكسل أخوان، والجبن والبخل أخوان، وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان، فإن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب، فإما أن يكون سببه أمرًا ماضيًا، فيوجب له الحزن، وإن كان أمرًا متوقعًا في المستقبل، أوجب الهم، وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه، إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه، إما أن يكون منع نفعه ببدنه، فهو الجبن، أو بماله، فهو البخل، وقهر الناس له إما بحق، فهو ضلع الدين، أو بباطل فهو غلبة الرجال، فقد تضمن الحديث الإستعاذة من كل شر، وأما تأثير الإستغفار في دفع الهم والغم والضيق، فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم، والخوف والحزن، وضيق الصدر، وأمراض القلب، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم، وسئمتها نفوسهم، ارتكبوها دفعًا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم، كما قال شيخ الفسوق: وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار.
وأما الصلاة، فشأنها في تفريح القلب وتقويته، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن، وفيها من اتصال القلب والروح بالله، وقربه والتنعم بذكره، والإبتهاج بمناجاته، والوقوف بين يديه، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته، وإعطاء كل عضو حظه منها، واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحته من عدوه حالة الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة. وأما القلوب العليلة، فهي كالأبدان لا تناسبها إلا الأغذية الفاضلة.
فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنورة للقلب، ومبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، ومنزلة للرحمة، وكاشفة للغمة، ونافعة من كثير من أوجاع البطن. وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث مجاهد، عن أبي هريرة قال: رآني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا نائم أشكو من وجع بطني، فقال لي: (يا أبا هريرة أشكمت درد؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: قم فصل، فإن في الصلاة شفاء). وقد روي هذا الحديث موقوفًا على أبي هريرة، وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد، وهو أشبه. ومعنى هذه اللفظة بالفارسي: أيوجعك بطنك؟.
فإن لم ينشرح صدر زنديق الأطباء بهذا العلاج، فيخاطب بصناعة الطب، ويقال له: الصلاة رياضة النفس والبدن جميعًا، إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة من الإنتصاب، والركوع، والسجود، والتورك، والإنتقالات وغيرها من الأوضاع التي يتحرك معها أكثر المفاصل، وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة، كالمعدة، والأمعاء، وسائر آلات النفس، والغذاء، فما ينكر أن يكون في هذه الحركات تقوية وتحليل للمواد، ولا سيما بواسطة قوة النفس وانشراحها في الصلاة، فتقوى الطبيعة، فيندفع الألم، ولكن داء الزندقة والإعراض عما جاءت به الرسل، والتعوض عنه بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم، فأمر معلوم بالوجدان، فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه، اشتد همها وغمها، وكربها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحًا ونشاطًا وقوة، كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم} [التوبة: 14، 15]، فلا شيء أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد، والله المستعان.
وأما تأثير لا حول ولا قوة إلا بالله في دفع هذا الداء، فلما فيها من كمال التفويض والتبري من الحول والقوة إلا به، وتسليم الأمر كله له، وعدم منازعته في شيء منه، وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي، والقوة على ذلك التحول، وأن ذلك كله بالله وحده، فلا يقوم لهذه الكلمة شيء. وفي بعض الآثار: إنه ما ينزل ملك من السماء، ولا يصعد إليها إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله، ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان، والله المستعان.