مبحث الكبائر من الذنوب
كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري
محتويات
- مبحث الكبائر من الذنوب
- الكبائر السبع الموبقات
- معنى الحديث السبع الموبقات
- الجواب عن السؤال الثاني
- الكبيرة الثامنة شهادة الزور
- الكبيرة التاسعة اليمين الغموس
- الكبيرة العاشرة الزنا
- لكبيرة الحادية عشرة شرب الخمر
- الكبيرة الثانية عشرة النميمة
- الكبيرة الثالثة عشرة: عدم التنزه من البول
- الكبيرة الرابعة عشر: اليأس من رحمة الله تعالى
- الكبيرة الخامسة عشرة: الأمن من مكر الله تعالى
- الكبيرة السادسة عشرة: استحلال بيت الله الحرام
- الكبيرة السابعة عشر منع ابن السبيل من فضل المال
- الكبيرة الثامنة عشرة عقوق الوالدين
- الكبيرة التاسعة عشرة الغلول في الحرب
- الكبيرة العشرون ترك الصلاة متعمداً
- ترك الصلاة متعمداً عند المالكية والشافعية
- ترك الصلاة متعمداً عند الحنفية والمزني
- ترك الصلاة متعمداً عند الحنابلة
- اختلاف العلماء في ترتيب الكبائر
- االعودة إلي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري
مبحث الكبائر من الذنوب
الكبائر السبع الموبقات
*-عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول اللّه وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، الغافلات) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
يتعلق بشرح هذا الحديث.
1 - بيان معناه.
2 - هل الكبائر منحصرة في السبع المذكورة؟
3 - حد السحر وما يترتب عليه من الآثار.
معنى الحديث السبع الموبقات
*-إن معظم القضايا التي اشتمل عليها هذا الحديث الشريف معلومة من الدين بالضرورة، فكل مسلم يعلم أن الشرك بالله كفر بالخالق العظيم، الذي خلق الإنسان وأمده بما يحتاج إليه في هذه الحياة الدنيا من مطعم ومشرب، وهواء وشمس وقمر، وأرض وسماء، وغير ذلك من باقي العوالم المسخرة لهذا الإنسان الضعيف الذي لا يملك لنفسه وجوداً ولا عدماً، ولا ضراً ولا نفعاً، واي مسلم يخفى عليه أن الشرك بالله القاهر فوق عباده حجود ظاهر، ولاعتداء صريح على مقام الألوهية المقدس، فلا يصدر إلا عن سفيه جاهل بنفسه وبكل ما حوله من المظاهر الدالة دلالة واضحة على أن اللّه واحد لاشريك له، بل أي عاقل يجحد ربه الذي خلقه من ماء مهين، وجعله بشراً سوياً، أو يشرك معه في عبادته أحداً من خلقه، عن عقيدة أو نفاق، أو رياء، أو يعبد ربه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، لا ريب في أن الإنسان الذي يشرك مع اللّه غيره في معنى الألوهية يكون كالحيوان العجم الذي لا يشرك مع اللّه أحداً في الإيجاذ، أو في الرزق فقد أنكر الإله الذي لا يماثله أحد من خلقه في أخص صفاته، وهي كونه تعالى من منفرداً بالخلق والإيجاد(1).
وأي مسلم يجهل أن قتل النفس التي حرم اللّه جريمة من أسوأ الجرائم وأقبحها أثراً في المجتمع الإنساني. ويكفي في شناعتها واتنكارها قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب اللّه عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً}.
وأي مسلم يخفى عليه أن أكل الربا من الكبائر المجرمة لما يترتب عليه من استذلال المحتاجين، واستنزاف أموالهم، وحصر الثروة في أيدي المرابين الذين يستلذون اقتناص أموال الناس وحبسها بين أيديهم بدون أن يستخدموها في مصالح المجتمع، وإصلاح حال الإنسان(2)
وأي مسلم يحفى عليه أن الفرار من قتال الأعداء الذين يرديون انتهاك حرمات الوطن والدين واستذلال الاحرار الأعزاء، واستعمالهم استعمال الأرقاء الذين لا إرادة لهم جريمة من شر الجرائم، وموبقة من أسوأ الموبقات.
لا ريب في أن كل هذه الخصال كبائر تنافي الفضائل الإنسانية، وتتعارض مع الحياة الكريمة، وإذا فشت في أمة من الأمم اهلكتها لا محالة.
أما قذف المحصنات فقد بينا آثاره الضارة فيما أسلفنا من القول في الحدود. وسنذكر لك ما يترتب على السحر من الآثار الضارة قريباً، فالنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو المربي الأعظم الذي لا ينظق عن الهوى قد نهى أمته نهياً جازماً عن هذه الجرائم المؤقة التي يترتب عليها هلاك المرء في الدنيا والآخرة، فهي من مخازي هذه الحياة الدنيا، ومن شر آفاتها التي إليها الشهوة، وتستلذها النفس الضعيفة، ومن ورائها الخزي الدائم والعذاب الأليم.
(1) (قال تعالى: {فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً، يذرؤكم فيه ليس شيء وهو السميع البصير} آية (11 سورة الشورى).
فالله تعالى هو القادر الحكيم الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما وما فيهما من أجرام وأجسام وماء وهواء، وخلق لنا أزواجاً من أنفسنا، وخلق من الأنعام ثمانية، ذكور الإبل والبقر، والضأن، والمعز، وإناثها، وهو الذي يخلقنا في الأرحام ويصورنا كيف يشاء لا يشابهه شيء في عظمته وكبريائه، وملكوته، وحسنى أسمائه، وعلى صفاته، لا يشابه شيئاً من مخلوقاته، ولا يشبه به، فهو واحد في ذاته وصفاته، ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم ولا كفعله فعلن ولا كصفته صفة، إلا من جهة موافقة اللفظ، وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة، فليعتبر أولئك الملحدون الطبيعيون، الذين ضلوا عن الطريق المستقيم وكفروا برب العالمين)
(2) (قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} آية (29) من سورة النساء، والربا مما أجمعت الأديان السماوية على تحريمه، وداوعي تحريمه كثيرة، فهو من المور التي تعوق المجتمع عن الاشتغال بالأمور المفيدة النافعة، فصاحب المال إذا سلك طريق الربا في إنما ماله، وجلب الربح منه. سهل لديه أسباب العيش، فيميل إلى الكسل والباطالة والخمول، وترداد شراهته في جمع الأموال بغير حق والاستيلاء على حقوق الناس من غير رحمة ولا شفقة، وتزداد الفوارق بين طبقات المجتمع في الفقر والغنى. والربا يؤدي إلى انتشار العداوة، والبغضاء ويولد الأحقاد قرن اللّه تعالى النهي عن أكل أموال الناس بالباطل بقتل النفس في الآية الكريمة، فقال تعالى بعد النهي عن الربا {ولا تقتلوا أنفسكم} لأن الربا يؤدي إلى قتل الأنفس، وسفك الدماء من أجل الأموال.
ولأن الربا أخذ مال بلا عوض، وهو نوع من الظلم الذي حرمه الشارع الحكيم، لأنه استيلاء على الأموال من غير الطريق المشروع، وكل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه، وعاقبة الربا إنما هو الخراب والهلاك، والدمار، قال تعالى: {يمحق اللّه الربا ويربي الصدقات} وقد توعد اللّه تعالى الذين يأكلون الربا ولا يتوبون، بأشد أنواع الوعيد، وهو أنه يشن عليهم حرباً في الدنيا وعذاباً يوم القيامة قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله، وإن تبتم فكلم رؤوس أموالكم لا تظلمون، ولا تظلمون}.
فالأجرد بالمسلم أن يبحث عن مصادر تنمية أمواله عن طريق مشروع، حتى تصبح معيشته واقتصادياته من طريق مستقيم لا استغلال فيه ولا بغي ولا عدوان، على الفقراء والمحتاجين.
وأما جناية اكل مال اليتمي، فهي أفظع من التعامل بالربا، واشد ضراوة منها، لما يترتب عليها من الأضرار البليغة ولهذا نهى الشارع عنها ووصمها أبلغ وصم فقال تعالى. {وآتوا اليتاميى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً} وقال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا، ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف، فإذا دفعتم اليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً}.
والواجب شرعاً أن يرعى الوصي مال اليتيم ويحافظ عليه وينميه، ولا يبيح لنفسه شيئاً منه. إلا عند الحاجة الماسة، فيأخذ ما يحتاج إليه من غير إسراف ولا تبذير. فقد أجمعت الآراء على أن مال اليتيم لا يحل للوصي، ولا يأخذ منه شيئاً حتى تبقى صلات المحبة والمودة قائمة بين الناس. وكما تدين تدان وكما تفعل تجازى {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا اللّه وليقولوا قولاً سديداً}.
وبين اللّه عز وجل أن أكل مال اليتيم من أشنع أنواع الحرام، فكأنه يأكل من جمر جهنم، قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}.
وأما التولي يوم الزحف فهو من أكبر الكبائر، وأفحش الأمور. لأنه يدل على الجبن. والضعف والخور، وافسلام يربي المسلم على الشجاعة والثبات والعزة، ولأن الفرار أمام الأعداء عند اللقاء يسلب الأمة عزتها وكرامتها وشرفها، ويجعل السلطة لأعداء الإسلام والدين، وذلك موت أدبي للأمة فإما أن نعيش كراماً أعزاء، وإما أن نموت أحراراً شهداء، والاستشهاد في سبيل اللّه والوطن حياة كريمة، قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه امواتاً بل أمحياء عند ربهم يرزقون} لهذا أمرنا اللّه تعالى بالثبات أمام الأعداء مهما كانت عدتهم، وقدرتهم، ونهانا عن الفرار من الزحف وعده من أعظم الكبائر التي تجلب غضب اللّه تعالى، وتحبط الأعمال، وتودي بصاحبها في نار جهنم وبئس القرار فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللّه كثيراً لعلكم تفلحون}.
فأمر اللّه المجاهدين بالصبر والثبات أمام الأعداء، لأن التولي فيه إضعاف لصفوف المسلمين، وتثبيط لعزائم المقاتلين، وإحداث فرقة بين صفوفهم، وفي ذلك صد عن سبيل اللّه عز وجل وتقوية للعدو، وكفى بذلك إثماً وعاراً في الدنيا والآخرة، لذلك أمرنا بالصبر وذكر اللّه تعالى أنه يعاقب الفارين بأشد أنواع العذاب. وأنه يكرم الشهداء في سبيله أعظم أنواع الإكرام والعزة.
وأما قذف المحصنات المؤمنات الغافلات فهو من أعظم الكبائر التي نهى عنها الشارع الحكيم.
فقال تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} فإن مقاصد الشرع الحكيم حفظ أعراض المسلين، وصون الشرف لصاحبه، والاحتفاظ بالكرامة، ووضع سياج منيع لعزة النفس، كان من مقتضى حكمته تبارك وتعالى أن سن التشريع الزاجر للنفوس الجامحة التي قد يدفعها الغضب إلى أن تصيب الناس في كرامتهم، وتخدش شرفهم، وتنكس رؤوسهم، والشرف أعز عزيز لدى المؤمن الغيور، فإن القتل أهون على المؤمن من ضياع شرفه وإهدار كرامته، وما قيمة الحياة لإنسان بغير كرامة وعزة، من أجل ذلك فرض اللّه تعالى حد القذف الرادع الكفيل بصيانة الأعراض وحفظ الكرامات، وإنما خص القذف بالرمي بالزنى، لأن فيه من العار بدناءة النفس، وهتك الستر، وافتضاح السوءات وانتهاك الحرمات، والدلالة على عدم الغيرة الذي هو من خصائص أخس الحيوانات، ما قارف به كل المربقات. فإن كان الرمي امرأة، كان في من جلب العار على قومها ما يؤدي إلى سفك الدماء، وقلما يغسل ذلك العار، وقد رتب الشارع على قذف المحصن أو المحصنة ثلاثة أشياء، الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة أبداً، والحكم عليه بالفسق.
ولقد ذكر اللّه في الآية الكريمة فظاعة أمر هذه الجريمة، وشنع على من وقع فيها، وشرح عظيم خطرها، وشديد وعيدها وأي وعيد اشد، من اللعنة في الدنيا والآخرة، وهو الطرد من رحمة اللّه، واستحقاق العذاب العظيمن وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه بما يخزيه ويقطع حجته ويسد عليه باب التنصل من ذنبه أمام الأشهاد يوم القيامة.
ثم أردف ذلك بأنه سيوفى جزاءه الحق، وليعلم الجاني إن لم يكن علم أن اللّه هو الحق، وإن وعيده هو الحق، وأن قوله هو الحق المبين، وقد ذكر العلماء أن القاذف مطالب في الدنيا لتصديقه بأربعة شهداء فالقاذف يقوم في وجهه لتكذيبه خمسة شهود من جوارحه لسانه، ويداه، ورجلاه، تنكيلاً له، وفضيحة لشأنه، جزاء فضيحته للمحصنات المؤمنات) وأي مسلم يخفى عليه أن أكل مال اليتيم جريمة من أرذل الجرائم وأخسها، لا يأتيها إلا النذال الذين قست قلوبهم، ونزعت منهم عائطفة الرحمة والإنسانية وأصبحوا كالحيوانات المتفرسة هم أضل سبيلاً.
الجواب عن السؤال الثاني
*-إن الموبقات المذكورة في الحديث معنهاها المهلكات، وهي مودبة للهلاك الدنيوي والأخروي، لا محالة، ولكن الحديث الذي معنا لم ينص على كل الموبقات. بل هنالك موبقات ذكرت في الأحاديث الصحيحة الأخرى، وقد حصرها بعض العلماء في إحدى وعشرين، منها السبع المذكورة في الحديث الشريف.
الكبيرة الثامنة شهادة الزور
*-ثامنها شهادة الزور: وقد ورد في الصحيح أنها أكبر الكبائر، عن أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه قال: (كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
أما كون شهادة الزور جريمة خلقية شائنة تنافي النظام العمراني، وتفضي إلى الفوضى في كل نواحي الحياة، فظاهر لا يخفى على أحد، فهي شر مستطير، يجب على الناس أن ينزهوا عنه أنفسهم تنزيهاً تاماً(1)
(1) (لقد ذكر العلماء أن شهادة الزور من أكبر الكبائر لأن اللّه تعالى أمرنا باجتنابها وقرنها بالشرك والعياذ بالله تعالى فقال عز وجل: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور} أي ابتعدوا عن الرجس الذي هو الأوثان، وابتعدوا عن شهادة الزور، فقرن اللّه عبادة الأصنام بشهادة الزور كقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير حق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وأن تقولوا على اللّه ما لاتعلمون} ومنه شهادة الزور.
وروى الإمام أحمد عن أيمنبن خريم أنه قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (أيها الناس عدلت شهداة الزور إشراكاً بالله ثلاثاً) ثم قرأ {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} وقال الإمام أحمد أيضاً حدّثنا محمد بن عبيد حدّثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام فائماً، فقال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل) ثم تلا هذه الآية: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاة لله غير مشركين به} وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن أبن مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ هذه الآية.
وفي الصحيحين عن أبي بكر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، وهذا يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر، ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر استواء رتبتها، فإن الإشراك أكبر الذنوب المذكورة، وجلوس النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد اتكائه يشعر باهتمامه بذلك، ويفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بها والحامل عليها كثير مثل العدواة، والحقد، والحسد، وغير ذلك فاحتيج إلى الاهتمام بها، وفي لاتزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار) وفي الأثر (عدلت شهادة الزور) "الإشراك باللّه".
الكبيرة التاسعة اليمين الغموس
*-تاسعها اليمين الغموس وهو أن يحلف على حصول شيء وهو عالم أنه لم يحصل. كأن يقول: والله ليس لك علي دين. وهو يعلم أنه له، أو يحلف على أن فلاناً لم يضرب فلاناً، وهو يعلم أنه ضربه، فقد روى البخاري أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (يا رسول اللّه ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس. قلت: ما اليمين الغموس؟ قال: يقتطع مال امرئ مسلم) يعني بيمين هو فيها كاذب.
ولا نزاع في أن هذه اليمين الفاجرة من الكبائر، بشرط أن يترتب عليها قطع حق، أو إيذاء من لا يستحق الإيذاء، أو إدانة بريء، أو نحو ذلك.
أما إذا لم يترتب عليها شيء من ذلك فإنها تكون صغيرة لا كبيرة.
وبعضهم يقول: إن اليمين الغموس كبيرة مطلقاً، لأن الحالف بها قد انتهك حرمة اسم اللّه تعالى، فجزاؤه العذاب الأليم، إلا إذا تاب توبة نصوصاً.
وليس لليمين الغموس كفارة إلا التوبة منها، عند جمهور العلماء،
الشافعية قالوا: إن لها كفارة كغيرها من الأيمان، ومتى اخرج كفارتها سقط عنه إثمها(1).
(1) (الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، واصل اليمين في اللغة اليد، خلاف اليسار، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، واليمين في الشرع (توكيد المحلوف عليه بذكر اسم اللّه تعالى، اوصفة من صفاته عز وجل) وقد نهى اشارع عن اليمين الكاذبة، وجعلها من الكبائر التي تستوجب غضب اللّه عز وجل، وتدخل صاحبها نار جهنم إذا لم يتب منها قبل ممانه، أو يكفر عنها.
روي عن أبن مسعود رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي اللّه وهو عليه غضبان) قال عبد اللّه: ثم قرأ علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصداقة في كتاب اللّه عز وجل: {إن الذين ينظر يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى اللّه عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار، وحرم عليه الجنة. قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول اللّه؟ وإن كان قضيباً من أراك) رواه مسلم وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) رواه البخاري وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم، أو في النارن وعن جبير بن مطعم أنهم أنه أفتدى يمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال: ورب الكعبة لو حلفت حلفت صادقاً، وإنما هو شيء افتديت به يميني رواه الطبراني).
الكبيرة العاشرة الزنا
*-عاشرها: الزنا وقد سماه اللّه فاحشة فقال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} وأفظعه أن يزني المرء بحليلة جاره، فإن في ذلك العمل المنكر جريمتين، إحداهما الاعتداء الصريح على عرض إنسان غافل ثانيتهما انتهاك حرمة الجوار، ولا يصدر ذلك إلا ممن قسا قلبه، ونسي ربه، وأصبح كالحيوان الأعجم. الذي لا هم له إلا قضاء شهوته، روى أبن مسعود رضي اللّه عنه قال: (سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي الذنب أعظم عند اللّه؟ قال: أن تجعل ندا، وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
وحليلة الجار هي زوجة الجار(1).
(1) (والزنا من أفحش الذنوب، وأعظم الكبائر التي أجمعت على تحريمها جميع الأديان، وأجمعت على مقتها العقول في جميع الأزمان والأوقات، لما يترتب عليه من فساد الفرد والمجتمع.
حتى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكم على الزاني أنه لا يرتكب الفاحشة وهو مؤمن فقال صلى اللّه عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وقال صلى اللّه عليه وسلم: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا انقلع منها رجع إليه الإيمان) وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (من زنى، أو من شرب الخمر، نزع اللّه منه الأيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه)، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعالم متكبر).
وقال صلى اللّه عليه وسلم: "أربعة يبغضهم اللّه، البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر" وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: "يا رسول اللّه أي الذنب أعظم قال: أن تجعل للّه نداً وهو خلقك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك" فأنزل اللّه تصديقها: {والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ولا يزنون}.
قال ابن القيم رحمه اللّه: ذكر عليه الصلاة والسلام من كل أعلاه، فأعظم الشرك أن يجعل للّه نداً، وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه، وأعظم أنواع الزنا أن تزني بحليلة جارك، فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها، إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وإلحاق نسب به لم يكن منه، وغير ذلك. فإن كان جاراً له انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، وأي بائقة أعظم من الزنا بامرأته، فإن كان الجار أخاه أو قريباً من أقاربه، انضم إلى ذلك قيطعة الرحم فيتضاعف الإثم، فإن كان الجار غائباً في طاعة اللّع كالصلاة، وطلب العلم والجهاد، تضاعف الإثم، فإن كانت المرأة رحماً منه، انضاف إلى ذلك قيطعة رحمها، فإن كان الزاني محصناً كان الإثم أعظم، فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً، فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام، أو بلد حرام، أو وقت معظم عند اللّه كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة تضاعف الإثم والعياذ باللّه، روي عن المقداد بن الأسود رضي اللّه عنه قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه ما ترون في الزنا؟ قالوا: حرام حرمه اللّه ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول اللّه لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره".
الكبيرة الحادية عشرة شرب الخمر
*-وشرب الخمر كبيرة من الكبائر التي لها أسوأ الأثر في حياة الإنسان الصحية، والخلقية وكان بعض كبار الصحابة رضوان الله عليهم يرى أنها أكبر الكبائر، فقد روي "أن أبا بكر وعمر سألا عبد الله بن عمرو عن أعظم الكبائر فقال: "شرب الخمر" رواه الكبراني بإنسان صحيح وقال الله صلى الللّه عليه وسلم. "اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر".(1)
(1) (والخمر من أكبر الكبائر التي حرمها الشارع الحكيم لما يترتب عليها من المفاسد الفردية، والاجتماعية، والصحية، والبدنية، والأخلاقية، والمالية، حتى قال بعضهم: إنها أم الخبائث. روي عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن أبا بكر وعمر، وناساً جلسوا بعد وفاة النبي الله صلى اللّه عليه وسلم. فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم. فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو اسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأكثروا ذلك، ووثبوا إليه جميعاً، حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. قال: (إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل، أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر، أو يقتل نفساً، أو يزني، أو يأكل لحم خنزير، أو يقتلوه فاختار الخمر، وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أراده منه وأن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. قال (ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منه شيء، إلا حرمت بها عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية) رواه الطبراني بإستاد صحيح والحاكم. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. يقول: (اجتنبوا أم الخبائث). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله الله صلى الللّه عليه وسلم. بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر، وجعلت عدلاً للشرك) رواه الطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. قال: (من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه) رواه الطبراني.
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن مات دخل النار، فأن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد في الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار) رواه ابن حبان.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (من لقي الله مدمن خمر، لقيه كعابد وثن، وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه كان يقول: (ما أبالي شربت الخمر، أو عبدت هذه السارية من دون الله). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد).
الكبيرة الثانية عشرة النميمة
وهي من الجرائم الضارة للمجتمع الإنساني لأن النمام دائماً يسعى بين الناس ليقطع ما بينهم من صلات ومودة، ويجعل بعضهم لبعض أعداء، وكفى بذلك شراً، أما كون النميمة من الكبائر، فقد صرح به حديث البخاري رحمه الله تعالى وهو (أن رسول الله مر بقبرين يعذبان، فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى أنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرىء من البول) فهذان كان يسهل عليهما النميمة، وعدم الاستبراء من البول، ويظنان أنهما من الأمور الهينة، وهما عند الله من أسوأ المؤبقات لما يترتب على الأول من قطع صلات المودة بين الناس، ولما يترتب على الثاني، من فساد العبادة(1).
الكبيرة الثالثة عشرة: عدم التنزه من البول
الكبيرة الرابعة عشر: اليأس من رحمة الله تعالى(2).
الكبيرة الخامسة عشرة: الأمن من مكر الله تعالى(3).
الكبيرة السادسة عشرة: استحلال بيت الله الحرام(4).
الكبيرة السابعة عشرة: منع ابن السبيل من فضل المال
الكبيرة الثامنة عشرة عقوق الوالدين
الكبيرة الثامنة عشرة: عقوق الوالدين، وقد عرفت من الحديث الذي ذكرناه في شهادة الزور، أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى.
(1) (أعلم أن اسم النميمة إنما يلطف على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وليست النميمة مختصة به، بل حدها كشف ما يكره كشفه سواء كره المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو كره ثالث، وسواء كان الكشف بالقول، أو بالكتابة، أو بالرمز، وسواي كان المنقول من الأعمال، أو من الأقوال، وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر، وهتك الستر عما يكره كشفه، فكل ما رآه الإنسان من أحوال الناس ما يكره ينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية. والنمام فاسق مردود الشهادة كما قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة} ونهانا المولى عز وجل عن تصديق النمام وسماع قوله، فقال تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم} فالنميمة من الكبائر التي تحمل ذنوباً جمة، وتدخل صاحبها النار، وتحرمه من نعيم الجنة، لأنها عنوان الدناءة والجبن، والضعف، الدس والكيد والملق، والنفاق، وهي تحبط الحسنات، وتضيع ثواب الأعمال الصالحات، وتزيل المحبة، وتبعد المودة، وتذهب التآخي والتصافي، والتعارف والاتحاد. عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) رواه البخاري. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول: (النميمة، والشتيمة، والحمية، في النار) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (الهمازون، واللمازون، والمشاؤون بالنميمة الباغون للبراء العنت يحشرهم الله في وجوه الكلاب) رواه أبو الشيخ ابن حبان.
الكبيرة الرابعة عشر: اليأس من رحمة الله تعالى
(2) (القنوط واليأس من رحمة الله تعالى من الذنوب الكبائر، فإنه تبارك وتعالى قال: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} والمراد بالروح، أو الفرج عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن المؤمن من الله على خير، يرجه في البلاء، وحمده في الرخاء، واليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجمع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل عاجز. وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإن اليأس، والقنوط لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، فاليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً، لعدم علمه بالله تعالى وصفاته، أما المؤمن بالله العارف به فلا يقنط في حال من الأحوال ، لآن رحمة الله وسعت كل شيء)
الكبيرة الخامسة عشرة: الأمن من مكر الله تعالى
(3) (وكذلك من الذنوب الكبائر، الأمن من مكر الله تعالى والمراد به، عذابه من حيث لا يشعرون، فقد بين الله عز وجل أنه لا يأمن نزول عذابه على هذا الوجه إلا من خسر الدنيا الآخرة، لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر وفي الآخرة في أشد العذاب قال تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} أي لا يأمن بأس الله ونقمه وقرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم إلا الفاجرون المجرمون ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن مصداقاً لقول الله عز وجل: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون})
الكبيرة السادسة عشرة: استحلال بيت الله الحرام
(4) (ومن الذنوب الكبائر استحلال بيت الله الحرام فإن الله تعالى جعله آمنا وحرم القتال فيه. فقال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} فإذا دخله الخائف يأمن كل سوء، وقال تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} وقال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه، لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولا يقصد شوكهن ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا تختلى خلاها)
الكبيرة السابعة عشر منع ابن السبيل من فضل المال
إن الكرم والسخاء من صفات المؤمنين المخلصين، لأن الكريم من أسماء الله تعالى الحسنى، والنبي صلى اللّه عليه وسلم كان من أجود الناس، وقد أمرنا الله في كتابه بالسخاء والجود، فقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء} وقال الله تعالى في صفات أهل الجنة: {ويطعمون الطعام على حبة مسكيناً ويتيما وأسيراً} وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة أنه قال: (يا بن آدم أنفق أنفق عليك) وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (قال جبريل: قال الله عز وجل إن هذا دين ارتضيته لنفس، ولا يصلحه إلا السخاء، وحسن الخلف، فأكرموه بهما ما استطعتم) وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (ما جبل الله عز وجل ولياً له إلا على السخاء، وحسن الخلق). وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (إن الله جواد يحب الجواد، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها) وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (طعام الجواد دواء، وطعام البخيل داء). ولقد نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن البخل وذم الشح، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلمات لمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فأن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) وقال صلى اللّه عليه وسلم: (ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) قال صلى اللّه عليه وسلم: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن، البخل ، وسوء الخلق).
وقال صلى اللّه عليه وسلم: (لا يدخل الجنة بخيل، ولا جبار، ولا منان، ولا سيء الملكة) وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( اللهم إني أعوذ بك من البخل). وابن السبيل هو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى وطنه وكذا الذي يريد سفراً في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي بالمسلمين فمن منع ابن السبيل من فضل ماله، وهو قادر على ذلك فقد أرتكب كبيرة من كبائر الذنوب ، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
الكبيرة الثامنة عشرة عقوق الوالدين
قال العلماء في عقوق الوالدين أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما، وأن يسألاه في حاجة فلا يعطيهما، وأن يأمناه فيخونهما، وأن يجوعا فيشبع ولا يطعمهما، وأن يسقياه فيضربهما وهو من أكبر الذنوب التي حرمها اللّه تعالى، لأن اللّه تعالى أمر عباده بعبادته أولاً، ثم أمرهم بعد عبادته بالإحسان إلى الوالدين وبرهما، وطاعتهما.
فقال تعالى: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} وقال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} فكما أن الشرك باللّه تعالى وترك عبادته من أكبر الكبائر، كذلك ما قرن به وهو الإحسان إلى الوالدين فرض. وعقوقهما من أكبر الكبائر التي نهى اللّه تعالى عنها، بل إن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه ذكر أن من أكبر الكبائر الشرك باللّه، ثم أردفه بعقوق الوالدين، وقدمه على جميع الكبائر. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس" رواه الإمام البخاري في صحيحه.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول اللّه وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه" رواه البخاري ومسلم وروي عن رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه أنه قال: "إن اللّه حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً، وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" رواه البخاري ومسلم.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "رضا اللّه في رضا الوالد، وسخط اللّه في سخط الوالد" وقال صلوات اللّه وسلامه عليه: "الجنة تحت أقدام الأمهات" بل إن اللّه تعالى حرم دخول الجنة على عاق والديه، أو أحدهما، ثم مات قبل التوبة. أو مات والده وهما عليه غير راضيين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر" بل إن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا على العاق لوالديه بالبعد عن رحمة اللّه.
فقد روي عن كعب بن عجرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "احضروا المنبر، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين فلما نزل قلنا: يا رسول اللّه لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه؟ قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده، أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
روي عن أنس رضي اللّه عنه قال: "ذكر عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكبائر، فقال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين".
الكبيرة التاسعة عشرة الغلول في الحرب
*-لقد عد العلماء من الكبائر إخفاء بعض غنائم، ويقال له غلول. فمن كان في ميدان القتال، وغنم من الأعداء شيئاً، أخفاه عمن معه، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر(1).
وقد عد بعضهم السرقة من الكبائر، والواقع أن السرقة من شر الجرائم، ولكن الشارع لم ينص على أنها كبيرة، وإن ذكر أنها أسوأ من هذه الكبائر في الدنيا والآخرة. فقد نفى الإيمان عن السارق فقال: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) وفي بعض الروايات (فإن سرق فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه). وقد جعل الشارع لها عقوبة شديدة، تتناسب مع فظاعتها، كما بيناه فيما سلف، على أن الغرض إنما هو عد الكبائر التي نص في الأحاديث على أنها كبائر، فليس الغرض حصر الجرائم الدينية في هذه الأشياء(2).
(1) (الغلول هو إخفاء بعض غنائم الحرب، وهو من الذنوب الكبائر، روي أن المسلمين فقدوا قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها. فأنزل الله تبارك وتعالى: {ما كان لنبي أن يغل، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} قال ابن عباس: وما يبغي لنبي أن يخون ويخص نفسه بشيء، ثم قال تعالى: {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن هذه الكبيرة قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء، يقول: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة، يحمل فرساً له حمحمة، يناديك يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدم ينادي: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك). عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يأخذ الوبرة من ظهر البعير من المغنم، ثم يقول: (ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط، وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر، والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم). وروي عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ردوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار، ونار، ونار على أهله يوم القيامة وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إن الحجر يرمى في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ يوم القيامة).
الحنفية والمالكية والشافعية قالوا: عقوبة الغال، الذي وجد مال من الغنائم في متاعه يعزره الإمام. الحنابلة قالوا: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق بما فيه، ويجلد دون حد المملوك، ويحرم نصيبه من الغنائم، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من وجدتم في متاعه غلولاً فأحرقوه قال: وأحسبه قال: واضربوه). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم خيبر اقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة").
الكبيرة العشرون ترك الصلاة متعمداً
إن الشارع الحكيم قد أمر المؤمنين بإقامة الصلاة وأدائها والمحافظة عليها والاهتمام بها فقال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} وقال تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} والسنة كذلك. روي عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن جميعاً الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت) رواه أحمد. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (من ترك الصلاة متعمداً احب الله عمله، وبرئت منه ذمة الله حتى يراجع الله عز وجل توبة) رواه الأصفهاني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من ترك الصلاة فقد كفر) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من ترك الصلاة فلا دين له) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (من لم يصل فهو كافر). وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى اللّه عليه وسلم: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر، لأنه تهجم على ترك أمره تعالى وقد وري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة).
ترك الصلاة متعمداً عند المالكية والشافعية
المالكية، والشافعية قالوا: انه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حداً كالزاني المحصن، ولكن يقتل بالسيف.
ترك الصلاة متعمداً عند الحنفية والمزني
الحنفية والمزني صاحب الشافعي قالوا: إنه لا يكفر ولا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلي. وذلك لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وليس فيه ترك الصلاة، فهو مؤمن عاص.
ترك الصلاة متعمداً عند الحنابلة
الحنابلة وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وبعض أصحاب الشافعي ومروي عن الإمام على كرم الله وجهه. قالوا: إن تارك الصلاة عمداً من غير عذر يكفر، واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقوله صلى اللّه عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم). وتأولوا قوله صلى اللّه عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو أنه يؤول إلى الكفر وأن فعله الكفار، والله أعلم. وبعد الموت حكمه حكم المسلم تارك الصلاة: انه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وطمس قره إهانة له. وتطلق زوجته. والعياذ بالله تعالى)
اختلاف العلماء في ترتيب الكبائر
(2) (اختلف العلماء من الصحابة والتابعين في الكبائر، من أربع، إلى سبع، إلى تسع، إلى إحدى عشرة، فما فوق ذلك، فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: هن أربع، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: الكبائر سبع وقال عبد الله بن عباس إذا بلغه قول ابن عمر: إن الكبائر سبع، يقول: هي إلى سبعين اقرب منها إلى سبع وقال مرة: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو من الكبائر وقال هو وغيره من الصحابة: كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار فهو من الكبائر. وقال بعض السلف: كل ما أوجب الحد في الدنيا فهو كبير' والصغائر عندهم من اللمم، وهو ما لأحد فيه، وما لم يتهدد بالنار عليه، فقد روي هذا عن أبي هريرة وغيره. وكان عبد الرزاق رضي الله عنه يقول: الكبائر إحدى عشرة، وهذا أكثر ما قيل في جملة عددها مجملاً وقيل: إنها مبهمة لا يعرف حقيقة عددها، كإبهام ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، والصلاة الوسطى، ليكون الناس على خوف ورجاء، فلا يقطعون بشيء، ولا يسكنون إلى شيء. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه فيها قولاً حسناً من طريق الاستنباط. وقد سئل عن الكبائر فقال: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فكل ما نهى عنه من أول السورة إلى ها هنا فهو من الكبائر. فأشبه هذا استدلالاً قول ابن عباس في استنباط ليلة القدر إنها ليلة سبع وعشرين أنه عد كلم سورة القدر حتى انتهى إلى قول (هي) فكان سبعاً وعشرين كلمة، والله أعلم بحقيقة هذين القولين. قال أبو طالب المكي: والذي عندي في جملة ذلك مجتمعاً من المفرق سبع عشرة، تفصيلها: أربعة من أعمال القلوب وهن الشرك بالله تعالى، والإصرار على معصية الله تعالى، والقنوط من رحمة الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى، وأربعة في اللسان وهن شهادة الزور، وقذف المحصن، واليمين الغموس، والسحر - وثلاثة في البطن وهي شرب الخمر والسكر من الأشربة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم ، واثنتان في الفرج، وأن يعمل عمل قوم لوط في الأدبار، واثنتان في اليدين. وهما القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف، الواحد من اثنين، وواحدة في جميع البدن وهي عقوق الوالدين، فهذه الكبائر الموبقات التي من أجتنبها كفرت عنه السيئات، وثبتت له النوافل من الفرائض الخمس التي هي أبنية الإسلام، قال تعالى: {أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم})