مرض القلوب و الأبدان وطبه
كتاب الطب النبوي لابن القيم الجوزية
محتويات
- لأمراض نوعان
- المرض: نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان
- مرض القلوب
- مرض الأبدان
- طب الأبدان
- طب الأبدان نوعان
- االعودة إلي كتاب الطب النبوي لابن القيم
الأمراض نوعان
أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية، وهي الأمراض الأكثرية، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن، وتناول الأغذية القليلة النفع، البطيئة الهضم، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية، واعتاد ذلك، أورثته أمراضًا متنوعة، منها بطيء الزوال وسريعه، فإذا توسط في الغذاء، وتناول منه قدر الحاجة، وكان معتدلًا في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير.
مراتب الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة. والثانية: مرتبة الكفاية. والثالثة: مرتبة الفضلة. فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته، ولا تضف معها، فإن تجاوزها، فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع. فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن.
هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًا. وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اللبن، حتى قال: والذي بعثك بالحق، لا أجد له مسلكًا. وأكل الصحابة بحضرته مرارًا حتى شبعوا.
الشبع المفرط يضعف القوى والبدن، وإن أخصبه، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء، لا بحسب كثرته.
ولما كان في الإنسان جزء أرضي، وجزء هوائي، وجزء مائي، قسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة. فإن قيل: فأين حظ الجزء الناري؟
قيل: هذه مسألة تكلم فيها الأطباء، وقالوا: إن في البدن جزءًا ناريًا بالفعل، وهو أحد أركانه واسطقساته. ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم، وقالوا: ليس في البدن جزء ناري بالفعل، واستدلوا بوجوه:
أحدها: أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية، أو يقال: إنه تولد فيها وتكون، والأول مستبعد لوجهين، أحدهما: أن النار بالطبع صاعدة، فلو نزلت، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم. الثاني: أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد، ونهاية العظم أولى بالانطفاء.
وأما الثاني: ـ وهو أن يقال: إنها تكونت ها هنا ـ فهو أبعد وأبعد، لأن الجسم الذي صار نارًا بعد أن لم يكن كذلك، قد كان قبل صيرورته إما أرضًا، وإما ماء، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة، وهذا الذي قد صار نارًا أولًا، كان مختلطًا بأحد هذه الأجسام، ومتصلًا بها، والجسم الذي لا يكون نارًا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها، لا يكون مستعدًا لأن ينقلب نارًا لأنه في نفسه ليس بنار، والأجسام المختلطة باردة، فكيف يكون مستعدًا لانقلابه نارًا؟
فإن قلتم: لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام، وتجعلها نارًا بسبب مخالطتها إياها؟
قلنا: الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول، فإن قلتم: إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة، ظهرت النار منها، وإذا ضربنا الحجر على الحديد، ظهرت النار، وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضًا.
قال المنكرون: نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار، كما في ضرب الحجارة على الحديد، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار، كما في البلورة، لكنا نستبعد ذلك جدًا في أجرام النبات والحيوان، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة، كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها، فلا تتولد النار البتة، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار؟
الوجه الثاني: في أصل المسألة: أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية، لكانت محالًا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرًا طويلًا، بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل.
الوجه الثالث: أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل، لكان مغلوبًا بالجزء المائي الذي فيه، وكان الجزء الناري مقهورًا به، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدًا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار الوجه الرابع: أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء، وفي بعضها أنه خلقه من تراب، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين، وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار، وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالًا كالفخار، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار، بل جعل ذلك خاصية إبليس. وثبت في صحيح مسلم : عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار، ولا أن في مادته شيئًا من النار.
الوجه الخامس: أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان، وهي دليل على الأجزاء النارية، وهذا لا يدل، فإن أسباب الحرارة أعم من النار، فإنها تكون عن النار تارة، وعن الحركة أخرى، وعن انعكاس الأشعة، وعن سخونة الهواء، وعن مجاورة النار، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضًا، وتكون عن أسباب أخر، فلا يلزم من الحرارة النار.
قال أصحاب النار: من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما، وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر، ولا متحدًا به، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد، فلا يخلو، إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا، فإن حصل، فهو الجزء الناري، وإن لم يحصل، لم يكن المركب مسخنًا بطبعه، بل إن سخن كان التسخين عرضيًا، فإذا زال التسخين العرضي، لم يكن الشيء حارًا في طبعه، ولا في كيفيته، وكان باردًا مطلقًا، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارًا بالطبع، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت، لأن فيها جوهرًا ناريًا.
وأيضًا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد، وكانت خالية عن المعاون والمعارض، وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية، ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد، لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله، والشيء لا ينفعل عن مثله، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه، وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون أولى، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد، ولا تألم به. قالوا: وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول: الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها، وطبيعتها النارية، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج.
قال الآخرون: لم لا يجوز أن يقال: إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت، فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتًا كان أو حيوانًا أو معدنًا، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة، وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك.
وأما حديث إحساس البدن بالبرد، فنقول: هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينًا، ومن ينكر ذلك؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار، فإنه وإن كان كل نار مسخنًا، فإن هذه القضية لا تنعكس كلية، بل عكسها الصادق بعض المسخن نار.
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا، وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات. وبالله التوفيق.
المرض: نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان
مرض القلوب
ومرض القلوب: نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي
وكلاهما في القرآن. قال تعالى في مرض الشبهة: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} [البقرة: 110]. وقال تعالى: {وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا} [المدثر: 31]. وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة، فأبى وأعرض: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} [النور: 48 :49] فهذا مرض الشبهات والشكوك.
أما مرض الشهوات، فقال تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32]. فهذا مرض شهوة الزنى، والله أعلم.
فأما طب القلوب، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها، وفاطرها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم، فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية، وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته، وقوته عن ذلك بمعزل، ومن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات.
مرض الأبدان
قال تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} [النور: 61]، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن، والإستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة.
فقال في آية الصوم: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184]، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلبًا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة، وما يوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة، وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظًا لصحته وقوته عما يضعفها.
وقال في آية الحج: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]، فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل، أو حكة، أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغًا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا تبيغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش. وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه.
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية: فقال تعالى في آية الوضوء: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج، فقد أرشد ـ سبحانه ـ عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده، ونحن نذكر هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي.
طب الأبدان
فجاء من تكميل شريعته، ومقصودًا لغيره، بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه، فإذا قدر على الإستغناء عنه،كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح، وحفظ صحتها، ودفع أسقامها، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول، وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًا، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة، وبالله التوفيق.
طب الأبدان: فإنه نوعان
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه، فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد، والتعب بأضدادها وما يزيلها.
والثاني: ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج، بحيث يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها، وهي نوعان: إما مادية، وإما كيفية، أعني إما أن يكون بانصباب مادة، أو بحدوث كيفية، والفرق بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها، فتزول موادها، ويبقى أثرها كيفية في المزاج.
وأمراض المادة أسبابها معها تمدها، وإذا كان سبب المرض معه، فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولًا، ثم في المرض ثانيًا، ثم في الدواء ثالثًا. أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته، إما في شكل، أو تجويف، أو مجرى، أو خشونة، أو ملاسة، أو عدد، أو عظم، أو وضع، فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالًا، والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الإتصال، أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية.
والأمراض المتشابهة: هي التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال، وهذا الخروج يسمى مرضًا بعد أن يضر بالفعل إضرارًا محسوسًا. وهي على ثمانية أضرب: أربعة بسيطة، وأربعة مركبة، فالبسيطة: البارد، والحار، والرطب، واليابس، والمركبة: الحار الرطب، والحار اليابس، والبارد الرطب، والبارد اليابس، وهي إما أن تكون بانصباب مادة، أو بغير انصباب مادة، وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجًا عن الاعتدال صحة.
وللبدن ثلاثة أحوال: حال طبيعية، وحال خارجة عن الطبيعية، وحال متوسطة بين الأمرين. فالأولى: بها يكون البدن صحيحًا، والثانية: بها يكون مريضًا. والحال الثالثة: هي متوسطة بين الحالتين، فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط، وسبب خروج البدن عن طبيعته، إما من داخله، لأنه مركب من الحار والبارد، والرطب واليابس، وإما من خارج، فلأن ما يلقاه قد يكون موافقًا، وقد يكون غير موافق، والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال، وقد يكون من فساد في العضو، وقد يكون من ضعف في القوى، أو الأرواح الحاملة لها، ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته، أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه، أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله، أو اتصال ما الاعتدال في تفرقه، أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه، أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله.
فالطبيب: هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه، أو يجمع فيه ما يضره تفرقه، أو ينقص منه ما يضره زيادته، أو يزيد فيه ما يضره نقصه، فيجلب الصحة المفقودة، أو يحفظها بالشكل والشبه، ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض، ويخرجها، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية، وسترى هذا كله في هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شافيًا كافيًا بحول الله وقوته، وفضله ومعونته.