محتويات
قاعدة 91 تحريم الخروج عن الإمام بقول أو فعل
حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازم، فلذا أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام، بقول أو فعل حتى أن جز في إجماعهم على الصلاة خلف كل بر وفاجر من الولاة وغيرهم ما لم يكن فسقه في عين الصلاة. وكذا يرون الجهاد مع كل أمير من المسلمين، وإن كان فاجرا لا غيره. وزعم ابن مجاهد إجماع المسلمين، وأنكره ابن حزم، وفيه كلام لهما. والمعول، المنع بكل حال، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره). وقال عليه الصلاة والسلام (المؤمن لا يذل نفسه). قال ابن عباس: يتعرض للسلطان وليس له منه النصف. وفي الترمذي: (ما مشى قوم إلى السلطان شبرا ليذلوه، إلا أذلهم الله تعالى) إلى غير ذلك مما يطول ذكره. ويجمعه قوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والقوم أهرب الناس مما لا يعنى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 92 محمل كلام القوم في ذم الرخص والتأويلات هو في كل مشكوك الحكم لا في المحقق
العبادة: إقامة ما طلب شرعا من الأعمال الخارجة عن العبادة، أو الداخلة، سواء كان رخصة أو عزيمة، إذا أمر الله فيهما واحد. فليس الوضوء بأولى من التيمم في محله، ولا الصوم بأولى من الإفطار في محله، ولا الإكمال بأولى من القصر في موضوعه. وعليه يتنزل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تترك عزائمه). لا على الرخصة المختلف في حكمها، إذ الورع مطلوب في كل مشكوك الحكم، بخلاف المحقق، فإن تركه تنطع، وعلى هذا الأخير يتنزل كلام القوم في ذم الرخص، والتأويلات، والله أعلم.
قاعدة 93 المقصود موافقة الحق حتى إن كان موافقا للهوى
المقصود موافقة الحق وإن كان موافقا للهوى، حتى قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إذا وافق الحق الهوى، فذلك الشهد بالزبد). وقد أغرق قوم في مخالفة النفس، حتى خالفوا الحق في طي ذلك. ومنه استئذانهم في الواجب والضروري الذي لا يمكن انفكاكه، وتركهم جملة من السنن، لإلفها مع ترك ما ألفوا منها. وهذا وإن كان مؤثرا في النفس، فهو مثير للباطل وسائر بصاحبه لعكس القصد، نسأل الله العافية.
قاعدة 94 الأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة و (خير دينكم أيسره)
الأجر على قدر الاتباع، لا على قدر المشقة لفضل الإيمان والمعرفة والذكر والتلاوة على ما هو أشف منها بكثير من الحركات الجسمانية. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أجرك على قدر نصبك) إخبار خاص في خاص لا يلزم عمومه. سيما وما خير في أمرين إلا اختار أيسرهما مع قوله: (إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا). وكذا جاء: (خير دينكم أيسره) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 95 التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها. والتوسط: أخذ بالطرفين، فهو أحسن الأمور كما جاء: (خير الأمور أوسطها).
{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}. {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}.
قال عليه السلام: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر). وكان يقوم من الليل نصفه، وثلثه، وثلثيه، وهو الوسط باعتبار من يأتي على كله، أو لا يقوم منه إلا اليسير. وكذلك رد عبد الله بن عمر للوسط بصيام نصف الدهر وقيام نصف الليل، وختم القرآن في سبع إلى غير ذلك، فلزم التوسط في كل مكتسب، لأنه أرفق بالنفس وأبقى للعبادة.
قاعدة 96 تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين إن عارض أصلا شرعيا
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده، ولا أشارت النصوص الشرعية بأمر لا يمكن تركه ما حدد منه، ابتداع في الدين، ولا سيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات ورد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إلا الإتيان به، قبل صلاة الصبح، أو زوال اليوم. وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة، وتوقيت ورد الصلاة ونحوها، مما لم يرد من الشارع نص فيه، لا ما ورد فيه نص أو أشار إليه، كصلاة الرواتب، وأذكار ما بعد الصلاة، وقراءة القرآن، وصيام النقل، ونحوه مما يكره ترك معتاده ويمنع الاعتداد فيه فافهم.
قاعدة 97 استخراج الشيء من محله يكون بإدخال الضد عليه
استخراج الشيء من محله بإدخال الضد عليه أبدا، فإن تعدد تعدد، وإن اتحد اتحد، حسب سنة الله، لا لزوما في النظر، وإن اقتضاه العقل. فلهذا أمروا المريد في ابتداءه بتعدد الأوراد وإكثارها، نفيا لما في نفسه من آثارها، وعند توسطه بإفراد الورد لإفراد الهم وإفراد الحقيقة. وكل هذا بعد حفظ الورد الشرعي، ذكرا أو غيره حسبما ورد عموما والله أعلم.
قاعدة 98 ما ركب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها
ما ركب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها. فلذا قيل: إذا علم الصغير ما تميل إليه نفسه من المباحات، خرج إماما فيها. وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد، كان معينا على مقصده بدوامه. فإنه ما قصر جسد عن مهمته ويعين الله العبد على قدر نيته. ما دخل بانبساط كان أدعى للدوام. وقد أشار لهذه الجملة في تاج العروس، وتكلم عليها الشيخ ابن أبي جمرة في حديث حذيفة إذ قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير). والله أعلم.
قاعدة 99 طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله، وأدعى لدوام سببه المطلوب في نفسه لإفراد الحقيقة له، فلزم التزام ورده لا تنتقل عنه حتى تحصل نتائجه، وإلا فالمنتقل قبل الفتح كحافر بئر لا يدم على محل واحد، كالمقطر قطرة، على كل محل يريد تأثير المحل بالنظر أثرا يظهر لعمله مع ذلك أثر. قيل: والدوام في الشيء زيادة فيه باعتبار العمر، لا باعتبار العدد ومن استوى يومه هو الذي لم يعمل فيهما شيئا ومن احتوى أمسه على خلاف يومه فهو المحروم فإنه ليس عنده إلا عمل أمسه والله أعلم.
قاعدة 100 دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته، ورتبته على قدر التقرب به. والله تعالى دائم الربوبية فأحكام عبوديته دائمة على خلقه لا ترتفع عنهم وأجل العباد عنده من عبده، لأنه أهل للعبادة، مع رجائه والخوف منه أو الهيبة أو الحياء ونحوه فافهم والله سبحانه أعلم.
قاعدة 101 رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموما بالنسبة
العائدة على قدر الفائدة، وهي معتبرة بأنفسها ومقاصدها، لا أعدادها، إذ رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموما بالنسبة كتتبع الفضائل. والعمل في المنافع العامة، مؤد لأعظم الضرر، بحسب الزمان والعقول، فلولا الأول ما طلب الفقير شيئا من ترهات الباطلين كالكنوز والكيمياء ونحوهما، مما لا يطلبه إلا من قل دينه وعقله ومروءته وفلاحه.
أما قلة دينه، فإنه لا يخلو في الطلب والعمل والتصريف عن محرم، أقله عدم البيان أو الدلسة. وأما قلة عقله فلاشتغاله بمتوهم لا يدركه غالبا عن محقق أو مظنون يفوت هي الأسباب العادية. وأما قلة مروءته فلأنه ينسب للدلسة والخيانة والسحر إن ظهر عليه. وفي طلب منافع العامة ما لا يخفى من التعرض للأذى والرمي بالقيام ونحوه والله أعلم.
قاعدة 102 الخروج عن حكمة الأسباب معاندة لحكم الحق
إقامة الأسباب ملحوظ في الأصل بحكمة إقامة العالم لاستقامة وجوده، فلذلك ذم ما خالف وجود حفظ النظام، ووقع مستغربا في الوجود. من الأسباب وغيرها وأكدته الغيرة الإلهية يلزم نقيض المقصد، كالفقر في الكيمياء، والذل في طلب الكيمياء، وميتة السوء في علم النجوم، لأن الكل خروج عن حكمة الأسباب، ومعاندة لحكم الحق ومقامة له في طلب الأكمل بالموهوم. ويزيد الأخير بالتجسس على مملكة الله سبحانه كما أشار إليه في التنوير، ولكل نصيب مما لصاحبه وإن اختلف البساط والله أعلم.
قاعدة 103 لزوم إقامة العبد حيث أقامه الله من غير التفات لمقام آخر وإن كان أتم في نظره
إقامة رسم الحكمة لازم، كالاستسلام للقدرة، فلزم إقامة العبد حيث أقيم من غير التفات لغيره، وإن كان الغير أتم في نظره، ما لم يختل شرط الإقامة بتخلف الفائدة أو عدم إقامة إمكان الحقوق الشرعية، فيتعين الانتقال للمثل حتى إذا تعذر الكل، جاز التجرد بل لزم ، فقد أقر عليه السلام على التجريد أهل الصفة، وأمر بالتسبب حكيم ابن حزام لما تعلقت نفسه بالعطاء، فمن ثم قال الخواص رضي الله عنه: "ما دامت الأسباب في النفس قائمة فالتسبب أولى، والأكل بكسب أحل له، لأن القعود لا يصلح لمن لم يستغن عن التكلف". انتهى وهو فصل الخطاب في بابه.
قاعدة 104 استواء الفعل والترك في المنفعة يقضي بترجيح الترك لأنه اسلم
استواء الفعل والترك في المنفعة يقضي بترجيح الترك، لأنه الأصل لاستصحابه السلامة، فمن ثم فضل الصمت عن الكلام حيث لا مرجح له، وترك الدنيا أخذها، والعزلة الصحبة سيما في زمان لا يأمن فيه الرجل جليسه والجوع والشبع إلى غير ذلك مما هو فقد في الحال فائدة في المال. ومنه ترك الشهوات عند قوم ما لم تعتقد القربة في ذلك، فلا يصح إلا بنية صالحة تحوله للندب، إذ قد أذن الله فيه، فليس أحد الجانبين بأولى من غيره في أخذه وتركه إلا بمرجح والله أعلم.
قاعدة 105 ما مدح أو ذم لا لذاته قد ينعكس حكمه لموجب يقتضي نقيضه
ما مدح أو ذم لا لذاته قد ينعكس حكمه لموجب يقتضي نقيضه. فقد صح:"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه"، وصح: "لا تسبوا الدنيا فنعمت هي مطية المؤمن". ومدحت الرياسة لما تؤدي إليه من حفظ النظام، حتى أثنى الله على من طلب الرياسة الدينية إذ قال {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}. لما تؤدي إليه من الكبر والخروج عن الحق، ومدح الصمت للسلامة ، وذم عن الواجب الذي لا بد منه.
ومدح الجوع لتصفية الباطن وذم لإخلاله بالفكر، فلزم التوسط وهو في الجوع ما يشتهى إليه الخبز وحده، والمفرط ما يشتهى معه كل خبز، والكاذب ما ينضاف إليه كل شهوة غير معتادة له، فافهم.
قاعدة 106 قد يباح الممنوع لتوقع ما هو أعظم منه كالكذب في الجهاد لتفريق كلمة الكفار
قد يباح الممنوع لتوقع ما هو أعظم منه كالكذب في الجهاد لتفريق كلمة الكفار، وفي الإصلاح بين الناس للخير، وفي ستر مال المسلم أو عرضه ولو نفسه إذا سئل عن معصية عملها، أو مال أريد غصبه منه أو من غيره، لأن مفسدة الصدق في ذلك أعظم. وللزوجة والولد خوف نفورهما. وبالجملة فيسوغ لدفع مفسدة أعظم لا لجلب مصلحة. وكذا الغيبة تباح في التحذير والاستفتاء ونحوه مما ذكره الأئمة، وليس من ذلك قياس الخمول بالمحرمات لرفع الجاه بشربة خمر غص بهذا الجاه مباح، ولا يباح الممنوع لدفع المباح، وإن كان مضرا فاعلم ذلك، فافهم.
قاعدة 107 التدريج في تمرين النفس أسهل لتحصيل المراد منها
تمرين النفس في أخذ الشيء وتركه وسوقها بالتدريج، أسهل لتحصيل المراد منها. فلذلك قيل: ترك الذنوب أيسر من طلب التوبة، ومن ترك شهوته سبع مرات كلما عرضت له تركها لم يبتل بها، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت لأجله.
وقال المحاسبي رحمه الله في صفة التوبة :(انه يتوب جملة، ثم يتبع التفاصيل بالترك، فإن أمكن ذلك له)، وهو صحيح والله اعلم .
قاعدة 108 العبد لا يأمن مكر الله ولا ييأس من روح الله
بساط الكرم قاض بان الله تعالى لا يتعاظمه ذنب يغفره . وبساط الجلال قاض بان الله تعالى يأخذ العاصي ولا يمهله . فلزم أن يكون العبد ناظرا لهما في عموم أوقاته، حتى لو أطاع بأعظم الطاعات، لم يأمن مكر الله، ولو عصى بأعظم المعاصي لم ييأس من روح الله. وبحسب ذلك، فهو يتقي الله ما استطاع، ويتوب إليه، ولو عاد في اليوم ألف مرة، فافهم .
قاعدة 109 الخواص ثابتة في الأقوال والأفعال والأعيان وأعظمها خواص الأذكار
الخواص ثابتة في الأقوال والأفعال والأعيان وأعظمها خواص الأذكار، إذ ما عمل ادمي عملا، أنجى له من عذاب الله من ذكر الله .
وقد جعلها الله للأشياء، كالأشربة والمعاجين في منافعها، لكل ما يخصه فلزم مراعاة العام في العموم، وفي الخاص بما يوافق حال الشخص وعلمه، مع اعتبار الجانب الشرعي في القصد في العمل، سيما وقد قال الإمام مالك رحمه الله في المجهولات :( ما يدريك لعله يكفر) .
قلت : وقد رأيت من يرقى بألفاظ كفرية، والله أعلم.
قاعدة 110 جواز الأخذ بما اتضح معناه من الأذكار والأدعية وإن لم يصح رواية
بساط الشريعة، قاض بجواز الأخذ بما اتضح معناه من الأذكار والأدعية، وإن لم يصح رواية، كما نبه ابن العربي في السراج وغيره . وجاءت أحاديث في تأثير الدعاء الجاري على لسان العبد، والمنبعث من همته، حتى أدخل مالك رخمه الله في موطئه، في باب دعائه صلى الله عليه وسلم قول أبي الدرداء : (نامت العيون وهدأت الجفون ولم يبق إلا أنت يا حي يا قيوم) . وقال صلى الله عليه وسلم للذي دعا بـ : إني أسألك بأنك الله الأحد الصمد ....الخ، (لقد دعوت باسمه الأعظم) .
وكذا قال للذي دعا بـ: (يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد)، إلى غير ذلك .فدل على أن كل واضح، مستحسن في ذاته، يحسن الأخذ به سيما أن استند لأصل شرعي، كرؤيا صالح، أو الهام ثابت المزية كأحزاب الشاذلي، والنووي، ونحوهما .
وفي أحزاب ابن سبعين كثير من المبهمات والموهمات فوجب التجنب جملة لمحل الخطر، إلا لعالم يعتبر المعنى ولا يتقيد باللفظ فيه . والوظائف المجموعة من الأحاديث أكمل أمرا، إذ لا زيادة فيها سوى الجمع سيما أن أخذت من المشايخ، وجل أحزاب الشاذلي عند التفصيل والنظر التام للعالم بالأحاديث من ذلك [مع ما تضمنته من التذكير والتأنيث بالأمور المطلوبة في الجملة والله سبحانه اعلم].
قاعدة 111 ما خرج مخرج التعليم وقف على وجهه من غير زيادة ولا نقص
ما خرج مخرج التعليم وقف على وجهه من غير زيادة ولا نقص .
فلقد روي أن رجلا كان يذكر في دبر كل صلاة :سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، مائة مرة من كل وأحد.
فرأى كأن قائلا يقول :(أين الذاكرون أدبار الصلوات؟ فقام، فقيل له: ارجع فلست منهم إنما هذه المزية على الثلاث والثلاثين، فكل ما ورد فيه عدد قصر عليه، وكذا كل لفظ) .
نعم، اختلف في زيادة (( سيدنا )) في الوارد من كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والوجه أن يقتصر على لفظه، حيث تعبد به ويزداد حيث ما يراد الفضل في الجملة.
وقال ابن العربي في زيادة: (( وارحم محمدا)) انه قريب من بدعة، وذكره في العارضة، والله أعلم.
قاعدة 112 العبد لا يعاتب على تقصير لا سبب له فيه
حق العبد أن لا يفرط في مأمور، ولا يعزم على محظور، ولا يقصر في مندوب فإن قصر به الحال حتى وقع في الأول، والثاني، والثالث، لزمه الرجوع لمولاه بالتوبة واللجأ والاستغفار. ثم إن كان ذلك بسبب منه، عاتب نفسه ولامها، وإن كان لا بسبب منه فلا عتب على قدر لا سبب للعبد فيه . وحديث ذلك في سؤال علي وفاطمة، إذ سألهما عليه السلام عن عدم صلاتهما بالليل، فأجابه علي بقوله :(( إن الله قبض أرواحنا فمر وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)) . ولما ناموا ليلة الوادي، حتى طلعت الشمس، قال عليه الصلاة والسلام: (( إن الله قبض أرواحنا )) وذلك أن عليا وفاطمة تسببا بوجود الجنابة، كما ذكره ابن أبي جمرة رحمه الله، فكان الجواب بالعذر وإن كان نفس الحق جدلا [إذ سئلا] عن السبب، والصحابة في الوادي لم يتسببوا، بل وكلوا من يقوم لهم بالأمر من هو أهل للقيام به، فافهم.
قاعدة 113 ضرورة العزلة وفراغ القلب
فراغ القلب للعبادة والمعرفة مطلوب، فلزم الزهد وإسقاط الكلف، واختيار الأدنى، لأن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
ومن المشغلات الأحداث سنا وعقلا أو دينا، فلهذا نهى عن صحبتهم إذ التلون مانع الراحة، ولذا أمر بمجانبة الصحبة وإيثار العزلة سيما في هذه الأزمنة. لكن بشرطها وهو كفاية عن الخلق، كفايتهم عنه في الضرورة دينا ودنيا، مع سلامتهم من سوء ظنه وإقامة الشعائر الإسلامية من الواجبات والسنن المؤكدة، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 114 الخلوة أخص من العزلة وهو بوجوهها وصورتها نوع من الاعتكاف
الخلوة أخص من العزلة وهو بوجوهها وصورتها نوع من الاعتكاف، ولكن لا في المسجد، وبما كانت فيه. وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى عليه السلام.
والقصد في الحقيقة: الثلاثون، إذ هي أصل المواعدة، وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهرا كما في مسلم.
وكذا اعتزل من نسائه، وشهر الصوم الواحد. وزيادة القصد ونقصانه كالمريد في سلوكه، وأقلها عشرا لاعتكافه عليه السلام العشر، وهي للكامل زيادة في حاله ولغيره ترقية، ولا بد من أصل يرجع إليه، والقصد بها تطهير القلب من أدناس الملابسة، وإفراد القلب لذكر وأحد، وحقيقة واحدة، ولكنها بلا شيخ مخطرة، وله فتوح عظيمة، وقد لا تصلح لأقوام فليعتبر كل أحد بها حاله، والله اعلم.
قاعدة 115 لا بد من عبادة ومعرفة وزهادة، لكل عابد وعارف وزاهد
لا بد من عبادة ومعرفة وزهادة، لكل عابد وعارف وزاهد. لكن من غلب عليه طلب (العلم) كان عابدا ومعرفته تبع لعبادته. ومن غلب عليه ترك الفضول كان زاهدا وعبادته ومعرفته تبع لزهده، ومن غلب عليه النظر للحق بإسقاط الخلق، كان عارفا وعبادته، وزهده تابعان لأصله. فالنسب تابعة للأصول، وإلا فالطرق متداخلة، ومن فهم غير ذلك فقد أخطأ، نعم يخفف الأمر ويقوى بحسب البساط والله سبحانه اعلم.
قاعدة 116 التزام اللازم للملزوم موصل إليه
التزام اللازم للملزوم موصل إليه، فمن ثم فضل الذكر غيره. إذا ما أردت أن يلزمك فالزم ملزوميته، وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}. ولا أعظم من هذه الكرامة. وجعل لكل حدا ووقتا، إلا ذكره تعالي، إذ قال: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} و{الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. و{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}.
ولأبي سعيد عن ابن جبان: (أذكر الله حتى يقولوا مجنون). والذكر منشور الولاية، فمن أعطي الذكر فقد أعطي المنشور.
قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: (عليك بدوام الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي سلم ومعراج وسلوك إلى الله تعالي إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا).
فقد سمعت في ست وأربعين وثمانمائة بالحرم الشريف، رجلا من الصالحين روى لي ذلك عن بعض أهل الصدق مع الله تعالى وكلاهما معروفان رأيتهما والله سبحانه اعلم.
قاعدة 117 نورانية الأذكار محرقة لأوصاف العبد
نورانية الأذكار محرقة لأوصاف العبد، ومثيرة لحرارة طبعه بانحراف النفس عن طبعها. فمن ثم أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كالماء تقوي النفوس وتذهب وهج الطباع، وسر ذلك في السجود لآدم عند قولهم: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}. ولهذا أمر المشايخ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غلبة الوجد والذوق ولذلك شاهد. وقد أشار إليه الصديق رضي الله عنه إذ قال: (الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أمحق للذنوب من الماء البارد للنار). (ألا ترى إلى آخره) فليعتمد. وقد نص في مفتاح الفلاح أن علامة الفتح، ثوران الحرارة في الباطن والله سبحانه اعلم.
قاعدة 118 لزوم مراعاة الدعاء من حيث الحكمة فالعبد مأمور به
النظر لسابق القسمة وواجب الحكمة، هو القاضي بان الدعاء عبودية اقترنت بسبب، كاقتران الصلاة بوقتها، وكذا الذكر المرتب لفائدة ونحوها، لأنك إذا قلت: تذكر، فإنما يذكر من يجوز عليه الإغفال. وإن قلت: تنبيه، فإنما ينبه من يمكن منه الإهمال. وإن قلت: تسبب، فجعل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل. وقد جاء الأمر به، وترتيب الإجابة، عليه، فلزم أن يرعى من حيث الحكمة ولذا صح بمرفوع منه كـ: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}، عند من قال به وهو دعاء الأبدال، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 119 استواء العبادتين في الأصل مع جواز ترك إحداهما للأخرى شرعا، يقضي بالبدلية فيهما
استواء العبادتين في الأصل مع جواز ترك إحداهما للأخرى شرعا، يقضي بالبدلية فيهما.
فالذكر بدل من الدعاء عند اعتراض الاشتغال به عنه وبالعكس، وقد صح من شغله ذكري عن مسائلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، فظهرت أفضلية الذكر في هذه الحالة خلي عن الحض مع اعتراضه، والتعريض عند الخلو من دواعيهما أتم بجمعه بين صمت الصامت ونطق الناطق والتحقيق أن الأفضل في كل محل ما وقع فيه إذ الكل وقع لأنبياء الله في أحوال، وهم فيها على أفضل الأحوال، فافهم
قاعدة 120 الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص فاحتيج بالخاص لدليل يخصه
إعطاء الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص فاحتيج بالخاص لدليل يخصه حتى يتخصص بهو من ذلك الجهر بالذكر والدعاء والجمع فيهما ولهما.
فأما الذكر فدليله: (إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
قيل: ومن أدلته: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}.
وقال ابن عباس: (ما كنت اعرف انصراف الناس من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالذكر) رواه البخاري.
والجهر في ذكر العيد في أدبار الصلوات وبالثغور وفي الأسفار حتى قال عليه السلام: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا).
وقد جهر عليه السلام بأذكار في مواطن جمة، وكذا السلف. وصح قوله جوابا لأهل الخندق: (اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكل هذه أدلة على الجهر والجمع. لكن في قضايا خاصة يكون وجودها مستندا، لا دليلا لاحتمال قصرها على ما وقعت فيه، وكونها مقصودة لغيرها لا لذاتها، فلزم تمهيد أصل آخر.
قاعدة 121 إثبات الحكم لقضية خاصة، لا يجري في عموم نوعها لاحتمال قصره على ما وقع فيه
إثبات الحكم لقضية خاصة، لا يجري في عموم نوعها لاحتمال قصره على ما وقع فيه، سيما عند من يقول: (الأصل المنع حتى يأتي المبيح)، والجمع للذكر والدعاء والتلاوة أخص من الجمع فيهما لكونه مقصودا بخلاف الأول، فانه اعم من ذلك، فلزم طلب دليل يخصه.
فأما الجمع للذكر ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر. الحديث. وفي آخره: فيسألهم ربهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: (يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك ويمجدونك). الحديث.
وهو صريح في ندب الجمع لعين الذكر بالترغيب في سياقه. وما وقع في آخره من أن فيهم من ليس منهم فيقول تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فأخذ منه جواز الاجتماع لقصد عين الذكر بوجه لا يسوغ وتأويله كحديث: (ما جلس مسلمون مجلسا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
الذي تأول بالعمل مرة، وبذكر الآلاء أخرى، وحمل على ظاهره أيضا فسقط التمسك به في أعيان الأذكار كدلالته على ما تأول به لاحتماله. فإن قيل: يجتمعون، وكل على ذكره، فالجواب: إن كان سرا فجدواه غير ظاهره، وإن كان جهرا، وكل على ذكره، فلا يخفى ما فيه ما إساءة الأدب بالتخليط وغيره مما لا يسوغ في حديث الناس، فضلا عن ذكر الله. فلزم جوازه، بل ندبه بشرطه.
نعم، وتأويل التسبيح والتحميد (والتمجيد) بالتذاكر في التوحيد من ابعد البعيد، فتأويله غير مقبول لبعده عن الأفكار حتى لا يخطر إلا بالأخطار، وذلك من مقاصد (الشرع) بعيد جدا، فافهم.
وأما الدعاء فالجمع له، فقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه، وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله r يقول: (لا يجتمع ملأ فيدعوا بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله لهم دعاءهم). رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
وذكره شيخنا أبو زيد الثعالبي رحمه الله في (دلائل الخيرات) وأظنه نقله من ترغيب المنذري.
وحكا أبو اسحق الشاطبي عمل عمر رضي الله عنه به، وإنكاره له، وعده من البدع الإضافية، أي التي تذم لما يقترن بها، لا لذاتها، فافهم.
وأما التلاوة فصحح النووي وغيره: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يقرؤون القرآن ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)، الحديث كما في الذكر. وأخذوا منه جواز قراءة الحزب الذي يقرأ في المساجد، كل ذلك على أصل الشافعي ومذهبه.
وأما مذهب مالك في ذلك كله، هو الكراهة لعدم عمل السلف، ولسد ذريعة الابتداع بالزيادة على ذلك، والخروج فيه لغير الحق، وقد وقع ما اتقاه رضي الله عنه.
قاعدة 122 فضيلة الشيء غير أفضليته، وحكم الوقت غير حكم الأصل
فضيلة الشيء غير أفضليته، وحكم الوقت غير حكم الأصل، فلا يلزم من الترغيب الأفضلية وإن ثبت الفضل، ولا من الترك الفعل لعارض الوقت، رفض حكم الأصل. والجمع للذكر والدعاء والتلاوة، وقد صح ندب كل ذلك بالأحاديث المتقدمة، فلا يصح دفع أصل حكمه، وإن أؤثر عليه غيره فلأفضلية الغير عليه كالذكر الخفي، وما يتعدى من العبادات نفعه، كالعلم والجهاد والتكسب على العيال إلى غير ذلك مما كان اعتناء الصحابة به وشغلهم فيه، حتى شغلهم عن الاجتماع للذكر والتفرغ له من غير ضميمة شيء من ذلك إليه. إلا تراهم عند إمكانه مع ما هم فيه استعملوه كالأسفار والأعياد وأدبار الصلوات ونحو ذلك. ولما جاء عليه الصلاة والسلام حلقة الذاكرين تجاوزها وجلس مع المتذاكرين في العلم، فآثر المتذاكرين في العلم لتعدي نفهم ولاحتياجهم إليه فيما هم به، إذ لا علم إلا من قبله فقصدهم لتبليغ ما جاء به، بخلاف الذاكرين، فإن ما هم فيه بين بنفسه ونفعه قاصر عليهم، لكنه لم ينكر على أولئك وإن آثر هؤلاء، والله اعلم.
قاعدة 123 للزمان حكم يخصه فيخصص مباحه بندب أو منع أو كراهة أو وجوب
للزمان حكم يخصه، بحيث يخصص مباحه بندب أو منع أو كراهة أو وجوب، ويرد مندوبه لمنع أو كراهة. كل ذلك إذا كان كل منهما مؤديا لما يعطاه حكمه من دليل آخر يقتضيه، والقول بمنع الجمع للذكر وكراهته في هذه الأزمنة من ذلك، كمنع النساء من الخروج للمساجد ونحوه، مما هو ممنوع لما عرض فيه وبه لا لذاته، إذ أصل الشريعة إباحته أو ندبه، وللناس في ذلك مذهبان: فمن يقول بسد الذرائع، يمنع جميع الصور لصورة واحدة وهو مذهب مالك رحمه الله، ومن لا يقول بها إنما يمنع ما يقع على الوجه الممنوع، وهو مذهب الشافعي وغيره.
ولما تكلم سيدي أبو عبد الله بن عباد رحمه الله على مسألة الحزب قال: (انه من روائح الدين التي يتعين التمسك بها لذهاب حقائق الديانة في هذه الأزمنة وإن كان بدعة، فهو مما اختلف فيه. وغاية القول فيه الكراهة فصح العمل به على قول من يقول به.
قلت: وقد يلحق الذكر به في بعض الأماكن والأوقات بشرطه. ولعل الشارع إنما قصد بترغيبه من بعد الصدر الأول لاحتياجهم له.
وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه لقوم وجدهم يذكرون جماعة: (لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فقتم أصحاب محمد علما).
فالجواب عنه بأنه لم يبلغه حديث الترغيب فيها، أو انه أنكر الهيئة ونحوها.
وإلا فلا يصلح إنكاره لهذا الوجه بعد صحة الحديث والله سبحانه اعلم.
قاعدة 124 مراعاة الشروط في مشروطها لازم لمريدها
مراعاة الشروط في مشروطها لازم لمريدها، وإلا لم يصح وجوده له، وإن قامت صورته.
وشروط الذكر التي تتعين عند الجمع له ثلاث:
أولها: خلو الوقت عن واجب أو مندوب متأكد يلزم من عمله الإخلال به كأن يسهر فينام عن الصلاة، أو يتثاقل فيها، أو يفرط في ورده، أو يضر بأهله، إلى غير ذلك.
ثانيهما: خلوه عن محرم أو مكروه يقترن به كإسماع النساء أو حضورهن أو يتقي من الأحداث، أو قصد طعام لا قربة فيه، أو داخلته شبهة ولو قلت، أو فراش محرم كحرير ونحوه، أو ذكر مساويء الناس، أو الاشتغال بالأراجيف إلى غير ذلك.
ثالثهما: التزام أدب الذكر من كونه شرعيا أو في معناه، بحيث يكون بما صح واتضح وذكره على وجه السكينة، وإن مع قيام مرة وقعود أخرى، لا مع رقص وصياح ونحوه، فانه من فعل المجانين كما أشار مالك رحمه الله، لما سئل عنهم فقال: (أمجانين هم). وغاية كلامه الاستقباح بوجه يكون المنع فيه أحرى فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 125 الأذكار التي تتعلق بالأمور الدنيوية تؤدي إلى حب الله والأنس بذكره
استراق النفوس بملائمها طبعا، لما فيه نفع ديني مشروع، فمن ثم رغب في أذكار وعبادات لأمور دنيوية، كقراءة سورة الواقعة لدفع الفاقة: (وبسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العلمي) لصرف البلايا المفاجئة: (وأعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق) لصرف شر ذوات السموم، والحفظ في المنزل، إلى غير ذلك من أذكار صرف الهموم والديون والإعانة على الأسباب، كالغنى والعز ونحوه. بيان ذلك أنها إن أفادت عين ما قصدت له، كان داعيا لحبها، ثم داعيا لمن جاء بها ومن نسبت له أصلا وفرعا، فهي مؤدية لحب الله. وإن لم تؤد ما قصدت له، فاللطف موجود بها، ولا أقل من أنس النفس بذكر الحق، ودخول ذلك من حيث الطباع أمكن وأيسر.
ولهذا الأصل استند الشيخ أبو العباس البوني ومن نحا نحوه في ذكر الأسماء وخواصها، وإلا فالأصل أن لا تجعل الأذكار والعبادات سببا في الأعراض الدنيوية إجلالا لها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 126 كل اسم أو ذكر فخاصيته من معناه وسره في عدده وإجابته على قدر همة صاحبه
كل اسم أو ذكر فخاصيته من معناه وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده وإجابته على قدر همة صاحبه، فمن ثم لا ينتفع عالم إلا بجلي واضح المعنى، ولا جاهل إلا بخفي لا يعرف معناه ويبقى من بينها. ولزم اعتبار العدد الموضوع شرعا، والمستخرج استنباطا لتوقف التحقيق عليه حسب سنة الله. فأما الكتابة والتفريط في الشكل ونحوه، فأمر مستفاد من علم الطباع والطبائع، ولا يخفى بعده عن الحق والتحقيق، فلذا قال ابن البنا رضي الله عنه: (باين البوني وأشكاله، ووافق خيرا النساج وأمثاله).
وقال الحاتمي رحمه الله: (علم الحروف علم شريف لكنه مذموم دينا ودنيا). فاعلم ذلك، وبالله سبحانه التوفيق.
قلت: أما دينا، فلتوغل صاحبه في الأسباب المتوهمة دون المحققة، وذلك قادح في مقام التوكل. وكل باعتبار الاجتهاد في السبب، كالمبادرة بالكي في التطبب لأنه من ترق النفس واستعجال البرء فافهم.
وأما دنيا فلأنه شغل في وجه يخل بعمارتها والله سبحانه اعلم.
قاعدة 127 السبحة وعقد الذكر بالأصابع
اعتبار النسب الحكمية جار في الأمور الحكمية، على وجه نسبتها منها، فمن ثم اعتبر العدد في الذكر، إذ مرجع الوجود إليه باعتبار جواهره وأعراضه. فإذا وافقتا النسبة محلها، وقع التأثير حسب القسمة الأزلية. ولعقد الأعداد وجه في والشرع إذ قال صلى الله عليه وسلم لنساء من المؤمنات: (واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات)، وأقر بعض أزواجه على تسبيحها في نوى كان بين يديها. وكان لأبي هريرة خيط قد ربط فيه خمسمائة عقدة يسبح فيها، قيل: والسبحة أعون على الذكر وأدعى للدوام، وأجمع للفكر، وأقرب للحضور، وأعظم للثواب، إذ له ثواب أعدادها وما تعطلت فيه لضرورة أو تعطل منها لغلط ونحوه، لتعيينها وفي تحصيل ثواب ذكر جامع لعدد.
كقول: (سبحانه الله عدد خلقه) على ما هو به مع تضعيفه أو دونه، أو لغوه أقوال، وصحح بلا تضعيف. قيل: وذوات الأسباب كتسبيح التعجب أفضل من مطلقها فيترك المطلق للمقيد في وقته، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 128 لا يصح الاستدلال بإباحة الغناء في الولائم ونحوها على إباحة مطلق السماع
ما أبيح لسبب أو على وجه خاص أو عام، فلا يكون شائعا في جميع الوجوه، حتى يتناول صورة خاصة بخصوصيتها ليست عن الوجه الخاص بنفسه، فلا يصح الاستدلال بإباحة الغناء في الولائم ونحوها على إباحة مطلق السماع، ولا بإباحة إنشاد الشعر على صورة السماع المعلومة لاحتمال اختصاص حكمها. فلذلك قال ابن الفاكهاني رحمه الله تعالى في شرح الرسالة: (ليس في السماع نص بمنع ولا إباحة). يعني على الوجه الخاص، وإلا فقد صح في الولائم والأعياد ونحوها من الأفراح المشروعة والاستعانة على الأشغال. فإذا المسألة جارية على حكم الأشياء، قبل ورود الشرع فيها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 129 السماع لغير ضرورة فيه شبهة
الأشياء قبل ورود الشرع فيها، قيل: على الوقف، فالسماع لا يقدم عليه. وقيل: على الإباحة، فالسماع مباح، وقيل: على المنع، فالسماع ممنوع. وقد اختلف فيه الصوفية بالثلاثة الأقوال، كاختلاف الفقهاء. وقال الشيخ أبو اسحق الشاطبي رحمه الله: (السماع ليس من التصوف بالأصل ولا بالعرض، إنما أخذ من عمل الفلاسفة)، انتهى بمعناه.
والتحقيق أنه شبهة تتقى لشبهها بالباطل وهو اللهو، إلا لضرورة تقتضي الرجوع إليه، فقد تباح لذلك. وقد ذكر المقدسي أن أبا مصعب سأل مالكا رضي الله عنهما فقال: لا ادري إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا ناسك غبي، أو جاهل غليظ الطبع.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل رحمهما الله: رأيت والدي يتسمع من وراء الحائط لسماع كان عند جيراننا، وقال ابن المسيب لقوم يعيبون الشعر: (نسكوا نسكا أعجميا). وقد صح عن مالك إنكاره وكراهته، وأخذ من المدونة جوازه، كل ذلك إن تجرد عن آلة وإلا فمتفق على تحريمه، غير ما للعنبري وإبراهيم بن سعد، وما فيهما معلوم. وقد بالغ الطرطوشي في المسألة وغيره، وتحقيقها آيل للمنع والله سبحانه اعلم.
قاعدة 130 السماع عند الصوفية رخصة تباح لضرورة
اعتقاد المرء فيما ليس بقربة بدعة. وكذلك أحداث حكم لمن يتقدم، وكل ذلك ضلال إلا أن يرجع لأصل استنبط منه، فيرجع حكمه إليه. والسماع لا دلالة على ندبه عند مبيحه جملة، وإن وقع فيه تفصيل عند قوم فالتحقيق انه عند مبيحه رخصة تباح للضرورة، أو في الجملة فيعتبر شرطها وإلا فالمنع، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 131 من كان استماعه بالحقيقة استفاد التحقيق ومن كان استماعه بالنفس استفاد سوء الحال
التهيؤ للقبول، على قدر الإصغاء للمقول. فمن كان استماعه بالحقيقة استفاد التحقيق، ومن كان استماعه بالنفس استفاد سوء الحال، ومن كان استماعه بالطبع اقتصر نفعه على وقته، فمن ثم لا يزداد طالب العلم للدنيا ميلة إلا ازداد (من الله) إدبارا عن الحق، ولا يستفيد غالب الناس من المحافل العامة، كالكتاب والميعاد ونحوه، إلا استحلاؤه في الوقت. وينفع ذا الحقيقة ما يفيد من أي وجه خرج، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 132 ما خرج من القلب، دخل للقلب، وما قصر على اللسان لم يجاوز الآذان
ما خرج من القلب، دخل للقلب، وما قصر على اللسان لم يجاوز الآذان، ثم هو بعد دخوله القلب إما أن يلقى معارضا فيدفعه بجحود كحال الكفار، أو بإعراض كحال المنافقين، أو يحول بينه وبين مباشرة القلب حائل رقيق كأحوال العصاة، أو يمس سويداه، ويباشر حقيقته فيوجب الإقدام والإحجام على حكمه، كحال أهل الحق من المريدين. فأما العارف فيستفيد من كل ذي فائدة، كان من قلب أو غيره، فافهم.
قاعدة 133 الشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح
قال (الإمام) الشافعي رحمه الله تعال: (الشعر حسنه حسن، وقبيحه قبيح). فالمتمثل تابع في ذمه ومدحه للمتكلم به. ثم هو عند الاحتمال مصروف لنية قائله أصلا أو تمثلا لسامعه. فتعينت مراعاة أحوال أهله والمسموع عليه، فلا يوضع وصف دني على علي، لأنه إساءة أدب ولا بالعكس، لأنه إخلال بالحال. ومن ذلك ما روي أن أبا سعيد الخراز قال لمن رآه في النوم: (إن الحق أوقفني بين يديه وقال: أتحمل وصفي على ليلى وسعدى؟ لولا أني نظرت إليك في مقام أردتني به خالصا لعذبتك)، انتهى، فافهم والله سبحانه اعلم.
قاعدة 134 اعتراف المحقق بنقص رتبة هو فيها على الجملة
اعتراف المحقق بنقص رتبة هو فيها على الجملة يقضي بذمها على نحو ما حكي في اعترافه، لأن إخباره راجع لأمانته، فلا يذكر غير ما حقق ذمه وإلا فهو كذاب. ثم هو فيها إما معذور أو مسيء والأولى به العذر فيعذر ولا يقتدى به.
قاعدة 135 منع الشيء لما يعرض فيه أو بسببه، لا يقضي بنقض أصل حكمه
منع الشيء لما يعرض فيه أو بسببه، لا يقضي بنقص أصل حكمه. وقد جزم محققو المتأخرين من الصوفية وأكثر الفقهاء بمنع السماع لعارض الوقت من الابتداع والضلال بسببه. حتى قال الحاتمي رحمه الله: (السماع في هذا الزمان لا يقول به (مسلم)، ولا يقتدى بشيخ يعمل بالسماع ولا يقول به).
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (سألت أستاذي عن السماع فقال لي: (أنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون).
وقال ابن نجيد رحمه الله: (زلة في السماع، شر من كذا وكذا سنة تغتاب الناس).
وقيل للجنيد: كنت تسمع، فلم تركت السماع.
قال: (ممن؟ قيل له:من الله. قال: فمع من؟) انتهى. ومجرى الحكم في المنع كالذكر بالجمع فتأكد لفقد حكم الأصل).
فالقائل بسد الذرائع، يمنع بالجملة وغيره يمنع ما يتصور فيه الباطل ليس إلا. والله سبحانه اعلم.
قاعدة 136 الضرورات الداعية للسماع ثلاثة
ما أبيح للضرورة قيد بقدرها، ووقف به على وجهها، وروعي فيه شرطه صحة وكمالا، ومع ذلك السماع الضرورة الداعية له ثلاثة:
أولهما: تحريك القلب، ليعلم ما فيه بمثيره، وقد يكتفي عن هذا بمطالعة وجوه الترغيب والترهيب، ومفاوضة أخ أو شيخ.
ثانيهما: الرفق بالبدن بإرجاعه للإحساس، ومثيرات الطباع حتى لا يهلك فيها بما يرد عليه من قوى الواردات. وقد يستغني عن ذلك بملابسة العاديات البشرية في الجملة كالنكاح والمزاح ونحوه.
ثالثهما: التنازل للمريدين حتى تتفرغ قلوبهم لقبول الحق في قالب الباطل، إذا ليس لهم قوة لقبول الحق (في قالب الباطل إذ ليس لهم قدرة على قبول الحق) من وجهه بلا واسطة من الطبع. ولهذا الوجه، نحا الششتري رحمه الله، بأزجاله فيما ظهر لي. والله سبحانه اعلم.
قاعدة 137 استجلاب النفوس بمساعدة طبعها أهدى لتقريب نفعها
استجلاب النفوس بمساعدة طبعها أهدى لتقريب نفعها فمن ثم وقعت المنفعة بالأزجال والقصص في تعريف الطريق والإشارة إلى حقائقها. لكن رائحة البساط مصاحبة لما خرج منه فلا تستفاد فائدته إلا معه. فلذلك لا تجد مولعا بالشعر صرفا له حقيقة في ديانته وإن كان فمع حيرة ودعوى، لأنه مصحوب بها في أصل (وجوده) غالبا. وقد قال أبو عثمان رحمه الله: من أمن السنة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمن الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة. والله سبحانه اعلم.
قاعدة 138 شروط السماع (عند القائل به) ثلاثة
إذا وقف أمر على شرطه في صحته أو كماله، روعي ذلك الشرط فيه لما كان مشروطا به على حسبه وإلا كان العمل فيه خارجا عن حقيقته أو كماله.
وشرط السماع (عند القائل به) ثلاث:
أولهما: مراعاة آلاته التي يقع فيها ومعها وبها وهي: الزمان، والمكان، والإخوان.
ثانيها: خلو الوقت عن معارض ضروري، أو حاجي شرعا، أو عادة إذ ترك الأولى للرخص، تفريط في الحق، وإخلال بالحقيقة.
ثالثها: وجود الصدق من الجميع، وسلامة الصدر في الحال، فلا يتحرك متحرك إلا بغلبة. وإن فهم منه غيرها، سلم له الأدنى وأدبه الأعلى، وذكره القرين. ولا يزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا قل دينهم إذ لا يكون صلحهم إلا مع إغضاء عن العيوب، فانه لا يخلو المرء من عيب بحال، وما سلم من النفاق، ومن عمل على الوفاق، والمخالفة تمنع الموافقة.
قاعدة 139 التغزل، والندب، والإشارة، والتعريج، دليل البعد عن وجود المشاهدة
التغزل، والندب، والإشارة، والتعريج، دليل البعد عن وجود المشاهدة، إذ الجلال والجمال مانع من قيام النفس (بقوته المانعة من التوسع والاتساع إلا بما يقتضيه الحال) والشعر من محامدها. ومن ظهر نور الحق على قلبه، لم يبق فيه نصيب لغيره، فيكون ما جاء عنه أشهى إليه من الماء البارد. (بل لا يجد في نفسه بقية تقبل ما سواه، ولا تتسع لرؤية غيره. ورؤية المحبوب توجب العمى عن غيره ما سدة وهو لا فلا يذكر إلا بذكره). ولهذا قل شعر المحققين من الأكابر، كالجنيد، والشيخ أبي محمد عبد القادر، والشاذلي، ونحوهم، ولهم أسوة في الأكابر من الصحابة، إذ كانوا اعلم الناس به. ولكنهم لم يذكروه إلا في محل لا يشير بشيء من الحقائق، وإن كانت مضمنة فيه، فعلى قدره. والله اعلم.
قاعدة 140 عقوبة الشيء ومثوبته من نوعه (الجزاء من جنس العمل)
عقوبة الشيء ومثوبته من نوعه (سيجزيهم جزاء وفاقا) من زنى زني بأهله. ومن ثم عوقب مؤثر السماع والقول بإطلاق أقوال الناس فيه، وأثيب بإطلاق ثناء الناس عليه. فلا يزال بين مادح وذام، بوجه لا يمكن انفكاكه حتى ينفك عما هو به، كما جرب من سنة الله. ومنه حكاية يوسف بن الحسين في قوله: (إيلام في الرأي). ومن عقوبة ابن الجلاء في ذكره استحسان وجه شاب بإنساء القرآن، إذ البصيرة كالبصر، والله اعلم.