محتويات
قاعدة 141 منع السماع في حق من علم غلبة عقله به
حفظ العقول واجب، لحفظ الأموال والأعراض، فمن ثم قيل: (يمنع السماع باتفاق في حق من علم غلبة عقله به). ولا يجوز قطع الخرق، وإن دخل فيه على المكارمة لإضاعة المال، ولا يجوز أن يدخل مع القوم من ليس منهم، وإن كان عابدا أو زاهدا، لا يقول بالسماع ولا يراه. وكذا العارف لأن حاله أتم، فيؤدي لاغتيابه الجماعة بالنقص (وصورة الهوى) واغتيابهم له.
قال الشيخ أبو العباس الحضرمي رضي الله: كان يصحب بعض المشايخ فقيه، فإذا حضر السماع صرفه ولا يسمح بحضوره مع كونه في عداد أصحابه. وقال: (إن السماع فيه طريق لكن لمن له به معرفة). والله سبحانه اعلم.
قاعدة 142 يعذر الواجد بحالة لا يملك نفسه فيها، وله حكم المجنون في حاله
يعذر الواجد بحالة لا يملك نفسه فيها، وله حكم المجنون في حاله، بسقوط اعتبار أفعاله، وعدم جري الأحكام عليه إن تحقق وجود الحالة منه، ويلزمه استدراك الفائت كالسكران لتسببه في الأصل. وينتفي جواز الاقتداء به كتواجد النوري في قيامه للسيف إيثارا، وإلا فهو إعانة على قتل نفسه، وكحالة أبي حمزة في بقائه في البئر حتى خرج بمهلكة، وكحالة الشبلي في حلق لحيته وإلقائه المال في البحر عند شعوره ببخله، إلى غير ذلك مما لا يوافق الشرع من ظاهر أعمالهم التي حمل عليها غالب الوجد كما هو ظاهر من حكاياتهم، فلهم فيها حكم المجانين، ومن ذلك الرقص ونحوه. وبالجملة فلا عتب على معذور لم يقصد المخالفة بوجه لا يمكنه غير ما فعل لعدم ضبط حركاته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم للمجنونة (إن شئت صبرت ولك الجنة أو دعوت الله فشفاك)، فرضيت على أن لها الجنة. فهذا خير من التعصب بالنكير، وعكسه وهو أقرب للحق إذ لا عصمة، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 143 لا يستفيد الواجد علما أو عملا أو حالا إلا إن لاحظ المعنى أثناء وجده
الواجد إن لاحظ معنى في وجده أفاده علما أو عملا أو حالا، مع ميله للسكون والاستلقاء ظاهرا فوجده من الحقيقة والمعنى.
وإن لاحظ الوزن والألحان، فطبيعي سيما إن وضع له اضطراب واحتراق في النفس، وإن لاحظ نفس الحركة ليس إلا فشيطاني، سيما إن أعقبه اضطراب وهوشة في البدن، واشتعال ناري فلزم اعتبار ذلك بوجه من التحقيق تام، وإلا فترك سببه أولى وأفضل لكل ذي دين يريد السلامة.
قاعدة 144 يجوز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا إن قصد التلبيس والتغرير
المتشبه بالقوم ملحق بالمتشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)، لأنه مؤذن بالمحبة. وقد صح: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال: أنت مع من أحببت).
فجاز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا أن قصد التلبيس والتغرير، كلباس المرقعة، وأخذ السبحة والعصا، والسجادة والأصباغ ونحوه لما في ذلك مما ذكر، ومن حماية النفس عن كبائر لا يمكن معه وإن أمكنت، فلا تمكن المجاهدة بها، ثم لباس المرقعة أعون على دفع الكلف، وأذهب للكبر، واقرب للحق مع الاقتداء بعمر رضي الله عنه، إذ لبسها مع وجود غيرها لصلاح قلبه . إلا تراه يقول حين البس غيرها قال: أنكرت نفسي. وهو أيضا اقرب لوجود الحلال في اللباس نعم ، ولمنع أكثر الإذايات في الأسفار وغيرها، وقد أمر الله نساء المؤمنات مع أزواج رسول الله وبناته بالتدني حتى لا يعرفن فلا يؤذين. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على التنقب للتشبه بالحرائر. وقال الشيخ أبو يوسف الدهماني رضي الله عنه لفقير له: أخذه العرب في البادية ولم يكن معه زي الفقراء المفرط أولى بالخسارة، لأن هذه الأسباب سلاح، من دخلها احترم من أجل الله، ومن لم يحترمه فقد هتك حرمه الله (ومن هتك حرمة الله) لا يفلح. وقال الشيخ لبعض الشباب: إياكم وهذه المرقعات فإنكم تكرمون لأجلها . فقال: يا أستاذ إنما نكرم بها من اجل النسبة إلى الله، قال: نعم. قال: حبذا من نكرم لأجله، قال الشيخ: بارك ا لله فيك، وكما قال.
قاعدة 145 يجوز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته
كرامة المتبع شاهدة بصدق المتبع، فله نسبة من (جهة) حرمته لثبوت الإرث له ، فمن ثم جاز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته، بديانة أو علم أو عمل ، أو اثر ظاهر ، كتكثير القليل أو الأخبار عن الغيب حسب فراسته وإجابة الدعوة،وتسخير الماء والهواء إلى ذلك مما صح من آيات الأنبياء،فيكون كرامة الأولياء . إذ الأصل التأسي حتى يأتي المخصص وقيل عكسه، ولم يزل أكابر الملة يتبركون بأهل الفضل من كل عصر وقطر، فلزم الاقتداء بهم حسبما يهدي إليهم النظر في الأشخاص، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 146 يعرف باطن العبد من ظاهر حاله
يعرف باطن العبد من ظاهر حاله، لأن الأسرة تدل على السريرة، وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح، {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع اخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع نباته ليغيظ به الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}
وقال ذلك الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما رأيته علمت انه ليس بوجه كذاب).
وقال عز من قائل (في المنافقين): {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم}. وقيل: (الناس حوانيت مغلقة) فإذا تكلم الرجلان، تبين العطار من البيطار، لأن الكلام صفة المتكلم، وما فيك ظهر على فيك.
فمعرفة الرجل من ثلاثة: كلامه، وتصرفه، وطبعه، وتتعرف كلها من مغاضبته، فإن لزم الصدق، وآثر الحق، وسامع الخلق فهو ذاك، وإلا فليس هناك، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 147 إذا أردت أن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها هل هو بريء منه أم لا
لكل بلد ما يغلب عليها من الحق والباطل، فإذا أردت إن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها، هل هو بريء منه أم لا، فإن كان بريئا فهو ذاك، وإلا فلا عبرة به. وبحسب هذا، فاعتبر في أهل المغرب الأقصى، السخاء وحسن الخلق، فإن وجدت وإلا فدع.
وفي أهل الأندلس كذلك. وفي أهل المشرق الغيرة لله، وسلامة الصدر، وإلى غير ذلك. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل فذكر أوصاف البلاد وعوارضها، كقوله في المشرق: (الفتنة هاهنا). وكذا
النجد. وفي الفرس: (لو كان الإيمان بالثريا لأدركه رجال منهم). وفي أهل اليمن: أنهم أرق أفئدة.
وفي أهل المدينة: أنهم خير الناس مع ما وصفهم الله به من قوله تعالى: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. وما وصف به أهل مصر من الأوصاف المذكورة وغيرها التي يبلغ عددها سبعة عشر موضعا في كتاب الله. وقال صلى الله عليه وسلم (السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل، والغلظة والجفاة في الفدادين تباع إذناب الإبل والبقر في ربيعة ومضر). وقال عمر رضي الله عنه: (إفريقية بلاد مكر وخديعة). وقال مولانا جلت قدرته لذي القرنين في أهل المغرب الأقصى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) فدل على استحقاقهم لكل ما يعاملون به من خير أو شر، وأنهم لكذلك والله سبحانه اعلم.
قاعدة 148 ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص، بل الموجود كذلك، والناس معادن، ففي كل بلدة سادة، وفي كل قطرة قادة، والشخص معتبر بوصفه، فمن ثم قيل: الناس أبناء أخلاقهم، والذم عموما لا يتناول من خلا عن سبيله، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 149 النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه، والعصمة غير موجودة لسوى الأنبياء. فلزم إن ينظر للغالب على أحوال الشخص لا لكله، فإن غلب صلاحه رجحه، وإن غلب غير ذلك رجحه.
وان تساويا، نظر فيه بوجه التحقيق فأعطى حكم المسألة فإن أمكن التأويل في الجميع، تأول ما لم يخرج لحد الفسق البين أو يتعلق بما ينقض طريقه.
قيل للجنيد رحمه الله: أيزني العارف؟ فسكت مليا ثم قال: { وكان أمر الله قدرا مقدورا }
قال ابن عطاء الله رضي الله عنه : ليت شعري، لو قيل له: أتتعلق همة العارف بغير الله؟ لقال: لا. قلت: لأن عنوان معرفته تعلقه بربه، فإذا انتقص ذلك انتفى عن المعرفة، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 150 من ظهرت عليه خارقة، إن صحت ديانته فكرامة وإلا فهي استدراج
من ظهرت عليه خارقة تقتضي ما هو أعم من كرامته، نظر فيها بفعله، فان صحت ديانته معها فكرامة، وإن لم تصح فاستدراج أو سحر. وإن ظهر بعد ثبوت الرتبة مناف مما يباح بوجه تأول مع إقامة الحق الشرعي إن تعين. وإن كان مما لا يباح بوجه فالحكم لازم،والتأويل غير مصادف محلا إذ الحقائق لا تنقلب، والأحكام ثابتة على الذوات، فلزم الحكم عليه بحكمه. وأصل تأويل ما لا يباح بوجه مذكور في قضية الخضر مع موسى عليهما السلام، إذ بين الوجه عند فراقه، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 151 الاختلاف في الخضر عليه السلام
وقائع الخصوص لا تتناول الحكم في العموم، فلا يعم إجراء الحكم المختص بقوم في عموم الخلق، لأنه ليس لهم به علم. وقد أمرنا بترك ما لا علم لنا به . فالقائل بان الخضر نبي مرسل، وإن من اعتقد فيه الولاية فقد تنقصه محجوج بنفي القاطع عن دعواه، ثم هو مسلم له فيما ادعاه، لاحتماله منعه من إجراء الأحكام عن أصل إلقائه وأمره إذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها، وما قدرته من ذلك إن ظهر وقوعه وإلا فلا يجدي حكمه، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 152 المزية لا تقتضي التفضيل
المزية لا تقتضي التفضيل، والاقتداء لا يصح إلا بذي علم كامل، أو دين. ولو قيل بالتفضيل بالمزايا للزم تفضيل إبليس على عوام المؤمنين، إذ له مزية خرق الهواء، والمشي على الماء، ونفوذ الأرض في لحظة وما اثبت الله له تعالى من أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه. وللزم تفضيل الخضر على موسى عليهما السلام، وكل ذلك لا يصح. فلزم أن التفضيل بحكم الله في الجملة فلا يتعرض له إلا بتوفيق ثابت في بابه. ولكن للدليل ترجيح فوجب التوقف عن الجزم، وجاز الخوض في الترجيح إذا أحوج إليه الوقت، وإلا فترك الكلام فيه أولى والله سبحانه اعلم.
قاعدة 153 النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {(أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون} الآية. {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}. فرد الله تعالى عليهم: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} الآية .
قاعدة 154 لزوم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان وعلى أي وجه كان
الانتساب مشعر بعظمة المنتسب إليه، والمنتسب فيه في نظر المنتسب فلذلك لزم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان، وعلى أي وجه كان ما لم يأت بما ينقصه على التعظيم.
فالنقص كمخالفة الشريعة صريحا، فيتعين مراعاة نسبته وإقامة الحد عليه لأن الذي تعلق به هو الذي أمره. نعم يلزم تحقيق أمره فيه، وإلا عاد الضرر على معارضه لقصد هتك منتسب لجانب عظيم بمجرد هواه. فمن ثم تضرر كثير ممن يتعرض للاعتراض على "جانب" الله، وإن كانوا محقين، إذ الحق تعالى يغار لهتك جانبه، فلزم تحقيق المقام في النكير، وتصحيح النية بالغاية وإلا فالحذر الحذر، والله سبحانه اعلم .
قاعدة 155 عافية من ابتلي من الأكابر في بلائه
مقتضى الكرم أن تحفظ النسبة للمنتسب على وجه طلبه، ويشهد لذلك (أنا عند ظن عبدي بي).
ومن ثم قيل: (إن عافية من ابتلى من الأكابر في بلائه، إذ لا حاجة له في سوى رضا ربه ورضاه عنه بأي وجه كان، بل يطلب لقاءه على وجه يرضاه وإن كان فيه حتفه. إلا ترى لعمر رضي الله عنه حيث كان يطلب الشهادة فأعطيها وعثمان رضي الله عنه اختار القتل ظلما لحقن دماء المسلمين وتعجيله للقاء أصحابه ونبيه إلى غير ذلك. حتى أن بلالا لما كان في الموت قالت زوجته: (واكرباه) فقال: (واطرباه) غدا ألقى الأحبة، محمد وحزبه.
ومعاذ رضي الله عنه لما ذكر الوباء فقال: انه رحمة لهذه الأمة، اللهم لا تنسى معاذا وأهله من هذه الرحمة. فأخذته وباية في كفه، فكان يغمى عليه، ثم يفيق فيقول: أخنق خنقك، فوعزتك لتعلم أني أحبك، إلى غير ذلك.
ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير رحمه الله، قال سعيد: (أنا آخر الناس عينا بك) قال: قد قتلت من هو أفضل منك. قال سعيد: (أولئك كانت قلوبهم متعلقة بالدار الآخرة فلم يبالوا، بل كانوا أحرص الناس على قربهم منها، وأنا قلبي متعلق بنفسي)، فقتله فكان آخر قتيل له بدعوته عليه فظهر الفرق، وإن عافية كل أحد على حسب حاله ومعاملة الحق له لا على حسب انتسابه، والله اعلم.
قاعدة 156 العافية سكون القلب عن الاضطراب حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه
العافية سكون القلب عن الاضطراب، وقد يكون ذلك بسب عادم أو وجه شرعي، أو حقيقة تامة هي سكون القلب إلى الله تعالي، وهذه عافية أهل الكمال وهي الشاملة بكل حال حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 157 جواز التوسل بالأعمال الصالحة وبالأشخاص
لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وقد أمر بابتغاء الوسيلة إليه. وقيل: إتباع رسول الله، وقيل في العموم.
فيتوسل بالأعمال كأصحاب الغار الذين دعا كل وأحد بأفضل عمله. وبالأشخاص كتوسل عمر رضي الله بالعباس رضي الله عنه في استسقائه.
وجاء التغريب في دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب مطلقا، وفي دعاء المرء لأخيه مطلقا. أخرجه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه حين ذهب لعمرة له: (أشركنا في دعائك يا أخي)، وذلك للتعليم وإلا فهو عليه الصلاة والسلام وسيلة الوسائل، وأساس الخيرات والفضائل.
وقد روي عن مالك: (لا يتوسل بمخلوق أصلا)، وقيل: إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما قال أبو بكر بن العربي في زيارة المقابر: (لا يزار لينتفع به إلا قبره عليه السلام). وسيأتي إن شاء الله، والله اعلم.
قاعدة 158 الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة
ليس الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة من علم الرواية، إلا أن يقصد بها حال فتكون لأجله. وقد ذكر ابن أبي جمرة أخذ العهد في باب البيعة وألحقه بأقسامها، وأخذوا إلباس الخرقة من أحاديث وردت في خلعه صلى الله عليه وسلم على غير وأحد من أصحابه ومبايعة سلمة بن الأكوع، وكذا مبايعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد تحقق الإيمان وتقديره في قلوبهم إنما هو لذلك، ويجري حكم الإرث والتأسي فيها كغيرها فلا نكير لجري الخلاف ولا لزوم لوجود الاشتباه، ووجهها وطريقها ليس هذا محله. نعم، هي لمحب أو منتسب أو محقق، وفيها أسرار خفية يعلمها أهلها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 159 زيارة القبور والتبرك وشد الرحال للمساجد
ما صح واتضح، وصحبه العمل لازم الإباحة، كزيارة المقابر، (فقيل): (ليس إلا لمجرد الاعتبار بها، لقوله r: (فإنها تذكر بالآخرة).
قيل: ولنفعها بالتلاوة والذكر والدعاء الذي اتفاق على وصوله كالصدقة. قيل: وللانتفاع بها، لأن كل من يتبرك به في حياته يجوز التبرك به بعد موته، كذا قال الإمام أو حامد الغزالي رحمه الله في (كتاب آداب السفر)، قال: ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يعارضه حديثه: (لا تشد الرحال إلا للمساجد الثلاثة) لتساوي المساجد في الفضل دون الثلاثة، وتفاوت العلماء والصلحاء في الفضل فتجوز الرحلة عن الفاضل للأفضل. ويعرف ذلك من كراماته وعلمه وعمله سيما من ظهرت كرامته بعد موته مثلها في حياته، كالسبتي، أو أكثر منها في حياته، كابي يعزى، ومن جربت إجابة الدعاء عند قبره، وهو غبر واحد من أقطار الأرض، وقد أشار إليه الشافعي رحمه الله حيث قال: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرب).
وكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يقول: (إذا كانت الرحمة تنزل عند ذكرهم، فما ظنك بمواطن اجتماعهم على ربهم، ويوم قدومهم عليه بالخروج من هذه الدار وهو يوم وفاتهم، فزيارتهم فيه تهنئة (لهم)، وتعرض لما يتجدد من نفحات الرحمة عليهم فهي إذا مستحبة إن سلمت من محرم ومكروه بين في أصل الشرع، كاجتماع النساء، وتلك الأمور التي تحدث هناك، ومراعاة آدابها من ترك التمسح بالقبر وعدم الصلاة عنده للتبرك، وإن كان عليه مسجد، لنهيه r عن ذلك وتشديده فيه ومراعاة حرمته ميتا كحرمته حيا، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 160 القطع بإيمان مسلم أو ولاية صالح
قد تفيد الدلائل من الظن ما يتنزل منزلة القطع، وإن كان لا يجري على حكمه في جميع الوجوه، كالقطع بإيمان مسلم ظهرت منه أعلام الإسلام، وكولاية صالح دلت على مقامه أفعاله وأقواله وشواهد أحواله، كل ذلك في علمنا من غير جزم بعلم الله فيه، إلا في حق من جاءنا عن الله مخصص له، كالعشرة المشهود لهم بالجنة.
وقد صح: (إذا رأيتهم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان).
وصح: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه دين، و (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق).
وصح حلف سعد على إيمان رجل، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه وإن رده بقول: أو مسلم.
وصح: (ثلاثة من كن فيه فهو منافق) الحديث.
ولا يتناول من واقع ذلك من المؤمنين جملة، بل مجراه في حق من لا يبالي في أي جزء وقعت منه تلك الخصال من عقد أو عمل أو قول، إذا في كل واحدة.
ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كل الخصال يطبع عليها المؤمن ليس الخيانة والكذب).
فنفى عنه أن يكون مطبوعا عليها لا غيره، فهي وإن وقعت منه فبالعرض لا بالأصالة، بخلاف المنافق، ولذلك لم تصح من مؤمن في كل شيء، إذ يستثنى جزءا، ولو في باب الكفر، إذ لا يجزم به ظاهرا كغيره، فكانت فيه لا في غيره والله سبحانه اعلم.
وقد يريد نفاقا دون نفاق، وحمله عليه جماعة من العلماء، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 161 الفراسة الشرعية نور إيماني ينبسط على القلب
الفراسة الشرعية، نور إيماني ينبسط على القلب حتى يتميز في نظر صاحبه حالة المنظور فيه عن غيره، بل يميز أحواله في النظر فيه، بحسب أوقاته. ولكل مؤمن منها نصيب، لكن لا يهتدي لحقيقتها إلا من صفا قلبه من الشواغل (والشواغب)، ثم هو لا يصح أن يقبل الخاطر منها إلا بعد تردده مدة في البداية، وبعد اعتياده على حسب اعتياده.
وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي، فعمر منهم).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: (اقتسمي مع إخوتك).
وقال عثمان رضي الله عنه للرجل الذي دخل (عليه)، وقد نظر في محاسن امرأة: (أيدخل علي أحدكم وعيناه مملوءة زنا).
والفراسة الحكمية، اعتبار بواطن الأشخاص، بظواهر الحواس. وقد أشار إليها في حديث الرجل الذي قال: (اعدل).
وفي حديث: (تقاتلون قوما، نعالهم الشعر، وتقاتلون الترك). ونحوه ذلك.
وفائدة كل منهما، الالتفات لما دل عليه فيحذر، أو يعامل لا الجزم في الحكم، إذ لا تفيد قطعا ولا ظنا يتنزل منزلته والله سبحانه اعلم.
قاعدة 162 ذاهب العقل بحقيقة إلهية يعتبر من حيث إنه ظرف لمعنى شريف
ذهاب العقل، إن كان بخيالات وهمية، سقط اعتبار صاحبه ظاهرا أو باطنا. وبحقيقة إلهية، اعتبر صاحبه من حيث انه ظرف لمعنى شريف. ويدل على كل إشارته بحاله ومقاله، كقول بعض المجانين: (يا مناحيس لا يغرنكم إبليس فانه إن دخل النار، رجع إلى داره، وأنتم يجتمع عليكم العذاب والغربة).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه: (إن لله عبادا عقلاء ومجانين، والعقلاء خير من المجانين) أو كما قال.
ولما نظر بعض القضاة لرجل قد أعطي التحول في الصورة وهو على مزبلة، قال في نفسه: إن الذي يعتقد هذا لخسيس العقل، فناداه في الحال: يا فقيه، قال: نعم، قال: هل أحطت بعلم الله؟ قال: لا. قال: (أنا من علم الله الذي لم تحط به). انتهى وهو عجيب، فسلم تسلم.
قاعدة 163 محبة الناس للعبد على قدر زهده فيما بأيديهم
معونة الله للعبد على قدر عجزه عن مصالحه، وتوصيل منافعه، ودفع مضاره. ومحبة الناس له، على قدر بعده عن المشاركة لهم فيما هم فيه. فمن ثم قويت محبة الناس في الصبيان والبهاليل، وآثروا الزهاد وأهل الخلوات على العلماء، والعارفين، وإن كانوا أفضل عند صحيح النظر.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل بقوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). فدله على الوقوف في باب الله بلا واسطة ونفي الدنيا لتحقق العجز فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 164 ألسنة الخلق، أقلام الحق
ألسنة الخلق، أقلام الحق. فثناؤهم عليه بما يرتضيه الحق ثناء من الحق عليه بذلك. فإن كان فيه فالثناء منه، وإلا فهو تنبيه وثناء، إن شكره بالقيام بحقه أتمه عليه وزاده منه وإلا سلبه عنه. والمعتبر الإطلاق العام. وما في النفوس لا ما يقع من الطعن بالجحود الذي يدل على بطلانه فقدا لترجمة المترجم، واضطراب القائل في قوله، ويظهر ذلك بارتفاع موجب النكير كالموت ونحوه. وقد صح: (إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل) الحديث.
فيعتبر الحب بالقبول عند اللقاء ونحوه، وإلا فالعارض لا يدفع الحقيقة، والله سبحانه اعلم، فافهم.
قاعدة 165 قبول أهل الخير العطاء من إخوانهم
إكرام الرجل لدينه إن قصد به وجه الله في معاملته، واستجلاب مودته لغرض ديني، فذلك من نسبة الحق في وجوده. فلذلك قبل أهل الخير من إخوانهم والسلف من أمثالهم. ومعياره بعد تحول النية (عند) فقد الخاصية، إذ المعامل غير مضيع أجر من عامله، وإن كان لمجرد الحياة والتعظيم والنظر للمنصب ونحوه، فهو الأكل بالدين الذي نهى عنه.
وفي الإكمال: أن الذي يأكل بدينه أحد الغاصبين ومن يوهم بالديانة على غير حقيقة إلى غير ذلك، وقد كان بعضهم إذا أوتي بشيء قال: (أمسكه عندك، وانظر هل تبقى نيتك بعد أخذه، كهي قبل ذلك فائتني به، وإلا فلا).
والعمل بمثل هذه الحكاية عسير فالوجه التوقف في القبول على تقدير ذلك في الوجود والله سبحانه اعلم.
وقال الجنيد رحمه الله لذلك الرجل الذي أتاه بألف دينار: (فرقها على المساكين). فقال: أنا أعلم منك بهم، ولكن أتيتك بها لتأكلها في الخلوات ونحوها. فقال: من مثلك يقبل. قال: ولمثلك يعطى. وقال بعض المشايخ: لا تأخذ إلا ممن يكون إعطاؤه إياك أحب من إمساكه، أو كلاهما هذا معناه والله سبحانه اعلم.
قاعدة 166 لا تمدحن أحدا إلا من حيث مدحه الله
قبول مدح الخلق والنفرة من ذمهم، إن أوجب خروجا عن الحق في الجانبين دل على الاستناد إليهم فيه، وذلك خروج عن الحقيقة التي هي النظر إلى الله تعالى في المدح والذم، بان لا تتجاوز الحق في مدح مادح، ولا في ذم ذام، حتى أنه لو مدحك من شأنه الذم، لاقتصرت على مقدار ما واجهك به، وما علمته من أوصافه المحمودة من غير تغرير، ولو ذمك من شأنه المدح لم يخرجك ذلك عن إقامة حقه بمدحه وهذا جار في العطاء والمنع. فلا تمدحن أحدا إلا من حيث مدحه الله، ولا تذمن أحدا، إلا من حيث ذمه الله. والله سبحانه اعلم، فافهم.
قاعدة 167 إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النظر لأصلها وفرعها
إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النظر لأصلها وفرعها فمن عبر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة مع ربه، ومن عبر من بساط إحسان الله، لم يصمت إذا أساء. وقد صح: (إظهار الكرام من قوم وثبت العمل في إخفائها من قوم كالشيخ أبي العباس المرسي في الإظهار وابن أبي جمرة في الإخفاء رضي الله عنهما حتى قال بعض تلامذة ابن أبي جمرة: طريقهما مختلف. فبلغ ذلك شيخه، فقال: والله ما اختلفت قط طريقنا لكنه بسطه العلم، وأنا قبضني الورع. وهذا فصل الخطاب في بابه، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 168 قبول تبرك الناس
ما رتب من الأحكام على ما في النفس، وما لا علم به إلا من قبل إعلام الشخص، ففقهه فيه منه بعد تحقيق حكم الأصل. ومن ذلك وجود التبرك. فمن علم من نفسه وجود التكبر والنظر لها، وعظم دعواها وتصديقها للتعظيم، تعين عليه عدم القبول. ومن غلب عليه حسن الظن باله (له) ببركة العباد المتوجهين لهو وحسن الظن بهم في أنفسهم، فله قبول ذلك في محله. ومن غلب عليه سوء الظن بنفسه، وحسن الظن بالناس أو إطلاق أمرهم فالمنع مضر به لتمكن دعواها وإيثارة شررها، وربما كان العكس فليعتبر ذلك من بلى به كأنه عروس بكر مفتضة من زنا، تنتظر الستر، فإن كان حصل الخير للجميع، وإلا فليس على أصحاب الوليمة عيب. والله اعلم.
قاعدة 169 الله يقضي للأولياء حوائج الخلق غيرة على قلوبهم من الانشغال بغيره
غيرة الحق على أوليائه من سكون غيره قلوبهم. وشغلهم بالغير عنه هو الموجب لقضاء ما تهمموا به من حوائجهم وحوائج غيرهم، حتى قيل: إن الولي إذا أراد أغنى، ومنه قول الناس له:"خاطرك" أي ليكن بالك، لعل الله أن ينظر إلي فيما أنا فيه، فيريح خاطرك مني. ومن ثم كان أكثر الأولياء في بدايتهم يسرع أثر مقاصدهم في الوجود لاشتغالهم بما يعرض، بخلاف النهاية، فإن الحقيقة مانعة من اشتغال قلوبهم، بغير مولاهم إلا من حيث أمرهم، فينتفع بهم المريدون في طلب الحق لا غيرهم كما يحكى عن الشيخ أبي مدين رحمه الله انه كان يفتح للناس على يده ويصعب عليه أقل حاجاته، وقد قيل: إنما هما اثنان، ولي وصفي.
فالولي: من يتحقق له كل ما يريد.
والصفي: من يتسلط على قلبه الرضا بما يجري، فافهم.
قاعدة 170 انفراد الحق تعالى بالكمال قاض بثبوت النقص لمن سواه
انفراد الحق تعالى بالكمال قاض بثبوت النقص لمن سواه فلا يوجد كامل إلا بتكميله تعالى، وتكميله من فضله. فالنقص أصل، والكمال عارض. وبحسب هذا، فطلب الكمال في الوجود على وجه الأصالة باطل. ومن ثم قيل: انظر للخلق بعين الكمال، واعتبر في وجودهم النقص. فإن ظهر الكمال يوما ما فهو فضل، وإلا فالأصل هو الأول، وبذلك يقع الاحتراز وحسن الظن، ودوام العشرة، وعدم المبالاة بالعثرة، وكذا معاملة الدنيا كما قال الجنيد رحمه الله، إذ قال: (أصلت أصلا، لا أتشبع بعده ما يرد علي من العالم، وهو أن الدنيا دار هم وغم وبلاء وفتنة). وأن العالم كله شر. ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فإن تلقاني بكل ما أحب فهو فضل، وإلا فالأصل هو الأول. انتهى بمعناه وهو عجيب والله اعلم.
قاعدة 171 جواب على مسالة الغني الشاكر والفقير الصابر
الفقر والغنى وصفان وجوديان، يصح اتصاف الحق بالثاني منهما دون الأول، فلزم فضله عليه.
ثم هل تعلق العبد بوصف ربه أولى أو تحققه بوصفه أتم؟ وهي مسألة الغني الشاكر، والفقير الصابر، وللناس فيها طريقان، والحق أن كلا منهما مضمن بالآخر، فلا تفاضل، وقد اختار كلا مهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أجوع يوما وأشبع يوما) الحديث، فافهم.
قاعدة 172 من الناس من يغلب الغنى بالله فتظهر عليه الكرامات وينطق لسانه بالدعوى
من الناس من يغلب الغنى بالله، فتظهر عليه الكرامات، وينطق لسانه بالدعوى من غير احتشام ولا توقف، فيدعى بحق عن حق، لحق في حق، كالشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني، وأبي يعزى وعامة متأخري الشاذلية.
ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله، فيكل لسانه، ويتوقف مع جانب الورع، كابن أبي جمرة وغيره. ومن الناس من تختلف أحواله فتارة وتارة، وهو أكمل الكمال، لأنه حاله صلى الله عليه وسلم، إذا أطعم ألفا من صاع، وشد الحجر على بطنه، فافهم.
قاعدة 173 النهي عن إضاعة المال
ملك العبد لما بيده من أعراض الدنيا غير متحقق له، بل إنما هو خازن فيه لقصره عليه تصرفا وانتفاعا دون غيره. ومن ثم حرم الله الإقتار والإسراف حتى عد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنجيات: القصد في الغنى والفقر. ونهى عليه السلام عن إضاعة المال إلى غير ذلك. فمن ثم قال لنا شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: ليس الشأن من يعرف كيفية تفريق الدنيا فيفرقها، إنما الشأن من يعرف كيفية إمساكها فيمسكها.
قلت: وذلك لأنها كالحية ليس الشأن في قتلها أنما الشأن في إمساكها وهي حية.
وفي الحديث: (ليس الزهد بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، إنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك).
وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: (الدنيا جرادة ورأسها حبها، فإذا قطع رأس الجرادة حلت).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه لما سئل عن الدنيا: (أخرجها من قلبك، واجعلها في يدك، فإنها لا تضرك) انتهى.
وكل هذه الجمل تدل على أن الزهد فيها ليس عين تركها. فافهم.
قاعدة 174 الزهد في الشيء برودته عن القلب
الزهد في الشيء برودته عن القلب، حتى لا يعتبر في وجوده، ولا في عدمه. فمن ثم قال الشاذلي رضي الله عنه: (والله لقد عظمتها إذ زدهت فيها). قلت: يعني بالظاهر، لأن الإعراض عنها تعظيم لها وتعظيم للمظاهر بتركها كما أشار إليها ابن العريف في مجالسه، والهروي في مقاماته.
وقد قال أيضا رضي الله عنه: رأيت الصديق في المنام فقال لي: علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد. ووجود الراحة منها عند الفقد، كحال الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم ينظروا إليها عند الفقد، ولا شغلتهم عند الوجد: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} وقال: لا يبيعون ولا يتجرون.
وقد أدب الله تعالى الأغنياء بقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا). الآية.
وأدب الله الفقراء بقوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليما). وذلك لا يقتضي عينا ولا وقتا فلزم التزام كل ما أمر الله به، فافهم.
قاعدة 175 ذم الدنيا أو مدحها
ما ذم لا لذاته، قد يمدح لا لذاته. ومنه وجود المال والجاه والرياسة ونحو ذلك مما ليس بمذموم لذاته، ولا محمود في ذاته، بل يحمد ويذم لما يعرضه له، ولذلك ذم صلى الله عليه وسلم الدنيا بقوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله)، ومدحها بقوله: (فنعمة مطية المؤمن). وأثنى سبحانه على قوم طلبوا الرياسة الدينية إذ قالوا: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما).
فكان ابن عمر يقول: اللهم اجعلني إماما للمتقين.
قال مالك رحمه الله: ثواب المتقين عظيم، فكيف بإمامهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة).
وقال ذلك الرجل له عليه الصلاة والسلام: (دلني على عمل إن عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). الحديث.
وقال يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع النبيين والمرسلين: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، إلى غير ذلك. فلزم اعتبار النسب وتحقيق المقام باحة ومنعا. والمحاشاة اقرب لسلامة الضعيف من باب ضعفه لا لخلل في ذات الحكم إذا الأصل الإباحة.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (انك رجل ضعيف، وانك إن طلبت الإمارة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها) فافهم.
قاعدة 176 ليس من شان الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال
لا يباح ممنوع لدفع مكروه، ولا مباح يخشى منه دون التحقق بالوقوع في ممنوع أعظم منه، لا مندوحة عنه.
فمن ثم لا يجوز لأحد أن يجعل دفعه بمحرم. متفق عليه. ثم له في المختلف فيه مندوحة وإن خف الخلاف فيه وتعذر المكروه عليه بعد تعذر ذلك، فالمباح المستبشع كقصة لص الحمام ونحوه، لا قصة الشاهد إذ لم تقع، وإنما ذكر له الشرط اختبارا لعظمة نفسه حتى ظهر له علة منعه.
وقياس المسألة بمن غص بلقمة لا يجد لها مساغا إلا جرعة خمر، لا يصح إذ تفوته به الحياة التي ينتفع بها وجوده، فيكون قد أعان على قتل نفسه وتعطيل حياته من واجبات عمره بخلاف ذلك، فإنما يفوته به الكمال لا غير. ومقصد القوم بذلك، الفرار من نفوسهم، لا التستر من الخلق، لأن التستر منهم تعظيم لهم، فعاد الأمر عودا على بدئه، وليس من شأن الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال، فافهم.
قاعدة 177 من أراد الظهور فهو عبد الظهور ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء
إفراد القلب لله تعالى مطلوب بكل حال، فلزم نفي الرياء بالإخلاص ونفي العجب بشهود المنة، ونفي الطمع بوجود التوكل، ومدار الكل على سقوط الخلق من نظر العبد. فلذلك قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: (لا يبلغ العبد حقيقة من هذا الأمر حتى تسقط نفسه من عينه فلا يرى في الدارين إلا هو وربه، أو يسقط الخلق من عينه فلا يبالي بأي حال يرونه).
قلت: فلذلك ينتفي عنه كل شيء من ذلك، وإلا دخل الرياء عليه من حيث لا ينظر الخلق إليه، باستشرافه لعلم الخلق بخصوصيته.
وقد قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: من أراد الظهور، فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء، فهو عبد الخفاء وعبد الله سواء عليه أظهره أو أخفاه. انتهى وهو لباب هذا الباب.
قاعدة 178 إذا صح أصل القصد فالعوارض لا تضر
إذا صح أصل القصد فالعوارض لا تضر، كما قال مالك رحمه الله في الرجل يحب أن يرى في طريق المسجد، ولا يحب أن يرى في طريق السوق. وفي الرجل يأتي المسجد، فيجد الناس قد صلوا، فيرجع معهم حياء.
وكما قال صلى الله عليه وسلم في الرجل: (يحب جمال نعله وثوبه).
ومن ثم قال سفيان الثوري رضي الله عنه: (إذا جاءك الشيطان في الصلاة فقال: انك مراء فزده طولا).
وقال الفضيل رحمه الله: (العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما) انتهى.
وفي طيه أن الرياء يقع بالترك كالفعل، واشتقاقه من الرؤية، رؤية المرائي للخلق في رؤيتهم له، ولولا ذلك لما صح منه في الخلوة، ثم هو فيما قصد للعبادة لا فبما قصد به الخلق مجردا، فانه الشرك الأعظم أو قريب منه والله تعالى اعلم.
قاعدة 179 نفي الخواطر بإقامة الحجة على إبطالها يمكنها في النفس ودفعها يكون بالتلهي عنها
قصد نفي الخواطر بإقامة الحجة على إبطالها يزيدها تمكينا في النفس لسبقها وقيام صورتها في الخيال. فظهر أن دفعها إنما هو بتسليمها والتلهي عنها في أي باب كانت ومن ثم قال سفيان: (فزده طولا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليقل الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
ويقال: (الشيطان كالكلب، إن اشتغلت بمقاومته مزق الإهاب، وقطع الثياب، وإن رجعت إلى ربه صرفه عنك برفق).
وقد جاءني ليلة في بعض الصلوات وقال: انك مراء، فعارضته بوجوه، فلم يرجع حتى فتح الله بتسليم دعواه وطردها في كل أعمالي بحيث قلت: (إثبات الرياء في هذه إثبات للإخلاص في غيرها، وكل أعمالي معيبة وهذا غاية المقدور، فانصرف عني في ذلك الوقت ولله الحمد).
قاعدة 180 إظهار العمل وإخفاؤه عند تحقق الإخلاص مستو
إظهار العمل وإخفاؤه، عند تحقق الإخلاص مستو، وقيل وجود تحققه مقو لرؤية الخلق. وقد جاء طلبه شرعا من غير إشعار بشيء من وجوه الإخلاص ولا الرياء، فظهر أن مراعاته لخوف التلوين، ولراحة القلب من مكابدة الإظهار في العموم، ولحسم مادة ما يعرض أثناءه.
وقيل: وتفضيل النافلة لما علل به صلى الله عليه وسلم من قوله: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم فإن الله جاعل منها في بيوتكم بركة ولا تتخذوها قبورا) والله سبحانه اعلم.