اسم الكتاب: هل التصوف ضلالة أو زندقة؟
المؤلف: د. محمود أبو الهدى الحسيني
محتويات
مقدمة
في زمن المادية المعطلة للشعور الباطن .. وفي وقت الشتات النفسي المنفعل عن ضياع الحقوق ..
وفي أيامٍ كاد مفهوم العاطفة فيها أن يتحول إلى معنى الغريزة .. وأصبحت اللطائف الروحية كلاماً في الأفواه ، وطقوساً في الثياب ، وعباراتٍ للتصدير.. كان لا بد لنا كأمة ما تزال في جذورها بقية حياة ، وفي أغصانها أثر حيوية ، أن نتلمس تحت قشورنا الترابية الجدباء بقايا مناهلنا وأغوارَ ينابيعنا ، لأنها أمل إنسانيتنا المتبقية ، وقبس دياجيرنا المختبئ ..
لكن الإنسان إذا كان عدواً لما يجهل ، فقد تسوقه جهالته إلى خسارة ما ينفعه ، وتضييع ما يصلحه ..
ولم يُضَيَّع بسبب الجهالة شيءٌ كما ضُيّع ( التصوف ) .. وصار بعضهم يمتهن مهنة الحديث عنه بما لا صلة له به .. واختلط الحكم عليه بالحكم على أدعيائه .. وكادت الحقيقة الناصعة أن تغيب عن العيون مع شدة إشراقها .. وأصبح طلاب الحقيقة في حالة هي أقرب إلى الحيرة والضياع .. وظهر في المجتمع طرفا نقيض لا يمثل أي منهما وجه الحقيقة .. طرفٌ متعنتٌ يطلق الأحكام الجائرة إلى درجة يصنف فيها التصوف نوعاً من أنواع الانحراف المعرفي وشكلاً من أشكال الكفر أو الزندقة أو الضلالة أو البدعة. وطرفٌ قدَّس التصوف وجهلَ مضمونه ، وقلَّد بعض هوامشه القشرية وجهل حقيقته ومعناه . وبين التفريط والإفراط تتألق الحقيقة المشرقة .
أصل التصوف
قال ابن خلدون في مقدمته :
( وأصل - التصوف - أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين .. طريقةَ الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه ، والانفرادُ عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف ، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختُصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية .).اهـ (1) .
ونقل صاحب كشف الظنون عن القونويِّ ابنِ صدرِ الدين :
( هو علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعاداتهم) (2)
وذكر.شعراً معبراً :
( علم التصوف علم ليس يدركه إلا أخو فطـنة بالـــحق معروفُ
وليس يعرفه من ليس يشــهده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوفُ )(3)
وقال الإمام المجاهدُ الأميرُ عبدُ القادر الجزائريُّ رحمه الله تعالى في كتابه : (المواقفُ في التصوف) :
( طريقة توحيدنا ما هي طريقة المتكلمين ولكنْ طريقةُ توحيدِ الكتب المُنْـزَلَة و سُنَّةِ الرسل المرسلة ، وهي التي كانت عليها بواطن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والسادات العارفين ، وإن لم يُصَدِّقِ الجمهورُ والعموم ، فعند الله اجتماع الخصوم ) (4)
وعلَّق العلامةُ ابنُ الحاج في شرحه على المرشد المعين أبياتاً من الشعر ، وفيها :
صفا منهل الصوفي عن علل الهوى فما شاب ذاك الوردَ من نفسه حظُّ
ووفّى بعهد الحب إذ لم يكن لـه إلى غير من يهوى التفاتٌ ولا لحظُ
محت آيةَ الظلماء شمــسُ نهاره وقد ذهبت منه الإشـارةُ واللفظُ (5)
وأختار موضوعين قد أكثر المعاندون الحديث فيهما الجدال :
1 - هل يعطل التصوفُ الشعورَ الواقعيَّ ، سائقاً إلى حالة من الخمول والخمود ، والتواكل والعزلة .
2 – هل يشكل التصوف انحرافاً معرفياً وسلوكاً على طريق زندقة وضلال .
الجواب :
التصوف هو الركن الديني الثالث ، ولا يتحقق إلا بعد ركنين اثنين :
- ركنٍ فقهي عملي إسلامي
- وركن اعتقادي إيماني .
وحين يحصل التوازن بين السلوك والاعتقاد تبدأ إذ ذاك مواصلة الروح ، وذوق اللطائف ، وفيض المعارف .
وقد عرَّف أبو الحسن الشاذليُّ رحمه الله تعالى التصوف فقال :
هو ( تدريب النفس على العبودية وردها إلى أحكام الربوبية )(6).
ولما كان أيٌّ من الأركان الثلاثة لا يعطل أحدُها غيره لاختلاف المحل في كلٍّ منها ، فلن يعطل التصوف إذاً فقه الانسان وأنشطته الظاهرة ، ولن يغير من حقائق عقيدته بل إنه سوف يسمو به بعد ثباته السلوكي واستقراره الاعتقادي إلى صفاء الروح ويعرج بها فوق كدورات المادة .
المتصوفون الأولون
وفي واقع التطبيق : لا ينكر الأثر العلمي والعملي للحسن البصري وأبي سليمان الداراني والجنيدِ البغدادي وقد كان الجنيد رحمه الله يفتي الناس على مذهب أبي ثور صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى .
وكان أبو الحسن الشاذليُّ يقرأ لأصحابه ( المحرر الوجيز ) في التفسير لابن عطية (7).
وإذا ذكرت النوويَّ والعزَّ بنَ عبدِ السلام ، والجلالَ السيوطيَّ ، وشيخ الأزهر البيجوري، وإمامَ الأزهرِ عبدَ الحليمِ محمود وجدت موسوعات علمية تصنف في علومها التصانيف ..
ونقل الكِنديُّ أبو عمرَ محمدُ بنُ يوسُفَ وهو من مؤرخي القرن الرابع الهجري في كتابه: ( ولاةُ مصر ) في
حوادثِ سنةِ مائتين ( أنه ظهر بالاسكندرية طائفةٌ يسمون بالصوفية يأمرون بالمعروف في زعمهم
ويعارضون السلطان في أمره ) (8)
وذكر المسعودي في مروج الذهب : ( أن المأمونَ كان في يوم جالساً ، إذ دخل عليه عليُّ ابنُ الصالح الحاجبُ فقال : يا أمير المؤمنين رجلٌ واقف بالباب عليه ثياب بيض غلاظ مشمرة يطلب الدخول للمناظرة ، قال يحيى بن أكثم فعلمت أنه بعض الصوفية فأردت أن أشير أن لا يؤذن له ولكنه تحدث مع الأمير وخلى سبيله ، فأمر علياً بن الصالح أن يوجِّهَ من يتبعه حتى يعلم أين قصد ففعل ذلك ثم رجع ، وقال : يا أمير المؤمنين وجهت من يتبع الرجل فمضى إلى مسجدٍ في خمسةَ عشرَ رجلاً في هيأته وزِيِّهِ فقالوا : لقيت الرجل ؟
قال : نعم ، قالوا فما قال لك ؟ قال : ما قال لي إلا خيراً ، ذكر أنه ضابطٌ أمورَ المسلمين حتى تأمَنَ سبُلُهم ، ويَقُومُ بالحج ، ويجاهدُ في سبيل الله ويأخذُ للمظلوم من الظالم ، ولا تتعطلُ الأحكامُ ، فإذا رضي المسلمون برجلٍ واجتمعوا عليه سلَّمَ إليه الأمرَ وصارَ من رعيته فقالوا : ما نرى بهذا
الأمر بأساً وافترقوا ) أهـ (9)
ولا ينسى في الأمس القريب الدورُ السنوسي في مقارعة الأجنبي المحتل ، وليس الشيخ الصوفي عمرُ المختارُ عنا ببعيد .
ولا ينسىالشيخ الجزائري عبدُ القادر الذي كان مثالاً في جهاد المستعمر ودفع الغريب عن الوطن ، وكلهم نماذج صوفية واقعية تأثرت بالواقع وأثرت فيه .
وأما أن يشكل التصوف انحرافاً سلوكياً أومعرفياً فهذا لا يقوله إلا من كان بعيداً عن مفهومه ومضمونه ..
فالأسباب السلوكية التي تسبق المعرفة الذوقية مستمدةٌ كلها من وحي السماء ، لا من هيئات اليوكا وأعمال البوذية – وهي إشكالية دخلت على بعضهم – وأصول الصيام والقيام والخلوة والصمت مستمدة باتفاق من وحي السماء ، والتشابه في بعض الظواهر لا يغير حقيقة التأصيل .
وما توهمه البعض من أن عقيدة التصوف هي شكل من أشكال الاعتقاد بالحلول أو الاتحاد أو النيرفانا البوذية مردود بأقوال أئمة التصوف أنفسهم :
يقول محي الدين ابن عربي في مقدمة كتابه الفتوحات المكية مبيناً عقيدته في الله تعالى : ( ليس له مثل معقول ولا دلت عليه العقول ، لا يحده زمان ، ولا يقله مكان ، بل كان ولا مكان ، وهو على ما عليه كان ، خلق المتمكن والمكان ، وأنشأ الزمان ، وقال أنا الواحد الحي ، لا يؤده حفظ المخلوقات ، ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات ، تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها ) .
ويقول في باب الأسرار :
(
من قال بالحلول فهو معلول ، فإن القول بالحلول مرض لا يزول … وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد )(10).
وقال في كتابه ( القصدُ الحق ) :
( لا يقال العالم صادر عن الحق تعالى إلا بحكم المجاز لا الحقيقة وذلك لأن الشرع لم يرد بهذا اللفظ وجل الله تعالى أن يكون مصدر الأشياء لعدم المناسبة بين الممكن والواجب وبين من يقبل الأولية وبين من لا يقبلها وبين من يفتقر وبين من لا يقبل الافتقار ، وإنما يقال إنه تعالى أوجد الأشياء موافقة لسبق علمه بها بعد أن لم يكن لها وجود في أعيانها ثم إنها ارتبطت بالموجد لها ارتباط فقير ممكن بغني واجب ) اهـ
وقال في الباب الثاني والتسعين من الفتوحات :
( والحق الذي أقول به إن العالم كله حادث وإن تعلق به العلم القديم ) اهـ .
ومعنى وحدة الوجود باصطلاح التصوف أن الحق تعالى له الوجود المطلق وأن ما سواه في حكم العدم .
قال العارفُ النابُلسي رحمه الله :
إنما وحدة الوجود لدينا وحدةُ الحق فافهموا ما نقول
لا تظن الوجود حيث ذكرناه هــــــــــــــــــــــــــــو الخلقُ عندنا المبذولُ
ويقول محي الدين ابن عربي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى :
( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ(11) )
( كل شيء هالك إلا وجهه لأن السبحات له فهي مهلكة والمهلك لا يكون هالكاً ) (12).
وهو بهذا يشير إلى الحديث النبوي : ( لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره )
ثم قال : ( فالعالم لم يزل مفقود العين هالكاً بالذات بالنظر إلى ذاته )(13) .
وقال : ( فإن وصف الممكن بالوجود فهو مجاز لا حقيقة لأن الحقيقة تأبى أن يكون موجوداً فإن العدم للمكن ذاتي - يعني بالنظر إلى ذاته لا شيء - فهو مستند إلى الله تعالى ) ، ثم قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أصدق بيت قالته العرب قول لبيد ألا كل شيء ما خلا باطل)(14) أي : ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه فما هو موجود إلا بغيره لا بنفسه(15).
ويقول العارف تُقَيُّ الدين أبو شعر في المتن المشهور بعقيدة الغيب :
( لا إله إلا الله هو الوجود الغيب ونحن العدم الغيب ، فظهر سلطان التجلي من الوجود الغيب على العدم الغيب بلا جحود ولا ريب ظهور دلالة وتعريف ، لا حلول ولا تكييف ، ولا يسع هذا المشهد العظيم إلا قلب العبد المؤمن السليم ، سعة إيمان واعتقاد ، لا حلولٍ ولا اتحاد ، فإنه مهبط الأسرار ومنبع الأنوار وربك يخلق ما يشاء ويختار )(16)
وفي محاضرة الأبرار نقل ابن عربي عن أبي مدين رحمهما الله تعالى :
( التوحيد هو الحق ومنور القلب ومحرك الظواهر وعلام الغيوب نظر العارفون فتاهوا إذ لم يعمر قلوبهم إلا هو ، فهم والهون ، قلوبهم تسرح في رضاه في الحضرة العلية ، وأسرارهم مما سواه فارغة خلية ، جالت أسرارهم في الملكوت فلاحظوا عظمته ، وتجلى لقلوبهم فأنطقهم بحكمته ، فهو للعارف ضياء ونور ، وقد أشغله به عن الجنة والقصور ، آنسه به فهو جليسه ، وأفناه عنه فتلاشى كثيفه ، ذهبت الرسوم وفنيت العلوم ولم يبق إذ ذاك إلا الحي القيوم ) (17)
قال ابن القيم رحمه الله في مدراج السالكين :
( ليس مرادهم فناءَ وجود ما سوى الله في الخارج ، بل مرادهم فناءه عن شهودهم وحسهم ، فحقيقة غيب أحدهم هي عن سوى مشهوده ، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته ، وبمذكوره عن ذكره ، وبموجوده عن وجوده ، وبمحبوبه عن حبه ، وقد يسمى حال مثل هذا سكراً واصطلاماً ومحواً وجمعاً ) اهـ .
ولا ننكَرُ أن بعض المتصوفة وقع في الشطح والغلط لكن أياً من هؤلاء لم يبلغ مبلغ الرجال .
قال العارف أحمد زروق في قواعده في القاعدة الخامسة والثلاثين :
( فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين وكالمطعون عليهم من المتفقهين يرد قولهم ويجتنب فعلهم ولا يترك المذهب الحق الثابت لنسبتهم له وظهورهم فيه ) اهـ .
الصوفية ثلاثة
وقال ابن القيم : الصوفية ثلاثة :
صوفية الأرزاق ، وصوفية الرسوم ، وصوفية الحقائق(18).
قال الإمام أبو سليمانَ الداراني : ربما طرقت النكتة قلبي أربعين يوماً فلا أسمح لها بالدخول إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة .
وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى : الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وعلى المقتفين أثره والمتابعين .
وقال : من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة .
أخيراً قال المرحوم د. عثمان يحيى في الذكرى المئوية الثامنة لميلاد ابن عربي :
( إذا كان التوحيد عند المعتزلة مشكلة لاهوتية وأخلاقية ، وعند السلفية مشكلة دينية واجتماعية فهو في نظر الصوفية مبدأ روحي يتصل قبل كل شيء بحرية الكيان الإنساني وتحريره من شوائب القيود ) (19).
1- مقدمة ابن خلدون – دار الجيل – ص 517 .
2- كشف الظنون – ج1 ص413 .
3- نفس المصدر والصفحة .
4- عن الناصر معروف للعلوي المستغانمي ص54 .
5- نفس المصدر السابق ص 75 .
6- نور التحقيق لحامد صقر صفحة 93
7- المدرسة الشاذلية لعبد الحليم محمود ص 56 .
8- الناصر معروف صفحة 71
9- نفس المصدر السابق صفحة 72
10- كذا في اليواقيت والجواهر للشعراني ص 57 .
11- سورة القصص آية (88)
12- يقول الشيخ أبو يزيد البسطامي: فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات . ويقول الإمام النووي : كما في بستان العارفين الصفحة ست وستون : وأما قوله فرأيتهم موتى فهو في غاية النفاسة والحسن قل أن يوجد في غير كلام النبي كلام يحصل معناه وأنا أشير إلى شرحه بعبارة وجيزة : نظر إلى جميع المخلوقين فوجدهم موتى لا حكم لهم فلا يضرون ولا ينفعون ولا يعطون ولا يمنعون ولا يحيون ولا يميتون ولا يصلون ولا يقطعون وهذه صفة الأموات . فالحاصل أنهم كالعدم في جميع ما ذكرناه .
13- كذا في كتاب رحمة الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الذي جمعه الأستاذ محمود غراب من كلام الشيخ محي الدين .
14- متفق عليه
15- الجزء صفحه ثلاثمائة وخمسة عشر
16- من مفتاح الجنة – لمحمد الهاشمي .
17- كتاب التذكاري محي الدين ابن عربي في الكرى المئوية الثامنة لميلاده مقالة لعبد الرحمن بدوي
18- الناصر معروف ص 96.
19- الكتاب التذكاري محي الدين ابن عربي صفحة 233