المحتويات
الحكم الوضعـــي
سبق لنا تعريف الحكم في أول هذا البحث لغة واصطلاحا، كما سبق تقسيم الحكم إلى قسمين: وضعي، وتكليفي. وقد انتهينا من دراسة القسم الأول وهو (الحكم التكليفي) بجميع أقسامه، وسننتقل إلى دراسة القسم الثاني وهو (الحكم الوضعي):
تعريف الحكم الوضعي:
الوضع في اللغة الإسقاط والترك، يقال وضع فلان دَينه عن فلان أي أسقطه، ووضع فلان الشيء بين يدي فلان تركه(1)، وعلى ذلك يكون الحكم الوضعي لغة هو الحكم بترك الشيء أو إسقاطه.
وفي الاصطلاح: (أثر الخطاب بتعلق شيء بالحكم التكليفي وحصول صفة به باعتباره)(2) وتعريفنا له بأثر الخطاب هو ما سار عليه الفقهاء، لأنهم جعلوا الحكم أثر الخطاب لا الخطاب، فإن الخطاب عندهم دليل الحكم لا الحكم ذاته، على خلاف الأصوليين الذي جعلوا الحكم هو الخطاب نفسه، وقد تقدم مزيد بيان لذلك في أول مبحث الحكم، وإذا أردنا توضيح معنى هذا التعريف أكثر قلنا هو: (ما ربط الله تعالى به الأحكام التكليفية على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية ...)(4) والمعنى أن الله سبحانه وتعالى كلف المسلمين بأحكام تعبدية أو تشريعية كثيرة، وربط تكليفهم بها بأحكام أخرى، أو ظروف وأحوال معينة، لتكون علامات لهم معرفة على توجه الخطاب عليهم، كربط الله تعالى وجوب الصلاة بدخول الوقت، وربط وجوب الزكاة بملك النصاب، وربط صحة التملك الناتج عن البيع بسلامة البيع واستكماله لشروط صحته، فإن كلا من وجوب الصلاة ووجوب الزكاة وقيام الملك في الأمثلة المتقدمة أحكام تكليفية، وكلا من دخول الوقت، وملك النصاب، وسلامة البيع، أحكام وضعية لا توجد الأحكام التكليفية حتى توجد، فتكون هذه الأحكام الأخيرة علامات موضوعة على توجه الخطاب للمكلف بالأحكام التكليفية.
أنواع الحكم الوضعي:
يقسم جمهور الأصوليين الحكم الوضعي إلى ثلاثة أقسام، وذلك من حيث طبيعة ارتباط الحكم التكليفي به وتوقفه عليه، وهي: السبب، والشرط، والمانع.
ويزيد بعض الأصوليين الآخرين كالشاطبي والأمدي قسمين اثنين آخرين على هذه الأقسام الثلاثة، فتصبح خمسة وهما: كون الحكم التكليفي صحيحا أو باطلا أو فاسدا، وكونه عزيمة أو رخصة، وذلك خلافا لكثير من الأصوليين الذين يدخلون هذين القسمين في الحكم التكليفي لا الوضعي.
وعلى كل، فإن الخلاف هو مجرد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، هذا وقد ذهب بعض الأصوليين الآخرين أيضا إلى عد الحكم الوضعي خمسة أقسام، عدا القسمين الأخيرين الذين جرى فيهما الاختلاف، فيزيد على الأقسام الثلاثة الأولى الماضية قسمين هما: العلة، والعلامة(1)، مع أن أكثر الأصوليين على أن العلة نوع من أنواع السبب، والعلامة قريبة من الشرط، ولذلك فلا داعي لإفرادهما بنص خاص، وهو ما سوف نسير عليه هنا، ونقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام حسبما فعل الشاطبي (رحمه الله تعالى) تيسيرا للبحث والدراسة …
1 - السبـــب:
تعريفــه:
السبب في اللغة يطلق على الباب، ومنه قوله تعالى: (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) أي أبوابها، ويطلق على الحبل، ومنه قوله تعالى: (فليمدد بسبب ثم ليقطع) أي بحبل، ويطلق على الطريق، ومنه قوله تعالى: (فأتبع سببا)، ثم استعير لغة إلى كل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور، فقيل هذا سبب هذا وهذا سبب هذا(2).
والسبب في اصطلاح الأصوليين هو: (الوصف الظاهر المنضبط الذي جعل مناطا لوجود الحكم)(3) أو (جعل معرفا لوجود حكم شرعي)(4) أو (أمارة على وجود الحكم)(5). أو هو (ما ارتبط غيره به انعداما ووجودا وكان خارجا عن ماهيته).
وعلى ذلك تكون الرابطة بين السبب ومسببه قوية قائمة بينهما في حالة السلب والإيجاب معا، فإذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا انعدم السبب انعدم المسبب، إذا ما استوفت الماهية كل شروطها وانعدمت كل موانعها، كدخول الوقت، فإنه سبب لوجوب الصلاة، يدور معه وجوبها وجودا وعدما، وكذلك القتل العمد العدوان سبب للقصاص، والعقد الصحيح سبب لترتب حكمه عليه.. وهكذا، فإذا نقص شرط أو وجد مانع لم ينتج السبب حكمه، لا لضعف السبب عن إنتاج مسببه، بل لقيام المانع وزوال الشرط، لأن إنتاج السبب لمسببه متوقف على ذلك.
أنواع السـبب:
ينقسم السبب من حيثيات مختلفة إلى الأقسام التاليــة:
1- من حيث موضوعه فإنه ينقسم إلى قسمين:
أولا: سبب وقتي، وهو ما يكون فيه وقتا للواجب، كزوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر، وغروب الشمس سبب لوجوب صلاة المغرب، ورؤية هلال رمضان سبب لوجوب الصوم.. وهكذا.
ثانيا: سبب معنوي، وهو ما يكون أمرا معنويا يتعلق الحكم بوجوده، كالإسكار جعل سببا لتحريم الخمر، والرضا جعل سببا لتصحيح البيع .. وهكذا(1).
2- من حيث كونه مقدورا للمكلف أو غير مقدور له فإنه ينقسم إلى قسمين:
أولا: ما يكون غير مقدور للمكلف، كجعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، فإن إدخال الوقت ليس في مستطاع المكلف، وكذلك جعل النصاب سببا لوجوب الزكاة، فإن تحصيل النصاب ليس في مقدور المكلف.
ثانيا: ما يكون مقدورا للمكلف، كجعل النكاح سببا للتوارث، والبيع سببا للتملك، والقتل سببا للقصاص، فإن هذه الأسباب، وهي النكاح والبيع والقتل، أمور هي في مقدور المكلف، إن شاء فعلها وإن شاء امتنع عنها، وبصورة عامة نستطيع أن نقول: إن الأسباب المقدورة للمكلف هي جميع أفعال المكلف التي أناط الشارع بها أحكاما شرعية(2).
وهذا النوع من الأسباب المقدورة للمكلف ينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:
1- أسباب مأمور بها، كجعل النكاح سببا للتوارث، فإن النكاح مأمور به في الأحوال العادية.
2- أسباب منهي عنها، كجعل السرقة سببا للحد، فإن السرقة منهي عنها.
3- أسباب مأذون فيها، فلا هي واجبة ولا هي محرمة، بل مباحة، كجعل الذبح سببا لحل الحيوان المذبوح، فإن الذبح مباح(3).
3- من حيث كونه مؤثرا في الحكم أو غير مؤثر فيه، فإنه ينقسم إلى قسمين هما:
أولا: أن يكون مؤثرا في الحكم، بمعنى أن تكون بين السبب والمسبب رابطة واضحة يمكن للعقل معها إدراك وجه هذا الارتباط، كجعل الإسكار سببا في تحريم الخمر، وجعل السفر سببا لقصر الصلاة والفطر في رمضان، وغير ذلك.
فإن الارتباط في هذا النوع واضح بين الإسكار والتحريم وبين السفر والفطر والقصر، بخلاف جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، فإن العقل لا يستطيع وحده إدراك الرابطة بينهما.
وهذا النوع من السبب هو ما أطلق جمهور الأصوليين عليه اسم العلة، حيث يعرفونها بأنها الوصف المؤثر في تشريع الحكم.
ثانيا: أن لا يكون مؤثرا في الحكم، بمعنى أن العقل لا يستطيع لوحده إدراك معنى الحكمة من ترتب المسبب عليه، كجعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، وغير ذلك، وهو ما يطلق عليه الأصوليون السبب مطلقا.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الأصوليين يسوي بين العلة والسبب، وعلى كل فإن هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه(1).
وعلى كل فينبغي صرف معنى التأثير هنا إلى التأثير المجازي لا الحقيقي، فإن الأحكام تثبت بوضع الشارع وليس بالأسباب أو العلل، وما الأسباب والعلل إلا علامات معرفة فقط بوضع الشارع لهما كذلك.
وهذا المعنى هو ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى حيث قال في تعريف السبب: (ما يقع الحكم عنده إلا به)(2).
4- من حيث نوع الرابطة التي تربط بين السبب ومسببه، فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولا: سبب شرعي: وهو السبب الذي أقام الرابطة بينه وبين مسببه الشارع وحده دون أن يكون للعقل دخل في ذلك، كجعل الوقت سببا لوجوب الصلاة، فإن العقل بمفرده لا يستطيع ترتيب ذلك، ولكن الشارع هو الذي ربط بين الوقت وبين وجوب الصلاة برابطة السببية، وهذا النوع هو المراد ببحثنا هنا، دون النوعين الآخرين.
ثانيا: سبب عقلي: وهو السبب الذي ربط بينه وبين مسببه رابطة عقلية أقامها العقل، كسببية النقيض في انعدام نقيضه، فإن العقل هو الذي أدرك هذه السببية، ورتب انعدام النقيض على وجود نقيضه، فجعل وجود أحد النقيضين سببا في انعدام النقيض الآخر(1).
ثالثا: سبب عادي: وهو السبب الذي رتب عليه مسببه بواسطة العادة، كجعل الذبح سببا للموت، فإن العادة هي التي قضت به، ولذلك لا حاجة معه إلى الرابطة العقلية.
ملحوظات حول معنى السبب وحكمه:
بعد تعريف السبب وبيان أقسامه، ننتهي إلى التعرض لبعض الملحوظات والنقاط والمسائل المتعلقة بمعنى السبب الشرعي أو حكمه، مما ذكره الفقهاء والأصوليون في هذا الباب، وأهم هذه المسائل:
1- إن مشروعية السبب لا تستلزم مشروعية المسبب، وإن صح التلازم بينهما عادة، فإذا تعلق بالسبب حكم شرعي، كالوجوب والإباحة والتحريم وغير ذلك، فلا يلزم أن يتعلق هذا الحكم بالمسبب المرتبط به، كالأمر بالنكاح، فإنه لا يعتبر أمرا بحل البضع، وكذلك النهي عن القتل، ليس نهيا عن إزهاق الروح، لأن ترتيب المسبب على السبب من فعل الله سبحانه وتعالى، وليس إلى المكلف، ولذلك لم يجز وصفه بهذه الأوصاف، بخلاف السبب، فإنه قد يكون من فعل المكلف، فجاز اتصافه بهذه الأحكام، وقد دلت على ذلك الآيات والأدلة الكثيرة.
من ذلك قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذريات:22)، فإنها تعني أن الله تعالى وحده هو واهب الرزق، ولا دخل للإنسان فيه، ومع ذلك جاءت الآية الكريمة الأخرى تأمر بطلب الرزق الذي هو سببه، وتجعله واجبا، وهي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15)، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة(2).
2- إيقاع السبب من المكلف بمثابة إيقاع المسبب فيه، سواء أقصد المكلف إلى المسبب عند فعل السبب أو لم يقصد ذلك، فالفاعل للسبب ملتزم بكل ما نتج عنه من مسببات، مصالح كانت أو مفاسد، لأن الذي للمرء هو السبب فقط(3)، وعليه مدار الثواب والعقاب بالنسبة إليه، فيعتبر فيه القصد وعدمه، أما المسبب، فهو نتيجة لفعل السبب بحكم الشارع، وإلا لم يكن السبب سببا، ولذلك لم يكن للقصد فيه عبرة، فمن حفر حفرة في طريق عام قصدا بدون إذن من له الإذن في ذلك، فسقط فيها إنسان فمات، فإن على الحافر الدية، سواء أقصد بحفرها القتل أو لا، ما دام قاصدا للحفر الذي هو سبب القتل هنا.
3- وضع الشارع للأسباب يستلزم قصده إلى المسببات، وذلك لوجوه عدة أهمها:
أ- أن العقل يقطع بأن السبب لا يمكن أن يكون مرادا لذاته، بل هو مراد لما ينتج عنه من مسببات، وإلا لم يكن سببا، والمفروض أنه سبب.
ب- الأحكام الشرعية إنما شرعت لتوفير المصالح ودرء المفاسد، وإلا فاتت الحكمة، والمصالح والمفاسد مكانها المسببات لا الأسباب قطعا، لأنها غير مقصودة لذاتها، فكان القصد إلى المسببات ضروريا، توفيرا للمصالح ودرءا للمفاسد(1).
4- ما دام قصد المكلف إلى المسبب لا عبرة به، وأن المدار على قصد السبب وعدمه، فإنه لا بد من القول بأن المكلف مخير بين قصد المسبب وعدم قصده على حد سواء، فللمكلف أن يقصد السعي إلى الرزق دون قصد الرزق نفسه، لأن تحصيل الرزق بسبب السعي إليه أمره إلى الله جل شأنه، وليس للمكلف فيه قدرة أو شأن، لأن دوره قاصر على تحصيل السبب فقط، وله أن يقصد إلى الرزق مع قصده إلى سببه، لأنه منوط بسببه ضرورة جعله سببا له(2).
5- ما دام ربط المسببات بالأسباب من الله جل شأنه وليس للإنسان إلا فعل السبب أو الإحجام عنه فقط، فإنه لا بد من القول بأن المكلف إذا فعل السبب مستكملا شروطه خاليا عن موانعه وقصد ألا يقع المسبب فإنه يكون قد قصد محالا، وأن قصده لا عبرة به أبدا، فمن اشترى شيئا من آخر قاصدا عدم تملكه كان قصده ردا عليه، والملك ثابت له بالشراء بحكم الشارع، وإذا تزوج امرأة ناويا عدم استباحة المتعة بها، كانت المتعة حلالا له ولا عبرة بقصده أيضا، وهكذا…
فإن قيل: أليس الإنسان مخيرا في هذه الحالات المباحة ولا إلزام عليه فيها، فلماذا يلزم بنقيض قصده؟ ذلك أن له أن لا يشتري، وله أن لا يتزوج، فلماذا لا يكون له أن لا يمتلك وأن لا يستعمل المتعة؟.
أجيب: بأن الخيار مقتصر على فعل الأسباب فقط، أما المسببات فهي نتيجة حتمية لفعل السبب بوضع الشارع لها كذلك، فمن أراد أن لا يمتلك فإن عليه أن لا يشتري، فإذا اشترى امتلك حتما(1).
6- الأسباب المشروعة أسباب للمصالح، والأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد، فالأمر بالمعروف مأمور به وهو سبب لتطهير المجتمع من الارتياب والانحراف، فهو مصلحة، والغصب منهي عنه، وهو سبب لإهدار الأموال والاعتداء على حريات الملك فهو مفسدة.
وما دام الأمر كذلك فلا عبرة لما يحدث من مفاسد في طريق تحقيق السبب المشروع، كما لا عبرة بالمصالح الحاصلة في طريق السبب الممنوع، ذلك أنها مفاسد ومصالح مغلوبة ولا بد، فلا يناط بها حكم شرعي.
وعلى ذلك فالقتل والضرب الذي يحتاج إليه في سبيل الأمر بالمعروف هدر، وليس بمفسدة مقصودة، فلا يناط به نهي، ولا يعتبر مقصودا للشارع، وكذلك اقتناء المال الذي ينتج
عن الغصب، فإنه لا عبرة به أيضا، ولا يناط به أمر، ولا يعد مقصودا للشارع(2).
7- السبب المشروع لا بد أن تكون وراءه حكمة يقتضيها كالصلاة والصوم وسائر العبادات الأخرى، فإن حكمتها إظهار الخضوع والتذلل إلى الله جل شأنه، وكذلك البيع، الحكمة منه توفير الحاجيات اللازمة للإنسان، وهكذا…
لكن هذه الحكمة المتوخاة من السبب قد تكون مقطوعا بها، وقد تكون مظنونة، وقد تكون دون ذلك، بأن تكون مشكوكا فيها أو موهومة(3)، فإن كانت الحكمة مقطوعا بها أو مظنونة بقي السبب على المشروعية، لا خلاف في ذلك بين الفقهاء، ولا أثر للنقيض المغلوب.
فإن كانت المصلحة مشكوكا فيها أو متوهمة، فإن الأمر يكون على ضربين:
آ - أن يكون فوات المصلحة الغالبة بسبب عدم قابلية المحل لها، كبيع الميتة، فإن البيع سبب التملك، والميتة لا ينعقد عليها ملك لعدم القدرة على الاستفادة منها، وكذلك الزواج بالمشركة، لحرمة التمتع بها شرعا، وكذلك الطلاق على الأجنبية(1)، لعدم دخولها في عقده وفقدان السلطة عليها.،وهكذا .. وحكم هذا النوع ارتفاع المشروعية عن الماهية أصلا، ولا عمل للسبب في المسبب آنئذ، فلا يصح البيع حكمه، وكذلك الزواج لا ينتج وهكذا، ويسمى العقد عقدا باطلا.
ب - أن يكون فوات المصلحة الغالبة لأمر خارجي مع قابلية المحل لهذه المصلحة، كبيع جذع في سقف، فإن الجذع محل صالح للبيع، إلا أن المصلحة منه فائتة لعدم القدرة على تسليمه، وهو أمر خارج عنه، وكذلك الزواج بالأخت عند أبي حنيفة، فإنها محل صالح للزواج لكونها أنثى غير مشركة، ولكن المصلحة فاتت للقرابة، وهي أمر خارجي وهكذا.. وحكم هذا النوع مختلف فيه بين الفقهاء على المذهبين، تزعم الأول الحنفية، وتزعم الثاني الحنبلية، وأما المالكية والشافعية فقد ذهبوا مذهبا وسطا بين المذهبين.
فذهب الحنفية إلى أن الأمر الخارجي لا ينفي المشروعية عن المحل، بل يبقى المحل قابلا للمشروعية والسبب منتجا لحكمه، وإن كانت الأحكام تتغير وفقا لفوات المصلحة الغالبة،
وعلى ذلك يسمون بيع الجذع والزواج بالأخت عقدا فاسدا لا باطلا(2)، والفاسد عندهم منعقد بالجملة، وينقلب صحيحا إذا زال سبب الفساد بعد العقد.
وذهب الحنبلية إلى أن الأمر الخارجي ينفي المشروعية، مثل فوات صلاحية المحل للحكم تماما، وأن السبب لا ينتج حكمه مطلقا، والتصرف الناتج عن ذلك باطل من كل وجه.
أما المالكية والشافعية فقد ذهبوا مذهبا وسطا، ففرقوا في السبب الخارجي بين أن يكون جوهرها أو غير جوهري، فإن كان جوهريا بطلت المشروعية وألغي السبب، وإن لم يكن جوهريا لم تبطل المشروعية ولم يلغ السبب.
وعلى كل فإن هذا البحث هو بالفقه ألصق منه بالأصول، ولذلك فلا داعي إلى الإطالة فيه هنا(3).
الشــــــرط:
تعريفه:
الشرط في اللغة العلامة اللازمة، ويجمع على أشراط وشروط، والشريطة تجمع على شرائط، ومنه أشراط الساعة أي علاماتها، وسمي رجال الشرطة بالشرطة لما يتميزون به عن غيرهم من علامات خاصة في اللباس(1).
والشرط في اصطلاح الأصوليين: (ما توقف عليه وجود الشيء)(2)، أو هو (ما كان عدمه مستلزما لعدم الحكم)(3) وإذا أردنا زيادة إيضاح لذلك قلنا: (هو ما توقف عليه وجود الحكم بحيث يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يلزم من وجوده وجوده، وذلك لحكمة في عدمه تنافي حكمة الحكم أو سببه)(4) أو هو (ما ارتبط غيره به انعداما لا وجودا وكان خارجا عن ماهيته).
أنـــواع الشــرط:
ينقسم الشرط إلى أقسام متعددة من حيثيات مختلفة:
أولا: من حيث معناه وما يدل عليه إلى ثلاثة أقسام(5):
أ- الشرط المحض: وهو الشرط الذي لم يلاحظ فيه إضافة الحكم إليه، أو إفضاؤه إلى الحكم، بل مجرد توقف الحكم على وجوده، كما في اشتراط الوضوء لصحة الصلاة، فإن الصلاة غير مضافة إليه، ولا هو مفض إليها، لأنه قد يوجد دونها، وكذلك حولان الحول في حق وجوب الزكاة، وهكذا…
ب- شرط في حكم العلة : وهو الشرط الذي لم تعارضه علة تصلح لإضافة الحكم إليها، كحفر بئر في شارع عام وقع فيه إنسان فمات، فإن الحفر هنا شرط للموت، ولم يلحق به من العلل ما يصلح لإناطة الحكم بها، فكان للشرط هنا حكم العلة، ولذلك فإن الفقهاء يضمنون الحافر دية القتيل، لعدم وجود من هو أولى منه بالضمان، بخلاف ما لو حفر إنسان حفرة، فألقى فيها رجل رجلا آخر فمات، فإن الدية هنا على الملقي ولا شيء على الحافر، لأن الإلقاء هنا علة القتل، والعلة مقدمة على الشرط في إناطة الحكم بها.
ج- شرط في معنى السبب: وهو الشرط السابق (المتقدم) الذي اعترض بينه وبين الحكم فعل فاعل مختار غير منسوب إليه فعله، كما إذا فك إنسان وثاق عبد فأبق (هرب)، فإن الهرب هنا وقع من العبد، لا من الفاك للعبد، فلا يعتبر له حكم العلة، ولكن العبد غير صالح لإناطة الحكم بعمله لعدم الذمة، فاعتبر الفك في هذه الحال شرطا في حكم السبب للهرب، والسبب لا يجب به الضمان لعدم التأثير، ولذلك فإن الفقهاء لا يحكمون على الفاك هنا بشيء من التعويض.
هذا بخلاف فتح قفص فيه طائر، فإن الفاتح يضمن قيمة الطائر، لعدم وجود الاختيار في الطائر، مما يجعل للفتح حكم العلة.
هذا والشرط المحض ينقسم إلى قسمين هما:
أ- حقيقي (شرعي): وهو ما توقف وجود الحكم على وجوده بحكم الشرع، أي إن إقامته شرطا للحكم إنما كان بفعل الشارع، وسمي بالشرط الحقيقي، لأن الشارع هو المرتب الحقيقي للأحكام، مثل جعل الطهارة شرطا لصحة الصلاة، وكذلك ستر العورة ودخول الوقت شرطا لصحتها، وجعله امتلاك البيع مشروطا بوحدة مجلس الإيجاب والقبول، وبالقدرة على تسليم المبيع، وهكذا…
وهذا النوع من الشروط على قسمين أيضا:
أولا) شرط مطلق: وهو علامة على وجود الحكم في كل أحواله، بحيث إذا انتفى في أي حال من الأحوال انتفى الحكم بانتفائه، مثل الشاهدين على عقد النكاح، فإنهما شرط لصحته، فإذا انتفيا فسد العقد، سواء أكان ذلك لعذر أو لغير عذر على حد سواء، إذ لا يسقط اشتراطها بالاعذار.
ثانيا) شرط مرتبط بعدم العذر، أي إن حكمه يسقط في حالة العذر، كما في الطهارة في الصلاة فإنها تسقط في حق المعذور، وكذلك استقبال القبلة، فإنه يسقط في حق المريض وغيره من أصحاب الأعذار، مثل حالة من به سلس بول مع البول الناقض للطهارة، كذلك صلاة المريض العاجز عن الاتجاه إلى القبلة، فإنها تصح إلى أي جهة توجه.
ب - وجعــلي: وهو ما توقف عليه وجود الحكم وكان مقاما من قبل المكلف نفسه، لا من قبل الشارع، مثل اشتراط حمل المبيع إلى البيت على البائع، وكذلك تسليم الثمن في وقت معين في مكان معين، وغير ذلك من الشروط التي اختلف الفقهاء في صحة اشتراطها، وهذه حكم العقد موقوف على تحققها كما في الشروط الحقيقية، والفارق بينهما هو أن النوع الأول كان مقاما من قبل الشارع، وهذا مقام من قبل المكلف نفسه، بحيث إنه لو لم يشترطه لما تعلق به الحكم.
وهذا النوع من الشروط الجعلية على قسمين:
1- شرط صريح، وهو ما جاء فيه الاشتراط بلفظ الشرط الصريح أو بأداة من أدواته، كإن وإذا، مثل أن يشترط المُطلِّق في طلاقه فيقول لزوجته: (هي طالق إن جاء فلان؟ أو إذا جاء فلان، أو بشرط أن يأتي فلان).
2- شرط بطريق الدلالة، وهو ما جاء فيه الاشتراط ضمنا بدون تلفظ به أو بأدواته، مثل أن يقول الرجل: (المرأة التي أتزوجها طالق، فإنه في معنى قوله: (إن تزوجتها فهي طالق)، ولذلك فإن هذا القسم يأخذ حكم الشرط الصريح تماما من كل وجه، لأن القاعدة الفقهية تقول (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني).
والشروط الجعلية(1) هذه من حيث صحتها وبطلانها في نظر الفقهاء تنقسم أيضا إلى ثلاثة أقسام:
أولا) شروط مكملة لحكمة المشرع، ولا يكون فيها ما ينافي الحكمة التي شرع الحكم لها، وهي الشروط الموافقة لمقتضى العقد، أو لا تنافي مقتضى العقد، كما يعبر عن ذلك الفقهاء، مثل اشتراط تقديم رهن بالثمن المؤجل، أو حميل أو غير ذلك من الموثقات، فإن ذلك صحيح باتفاق الفقهاء، ويلزم به الطرفان في العقد.
ثانيا) شروط منافية لحكمة المشرع، أو مخالفة لمقتضى العقد كما يعبر عن ذلك الفقهاء، مثل اشتراط البائع على المشتري عدم الاستفادة من المبيع، أو عدم بيعه، أو عدم الإنفاق على الزوجة، وغير ذلك من الأحكام التي جعلها الشارع آثارا شرعية للعقد الصحيح، وهذا النوع من الشروط باطل باتفاق الفقهاء، ولكن أيبطل العقد به، أو يبطل الشرط فقط ويبقى العقد صحيحا؟
في المذاهب الفقهية اختلاف كبير في هذا الموضوع لا محل للتعرض له الآن، لأنه أدخل في علم الفقه منه في علم الأصول، لكن القاعدة الأساسية التي انتهجها الحنفية في ذلك تتركز في مدى الاستفادة من هذا الشرط وعدمها، وفي قدرة المستفيد على طلب تنفيذ الشرط وعجزه عن ذلك، فإذا كان في الشرط المخالف لمقتضى العقد منفعة لأحد المتعاقدين أو لغيرهما، وكان المنتفع أهلا للمطالبة بها فإن الشرط يكون فاسدا مفسدا للعقد في وقت واحد، وذلك لما يسببه من منازعات، مثاله من باع جارية واشترط على مشتريها أن يطعمها كل يوم لحما، فإن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، لما فيه من تضييق حرية المشتري التي ثبتت له بالعقد، فهو فاسد لذلك، وفيه منفعة للجارية المشتراة وهي أهل للمطالبة بهذا الشرط، فهو مفسد للعقد لذلك أيضا، لما فيه من إثارة الخصام والمنازعات، فإن كان من ثبتت المنفعة له ليس من أهل المطالبة، كمن باع لآخر دابة واشترط على مشتريها أن لا يشغِّلها، فإن الشرط هنا باطل لمخالفته لمقتضى العقد، ولكن لا يؤثر في صحة العقد بل يلغو، لأن المستفيد من هذا الشرط غير أهل للمطالبة، فيعتبر العقد صحيحا والشرط باطلا غير ملزم لعدم المنازعة.
ثالثا) أن لا يظهر في الشرط منافاة لحكمة المشرع ولا موافقة لها، كاشتراط المشتري على البائع نقل المبيع إلى بيته مثلا، فإنه غير موافق لمقتضى العقد ولا مناف له، وهذا النوع من الشروط الجَعلية اختلف الفقهاء في حكمه على مذاهب، تركزت في مذهبين اثنين:
أ- عدم تصحيح هذه الشروط واعتبارها شروطا باطلة، اعتمادا على أن المشرع هو المختص الوحيد بإنشاء الشروط، وأن الأصل في الشروط البطلان حتى يقوم الدليل على الصحة، وهذا الاتجاه هو ما ارتكز عليه مذهب أبي حنيفة والشافعية، مع اختلاف بينهما في بعض الفروع والتفصيلات.
ب- تصحيح هذه الشروط واعتبارها، اعتمادا على أن الأصل في الشروط الصحة ما لم يقم دليل مخالف، وهذا الاتجاه يمثله مذهب الحنبلية ومذهب المالكية، مع اختلاف بينهما توسعة وتضييقا، فالحنابلة توسعوا أكثر من المالكية في تصحيح الشروط الجعلية، وعلى كل فإن هذا البحث هو ألصق بمباحث الفقه منه بالأصول، ولذلك اقتصرت فيه على الإجمال دون التفصيل.
ثانيا: والشرط ينقسم من حيث متعلقة إلى قسمين اثنين هما:
أ- شرط مكمل للسبب، وهو الشرط الذي يتوقف عليه كمال سبب الماهية، وذلك لأن الأسباب ماهيات وأحكام وضعية يتوقف عليها أحكام تكليفية، ولهذه الماهيات التي هي أسباب شروط معينة لا بد من تحققها لقيام معنى السببية في السبب، مثل حولان الحول، فإنه شرط مكمل لمعنى كمال النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة.
فحكم الشرط هنا هو تكميل السبب، وأما ارتباطه بالمسبب وهو وجوب الزكاة فهو ارتباط غير مباشر، بخلاف النوع الثاني الآتي، فارتباط الشرط فيه بالماهية الأصلية إنما هو ارتباط مباشر.
ب – شرط مكمل للمسبب، وهو الشرط الذي يتعلق به مباشرة وجود الماهية دون أن يرتبط بسبب من أسبابها، فهو مقو لمعنى الماهية نفسها، مثل اشتراط التساوي بين الجاني والمجني عليه في القصاص، من حيث السلامة من نقص الأطراف وغيرها، فإنه شرط مباشر في المساواة الكامنة في القصاص، ولا علاقة له بأحد أسبابه، وكذلك استقبال القبلة، فإنه شرط مباشر لصحة الصلاة، دون أن يرتبط بأسبابها، وكذلك الطهارة وغيرها(1).
حكم ترك الاشتراط
الشروط الجعلية هي شروط متروك أمر اشتراطها إلى المكلف على طريق التخيير، فلا ثواب على فعلها أو تركها، ولا عقاب على ذلك أيضا.
أما الشروط الشرعية التي أناط الشارع بها واجبات محددة، فإن حكم اشتراطها من حيث الجملة كذلك أيضا، لأن الشروط من حيث كونها داخلة تحت خطاب الوضع لم يقصد الشارع اشتراطها أو تركها من حيث هي شروط، ولذلك فإن للمكلف فعلها أو تركها على حد سواء من هذه الحيثية، وأما من حيث تفويتها لمشروطاتها الواجبة، فإن موجبه الإثم، ولكن الإثم هنا لتفويت الواجب لا لترك الشرط، بدليل أن الواجب لو فات لنقص سبب من أسبابه لا لفوات هذا الشرط المتروك فإنه لا إثم ولا عقاب في ذلك.
هذا من حيث العموم، أما من حيث التفصيل، فإننا نقسم الترك إلى قسمين:
1- ترك الشرط مع قصد تفويت مشروطه، وهذا حكمه الكراهة من حيث هو تفويت الشرط، بصرف النظر عن حكم تفويت المشروط الذي ترتب عليه، والأصل فيه عدم الكراهة كما هو الحال في النوع الثاني من الترك كما سيأتي، ولكن الكراهة ثبتت إما في ترك الشرط عمدا من التسبب في ترك الواجب وإبطاله، وأما ما جاء في حديث النبي أنه قال: (لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي جمع أموال الزكاة المتفرقة بغية تقليل مقدار الواجب، كمن عنده أربعون شاة جمعها إلى شياه جاره البالغة أربعين أيضا ليثبت فيها جميعا شاة واحدة بدل شاتين، وكذلك تفريق الأموال المجتمعة بغية تقليل الزكاة أو التخلص منها، كسبعين شاة بين رجلين يجب فيها شاة واحدة(3) فإذا قسمت بينهما نصفين لم يجب فيها شيء لنقصان حصة كل شريك عن النصاب، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التي ورد فيها النهي عن الترك للشرط بغية عدم انعقاد المشروط كثيرة، وأقل درجات النهي الكراهة، فلا بد من إثباتها، وأما الحرمة فلا محل لإثباتها نظرا لما تقرر من أن الشارع لا قصد له في تحقيق الشرط أو منعه.
2- ترك للشرط من غير قصد إلى إبطال المشروط وتفويته، كمن اقتسم مع شريكه الشياه لمشاحنة بينهما، فنتج عن ذلك نزول الزكاة عنهما، فإنه لا كراهة على واحد منهما، لعدم القصد إلى الإبطال.
هذا مع الانتباه إلى أن المشروط لا بد باطل في كلتا الحالتين الماضيتين مادام لم يتحقق شرطه، لأن معنى الشرط هو ذلك، هذا بالنسبة للشرط المطلق، وأما الشرط المقيد بعدم العذر، فإن مشروطه يصح مع فواته إذا كان الفوات لعذر مأذون فيه من قبل الشارع.
المانـــــــع:
تعريفـــه:
المنع في اللغة يطلق على معان متعددة،هي: الحرمان، والكف، والمنازعة، والتقصير، يقال مُنع فلانا حصته أي حرمه منها، ومنه قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم) أي حارم منه، كما يقال: امتنع عن الشهادة أي كف عنها، وكذلك: مانع الشيء أهله نازعهم فيه، وهو في مَنَعَةٍ من قومه أي قوة وحماية(1).
والمانع في الاصطلاح الأصولي: (هو الوصف الظاهر المنضبط الذي يستلزم وجوده حكمة تستلزم عدم الحكم أو عدم سببه)(2)، أو هو: (الأمر الشرعي الذي ينافي وجوده الغرض المقصود من الحكم أو من سببه)(3)، وإذا أردنا توضيح معناه أكثر فإنه هو: (ما توقف وجود غيره على انعدامه وكان خارجا عن ماهيته).
من هذا التعريف للمانع ندرك أن المانع شقيق السبب أو نقيضه، فالسبب هو ما توقف وجود غيره على وجوده، والمانع ما توقف وجود غيره على انعدامه، ولذلك فإن كل الأحكام والملاحظات التي تقدمت معنا في باب السبب يمكن أن نطبقها على المانع تقريبا، بل إن الشاطبي رحمه الله تعالى سماه سببا، وعرفة بأنه: (السبب المقتضي لعلة تنافي حكمة الحكم).
أنواعــــه:
ينقسم المانع من حيث الأمر المتعلق على زواله إلى قسمين:
أ- مانع مؤثر في سبب الحكم، أي مؤثر في تعطيل السبب عن إنتاج حكمه، مثل الدَّين فإنه مانع من موانع وجوب الزكاة، وهذا المانع مرتبط ومؤثر في سبب وجوب الزكاة، وهو المتجلي في ملك النصاب، لأن الدين مانع من تحقيق ملك النصاب، فإذا لم يتحقق النصاب سقط وجوب الزكاة لذلك.
ب- مانع مؤثر في الحكم نفسه دون أن يكون له أي ارتباط بأسبابه:
مثل الأبوة في حق وجوب القصاص على الأب، فإن الأب إذا قتل ابنه عمدا لم يجب عليه القصاص لمانع الأبوة، إذ اعتبرها الشارع مانعا من موانع القصاص، وأجمع جمهور الفقهاء على ذلك دون النذر اليسير منهم، فإن هذا المانع منصب على أصل الحكم دون أن يكون له أي علاقة بأسبابه، وكذلك الصلاة مع حمل النجاسة، فإن النجاسة مانع من موانع صحة الصلاة دون مساس بأسبابها.
هذا وكل من هذين النوعين للمانع ينقسم إلى أقسام متعددة أهمها:
أ- مانع مؤثر في أصل انعقاد سبب الحكم، بمعنى أن السبب ينعدم بوجوده كليا، مثل حرية البيع، فإنها مانع لأصل الرق الذي هو سبب انعقاد البيع على الرقيق، فلو باع إنسان حرا لآخر كان البيع باطلا، لعدم انعقاد سببه وهو الرق.
ب- مانع مؤثر في تمام السبب والسبب منعقد مع وجوده، ولكنه ناقص، مثل بيع الإنسان ما يملكه غيره، فإن سبب الحكم هو سلطة التصرف، وهي موجودة بالجملة في حق الفضولي، إذ إنه ليس له إبطال العقد بعد عقده وقبل الإجازة من المالك الأصلي له، ولكن هذه السلطة ناقصة، ولذلك يبقى العقد معها صحيحا موقوفا على إجازة صاحب الحق.
2- وينقسم المانع المؤثر في الحكم إلى ثلاثة أقسام أيضا، هي:
أ- مانع يمنع ابتداء الحكم، فلا يقوم الحكم معه أصلا، مثل خيار الشرط، فإنه مانع لثبوت أصل الملك، فلا البائع مالك للثمن، ولا المشتري مالك للبيع، قبل انتهاء مدة الخيار، وذلك رغم قيام سبب الملك وهو العقد.
ب- مانع يمنع تمام الحكم، فأصل الحكم ثابت معه، ولكنه حكم ناقص، مثل خيار الرؤية في البيع، فإن ملك البيع ثابت للمشتري فيه، وكذلك ملك البائع للثمن، فإنهما ثابتان معه، ولكنهما ملكين ناقصين، بمعنى أنه يجوز للمشتري فسخ البيع بعد رؤية المبيع بدون رضا أو قضاء.
ج- مانع يمنع لزوم الحكم، فالحكم معه موجود وتام، ولكنه قابل للنقض بشرط الرضا أو القضاء، خلافا للنوع الثاني الذي يجوز فيه الفسخ بدون رضا أو قضاء. وذلك مثل خيار العيب، فإنه لا يؤثر على وجود الملك أو تمامه أصلا، ولكن يمنع اللزوم فقط(1).
وقد قسم الشاطبي رحمه الله تعالى المانع المؤثر في الحكم من حيث منافاته للطلب إلى أقسام أخرى قريبة من هذه الأقسام، وهي:
1- ينقسم المانع إلى قسمين:
أ- مالا يجتمع مع الطلب (التكليف) عقلا: كزوال العقل بالنوم أو الجنون أو غيرهما، فإنه مانع من أصل التكليف، ولا يجيز العقل أن يجتمع واحد منها معه أبدا.
ب- ما يجتمع مع الطلب عقلا: كالحيض، والرق، والسفر، فإنها موانع من كثير من الواجبات، ولكنها موانع شرعية بحيث لا يحيل العقل جواز اجتماعها مع أصل التكليف.
2- وينقسم هذا النوع الثاني من الموانع الشرعية إلى قسمين اثنين، هما:
أ- موانع ترفع أصل الطلب، وتلقي الخطاب من أصله في حق المخاطبين وكأنه لم يكن، كالحيض والنفاس في حق وجوب الصلاة، فإن التكليف بالصلاة على من قام بهن هذا المانع ساقط، فلا يجب عليهن شيء من الصلاة، ولو أدينه كان باطلا، ودلك دليل ارتفاع التكليف أصلا، وإلا أدى الأمر إلى اجتماع النقيضين في الواحد بالشخص المتحد الجهة، وهو باطل لما مر.
ب- موانع لا ترفع أصل الطلب، ولكنها ترفع إتمامه فقط، وهي على قسمين:
أولا: موانع يصير معها المكلف مخيرا بين فعل الشيء وتركه على حد سواء، مثل الرق والأنوثة في حق صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والجهاد وغيرها، فإن حكمها في حقهم التخيير بين الفعل والترك مع بقاء أصل الخطاب في حقهم رغم المانع، بدليل صحتها منهم والإثابة عليها إذا فعلوها.
ثانيا: موانع لا يصير المكلف معها مخيرا بين الفعل والترك، ولكن يسقط الإثم عنه بسببها عند الترك، من ذلك الرخص بأنواعها، فإنها مانعة من ترتيب الحرج والإثم على تارك العزيمة. مع بقاء أصل التكليف بالعزيمة أيضا، بدليل صحتها من المكلف لو فعلها مع الإثابة عليها(1).
انتهى والحمد لله رب العالمين.
تعليق ختامي
(1) انظر المصباح المنير ومختار الصحاح – مادة وضع.
(2) مرقاة الوصول 2/398-399.
(4) انظر أبا زهرة ص 53.
(1) انظر المرقاة 2/399.
(2) انظر المصباح المنير مادة (سبب) والمرآة 2/405.
(3) العضـد 2/7.
(4) المرآة على المرقاة 2/405.
(3) أبو زهـرة ص 53.
(1) انظر إرشاد الفحول: ص6، والعضد 2/7.
(2) انظر الموافقات 1/187 – 189، والخضري ص 59 – 60 وأبا زهرة ص54.
(3) أبو زهــرة ص 54.
(1) انظر أبا زهرة ص 56-57.
(2) انظر أبا زهرة ص 53، والموافقات للشاطبي 1/196.
(1) والنقيضان هما الأمران اللذان يحيل العقل وجودهما معا في الشيء الواحد في الوقت الواحد، كما يحول انعدامهما معا كذلك أيضا، بخلاف ما لو أحال وجودهما دون انعدامهما معا، فإنهما الضدان لا النقيضين.
(2) انظر الموافقات 2/189-192.
(3) انظر الموافقات 2/193-194 و 211-213، والخضري ص 61-62.
(1) انظر الموافقات 2/194-196، والخضري ص61.
(2) انظر الموافقات 2/ 196-201.
(1) انظر الموافقات 2/214-227، والخضري ص62.
(2) انظر الموافقات 2/237-243، والخضري ص63.
(3) يقسم العلماء العلم إلى خمس درجات هي: القطع، ويسمى اليقين أو العلم أحيانا وهو ما وصل الوثوق به إلى مرتبة الجزم الكامل أي 100%، وغلبة الظن، وهي مرتبة قريبة من اليقين واحتمال النقيض فيها ضعيف جدا، أي إن الوثوق فيها يصل إلى 90% تقريبا، والظن، وهو ما كان جانب الوثوق فيه غالبا وراجحا على جانب النقيض أي 70% أو 60% تقريبا، والشك وهو ما تساوى فيه الاحتمالان، والوهم وهو ما كان جانب النقيض فيه غالبا.
(1) هذا …إذا لم يكن معلقا على الزواج منها، وإلا انعقد عند الحنفية.
(2) عد الزواج بالأخت فاسدا لا باطلا، هو مذهب أبي حنيفة خاصة.
(3) انظر الموافقات 1/250-258، والخضري: ص63-65، والفقرة: (166) من هذه المذكرة.
(1) انظر المصباح المنير – مادة (شرط)، وشرح الموطأ: 2/417.
(2) مرآة الأصول: 2/417.
(3) العضد على ابن الحاجب: 2/7-8.
(4) انظر الخضري: ص64، وأبا زهرة: ص57.
(5) انظر مرآة الأصول وحاشية الإزميري عليها 2/417-420.
(1) قارن ذلك مع الخضرى ص64-69.
(1) انظر أبا زهرة ص 57-59، والخضري ص64-69.
(2) قارن ذلك مع الخضري: ص 67-68.
(3) وهذا على مذهب الشافعية، وأما الحنفية فيوجبون الزكاة كما لو كان المال مفصولا على الشركاء كل على مقدار حصته.
(1) انظر المصباح المنير ومختار الصحاح مادة (منع).
(2) إرشاد الفحول ص7.
(3) أبو زهرة ص60.
(1) انظر الخضري ص69-71.
(1) انظر الموافقات 1/285-291.