المحتويات
كتاب أحكام البيع وما يتعلق به
البيع
تعريفه
* هو في اللغة مقابلة شيء بشيء فمقابلة السلعة بالسلعة تسمى بيعاً لغة كمقابلتها بالنقد، ويقال لأحد المتقابلين مبيع وللآخر ثمن، ولا فرق في اللغة بين أن يكون المبيع والثمن طاهرين أو نجسين يباح الانتفاع بهما شرعاً أو لا، كالخمر فإنه يصح أن يكون مبيعاً وثمناً في اللغة، أما في الشرع فإنه لا يصح كما ستعرفه، ثم إن مقابلة الشيء بالشيء تتناول نحو مقابلة السلام بالرد عليه، ومقابلة الزيادة بمثلها، ومقابلة الإحسان بمثله، فإن ذلك يسمى بيعاً وشراء على هذا التعريف، والظاهر أنه كذلك على طريق المجاز.
وقال بعض الفقهاء إن معناه في اللغة تمليك المال بالمال وهو بمعنى التعريف الأول، إلا أنه مقصور على المعنى الحقيقي، فلا يشمل رد الزيادة ونحوها بمثلها ونقل بعضهم أنه في اللغة إخراج ذات عن الملك بعوض وهو بمعنى التعريف الثاني، لأن إخراج الذات عن الملك هو معنى تمليك الغير للمال، فتمليك المنفعة بالإجارة ونحوها كما يأتي لا يسمى بيعاً لغة.
أما الشراء فإنه إدخال ذات في الملك بعوض. أو تملك المال بالمال، على أن اللغة تطلق كلاً من البيع والشراء على معنى الآخر، فيقال لفعل البائع: بيع وشراء، كما يقال ذلك لفعل المشتري ومنه قوله تعالى: {وشروه بثمن} فإن معنى شروه في الآية باعوه، وكذلك الاشتراء والابتياع فإنهما يطلقان على فعل البائع والمشتري لغة، إلا أن العرف قد خص البيع بفعل البائع وهو إخراج الذات في الملك، وخص الشراء والاشتراء والابتياع بفعل المشتري وهو إدخال الذات في الملك، ثم إن البيع يستعمل متعدياً لمفعولين بنفسه فيقال: بعتك الدار، وقد يستعمل متعدياً للمفعول الثاني بزيادة من وإلى وعلى للتأكيد فيقال: بعت الدار لك، ومنك، وباعها القاضي عليه.
وأما تعريف شرعاً وأقسامه ففيها تفصيل المذاهب
(الحنفية - قالوا: البيع يطلق في اصطلاح الفقهاء على معنيين:
أحدهما: خاص، وهو بيع العين بالنقدين الذهب والفضة ونحوهما، فإذا أطلق لفظ بيع لا ينصرف إلا إلى هذا المعنى. ثانيهما عام وهو عشر قسماً من ضمنها هذا المعنى الخاص وذلك لأنه إما أن ينظر إلى معنى البيع من حيث ذاته وهو المال بالمال، وإما أن ينظر إليه باعتبار المبيع الذي يتعلق به، وإما أن ينظر إليه باعتبار الثمن، وفي كل حالة من هذه الأحوال ينقسم إلى أربعة أقسام: فمن حيث النظر إلى معناه ينقسم الى: نافذ، وموقوف، وفاسد، وباطل، وذلك لأنه إما أن يفيد الملك في الحال وهو البيع والنافذ، أو يفيده عند الإجازة وهو الموقوف، أو يفيده عند القبض وهو الفاسد، أو لا يفيده أصلاً وهو الباطل. ومن حيث النظر إليه باعتبار المبيع ينقسم إلى أربعة أقسام أيضاً: مقايضة، صرف، سلم، بيع مطلق، وذلك لأن المبيع إما أن يكون مبادلة عين بعين "سلعة بسلعة غير النقدين" ويسمى مقايضة، فالمقايضة هي بيع العين بالعين ويصدق كل واحدة من السلعتين أنها مبيع وثمن، ولكن نظر في التقسيم إليها من حيث كونها مبيعاً، وإما أن يكون المبيع نقداً بنقد ويسمى صرفاً، لأن الصرف هو بيع النقد من الذهب والفضة ونحوهما بمثله، ويقال له بيع الدين "النقد بالنقد" وإما أن يكون المبيع نقداً بعين ويسمى سلماً، لأن السلم هو بيع النقد بالعين كما سيأتي بيانه، وإما أن يكون المبيع عيناً بنقد عاجل أو آجل وهو البيع المطلق، وهو الغالب عند ذكر كلمة بيع كما ذكرناه لك أولاً، فإذا أريد غيره فإنه لا بدّ أن يسمّى باسم من هذه الأشياء وهي صرف، سلم...إلخ.
وأما إذا نظر إليه من حيث الثمن فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام وهي: تولية، مرابحة، ضيعة، مساومة، وذلك لأنه إما أن ينظر فيه إلى ثمن السلعة التي اشتريت به في أول الأمر أو لا، فإن نظر إليه فإن بيعت به بدون زيادة ولا نقص فإن ذلك البيع يسمى بيع تولية، فالتولية هي البيع بالثمن الأول، وإن بيعت بزيادة على الثمن الأول فإن ذلك يسمى بيع المرابحة، وإن بيعت بأقل من الثمن الأول فذلك البيع يسمى بيع الضيعة، أما إذا قطع النظر عن الثمن الأول الذي اشتريت به السلعة فيبيعها على هذا الوجه يسمى بيع المساومة وهي البيع بالثمن الذي يتفقان عليه بغض النظر عن الثمن الأول.
ومن هذا يتضح لك أن تعريف البيع بالمعنى الخاص: وهو مبادلة السلعة بالنقد على وجه مخصوص.
وأما تعريفه بالمعنى العام: فهو مبادلة المال بالمال على وجه مخصوص، فالمال يشمل ما كان عيناً أو نقداً، فتدخل فيه جميع الأقسام التي ذكرناها، ثم إن المال هو ما يميل إليه الطبع ويدخر للانتفاع به وقت الحاجة ولا يكون له قيمة في نظر الشرع إلا إذا اجتمع فيه أمران: أحدهما أن يكون من شأنه الانتفاع به عند الحاجة. ثانيهما: أن يكون الانتفاع به مباحاً شرعاً. فإذا لم يكن من شأنه الانتفاع به كحبة من حنطة فإنه لا يكون مالاً معتبراً. وكذا إذا لم يكن مباحاً شرعاً كالخمر والخنزير فإنه وإن كان مما ينتفع به بعض الناس ولكنه غير مباح في نظر الشرع، فلا يكون مالاً عنده. فلو بيع الخمر لا ينعقد بيعه، ولكن لو اشترى سلعة طاهرة وجعل ثمنها خمراً فإن البيع ينعقد ولا ينفع كون الخمر ثمناً فيلزم المشتري بقيمة السلعة. وبهذا تعلم أن المراد بالمال في التعريف: المال الذي له قيمة في نظر الشرع سواء أكان سلعة أم عقداً، فيشمل الصرف، والسلم، والمرابحة، والتولية، والمقايضة... الخ.
ويشمل التعريف أيضاً الهبة بشرط العوض المالي، فلا يصح إخراجها من التعريف كما يظن بعضهم؛ لأنها وإن كانت هبة قبل القبض إلا أنها بيع بعد القبض، وصورتها مثلاً أن يقول: إنني وهبت هذه الدار من فلان بشرط أن يعوضني مائة جنيه فقبل أن يقبض المائة، فإن حكم هذه كحكم الهبة فيشترط لصحته ما يشترط للهبة، فلا يصح في الشارع الذي يحتمل القسمة، ولا يثبت به الملك قبل القبض، ولكل واحد من المتعاقدين أن يمتنع عن التسليم. أما بعد القبض فإنه حكمه كحكم البيع، فلا يكون لأحدهما حق الرجوع فيما كان له. ويثبت به حق الشفعة، ولكل واحد أن يرد ما أخذ إن كان فيه عيب وغير ذلك من أحكام البيع التي ستعرفها، فهي داخلة في البيع بلا خفاء، نعم إذا نظر إليها قبل القبض فإنها تكون هبة تخرج بقوله على وجه مخصوص.
أما التبرع من الجانبين كأن يتبرع أحد لآخر بمال فيتبرع له الثاني كذلك فهو داخل في التعريف من حيث انه مبادلة في الجملة، لأن الأول وإن كان قد تبرع لا في نظير شيء ولكن الثاني تبرع في مقابلة تبرع الأول، ففيه مبادلة من جانب واحد فيخرجه قوله على وجه مخصوص. لأنه ليس بيعاً في الحقيقة بل هو هبة. لكل واحد منهما حق الرجوع في تبرعه كما سيأتي في الهبة.
ويشمل التعريف بيع المكره، لأنه مبادلة مال بمال وهو كذلك، لأن بيع المكره قسم من أقسام البيع المنعقد إلا أنه بيع فاسد موقوف على إجازته بعد زوال الإكراه كما سيأتي ببيانه قريباً. فزيادة قيد التراضي في التعريف لإخراج بيع المكره ليست بشيء، لأن الرضا شرط بنفاذ البيع لا جزء من مفهومه الشرعي كما سيأتي في شرائطه قريباً.
ومن هذا تعلم أيضاً أنه لا حاجة إلى زيادة قيد مفيد كما عرفه بعضهم بقوله مبادلة مال بمال على وجه مفيد مخصوص، وغرضه إخراج البيع غير المفيد كبيع نقد مسكوك بمساويه في الوزن والوصف، مثل أن يبيع قطعة من ذات القرشين بمثلها فإن ذلك لا فائدة فيه فلا يصح. أما إذا اختلفا في الوصف كما إذا كانت إحداهما مطلية بطلاء أصفر أو أسود فإنه يجوز لوجود الفائدة حينئذ، وإنما قلنا إن هذا القيد لا حاجة إليه، لأن البيع لا فائدة فيه منعقد داخل في تعريف البيع، لأنه مبادلة مال بمال ولكنه بيع فاسد، والتعريف يشمل الصحيح والفاسد كما ذكرناه لك آنفاً.
وقوله على وجه مخصوص: المراد به الإيجاب والقبول وسيأتي بيانهما.
المالكية - قالوا: للبيع في اصطلاح الفقهاء تعريفا: أحدهما تعريف لجميع أفراد البيع الشامل الصرف والسلم ونحوهما من الأقسام التي ستعرفها: ثانيها تعريف لفرد واحد من هذه الأفراد. وهو ما يفهم من لفظ البيع عن الإطلاق عرفاً. والأول يسمى تعريفاً للبيع بالمعنى الأخص. فأما تعريفه بالمعنى الأعم فهو عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة.
فقوله عقد معاوضة معناه عقد محتو على عوض من الجانبين "البائع والمشتري" لأن كلاً منهما يدفع عوضاً للآخر. وقوله على غير منافع: معناه أن العقد يكون على الذوات والأعيان عن ثمن أو سلعة لا على استثمارها والانتفاع بها، وقوله ولا متعة لذة، معناه أن العقد لا يكون للانتفاع بلذة. فهذا التعريف يشمل جميع أقسام البيع فيدخل فيه الصرف وهو بيع الذهب والفضة، والعكس، والمبادلة، وهو بيع ذهب بذهب أو فضة بفضة متساويين في العدد.
والمراطلة: وهي بيع ذهب بذهب أو فضة بفضة متساويين في الوزن.
والسلم: وهو عقد على أن يدفع أحد الجانبين شيئاً مالياً معجلاً في نظير أن يأخذ شيئاً مالياً من غير جنس ما دفعه مؤجلاً. وتدخل أيضاً الهبة بشرط العوض وتسمى هبة الثواب أي هبة العوض المالي، كما تدخل التولية وهي البيع بالثمن الذي اشتريت به السلعة: والشركة، والإقالة، والشفعة، وسيأتي بيان ذلك موضحاً في محله، فكل هذه الأنواع يشملها هذا التعريف لأنها عبارة عن عقد على أن يدفع كل واحد من الجانبين عوضاً للآخر عيناً لا منقعة. ويخرج من التعريف الإجارة لأنها عقد على منفعة لا على ذات. وكذلك كراء الحيوان فإنه عقد على الانتفاع به لا على ذاته ويخرج عقد النكاح بقوله: ولا متعة لذة. لأنه عقد على الانتفاع باللذة.
أما تعريفه بالمعنى الأخص: فهو عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة. ذو مكايسة، أحد عوضية غير ذهب ولا فضة، معين غير العين فيه، فهو التعريف الأول مع زيادة ثلاثة قيود:
القيد الأول: ذو مكايسة، ومعنى ذو مكايسة: عقد صاحب مشاححة ومغالبة، لأن كل واحد من المتعاقدين يريد أن يغلب صاحبه. وخرج بهذا القيد هبة الثواب، لأن الواهب ملزم بقبول القيمة التي اشترطها متى دفعت له، فليس له أن يشاحح فيها، فإذا قال: وهبت هذه الدار لزيد بشرط أن يعوضني مائة دينار لزمه قبول المائة ولا يجاب لأزيد منها. وتخرج أيضاً المبادلة والتولية والأخذ بالشفعة لأنها لا مكايسة فيها. أما المبادلة: فهي بيع نقد بنقد من صنفه مسكوكين "مضروبين" بشرائط مخصوصة وهو لا مغالبة فيه كما ستعرف. أما التولية: فهي بيع بعين الثمن الأول فلا مغالبة فيها. وأما الأخذ بالشفعة: فهو بيع بنفس الثمن الذي اشتريت به السلعة فلا مغالبة فيها أيضاً. القيد الثاني: أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة. ويخرج به الصرف والمراطلة لأن عوضا الصرف أحدهما ذهب والآخر فضة، وعوضى المراطلة والمبادلة ذهبان أو فضتان.
القيد الثالث: معين غير العين فيه، ويخرج به السلم، ومعنى ذلك أن عقد البيع يلزم فيه أن يكون المبيع ليس ديناً في الذمة، بل ينبغي أن يكون غير دين، سواء كان حاضراً أمام المشتري أو غائباً، ولكنه معروف عنده بصفة أو رؤية سابقة، أو اشتراه بشرط أن يكون له خيار الرؤية أما عند السلم فعلى عكس ذلك، لأن المسلم فيه وهو السلعة دين في الذمة، فالمراد بالمعين ما ليس ديناً في الذمة، والسلم دين في الذمة. والمراد بالعين الذهب والفضة، ولا يلزم في عقد البيع يكون الذهب أو الفضة مقبوضين، بل يصح أن يكونا ديناً في الذمة، وبذلك يتم تعريف البيع الخاص أعني بيع السلعة بالنقد وهو الذي ينصرف إليه لفظ البيع عند الإطلاق.
هذا وقد قسم المالكية البيع إلى أقسام كثيرة باعتبارات مختلفة فقالوا: إن البيع بالمعنى الأعم ينقسم أولاً إلى قسمين: بيع المنافع وبيع الأعيان. فأما بيع المنافع فإنه ينقسم إلى خمسة أقسام: الأول: بيع منافع الجماد ويعبرون عنه بأكرية الدور والأرضين. والثاني: بيع منافع الحيوان غير العاقل ويعبرون عنه بأكرية الدواب والرواحل. الثالث: بيع منافع الانسان المتعلقة بغير الفروج وهو النكاح والخلع. الرابع: بيع منافع الإنسان المتعلقة بغير الفروج كتأجيره. الخامس: بيع منافع العروض ويسمى إجارة غالباً.
أما بيع الأعيان فإنه ينقسم إلى أقسام كثيرة لا عتبارات مختلفة، فينقسم من حيث تأجيل أحد عوضيه أو كليهما إلى أربعة أقسام:
الأول: بيع النقد، وهو ما كان الثمن والمثمن فيه معجلين لا تأجيل فيهما ولا في واحد منهما.
الثاني: بيع الدين بالدين، وهو ما كان الثمن والمثمن فيه مؤجلين معاً، وهو بيع منهي عنه كما سيأتي في البيوع المنهي عنها.
الثالث: البيع لأجل وهو ما تأجل فيه الثمن فقط.
الرابع: السلم وهو ما تأجل فيه المثمن فقط، وكلها جائزة ما عدا بيع الدين بالدين كما ذكرنا. وينقسم من حيث كون أحد عوضيه ذهباً أو فضة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: بيع العين بالعين.
الثاني: بيع العرض بالعرض.
الثالث: بيع العرض بالعين. وينقسم بيع العين بالعين إلى ثلاثة أقسام: صرف، ومبادلة، ومراطلة. فالصرف: هو ما اختلف فيه جنس العوضين، بأن يكون أحدهما ذهباً والثاني فضة. وبالعكس. والمراطلة: هي ما اتحد فيها العوضان وكان البيع فيها بالوزن، كبيع ذهب بذهب وفضة بفضة وزناً. والمبادلة وهي ما اتحد فيها العوضان كذهب بذهب وفضة بفضة وكان البيع فيها بالعد لا بالوزن. وينقسم في رؤية المثمن وعدم رؤيته إلى قسمين: الأول بيع الحاضر، وهو ما كان المثمن فيه مرئياً أو في حكم المرئي. والثاني: بيع الغائب وهو ما ليس كذلك. وينقسم أيضاً باعتبار بت عقده وعدمه إلى قسمين: الأول بيع بت أي قطع: وهو ما لا خيار فيه لأحد المتعاقدين، وسمي بتاً لأن كل واحد قطع الخيار على صاحبه. الثاني بيع الخيار: وهو ما جعل أحدهما الخيار فيه لصاحبه.
وينقسم باعتبار النظر إلى الثمن الذي اشتريت به السلعة أولاً وعدمه إلى أربعة أقسام:
الأول: بيع المرابحة: وهو أن يشتري منه السلعة بزيادة على ثمنها الأول.
هو في اللغة مقابلة شيء بشيء فمقابلة السلعة بالسلعة تسمى بيعاً لغة.
الثاني: المساومة. الثالث: المزايدة. الرابع: الاستئمان وسيأتي بيانها.
وينقسم باعتبار ما يعرض له إلى قسمين: صحيح وفاسد.
الحنابلة - قالوا: معنى البيع في الشرع: مبادلة مال بمال، أو مبادلة منفعة مباحة بمنفعة مباحة على التأبيد غير ربا وقرض. فقوله: مبادلة مال بمال عقد صاحب عوض من الجانبين، وهو عبارة عن جعل شيء في مقابلة آخر، ويشمل المال النقد وغيره فيدخل فيه مقايضة سلعة بسلعة، ولا فرق في المال بين أن يكون معيناً حاضراً أو موصوفاً ولو كان ذلك المال ديناً في الذمة. وقوله: على التأبيد متعلق بمبادلة يخرج به الإجارة، والإعارة في نظير الإعارة. وقوله غير ربا وقرض: خرج بهما الربا والقرض.
الشافعية - قالوا: البيع في الشرع مقابلة مال بمال على وجه مخصوص، أي عقد ذو مقابلة مال بمال الخ، والمراد بالمقابلة المعاوضة. وهي أن يدفع كل واحد من الجانبين عوضاً للآخر، فتخرج بذلك الهبة لأنها تمليك بلا عوض في الحياة، وقوله: مال بمال خرج به عقد النكاح لأنه مقابلة مال بغيره.
وقوله على وجه مخصوص. الغرض منه أمران: الأول أن يكون ذلك العقد مفيداً لملك العين أو لملك المنفعة على التأبيد كحق المرور، وبذلك تخرج الإجارة لأنها تمليك منفعة مقدرة بمدة بعوض. الثاني: أن لا يكون ذلك العقد على وجه القربة فيخرج به القرض، لأنه تمليك للعين على أن يرد مثلها.
وينقسم إلى قسمين: صحيح وهو ما توفرت فيه الشروط والأركان. وفاسد وهو ما اختل به بعض ذلك. وكل منهما ينقسم إلى محرم وجائز، فالصحيح المحرم كتلقي الركبان. والفاسد المحرم كبيع حبل الحبلة، وسيأتي بيان ذلك في البيع الفاسد.
وينقسم الصحيح إلى أقسام: الأول: بيع أعيان مشاهدة. الثاني بيع أعيان موصوفة في الذمة ويسمى سلماً. والذمة تطلق في اصطلاح الفقهاء على معنيين: أحدهما الذات - ذات البائع هنا - وسميت ذمة لما يتعلق بها من العبد والأمان وهو المعنى اللغوي، ثانيهما أمر معنوي قائم بذات الشخص قابل للإلزام من جهة الشرع والالتزام من جهة المكلف، فذمة الشخص صفة معنوية قائمة به يلزمه الشارع بسببها بأداء ما التزم به. الثالث: بيع صرف وهو بيع أحد النقدين بالآخر من جنسه أو من غير جنسه، لكن إذا كان من جنسه اشترط للصحة ثلاثة شروط: أن يكون البيع حالاً لا مؤجلاً. وأن يكون يداً بيد "مقابضة". وأن يكون المبيع والثمن متماثلين، أما إن كان غير جنسه فإنه يشترط فيه الأولان فقط، وسيأتي بيان ذلك في بابه. الرابع: بيع مرابحة وهو بيع بالثمن الأصلي مع الربح كأن يقول: بعت بما اشتريت مع ربح درهم عن كل عشرة أو مع فائدة ردهم. الخامس: بيع إشراك كأن يقول: أشركتك معي في العقد بثلث ما اشتريت، فإن قال: أشركتك معي ولم يقل بثلث ولا غيره حمل علي المناصفة. السادس بيع المحاطة كأن يقول: بعت بما اشتريت وحط درهماً من كل عشرة. السابع: بيع التولية وهي البيع بنفس الثمن الأول كأن يقول له: وليتك بما اشتريت إذا كانا عالمين بالثمن. الثامن: بيع الحيوان بالحيوان - ويسميه غيرهم مقايضة - وهو صحيح، سواء اتحد جنسهما أو اختلف، وسواء كانا مأكولين أو غير مأكولين بشرط أن لا يشتمل بيعه على ربا، وذلك بأن يكونا مأكولين واتحد جنسهما وكان فيهما لبن أو بيض، بخلاف ما إذا كانا غير مأكولين وإن كان فيهما ما ذكر. التاسع: بيع بشرط الخيار وسيأتي بيان العقود التي يحص فيها شرط الخيار والتي لا يصح. العاشر: بيع شرط البراءة من العيب، وأما الفاسد فإنه ينقسم إلى أقسام كثيرة سنذكرها في بابه).
حكم البيع ودليله
* حكم البيع من حيث هو الإباحة، وقد تعرض له الوجوب وذلك في حال الاضطرار إلى طعام أو شراب، فإنه يجب شراء ما فيه حفظ النفس من الهلاك، ويحرم عدم بيع ما فيه حفظها. وقد يكون مندوباً كما إذا حلف عليه إنسان أن يبيع سلعة لا ضرر عليه في بيعها، فإنه يندب أن يبر اليمين وقد يكون مكروهاً كبيع ما يكره بيعه، وقد يكون محرماً كبيع ما يحرم بيعه مما سيأتي بيانه.
أما كونه مباحاً فهو معلوم من الدين بالضرورة، فلا يحتاج إلى دليل، ولكن الأدلة على ذلك كثيرة في كتاب اللّه وسنة رسوله، فأما الكتاب فقوله تعالى: {وأحل اللّه البيع وحرم الربا}. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} فهذه الآيات صريحة في حل البيع وإن كانت مسوقة لأغراض أخرى غير إفادة الحل، لأنه الآية الأولى مسوقة لتحريم الربا. والثانية مسوقة لنهي الناس عن أكل أموال بعضهم بعضاً بالباطل. والثانية مسوقة للفت الناس إلى ما يرفع الخصومة ويحسم النزاع من الاستشهاد عند التبايع. وأما السنة فكيرة منهما قوله صلى اللّه عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" رواه البخاري، وفي هذا الحديث إشارة إلى ما يجب على الإنسان من العمل في هذه الحياة، فلا يحل له أن يهمل طلب الرزق اعتماداً على سؤال الناس كما لا يحل له أن يستنكف عن العمل، سواء كان جليلاً أو حقيراً، بل عليه أن يعمل بما هو ميسر له، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح سواء بسواء، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم" رواه مسلم، فقوله فبيعوا كيف شئتم صريح في إباحة البيع، وسيأتي بيان الحديث فيما ينهى عنه.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده" رواه أحمد والطبراني وغيرهما، والبيع المبرور: هو الذي يبر فيه صاحبه فلم يغش ولم يخن ولم يعص اللّه فيه، وحكمه حله ما يترتب عليه من تبادل المنافع بين الناس، وتحقيق التعاون بينهم، فينتظم بذلك معاشهم، وينبعث كل واحد إلى ما يستطيع الحصول عليه من وسائل العيش، فهذا يغرس الأرض بما منحه اللّه من قوة بدنية، وألهمه من علم بأحوال الزرع ويبيع ثمرها لمن لا يقدر على الزرع ولكنه يستطيع الحصول على الثمن من طريق أخرىن وهذا يحضر السلعة من الجهات النائية يبيعها لمن ينتفع بها، وهذا يجيد ما يحتاج إليه الناس من صناعة ليبيع عليهم مصنوعاته، فالبيع والشراء من أكبر الوسائل الباعثة على العمل في هذه الحياة الدنيا، وأجل أسباب الحضارة والعمران.
أركان البيع
* أركان البيع ستة (الحنفية - قالوا: للبيع ركن واحد وهو الإيجاب والقبول الدالان على تبادل المكلين بين البائع والمشتري من قول أو فعل، وبعضهم يقول: إن له ركنين الإيجاب والقبول، والأخذ والإعطاء، وعلى كل حال فالحنفية قد نظروا في ذلك إلى الركن الحقيقي، وهو ما كان أصلاً للشيء داخلاً فيه): صيغة، وعاقد، ومعقود عليه، وكل منها قسمان: لأن العاقد إما أن يكون بائعاً أو مشترياً. والمعقود عليه إما أن يكون ثمناً أو مثمناً، والصيغة إما أن تكون إيجاباً أو قبولاً، فالأركان ستة: والمراد بالركن هنا ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن كان غير داخل في حقيقته، وهذا مجرد اصطلاح، لأن ركن الشيء الحقيقي هو أصله الداخل فيه، وأصل البيع هو الصيغة التي لولاها ما اتصف العاقدان بالبائع والمشتري.
ولكل ركن من الأركان أحكام وشروط سنذكرها لك على الترتيب الذي يلي:
الركن الأول: الصيغة
* الصيغة في البيع هي كل ما يدل على رضاء الجانبين البائع والمشتري وهي أمران (الشافعية - قالوا: لا ينعقد البيع إلا بالصيغة الكلامية أو ما يقوم مقامها من الكتاب والرسول، وإشارة الأخرس المعلومة، أما المعاطاة فإن البيع لا ينعقد بها، وقد مال صاحب الإحياء إلى جواز البيع في الأشياء اليسيرة بالمعاطاة لأن الإيجاب والقبول يشق في مثلها عادة):
الأول: القول وما يقوم مقامه من رسول أو كتاب؛ فإذا كتب لغائب يقول له: قد بعتك داري بكذا أو أرسل له رسولاً فقبل البيع في المجلس فإنه يصح، ولا يغتفر له الفصل إلا بما يغتفر في القول حال حضور المبيع.
الثاني المعاطاة: وهي الأخذ والإعطاء بدون كلام كأن يشتري شيئاً ثمنه معلوم له فأخذه من البائع ويعطيه الثمن وهو يملك بالقبض، ولا فرق بين أن يكون المبيع يسيراً كالخبز والبيض ونحوهما مما جرت العادة بشرائه، متفرقاً أو كثيراً كالثياب القيمة.
وأما القول فهو اللفظ الذي يدل على التمليك والتملك، كبعت واشتريت ويسمى ما يقع من البائع إيجاباً (الحنفية - قالوا: الإيجاب هو ما صدر أولاً من أحد المتعاقدين، سواء كان بائعا كأن يقول: بعتك كذا، أو مشترياً كأن يقول: اشتريت منك كذا بألف فيقول: بعتك إياه، والقول هو ما صدر ثانياً)، وما يعق من المشتري قبولاً، وقد يتقدم القبول على الإيجاب كما إذا قال المشتري: بعني هذه السلعة بكذا. وفي بيان الإيجاب والقبول تفصيل المذاهب
(الحنفية - قالوا: ينعقد البيع والشراء بكل لفظين يدلان على معنى التمليك والتملك، كبعت، واشتريت، وأعطيت، وبذلت، وأخذت، ورضيت لك هذا الشيء بكذا، وأجزت ونحو ذلك، وينعقد بلفظ السلم والهبة والعوض كما إذا قال: أسلمت لك هذا بكذا ووهبته منك بكذا، أو قال: عوضت فرسي بفرسك، فأجابه بقوله: وأنا أيضاً، ثم إن كان الفعل ماضياً كبعتك هذا الشيء بكذا، أو كان مضارعاً لا يحتمل الحال والاستقبال كقوله: أبيعك الآن، فإن البيع ينعقد بهما بدون حاجة إلى نية، وبعضهم يقول: إن النية لازمة في كل حال، سواء كان الفعل ماضياً أو مستقبلاً.
أما إن كان مضارعاً يحتمل الحال والاستقبال، أو كان متحمضاً للاستقبال بأن اقترن بالسين أو سوف كقوله: سأبيعك أو سوف أبيع فإنه لا ينعقد البيع إلا بنية الإيجاب في الحال بلا خلاف سواء كان الإيجاب والقبول كذلك، أو كان أحدهما ماضياً والآخر مستقبلاً، فإذا قال البائع: أبيعك هذا الثوب بكذا، وقال المشتري: أشتريه، فإن البيع لا ينعقد إلا إذا كان كل منهما ناوياً للإيجاب في الحال، وكذا إذا قال أحدهما: أبيع أو سوف أبيع، وقال الآخر: اشتريت، فإن كان الفعل أمراً كما إذا قال: بعني الثوب ونوى الإيجاب في الحال فلا ينعقد البيع إلا إذا قال له البائع: بعت ورد عليه المشتري بقوله: اشتريت فلا بد في نفاذ البيع بالأمر من ثلاثة ألفاظ لأن اللفظ الأول وهو بعني ملغى، لأن البيع لا ينعقد بالأمر أصلاً إلا إذا دل على الحال كقول البائع: خذ مني هذا الثوب بكذا، فيقول المشتري: أخذته، فإن البيع ينعقد بذلكن لأن خذ في معنى بعتك هذا الشيء فخذه، ولا ينعقد البيع إذا اقترن بالفعل استفهام ونحوه كقوله: هل تببعني، أو ليتك تببعني ونحو ذلك، ولكل واحد من البائع والمشتري حق الرجوع قبل قبول الآخر ما داما في المجلس، فإذا قال البائع: بعتك كذا ولم يجبه الآخر بالقبول فإن له أن يرجع، وكذا إذا قال له: اشتريت منك السلعة بكذا ولم يقل له: بعتك فإن له أن يرجع، وهذا يسمى خيار القبول في المجلس.
المالكية - قالوا: ينعقد البيع بكل قول يدل على الرضا كبعت واشتريت وغيرهما من الأقوال، ثم إن كان الفعل ماضياً كأن يقول البائع: بعت هذه السلعة، والمشتري: اشتريت، فإن البيع ينعقد به ويكون لازماً، فليس لواحد منهما حق الرجوع فيه لا قبل رضاء الآخر ولا بعده، حتى ولو حلف أنه لا يقصد البيع أو الشراء. أما إن كان الفعل أمراً كقول المشتري: بعني هذا السلعة بكذا فيقول له البائع: بعت فإنه ينعقد به البيع، ولكن في لزومه خلاف، فبعضهم يقول: إن له حق الرجوع وعليه اليمين بأنه لم يقصد الشراء، وبعضهم يقول: إن يلزم بهذا كلزومه بالماضي وليس له حق الرجوع على المعتمد.
فإن كان الفعل مضارعاً كأن يقول البائع: أبيع هذه السلعة بكذا فرضي المشتري بذلك، فإن البيع لا يلزم البائع إذا رجع وقال: إنني لم أرد البيع، وإنما أردت المساومة أو المزاح ولكن عليه اليمين، وإذا رجع بعد رضاء المشتري فإذا حلف فذاك وإلا فيلزمه البيع، وإذا قامت قرينة على أنه يقصد البيع فإنه يلزمه ولو حلف. وذلك كأن يقول له المشتري: يا فلان بعني سلعتك بعشرة فيقول: لا، فيقول بأحد عشر فيقول: لا، ثم يقول البائع: أبيعها باثني عشر فيقول المشتري: قبلت. فإن البيع يلزم في هذه الحالة وليس له حق الرجوع، ولا ينفعه اليمين لأن تردد الكلام بينهما قرينة على عدم المزاح واللعب. وكذا لو قال المشتري: أشتري هذه السلعة بكذا فرضي البائع ثم رجع المشتري فإن له حق الرجوع، وعليه اليمين ما لم تقم قرينة على ا، ه جاد في شرائه فإنه يلزمه الشراء، والحاصل أن البادئ بالماضارع سواء أكان بائعاً أم مشترياً فإنه لا يلزمه البيع، وله حق الرجوع وعليه اليمين إن رجع بعد رضاء الآخر، أما إذا رجع قبل رضائه فإن له ذلك الحق ولا يمين عليه، ومحل ذلك كله ما لم تقم قرينة على البيع والشراء أو عدمها وإلا عمل بها.
وإذا قال شخص لآخر: بكم تبيع هذه السلعة: فقال له: بعشرة، فقال السائل: أخذتها بذلك، فأبى البائع أن يبيعها وقال: إنني أريد أن أعرف قيمتها أو أريد المزاح فالمعتمد في ذلك أن يرجع إلى القرائن، فإن قامت قرينة بأن حصل تماكس وتردد في الكلام كما ذكر في الصورة المتقدمة فإن البائع يلزم بالبيع، وإن قامت قرينة على عدمة فإنه لا يلزمه ولا يمين على البائع، وإن لم تقم قرينة على أحدهما فللبائع حق الرجوع وعليه اليمين إن رجع بعد رضاء الآخر.
الشافعية - قالوا: ينعقد البيع والشراء بكل لفظ يدل على التمليك مفهم للمقصود، وهو قسمان: صريح. وكناية. فالصريح ما لا يحتمل غير البيع مما يدل على البيع والشراء كبعتك هذه السلعة بكذا، واشتريتها منك بكذا. وأما الكناية فهي اللفظ المحتمل لمعنى آخر غير البيع كقول البائع: أعطيتك هذا الثوب بذلك الثوب، أو أعطيتك تلك الدابة بتلك، فإن ذلك يحتمل البيع ويحتمل الإعارة. فإذا نوى بذلك البيع والشراء صح، فإن قرن اللفظ المحتمل بذكر الثمن يكون صريحاً كوهبتك هذه الدار بمائة دينار، فإن لفظ الهبة إن لم تكن مقترنة بذكر الثمن تكون هبة، فإن اقترنت بالثمن تكون بيعاً. وكذا كل لفظ يدل على التمليك إذا قرن بذكر الثمن كجعلت لك هذه الدار بثمن كذا، أو عوضتك هذا بكذا، أو صارفتك ذا بكذا، فكل هذا ظاهر الدلالة في البيع لذكر الثمن، ومثل ذلك ما إذا قال المشتري: اشتريت وقبلت فإن في ذلك دلالة ظاهرة على الشراء، بخلاف ما إذا قال: تملكت فقط، فإن ذلك كناية تحتمل التملك بالشراء وتحتمل التملك بالهبة وغيرهما. وكما ينعقد البيع بالصريح ويحل فكذلك ينعقد بالكناية ويحل، إلا أن الصريح أقطع للنزاع وأحسن في رفع الخصومات.
ومن الكناية أن يأتي البائع بالمضارع في الإيجاب كأن يقول: أبيعك أو يأتي المشتري بالمضارع في القبول، كأن يقول: أقبل فإن البيع يصح فيهما بالنية، وإن كانت النية لازمة في كل صيغة كما يأتي في الشروط. وللشافعية فرق بين النية وقصد اللفظ لمعناه. ويصح أن يتقدم القول على الإيجاب كأن يقول المشتري: بعني كذا بكذا، فلفظ بعني معناه طلب الإيجاب وهو قائم مقام القبول، فيصح جعله من أفراده إذا كان بصيغة الأمر أما إذا كان بصيغة الاستفهام كقوله: هل تببعني كذا؟ فإنه لا يصح ولا يضر تقييد اللفظ بالمشيئة كقوله: اشتر مني كذا إن شئت ولكن بشروط أربعة: الأول أن يذكرها المبتدي سواء كان بائعاً أو مشترياً. الثاني أن يخاطب بها مفرداً، فإن خاطب بها جماعة فإنها لا تنفع. الثالث أن يفتح تاء المخاطب إن كان نحوياً. الرابع أن يؤخرها عن الصيغة سواء كانت إيجاباً أو قبولاً، فإن فقد شرط من هذه الشروط بطل العقد. أما إذا علق الصيغة بقول إن شاء اللّه، أو بأي تعليق لا يقتضيه العقد كقوله: إن شاء فلان؛ فإن ذلك يبطل العقد.
الحنابلة - قالوا: كل لفظ يؤدي معنى البيع والشراء ينعقد به، فلا تنحصر الصيغة القولية في لفظ معين، فينعقد بالإيجاب من البائع بقول: بعتك، أو ملكتك، أو وليتك، أو أشركتك في كذا، أو وهبتكه بكذا، أو أعطيتك كذا بكذا ونحو ذلك.
ومن المشتري بقول قبلت، أو رضيت، أو اشتريت، أو تملكت، أو أخذت، أو استبدلت ونحو ذلك، وهل يصح البيع بلفظ السلم والسلف أو لا؟ كأن يقول: سلفتك أو أسلمت لك كذا بكذا: خلاف، فقيل يصح، وقيل لا. ويجوز أن يتقدم القبول على الإيجاب ولكن يلمزم أن يكون بلفظ الأمر كأن يقول: بعني كذا بكذا، فإن كان بلفظ الماضي أو المضارع فإنه يجب أن يكون مجرداً عن الاستفهام والتمني والترجي فيقول: تببعني كذا، أو تببعني كذا بكذا، فإن قال: بعت صح. أما إن قال: هل بعتني أو هل تببعني؟ أو ليتك بعتني، أو لعلك بعتني فإنه لا يصح. ولا يضر تقييد البيع والشراء بالمشيئة، فلو قال البائع: بعت إن شاء اللّه، أو قال المشتري: اشتريت إن شاء اللّه صح البيع، ولكل من البائع والمشتري حق الرجوع ما داما في المجلس ولو بعد تمام العقد، لأن لهما خيار المجلس كما يأتي بيانه).
ويشترط للإيجاب والقبول شروط منها: أن يكون الإيجاب موافقاً للقبول في القدر، والوصف والنقد، والحلول، والأجل، فإذا قال البائع: بعن هذه الدار بألف فقال المشتري: قبلتها بخمسمائة لم ينعقد البيع، وكذا إذا قال: بعتها بألف جنيه ذهباً فقال الآخر: قبلتها بألف جنيه ورقاً، فإن البيع لا ينعقد، إلا إذا كانت الألف الثانية مثل الأولى في المعنى من جميع الوجوه فإن البيع ينعقد في هذه الحالة. ومنها أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن قال أحدهما: بعتك هذا بألف ثم تفرقا قبل أن يقبل الآخر فإن البيع لا ينعقد. ومنها أن يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض. أما الفاصل اليسير وهو الذي لا يدل على الإعراض بحسب العرف فإنه لا يضر (الحنفية - قالوا: الفاصل الذي يغتفر في الإيجاب والقبول هو الفاصل اليسير كما إذا قال له: بعتك هذا الثوب بعشرة وكان في يده قدح ماء فشربه ثم قال له: قبلت فإنه لا يضر، وكذا إذا أكل لقمة، أما إذا اشتغل بأكل أو نوم فإن المجلس يتبدل، وكذا إذا قال له: بعتك هذا بكذا فلم يجبه ثم تكلم في حاجة له مع غيره كان ذلك فاصلاً لا ينفع معه البيع.
الشافعية - قالوا: لا يغتفر الفصل بين الإيجاب والقبول بالكلام الأجنبي مطلقاً، سواء كان قليلاً أو كثيراً أما الكلام الذي فيه ذكر حدود المبيع فإن الفصل به لا يضر وإن طال، ولو كان معروفاً قبل العقد للمتعاقدين. وكذا لا يضر الفصل بالسكوت اليسير. أما السكوت الطويل وهو ما يشعر بالإعراض عن القبول فإنه لا يغتفر ولكل من البائع والمشتري الرجوع ما داما في المجلس لأن لهما خيار المجلس وإن لم يشترطاه، بل لو اشترطا عدمه بطل العقد كما يأتي).
ومنها سماع المتعاقدين كلام بعضهما، فإذا كانه البيع بحضرة شهود فإنه يكفي سماع الشهود بحيث لو أنكر أحدهما السماع لم يصدق. فإذا قال بعت هذه السلعة بكذا، وقال الآخر: قبلت. ثم تفرقا فادعى البائع أنه لم يسمع القبول، أو ادعى المشتري بأنه لم يسمع الثمن مثلاً فإن دعواهما لا تسمع إلا بالشهود.
الركن الثاني: العاقد
* وأما العاقد سواء كان بائعاً أو مشترياً فإنه يشترط له شروط: منها أن يكون مميزاً فلا ينعقد بيع الصبي (الحنابلة - قالوا: يصح بيع الصبي وشراؤه للشيء اليسير ولو كان دون التمييز ولو لم يأذنه وليه، لما روي أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله، وكذلك السفيه فإنه يصح تصرفه بدون إذن وصيه في اليسير كباقة بقل، وكبريت ونحو ذلك، أما الشيء الكثير فإنه لا يصح تصرف الصبي غير المميز ولو بإذن وليه، أما الصبي المميز والسفيه فإنه ي صح تصرفهما بالبيع والشراء بإذن الولي. ولكن يحرم على الولي أن يأذنهما لغير مصلحة) الذي لا يميز، وكذلك المجنون، أما الصبي (الشافعية - قالوا: لا ينعقد بيع أربعة وهم: الصبي سواء كان مميزاً أو غير مميز، والمجنون والعبد، ولو مكلفاً، والأعمى، فإذا باع أحد لواحد من هؤلاء وقع البيع باطلاً، وعليه أن يرد لهم ما أخذه من ثمن وهو مضمون لهم عنده. أما ما أخذوه هم فإنهم إذا أضاعوه فإنه لا يسألون عنه، ولكن قد ضاع على صاحبه.
ولا ينعقد بيع الصبي ولو أذن له الولي. أما العبد فإن أذن له سيده فإن بيعه يصح وكذا شراؤه وإذا كان مكلفاً عاقلاً) المميز والمعتوه اللذان يعرفان البيع وما يترتب عليه من الأثر ويدركان مقاصد العقلاء من الكلام ويحسنان الإجابة عنها، فإن بيعهما وشراءهما ينعقد ولكنه لا ينفذ إلا إذا كان بإذن من الولي في هذا الشيء الذي باعه واشتراه بخصوصه. ولا يكفي الإذن العام، فإذا اشترى الصبي المميز السلعة التي أذنه وليه في شرائها انعقد البيع لازماً، وليس للولي رده. أما إذا لم يأذن وتصرف الصبي المميز من تلقاء نفسه فإن بيعه ينعقد، ولكن لا يلزم إلا إذا أجازه الولي، أما أجازه الصبي بعد البلوغ. ومنها أن يكون رشيداً. وهذا شرط لنفاذ البيع، فلا ينعقد بيع الصبي مميزاً كان أو غيره، ولا بيع المجنون والمعتوه والسفيه إلا إذا أجاز الولي بيع المميز منهم، أما بيع غير المميز فإنه يقع باطلاً، ولا فرق في المميز بين أن يكون أعمى أو مبصراً.
ومنها أن يكون العاقد مختاراً فلا ينعقد بيع المكره ولا شراؤه لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم}. وقوله صلى اللّه عليه وسلم:"إنما البيع عن تراضٍ" رواه ابن حبان وفي ذلك تفصيل المذاهب
(الحنابلة - قالوا: يشترط في البيع أن يكون العاقدان مختارين ظاهراً أو باطناً، فإذا كانا مختارين في الظاهر فقط، كأن اتفقا على بيع عين لأحدهما فوراً من ظالم يريد اغتصابه، أو اتقاء شرجار حتى إذا ما أمن ذلك رد إليه ما باعه ورد هو ما أخذ من ثمن، فإن هذا البيع يقع باطلاً ولا ينعقد، لأنهما وإن تعاقدا باختيارهما ظاهراً ولكنهما في الباطن لا يريدان هذا البيع ويسمى هذا بيع التلجئة والأمان. ولا يشترط أن يقولا في العقد: إن هذا بيع تلجئة، فإذا سلمه العين على أن ينتفع بها من سكنى وإجارة وركوب وحلب في نظير ما أخذه من الثمن كان ذلك ربا، لأنه يكون عبارة عن إعطاء دراهم إلى أجل في نظير منفعة وهي الريح فهو في المعنى فرض بعوض، وعلى هذا يكون باطلاً من جميع الوجوه.
ومثل بيع التلجئة بيع الهازل فإنه لم يرد حقيقته فهو غير مختار في المعنى. وتقبل دعوى بيع التلجئة والهزل بالقرينة الدالة عليهما مع اليمين لاحتمال كذبه، فإن لم توجد قرينة لم تقبل دعواه إلا ببينة.
أما إذا باع شيئاً فراراً من ظالم ونحوه من غير أن يتفق مع المشتري على أن هذا بيع تلجئة وأمانة؛ فإن البيع يقع صحيحاً لأنه صدر من غير إكراه في هذه الحالة. وكذا لو أكره على أن يستحضر مالاً فباع ملكه في ذلك صح البيع، لأنه لم يكره على البيع، وإنما أكره على سبب البيع، إنما يكره الشراء منه لأنه بيع بدون ثمن مثله.
ومن استولى على ملك رجل بلا حق فطلبه فجحده وقال: إنه لا يعترف له به إلا إذا باعه فاضطر لبيعه وقع البيع باطلاً لأنه مكره في هذه الحالة.
وليس من الإكراه أن يلزمه الحاكم بالبيع وفاء لدين ونحوه، لأن هذا إكراه بحق، والذي يبطل البيع هو الإكراه بالباطل.
الحنفية - قالوا: إن كل عقد يكره عليه الشخص ينعقد لأن القاعدة عندهم في المكره: أن كل ما يكره على النطق به ينعقد، ولكن أقواله التي يكره عليه منها ما يحتمل فسخ، ومنها ما لا يحتمل. فالذي يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة، والذي لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق والنكاح والنذر. فإذا أكرهه ظالم على بيع ملكه فإن البيع ينعقد فاسداً ويملكه المشتري ملكاً فاسداً وللمكره أن يجيز البيع بعد زوال إكراهه، وله أن يسترد العين حيث وجدها، أما إذا أكرهه على طلاق ونكاح ونذر ونحوها، ثم تصرف فيما يترتب على ذلك كأن تزوج مطلقة فليس له أن ينقض تصرفه.
وإذا أكرهه القاضي على بيع ماله لوفاء دينه بغبن فاحش كان البيع فاسداً.
ويشترط لتحقيق الإكراه في البيع أن يكون مكرهاً على البيع، وعلى تسليم العين، وعلى قبض الثمن، فإن أكره على البيع فقط ثم سلم العين باختياره فإنه لا يكون مكرهاً لأن تسليم العين بالاختيار إجازة للبيع. وكذا إذا قبض الثمن باختياره فإنه لا يكون مكرها، وكذلك إذا اضطره إلى أمر يكون سبباً في إكراهه على البيع، كأن يلزمه بمال لا يقدر عليه فاضطر إلى بيع ملكه ليعطيه ذلك المال فإنه في هذه الحالة لا يكون مكرهاً على البيع فيقع العقد نافذاً، وإذا استرد العين التي أكره على بيعها فإن عليه رد الثمن إن كان باقياً في يده لأن العقد فاسد، أما إن هلك الثمن فلا يؤخذ منه شيء.
ومثل عقد المكره في الفساد عقد الهازل وعقد التلجئة. فالهازل وإن كان يتكلم بصيغة العقد باختياره، ولكنه لا يرضى ثبوت الحكم ولا يستحسنه ولا يلزم من الاختيار الرضا، فإن الاختيار وهو قصد الشيء وإرادته وأما الرضا فهو استحسانه. فالهازل مكره في الحقيقة، لأن المكره على شيء يختاره ولكنه لا يرضاه. وأما عقد التلجئة فهو أن يأتي أمراً باطنه خلاف ظاهره وصورته أن يقول البائع: ألجئ إليك داري مثلاً لأتمكن بجاهك من صيانتها؛ ومعناه: ألتجئ إليك فراراً من ظلم، فإذا اتفقا على ذلك ثم تبايعا على ذلك الاتفاق فإن البيع فاسد.
المالكية - قالوا: الإكراه الذي يمنع نفاذ البيع هو الإكراه بغير حق، وهو ينقسم إلى قسمين، الأول: إكراه على نفس البيع.
وذلك كأن يكرهه ظالم على بيع كل ملكه أو بعضه. والثاني إكراه على شيء يجبره على البيع كأن يكرهه ذلك الظالم على أن يعطيه مالاً غير قادر عليه، فيضطر لبيع ملكه ليحصل له ذلك المال فهو لم يكرهه على نفس البيع وإنما أكرهه على سبب البيع، وحكم الأول أنه بيع غير لازم، فللبائع أن يرد ما باعه متى أمكنه، وعليه أن يرد الثمن الذي أخذه ما لم يكن قد تلف منه بدون أن يفرط في حفظه فإذا أقام البينة على أنه تلف منه على هذا الوجه فإنه لا يلزم برده، بل يسترد سلعته بدون أن يرد ثمنها.
وأما الإكراه على سبب البيع ففيه خلاف: فبعضهم يقول: إنه بيع غير لازم أيضاً، وبعضهم يقول: إنه بيع لازم. والأول هو المشهور في المذهب، ولكن الثاني هو الذي عليه العمل، وذلك لأن فيه مصلحة البائع، إذ لو فرض أن ظالماً طلب من شخص مالاً لم يكن قادراً عليه فسجنه لذلك وعنده عين إذا باعها يحصل على ذلك المال ويخلص من عذاب السجن، فإذا قلنا إن بيعها غير لازم لم يقدم أحد على شرائها وفي ذلك ضرر بالمسجون فلذا أفتى كثير من أئمة المالكية بلزوم البيع للمصلحة. وعلى القول بعدم لزومه، فإذا استرده البائع فعليه أن يرد ما أخذه من الثمن على المعتمد.
أما الإكراه بحق فإنه لا يمنع نفاذ البيع. بل قد يكون واجباً وذلك كما إذا أجبر السلطان عاملاً من عماله على بيع ما في يده ليعطي للناس ما أخذه من أموالهم ظلماً، فإن هذا الإكراه مطلوب إلا إذا كان ذلك العامل قد اغتصب منهم عيناً باقية في يده فإنه يردها لهم بدون أن يجبر على بيع ما عنده. وكذلك إذا حكم القاضي ببيع ملك المدين لإيفاء الغرماء حقوقهم، فإنه إكراه بحق لا يمنع نفاذ البيع.
الشافعية - قالوا: بيع المره لا ينعقد رأساً إلا إذا قصد إيقاع العقد ونواه حال الإكراه، فإنه في هذه الحالة لا يكون مكرهاً، وينقسم الإكراه إلى قسمين: إكراه بغير حق وهو الذي لا ينعقد معه البيع، سواء أكرهه على التسليم وقبض الثمن أو لم يكرهه، لأنه إذا سلم باختياره أو قبض الثمن باختياره مع بطلان صيغة العقد فإنه لا يعتبر هذا بيعاً، إذ لا ينعقد البيع إلا بصيغة صحيحة. وإذا أكرهه على أمر يضطره إلى البيع كما إذا طلب منه ظالم مالاً غير موجود معه فجبره ذلك على بيع ملكه فإن البيع في هذه الحالة صحيح على الصحيح، لأنه لم يكره على البيع، وإنما أكره على سببه.
وعلى المكره أن يرد ما أخذه من ثمن إلا إذا هلك في يده بدون تفريط فإنه لا يضمنه. أما الإكراه بحق فهو كأن يكرهه الحاكم أو من له شوكة على بيع ملكه وفاء لدين عليه وهذا الإكراه لا يضر العقد فيقع معه صحيحاً نافذاً. وبيع الهازل فيه وجهان: أصحهما انعقاد البيع نظراً للفظ).
الركن الثالث: المعقود
* يشترط في المعقود ثمناً عليه كان أو مثمناً شروط: منها أن يكون طاهراً فلا يصح أن يكون النجس مبيعاً ولا ثمناً، فإذا باع شيئاً نجساً أو متنجساً (الحنفية - قالوا: يجوز بيع الدهن المتنجس والانتفاع به في غير الأكل، كما يجوز بيع العذرة المخلوطة بالتراب والانتفاع بها. وبيع الزبل وإن كان نجس العين، وإنما الذي يمنعونه بيع الميتة وجلدها قبل الدبغ، وبيع الخنزير، وبيع الخمر ويقولون: من الميتة والخمر والخنزير إذا جعلت ثمناً لا يبطل البيع، وإنما ينعقد فاسداً يملك بقبض المبيع، وعلى المشتري أن يدفع الثمن كما سيأتي) لا يمكن تطهيره فإن بيعه لا ينعقد. وكذلك لا يصح أن يكون النجس أو المتنجس الذي لا يمكن تطهيره ثمناً، فإذا اشترى أحد عيناً طاهرة وجعل ثمنها خمراً أو خنزيراً مثلاً فإن بيعه لا ينعقد. ومنها أن يكون منتفعاً به انتفاعاً شرعياً فلا ينعقد بيع الحشرات التي لا نفع فيها. ومنها أن يكون المبيع مملوكاً للبائع حال البيع، فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكاً إلا في السلم، فإنه ينعقد بيع العين التي ستملك بعد كما يأتي. ومنها أن يكون مقدوراً على تسليمه، إلا إذا كان المشتري قادراً على نزعه في المذاهب
(المالكية - قالوا: لا ينعقد بيع المغصوب إلا إذا باعه المالك الأصلي لمن يقدر على أخذه من الغاصب. أما إذا كان الغاصب ممن يخضع لحكم الحاكم فلا يستطيع أحد أن يأخذ منه ما تحت يده، أو كان من يخضع ولكنه منكر ولو عليه بينة، فإن بيع المالك في هذه الحالة لا ينعقد لمنع بيع ما فيه خصومة. وكذا يصح أن يبيعه المالك لنفس الغاصب بشرط أن يكون الغاصب عازماً على رد المغصوب لمالكه، أما إن كان عازماً على عدم الرد فإنه لا ينعقد البيع له. وكذا إذا لم يعرف إن كان عازماً على الرد أو لا فإنه يصح البيع له.
الشافعية - قالوا: لا ينعقد بيع المغصوب مطلقاً لا للغاصب ولا لغيره، ولا من المالك ولا من غيره إلا إذا كان مقدوراً على تسليمه.
الحنفية - قالوا: لا ينعقد بيع المغصوب إلا إذا باعه الغاصب وضمنه المالك. أو باعه المالك وأقر الغاصب هذا البيع، فإن لم يقر الغاصب وكان للمالك بينة ثم باعه فإن البيع ينعقد ويلزم المشتري، أما إذا لم تكن له بينة وهلك المبيع قبل أن يسلمه انتقض البيع.
الحنابلة - قالوا: لا يصح بيع المغصوب لأن البائع إن كان هو المالك فلا يقدر على تسليمه لأنه ليس تحت يده وإن كان الغاصب فإنه غير مالك له. ويصح أن يبيعه المالك لغاصبه، لأن المانع وهو عدم القدرة على التسليم منتف، وكذلك يصح أن يبيعه لقادر على أخذه من الغاصب لإمكان قبضه في هذه الحالة، فإن عجز بعد البيع عن تحصيل المغصوب فله الفسخ، وإذا اشتراه ظاناً أنه قادر على أخذه من الغاصب ثم تبين عجزه فإنه يصح).
ومنها أن يكون المبيع معلوماً والثمن معلوماً علماً يمنع من المنازعة، فبيع المجهول جهالة تفضي إلى المنازعة غير صحيح كما إذا قال للمشتري: اشتر شاة من قطيع الغنم التي أملكها أو اشتر مني هذا الشيء بقيمته أو اشتر مني هذه السلعة بالثمن الذي يحكم به فلان، فإن البيع في كل هذا لا يصح، وسيأتي تفصيل المذاهب في هذا في مبحث خيار الرؤية، ومنها أن لا يكون العقد مؤقتاً كأن يقول له: بعتك هذا البعير بكذا لمدة سنة، ومنها غير ذلك مما هو مفصل في المذاهب
(الشافعية - قالوا: يشترط لصحة البيع اثنان وعشرون شرطاً: منها في الصيغة ثلاثة عشر، ومنها في العاقد أربعة، ومنها في المعقود عليه خمسة.
فأما شرائط الصيغة فهي:
1 - الخطاب بأن يخطب كل من العاقدين صاحبه، فلو قال أحدهما: بعت لزيد فلا يصح.
2 - أن يكون الخطاب واقعاً على جملة المخاطب كأن يقول له: بعتك، أما لو قال: بعت يدك مثلاً فإنه لا يصح. 3 - أن يذكر المبتدي منها بالكلام الثمن والمثمن كأن يقول: بعتك هذه السلعة بثمن كذا، أو اشتريت منك هذه السلعة بكذا. 4 - أن يقصد البائع والمشتري معنى اللفظ الذي ينطق به، فإذا جرى على لسانه بعت أو اشتريت بدون أن يقصد معنى البيع والشراء وهو التمليك والتملك. فإنه لا يصح. 5 - أن لا يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي. 6 - أن لا يتخلل الإيجاب والقبول سكوت طويل وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول.
7 - أن لا يتغير الأول قبل الثاني بمعنى أن المتكلم بالإيجاب مثلاً لا يغير كلامه قبل قبول الآخر، فإذا قال له: بعتك بخمسة ثم قال: بل بعشرة قبل أن يقبل فلا يصح العقد. 8 - أن يكون كلام كل واحد منهما مسموعاً لصاحبه ولمن يقرب من الحاضرين، فإن لم يسمعه من كان قريباً لا يكفي وإن سمعه العاقد. 9 - أن يتوافق الإيجاب والقبول معنى فلو قال: بعتك كأن يقول: بعتك هذه الدار إن شاء فلان أو إن شاء اللّه، بخلاف ما إذا قال: إن شئت لأن هذا التعليق لا ينافي العقد بالشروط المتقدمة. 11 - أن لا يؤقت كلامه بوقت فإذا قال: بعتك هذا البعير مدة شهر فإنه لا يصح. 12 - أن يكون القبول من الذي صدر معه الخطاب فلو قال له: بعتك هذه السلعة ثم قبل آخر موكل عن المخاطب فإن البيع لا يصح. 13 - أن تستمر أهلية المتكلمين بالصيغة إلى أن يتم القبول فإذا قال: بعتك كذا ثم جن قبل أن يقول الآخر قبلتبطل العقد.
وأما شرائط العاقد فهي:
1 - إطلاق تصرف فلا يصح بيع الصبي والمجنون والمحجور عليه بسفه.
2 - عدم الإكراه بغير حق، فلا يصح بيع المكره كما تقدم.
3 - إسلام من يشتري له مصحف أو نحوه.
4 - أن لا يكون محارباً إذا أراد أن يشتري آلة الحرب.
وأما شرائط المعقود عليه فهي:
1 - طهارة المعقود عليه، فلا يصح بيع النجس كما تقدم.
2 - وأن يكون منتفعاً به شرعاً، فلا يصح بيع الحشرات التي لا ينتفع بها شرعاً.
3 - وأن يكون مقدوراً على تسليمه فلا يصح بيع الطير في الهواء، ولا السمك في الماء، ولا المغصوب.
4 - أن يكون للعاقد عليه ولاية، فلا يصح بيع الفضولي.
5 - أن يكون معلوماً للعاقدين عيناً وقدراً وصفة وسيأتي بيان كل ذلك مفصلاً.
الحنفية - قالوا: تنقسم شروط البيع إلى أربعة أقسام: الأول شروط الانعقاد، فلا ينعقد البيع رأساً إلا إذا تحققت. الثاني شروط النفاذ، فلا ينفذ البيع إلا إذا وجدت، الثالث شروط الصحة فلا يصح البيع إلا بها، الرابع شروط للزوم، فلا يلزم البيع إلا بها، فأما شروط الانعقاد فهي خمسة أنواع: النوع الأول يتعلق بالعاقد، سواء كان بائعاً أو مشترياً وهو ثلاثة، الشرط الأول: أن يكون عاقلاً فلا ينعقد بيع المجنون ولا شراؤه وأما المعتوه الذي يعرف معنى البيع ويدرك ما يترتب عليه من الأثر فإنه ينعقد بيعه وشراؤه، الشرط الثاني: أن يكون مميزاً فلا ينعقد بيع الصبي الذي لا يميز، أما الصبي المميز الذي يعرف معنى البيع وما يترتب عليه من الأثر فإنه ينعقد بيعه وشراؤه، ويتوقف نفاذه على إجازة الولي أو الوصي أو إجازة نفسه بعد البلوغ، الشرط الثالث: أن يكون العاقد متعدداً فلا ينعقد البيع بشخص واحد، بل يلزم أن يكون الإيجاب من شخص والقبول من شخص آخر، إلا إذا كان أباً يريد أن يشتري أو يبيع لولده الصغير، فإنه يكون بائعاً ومشترياً بنفسه،
ومثله الوصي والقاضي، ويشترط في الوصي أن يكون في بيعه وشرائه نفع ظاهر للصبي، وكذا الرسول إذا كان من جانب البائع والمشتري فإنه ينعقد بيعه وشراءه لنفسه. النوع الثاني يتعلق بالعقد، فيشترط لانعقاد عقد البيع شرط واحد وهو أن يكون الإيجاب موافقاً للقبول بأن يقبل المشتري بكل ما أوجبه البائع، فإذا قال البائع: بعت هذه الدار بمائة جنيه مصري فإن البيع لا ينعقد إلا إذا قال المشتري: قبلت شرائها بهذا الثمن، أما إذا قال: قبلت شرائها بخمسة وتسعين مثلاً فإن البيع لا ينعقد، النوع الثالث يتعلق بالمبيع وهو خمسة شروط الأول أن يكون المبيع موجوداً فلا ينعقد بيع المعدوم ولا بيع ما هو في حكم المعدوم كبيع الحمل. الشرط الثاني: أن يكون مما يتعلق به الملك. فلا ينعقد بيع العشب المباح ولو نبت في أرض مملوكة. الشرط الثالث: أن يكون مملوكاً للبائع إذا كان يريد أن يبيع لنفسه، أو مملوكاً لموكله ونحوه كما يأتي، فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك ولو ملكه بعد البيع إلا في السلم فإنه ينعقد فيه بيع ما سيملكه بعد العقد، وكذلك المغصوب إذا باته الغاصب ثم ضمنه المالك فإن بيعه ينعقد. الشرط الرابع: أن يكون المبيع مالاً متقوماً شرعاً، فلا ينعقد بيع الخمر ونحوه من كل ما لا يباح الانتفاع به شرعاً.
وكذلك لا ينعقد بيع اليسير من المال كحبة من حنطة لأنها ليست مالاً متقوماً. الشرط الخامس أن يكون البائع قادراً على تسليمه في الحال أو قريباً من الحال. النوع الثالث: يتعلق بالبدلين الثمن والسلعة، فيشترط في كل واحد منهما أن يكون مالاً قائماً، فإذا عدم أحدهما لا ينعقد البيع. النوع الرابع: يتعلق بسماع الصيغة، فلا ينعقد البيع إلا إذا سمع كل واحد من العاقدين كلام صاحبه. فإذا كان البيع في المجلس وسمع الناس كلام أحدهما ثم أنكر وقال: إن في أذنه وقراً فإنه لا يصدق قضاء. النوع الخامس: يتعلق بالمكان فيشترط أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس فإن البيع لا ينعقد، والمراد بالمجلس ما حصل فيه العقد، ولو كانا واقفين أو سائرين، فهذه شروط انعقاد البيع وهي اثنا عشر شرطاً: ثلاثة في العاقد سواء أكان أم مشترياً، وواحد في العقد وخمسة في المبيع، وواحد في سماع الكلام. وواحد في المكان.
وأما شروط النفاذ فهي شيئان:
الأول: أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، أو له عليه ولاية، فنفذ بيع غير المملوك كما لا ينعقد.
الثاني: أن لا يكون في المبيع حق لغير البائع، فلا ينفذ بيع المرهون والمستأجر، لأنه وإن كان محبوساً في يده ولكن للغير حق فيه فلا ينفذ بيعه.
وأما شرائط صحة البيع فتنقسم إلى قسمين: عامة تتعلق بجميع أفراد البيع. وخاصة تتعلق أيضاً ولا ينعكس، فإن الفاسد ينعقد وينفذ إذا اتصل به القبض، ويزاد عليها أمور: منها أن لا يكون البيع مؤقتاً، فإن أقته بوقت فإنه لا يصح. ومنها أن يكون المبيع معلوماً والثمن معلوماً علماً يمنع من المنازعة، فإن باع شيئاً مجهولاً جهالة يترتب عليها النزاع فإن البيع لا يصح وذلك كأن يبيع شاة من قطيع غنم أو يبيع شيئاً بقيمته من غير أن يعين الثمن. ومنها أن يكون البيع فيه فائدة. فلا يصح بيع الدرهم بالدرهم المساوي له من كل الوجوه كما تقدم.
ومنها الخلو عن الشرط الفاسد، كأن يشتري الناقة بشرط أن تكون حاملاً.
وأما الخاصة: فمنها القبض في الصرف قبل الافتراق: ومنها أن يكون الثمن الأول معلوماً في بيع المرابحة والتولية والوضعية. وأما شرط اللزوم فهو خلو البيع عن الخيار، فإن البيع بشرط الخيار لا يلزم.
المالكية - قالوا: شروط البيع منها ما يتعلق بالصيغة، ومنها ما يتعلق بالعاقد بائعاً كان أو مشترياً، ومنها ما يتعلق بالمعقود عليه ثمناً كان أو مثمناً.
فيشترط في الصيغة أمران: الأول أن يكون القبول في المجلس. فلو قال البائع: بعتك الدار بكذا فلم يجبه ثم تفرقا من المجلس فليس للمشتري أن يقبل بعد ذلك.
الثاني: أن لا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً. فإن وجد فاصل يدل على الإعراض عرفاً لم يلزم البيع ولو لم يتفرق المجلس. ومتى تحقق الشرطان فليس للبائع أن يرجع عن البيع إذا قال للمشتري: بعتك قبل قبوله على المذهب.
أما شروط العاقد فهي نوعان: شروط انعقاد، وشروط لزوم، فيشترط لانعقاد البيع شروط واحد وهو العقل بائعاً كان أو مشترياً، فلا ينعقد البيع إذا كان العاقد صبياً غير مميز، أو مجنوناً أو مغمى عليه، أو سكران إذا كان على حالة لا يميز معها شيئاً، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السكر بحلال أو حرام. ويشترط للزومه اربعة شروط.
الثاني: أن يكون غير محجور عليه، فلا يلزم المحجور عليه لسفه ونحوه وينفذ بيع الصبي المميز والمحجور عليه بإذن وليهما كما تقدم.
الثالث: أن يكون غير مكره، فلا يلزم بيع المكره على التفصيل المتقدم.
الرابع: أن يكون العاقد مالكاً أو وكيلاً عن مالك فلا يلزم بيع الفضولي.
ويشترط في المعقود عليه خمسة شروط: أحدهما أن يكون طاهراً، فلا يصح بيع نجس ولا متنجس لا يمكن تطهيره. ثانيهما أن يكون منتفعاً به شرعاً، فلا يصح بيع آلة اللهو. ثالثها أن يكون غير منهي عن بيعه، فلا يصح بيع كلب الصيد ونحوه. الرابع أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلا يصح بيع الطير في الهواء، ولا الوحش في الفلاة. الخامس أن يكون المبيع والثمن معلومين للمتعاقد، فلا يصح بيع المجهول سواء جهلت ذاته أو صفته، أو جهل قدره. فجملة شروط البيع اثنا عشر.
ومن هذا تعلم أن كل عقد لازم فهو صحيح وليس كل صحيح لازماً كما في بيع الصبي فإنه صحيح غير لازم، وكل صحيح منعقد وبالعكس.
الحنابلة - قالوا: يشترط للبيع شروط بعضها يتعلق بالصيغة، وبعضها يتعلق بالعاقد، وبعضها يعلق بالمعقود عليه.
فيشترط في الصيغة أمران: أن يكون القبول في المجلس، فإذا قال البائع: بعتك ثم تفرقا قبل القبول من المجلس لم ينعقد البيع. وأن لا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً.
ويشترط في العاقد سواء كان بائعاً أو مشترياً أن يكون مختاراً، فلا يصح بيع المكره على التفصيل المتقدم. وأن يكون بالغاً رشيداً، فلا يصح بيع الصبي المجنون والسكران والسفيه إلا في الصبي المميز والسفيه المميز على التفصيل المتقدم.
ويشترط في المعقود عليه سواء كان مبيعاً أو ثمناً أن يكون فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة، فلا يصح بيع ما لا نفع فيه أصلاً كالحشرات، وما فيه منفعة محرمة كالخمر وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة مباحة للضرورة كالميتة حال الاضطرار.
ويشترط في المعقود عليه أن يكون المبيع مملوكاً لبائعه وقت العقد ملكاً تاماً، وأن يكون مقدوراً على تسليمه حال العقد، فلا يصح بيع جمل شارد، ولا بيع نحل، ولا طير في الهواء، سواء كان الطير مما يألف الرجوع أو لا. وكذا لا يصح بيع سمك في لجة ماء إلا إذا كان في بركة ماؤها صاف يشاهد فيه السمك، وكان غير متصل بنهر، ويمكن أخذ السمك منه، فإن بيعه يصح في هذه الحالة. وأن يكون المعقود عليه من مبيع وثمن معلوماً للمتعاقدين. وكل ما لا يصح أن يكون مبيعاً كذلك لا يصح أن يكون ثمناً).