المحتويات
- المبحث الثاني الأثر الاقتصادي للوقف
- المطلب الأول أهـداف الوقـف
- المطلب الثاني دور الوقف في سد حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة
- المطلب الثالث دور الوقف في التداول
- المطلب الرابع دور الوقف في تنمية رأس المال البشري
- العودة إلي كتاب الوقْـــف ودوره في التنمية الاقتصادية
المبحث الثاني الأثر الاقتصادي للوقف
المطلب الأول أهـداف الوقـف
قبل الخوض في بيان الجوانب الاقتصادية للوقف ، يجدر بنا أن نقف على بعض الأهداف التي شرع الوقف من أجلها ؛ إذ من هذه الأهداف يمكننا استخلاص بعض الجوانب التي رعاها الإسلام من خلال تشريعه للوقف .
وبناء على ذلك يمكن القول بأن أهداف الوقف تتلخص فيما يلي :
1 – إن أول أهداف الوقف وأسماها ترتيب الأجر والثواب المستمر للعباد في حياتهم وبعد مماتهم ، من خلال الإنفاق والتصدق والبذل في وجوه البر. وهذا سبيل إلى مرضاة الله ورسوله وطريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار .
فالوقف نوع من القربات التي يستمر أجرها صدقة جارية إلى قيام الساعة .
2 – تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة ، وإيجاد عنصر التوازن بين الأغنياء والفقراء في المجتمع المسلم ؛ إذ يعمل الوقف على تنظيم الحياة من خلال تأمين حياة كريمة للفقير ، وإعانة العاجزين من أفراد الأمة ، وحفظ كرامتهم ، من غير مضرة بالأغنياء ، فيتحصل من ذلك مودة وألفة ، وتسود الأخوة ، ويعم الاستقرار .
وبذلك يؤكد الوقف أواصر المحبة والقربة والأخوة الإسلامية حين يكون على الذرية ، أو الأقارب والأرحام ، أو أوجه البر والإحسان .
3 – يضمن الوقف بقاء المال وحمايته ، ودوام الانتفاع به ، والاستفادة منه أكبر مدة ممكنة ، والمحافظة عليه من أن يعبث به من لا يحسن التصرف فيه . وهذا من شأنه أن يضمن للأمة نوعاً من الرخاء الاقتصادي ، والضمان المعيشي .
4 – يحقق الوقف أهدافاً اجتماعية واسعة وشاملة ، ويوفر سبل التنمية العلمية والعملية للمجتمع المسلم ، كما في الوقف على جميع أصناف دور العلم وطلبتها بما يعود بالنفع على المسلمين جميعاً .
المطلب الثاني دور الوقف في سد حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة
إن أي نظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق أمرين :
الأول : تحقيق الرفاهية الاجتماعية .
الثاني : تحقيق التنمية الاقتصادية .
وكل نظام من الأنظمة الاقتصادية الموجودة له وسائله المختلفة في تحقيق هذين الهدفين . ومن ذلك نجد أن النظام الاقتصادي الإسلامي استخدم أيضاً وسائله الخاصة لتحقيق ذلك ، وهذه الوسائل هي :
أولاً : وسائل التمويل المجاني ، وهذه بدورها تنقسم إلى نوعين :
1 – وسائل تطوعية ، مثل : الصدقة ، الهبة ، كفالة الأيتام .
2 – وسائل إلزامية ، مثل : الزكاة ، الكفارات ، الخراج ، العشور ،
النفقة .
ثانياً : وسائل تمويل استثمارية، وذلك عن طريق العقود والمعاوضات، كالمضاربة، والشركة ، والسلم ، وغيرها .
ولما كان أفراد المجتمع متفاوتون من حيث مستواهم المعيشي ؛ بين أغنياء ، وفقراء محتاجون، وأصحاب دخول متوسطة . نجد أن الإسلام سعى إلى التقريب بين هذه الفئات ، وتقليل الفوارق الاجتماعية بينها ، فعمل كنظام اقتصادي على تحقيق التكافل الاجتماعي بين فئاته المتنوعة من خلال رعاية الفقراء وذوي الحاجة والضعف بحيث يتحقق لهم مستوى لائق للمعيشة .
ولقد كان للوقف دور بارز في تحقيق هذه الغاية العظيمة ؛ حيث شمل أنواعاً متعددة من وجوه البر اقتضتها ظروف المجتمع المختلفة، كالوقف على الذرية والأولاد، أو المساكين والمحتاجين ، أو ابن السبيل المنقطع ، أو الوقف على المدارس والمساجد والمستشفيات ، والأراضي والعقارات ، والأوقاف للقرض الحسن ، والبيوت الخاصة للفقراء ، والمطاعم التي يفرق فيها الطعام للمحتاجين والفقراء ، ووقف بيوت للحجاج بمكة ينزلون فيها وقت الحج ، ووقف الآبار . بل إنه شمل أيضاً الوقف على شئون الزواج لمن ضاقت أيديهم عن نفقاته ، وغير ذلك( ) .
لا شك أن كل ذلك يحقق تكافلاً اجتماعياً فريداً من نوعه ؛ لأن أصحاب رؤوس الأموال سخروا هذه الأموال التي أوقفوها في سد حاجات المعوزين من أفراد المجتمع، فكفلوا لهم بذلك حياة كريمة ، وحفظوا عليهم إنسانيتهم وعزتهم من غير إراقة ماء وجوههم في سؤال الناس . وبذلك يكون الإسلام قد أوجد وسيلة لعلاج مشكلة من المشاكل الاقتصادية التي تواجه العالم وهي مشكلة الفقر والبطالة . فشكل الوقف بذلك حلقة من حلقات التكافل والتضامن ، لا سيما وأنه يتميز بدوره المستمر في العطاء والإنفاق ، حيث إن عينه لا تستهلك ، وهذا بدوره يضمن لنا ضمن الظروف الطبيعية دواماً في إمكانية سد الحاجات الملحة للمجتمع .
يقول الدهلوي : (( إن الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط الوقف لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى ، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ، وتجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى أصله )) ( ) .
المطلب الثالث دور الوقف في التداول
يطلق مصطلح التداول للدلالة على معنيين ، معنىً مادي ، وآخر قانوني .
فالتداول بالمعنى المادي : هو نقل الأشياء من مكان إلى آخر
أما المعنى القانوني له فهو : مجموع عمليات التجارة التي تتم عن طريق عقود المقايضة من بيع ونحوه( ) .
وبالنظر إلى مضمون المفهومين السابقين للتداول يتضح لنا أن التداول يدل على حركة وانتقال للمال ، ومنع تجميده وثبوته في موضع واحد بحيث لا يستفاد منه ؛ لأن هذا المعنى إنما ينطبق على الثروة( ) .
وقد عمل الإسلام على توجيه أموال الأمة وتحريكها وتنشيطها سواء عن طريق التمويل المجاني بنوعيه الإلزامي والتطوعي ، أو عن طريق التمويل الاستثماري ، في خدمة اقتصاد الأمة . فكانت جميع الأموال التي بين أيدي المسلمين متداولة ورائجة رواجاً يحقق المصلحة العامة التي يسعى الشرع الحنيف إلى تحقيقها من خلال سياسته المالية( ) .
والوقف بكونه نوعاً من التمويل الذي جاء به النظام الإسلام ، يمكن الاستفادة منه في تحريك المال وتداوله ؛ وذلك لأن الأموال المدخرة عند الأغنياء إذا أوقفوها بحيث تستغل استغلالاً تجارياً يدرّ بربح على الموقوف عليهم ، فإننا بذلك الاستغلال التجاري وجهنا جزءاً من المال إلى السوق التجارية ، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب ، وعندما تحدث الزيادة في الطلب يترتب على ذلك زيادة في الإنتاج لتلبية رغبات الطالبين ، يسير مع زيادة الإنتاج قلة في التكاليف بالإضافة إلى المنافسة التي تتوجه اتجاهين ، تنافس على النوعية ، وتنافس على الكمية . هذا التنافس ينتج عنه إقامة منشآت تجارية من مصانع ، ومستشفيات ،وبالتالي ينشأ لدينا سوق عمل لتلبية احتياجات هذه المنشآت التجارية مما يترتب على ذلك من تشغيل أيدي عاملة كانت في السابق تعاني البطالة وقلة العمل ، وهذه الأيدي العاملة يتحرك في يدها المال ويصبح لديها احتياجات ،فيزيد الطلب على السلع في الأسواق بسبب توفر السيولة النقدية ، وهكذا نلاحظ أن العملية أصبحت متوالية ونشطة .
يقول الدكتور شوقي: (( شيوع ظاهرة الوقف في المجتمع الإسلامي، والتنوع الكبير في الأموال الموقوفة ، والجهات الموقوف عليها ، ولّد حركة استثمارية شاملة من خلال إنشاء الصناعات العديدة وتطويرها التي تخدم أغراض الوقف، ومن ذلك على سبيل المثال: صناعة السجاد، وصناعة العطور والبخور، … هذه الصناعات التي ازدهرت من جراء عملية الوقف وما تولد عنها من صناعات خادمة ومكملة، ومن عمل فيها من عمال وفنيين، وما تولد عنها من دخول ومرتبات وأثمان، كل ذلك يعدّ إضافات مستمرة إلى الطاقة الإنتاجية القائمة، أو بعبارة أخرى : مزيداً من الاستثمارات الإنتاجية ، والتي تعتبر دعامة لأي تقدم اقتصادي )) ( ) .
وبذلك يكون النظام الاقتصادي الإسلامي من تشريعه للوقف قد حقق عنصر التوازن من خلال التوزيع العادل للثروة ، وعمل على إعادة دوران حركة الأموال والنقود بين أيدي الناس( ) .
ولكن يجب توجيه أموال الوقف توجيهاً سليماً نحو المشاريع ذات النفع العام وما يحقق مصلحة المجتمع بأسره ، فإذا كانت حاجة الأمة إلى نوع محدد من المشاريع ؛ كالمشاريع الزراعية أو الصناعية أو التجارية ، كان من الواجب أن توجه هذه الأموال إلى الاستثمار في هذه المجالات( ) .
وبذلك نرى مدى واقعية القول الذي يرى أن الوقف إذا خرب أو انعدم نفعه ، فإنه يباع ويحوّل إلى ما يدرّ نفعاً ؛ لأن القصد من الوقف هو سد حاجات الموقوف عليهم واستغناؤهم ، ولا شك أن الوقف إذا لم يحقق هذه الغاية ، فإنه يصبح نوعاً من هدر أموال الأمة ، والإسلام جاء بخلاف ذلك . فإذا كان هذا فيما يتعلق بمصلحة أفراد معينين ، فما يقوم بمصلحة الأمة بأسرها أولى وأحرى بالتطبيق والمراعاة .
المطلب الرابع دور الوقف في تنمية رأس المال البشري
يقصد برأس المال البشري : كل ما يمتلكه الإنسان في نفسه من مقومات تسهم في النشاط الاقتصادي وتنميه ، مثل : الخبرة ، والمهارة ، والمعرفة ، والقدرة البدنية( ) .
هذه المقومات التي يقوم عليها رأس المال البشري لا تقل أهمية في التنمية الاقتصادية عن المقومات المالية ؛ لا سيما إذا علمنا أن الفكر الاقتصادي المعاصر اعتبر الإنفاق على التعليم والصحة هو إنفاق استثماري( ) .
وكما علمنا أن الأوقاف شملت جوانب متعددة بما فيها التعليم والصحة من خلال وقف المدارس ودور التعليم المختلفة ، والمصحات والمستشفيات ، أو الإيقاف عليها .
أولاً : الوقف والتعليم .
لم يقتصر أثر الوقف في التعليم عند علم معين ، وإنما شمل أنواعاً مختلفة من العلوم وألوان المعرفة ، سواء في ذلك الشرعي منها والدنيوي من طلب وفلك وصيدلة وغيرها ، مما جعل للوقف دوراً بارزاً في إحداث نهضة علمية شاملة لجميع أنواع المعرفة .
ولقد تنوعت خدمات الوقف لدور التعليم والمتعلمين ، حيث كفلت للمعلمين والمتعلمين شئون التعليم والإقامة والطعام والعلاج ، بل وتأمين أماكن إقامة يأوي إليها المسافرون لطلب العلم . وهذا من شأنه أن يوفّر وسائل التعليم لجميع فئات المجتمع الواحد ، وبالتالي يؤدي إلى وجود أعداد غفيرة من المتعلمين وبتخصصات مختلفة ومتنوعة .
ولكن ما هو الأثر الاقتصادي المتولد من هذه النتيجة ؟
(( إن الدراسات في هذا الشأن تثبت أن هؤلاء كان وجودهم واضحاً في ساحة النشاط الاقتصادي للمجتمع الإسلامي ؛ إذ عملوا تجاراً ، وكتبة ، ومحاسبين ، وصيارفة ، وغير ذلك من المهن التي عُرفت في المجتمع )) ( ) .
ثانياً : الوقف والصحة .
تعد التغذية السليمة والمسكن الصحية والنظافة والعلاج عناصر ومقومات للصحة . ولقد عمل الوقف على الاهتمام بهذه العناصر مما كان له الأثر الكبير في التقدم الاقتصادي .
وبيان ذلك : أنه كان في المجتمع الإسلامي وقوفاً عديدة على المستشفيات والمصحات العامة كفلت لنزلائها العلاج والغذاء وكل ما يلزمه للمحافظة على صحتهم ووقايتهم من الإصابة بالأمراض .
ولما كانت الأيدي العاملة إحدى عناصر الأساسية التي يقوم عليها الإنتاج ، كان لا بد لتفعيل هذا الإنتاج من زيادة كفاءة الأيدي العاملة وقدرتها على إنتاج كميات أكبر وفي وقت أقل ، ولا شك أن هذه الكفاءة الإنتاجية تتوقف درجتها على اعتبارات عدة ، منها : الخدمات الاجتماعية التي تتضمن توفير الحاجيات الأساسية للأفراد من تأمين غذاء سليم ، وتوفير سكن صحي ، والاهتمام بالشئون الصحية والرعاية الطبية( ) ، إضافة إلى الاهتمام بالشئون التعليمية .
تعليق ختامي
( ) انظر : د/ فؤاد السرطاوي : التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص ، ص196 ، د/ بيلي إبراهيم : مدى فعالية الضمان الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي ، ضمن مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، ص282 .
( ) الدهلوي : حجة الله البالغة 2/116 .
( ) انظر : محمد باقر الصدر : اقتصادنا ص643 .
( ) انظر : محمد العبدة : قراءة في فكر مالك بن نبي ، مجلة البيان ، ص29 .
( ) انظر : د/ فؤاد السرطاوي : التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص ص44 .
( ) د/ شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص139 .
( ) انظر : د/ فؤاد السرطاوي : التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص ص44 .
( ) انظر : المصدر السابق ص46 .
( ) انظر : د/ شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ، ص135 .
( ) انظر : المصدر السابق .
( ) د/ عبد الملك السيد : الدور الاجتماعي للوقف ص258 ، نقلاً عن بحث : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص137 .
( ) انظر : بسام أبو خضير وآخرون : مدخل إلى علم الاقتصاد ص39 .