المحتويات
- الفصل الثاني شروط الواقفين، أحكامها، وأثرها على الوقف
- المبحث الأول تعريف الشروط وأقسامها
- المبحث الثاني المراد بشروط الواقفين
- المبحث الثالث حكم شرط الواقفين
- المبحث الرابع أنواع شروط الواقفين
- المطلب الأول: النوع الأول: الشرط الصحيح
- المطلب الثاني: النوع الثاني: الشرط الفاسد أو الشرط المخل بأصل الوقف المؤثر في أصله
- المطلب الثالث: النوع الثالث: الشرط الباطل أو الشرط الذي يعطل المصلحة ويخل بالانتفاع
- المبحث الخامس أثر شروط الواقف على الوقف
- العودة إلي كتاب شروط الواقفين أحكامها وأثرها على الوقف
الفصل الثاني شروط الواقفين، أحكامها، وأثرها على الوقف
المبحث الأول تعريف الشروط وأقسامها
المطلب الأول: تعريف الشرط لغة واصطلاحاً:
الشرط في اللغة بفتح الشين وسكون الراء وقد وردت كلمة «الشرط» في اللغة بمعان كثيرة، والذي يتناسب منها في مطلبنا هذا هو إلزام الشيء والتزامه، فيقال: شرط فلان في البيع على فلان كذا، يشرط -بكسر الراء وضمها- ألزمه شيئًا فيه، واشترط أيضًا، فإذا ألزم المشتري البائع تسليم المبيع في مكان معين، ورضي البائع بهذا الإلزام، سمي ذلك: شرطًا عند اللغويين، وقد جاء في المثل «الشرط أملك عليك أم لك»، ومعناه: أن الشرط يملك صاحبه في إلزامه إياه المشروط، سواء أكان له أم عليه، ويقال: شارطه؛ إذا شرط كل منهما على صاحبه شيئًا، وجمعه: شروط، وشرائط. والشرط بفتحتين العلامة، ويجمع على أشراط( )، ومنه قوله تعالى: (فقد جاء أشراطها) ( ) أي علاماتها.
وفي اصطلاح الفقهاء: الشرط: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته( )
المطلب الثاني: أقسام الشروط:
الشروط على أقسام عدة تختلف باختلاف الاعتبار الذي يعول عليه عند تقسيمها فتنقسم الشروط باعتبار الوضع إلى قسمين( ):
الأول: الشرط الشرعي، وهو: ما كان توقف المشروط فيه على وجود الشرط، بحكم الشارع ووضعه؛ لما في ذلك الشرط من الملاءمة للفعل والتكميل له، كاشتراط الطهارة لصحة الصلاة، واشتراط النصاب لأداء الزكاة وهي شروط صحة أو لزوم أو نفاذ أو انعقاد.
والثاني: الشرط الجعلي، أو اللغوي، وهو: ما كان توقف المشروط فيه على وجود الشرط بفعل المكلف وجعله، وقد تكون هذه الشروط إضافية مثل متى عاد ابني المسافر تصدقت بصدقة، أو تكون تعليقية كتعليق طلاق المرأة على فعل معين، أو تكون شروطاً تقييدية مثل وصيته بعقار لعمه بشرط عدم تغيره لها.
كما ينقسم الشرط أيضًا باعتبار مصدره إلى قسمين:
الأول: الشرط اللفظي.
والثاني: الشرط العرفي.
وبيان ذلك أن مصدر الشرط هو ما يستفاد منه الشرط، ويثبت به في العقد أو التصرف، وهو هنا أحد أمرين:
الأمر الأول: النص من العاقد، والتصريح بما يريده من الالتزام في العقد، ويسمى الشرط الحاصل بهذا: الشرط اللفظي، أو الصريح.
والأمر الثاني: العرف والعادة، فإذا تعارف الناس واعتادوا ثبوت التزام ما في تصرف من تصرفاتهم، كان ذلك دليلًا على ثبوت هذا الالتزام في التصرف، وإن لم يجر له ذكر أثناء العقد، ويسمى الشرط الحاصل بهذا الطريق: الشرط العرفي، أو غير الصريح.
وبناء على هذا يكون تعريف الشرط اللفظي: هو التزام العاقد أمرًا من الأمور بلفظ يدل على هذا الالتزام بصيغته.
ويكون تعريف الشرط العرفي: هو ما يتقيد به التصرف ويثبت فيه، بناء على ما تعارفه الناس، وجروا عليه في تصرفاتهم( ).
المبحث الثاني المراد بشروط الواقفين
المراد بشروط الواقف هي ما يدونه الواقفون في كتاب الوقف - أي: الوقفية، أو حجة الوقف- بإملاء الواقف واختياره ومحض إرادته مما يتعلق بالانتفاع بالوقف والنظارة عليه، وما يتصل بذلك، ويتفرع منه( ).
وعرفها القرنشاوي( ) بأنها: (عبارة عما يمليه كل واقف في كتاب وقفه بمحض إرادته مُعَبِّرًا به عن رغباته في الكيفية التي ينبغي تحققها في إدارة وقفه، أو في طرق استغلاله، أو عمارته، أو توزيع ريعه... إلى غير ذلك مما يبين إرادته)، ويتضح من ذلك أن شروط الواقف هي الشروط الجعلية التي يقيد بها الواقفون أوقافهم فيما يتعلق بتحديد العين الموقوفة والموقوف عليهم، وكيفية استغلالهم للوقف، وطرق التصرف بالوقف، وناظره ما له وما عليه، وكيفية عمارة الوقف وصيانته، ونحو ذلك.
وهذه الشروط لا يمكن حصر أفرادها؛ نظرًا لتعذر حصر أغراض الواقفين.
المبحث الثالث حكم شرط الواقفين
لا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز للواقف أن يقيد عقد الوقف بما يراه من الشروط الجائزة وهي شروط شرعية وصحية، على الموقوف عليهم، وناظر الوقف، والحاكم، ونحوهم الالتزام بها كما شرطها الواقف، ويجب الوفاء بها، والدليل على ذلك الكتاب والسنة.
أما الكتاب:
فيدل لإباحة شروط الواقفين في أوقافهم في الوقف ووجوب الوفاء به مايلي:
أولًا: قول الله -تعالى-: (يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) ( )
وجه الدلالة من هذه الآية:
أنها أوجبت الوفاء بالعقود على وجه العموم، ولم تفرق بين عقد وعقد، فكل ما صدق عليه اسم العقد، فهو واجب الوفاء، ما لم يرد عن الشارع ما يدل على تحريمه وفساده، والشرط عقد من العقود؛ كما يشهد بذلك عرف العرب ولغتهم التي بها نزل القرآن، فيكون الوفاء به واجبًا بمقتضى هذه الآية حتى يقوم الدليل على التحريم والفساد( ).
ثانيًا: ما جاء في القرآن الكريم من الآيات التي توجب الوفاء بالعهود وتحرم الغدر فيها، وهي آيات كثيرة متضافرة في هذا المعنى، من ذلك قوله -عز اسمه تعالى -: { وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسئولاً }( )، وقوله -جل شأنه- في بيان صفات عباد الرحمن-: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }( )، وقوله -سبحانه-:{ يأيها الذين ءامنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون – كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }( )
ووجه الدلالة من هذه الآيات: أنها توجب الوفاء بالعهود، وتمدح المحافظين عليها، وتنعي على الناقضين لها على وجه الإطلاق والعموم، والشرط بين المتعاقدين عهد قد قيدت به ذمتهما، فيجب الوفاء به، ويحرم الإخلال بموجبه، ما لم يقم الدليل على تحريمه وفساده: كشرط يفضي إلى الربا، أو الغرر والجهالة الموجبة للنزاع والخصام بين المتعاقدين( ).
وأما السنة:
فيدل منها لجواز الشرط في الوقف ووجوب الوفاء به ما يلي:
أولًا: ما رواه أبو داود والدارقطني والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا، والمسلمون على شروطهم، أو عند شروطهم»( ).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه أخبر عن المسلمين بأنهم واقفون عند شروطهم، مرتبطون بما عقدوه منها، وفي ذلك بيان بأن الوفاء بها واجب، وأن من لم يفِ بما شرطه على نفسه، ولم يقف عند حدود اتفاقه، فليس بمسلم؛ وهذا دليل على صحة الشروط جميعها بما فيها شروط الواقف - وأنه لا يجوز الإخلال بموجبها إلا ما حرمه الشارع منها وقضى ببطلانه.
يؤكد هذا أنه لو كان الأصل في الشروط هو المنع والتحريم، وأنه لا يباح منها شرط، ولا يصح إلا إذا دل على إباحته وصحته دليل معين - لما جاء الحث في كلام الشارع على الوفاء بالشروط، والتمسك بموجبها على هذا الوجه من الإطلاق والعموم( ).
ثانيًا: ما جاء في الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»( ).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه يفيد أن الشروط كلها مستحقة للوفاء والقيام بمقتضاها، غير أن الشروط المتعلقة بالنكاح آكد من غيرها في وجوب الوفاء بها ولزومه؛ وذلك لما علم من عناية الشارع الحكيم بأمر النكاح وما يرتبط به؛ لخطر شأن الأبضاع وشدة حرمتها، حتى اشترط في صحة العقد عليها النطق باللفظ الدال على النكاح، وحضور الشاهدين، وغير ذلك مما لا يشترط في العقود المتعلقة بالأموال، وإذا كانت الشروط في العقود جميعها مستحقة الوفاء، كانت صحيحة مشروعة إذ لا يستحق الوفاء إلا ما كان كذلك، فعلى من يدعي بطلان شرط منها أن يأتي بالدليل الذي يثبت هذا البطلان.
وعلى هذا تكون شروط الواقف غير المخالفة للشرع صحيحة يجب الوفاء بها؛ لدخولها في جملة الشروط المستحقة للوفاء بها، وعدم ما يدل على بطلانها.
إذا ثبت هذا: فالشروط التي يجوز للواقف اشتراطها عند الوقف يجب ألا تكون مخالفة للشرع، أو فيها إضرار بمصلحة الوقف، أو المستحقين فيه.
ومن الفقهاء من نظر إلى معنى العبادة في الوقف، فلم يصحح من الشروط المقترنة بصيغته إلا ما كان محققًا لمعنى القربة، وإن كان الشرط في حقيقته ليس محرمًا.
ومنهم من نظر إلى الناحية المالية في الوقف فطبق عليه شروط المعاملات، فأجاز كل شرط ما لم يكن منهيًّا عنه شرعًا.
وهذا الاتجاه تطبيق لرأي الشاطبي( ) في تفرقته بين ما هو من العبادات، وما هو من المعاملات المالية، حيث أجاز الاشتراط في المعاملات ما لم تكن موضع نهي، ومنع الاشتراط في العبادات إلا بمقدار ما يكون ملائمًا للعبادة.
وهذا هو الاتجاه الأولى بالقبول؛ لأن الشرط الذي لا يلائم العبادة يفقدها معناها وحكمتها( ).
المبحث الرابع أنواع شروط الواقفين
تتنوع شروط الواقفين إلى ثلاثة أنواع:
المطلب الأول: النوع الأول: الشرط الصحيح:
كل شرط وصفه الواقف لا يخل بحكم الوقف، ولا يؤثر في منفعته، ولا يضر بالموقوف عليهم فهو شرط جائز معتبر يجب العمل به، وأكثر شروط الواقفين من هذا النوع( ).
ومثاله: أن يشترط الواقف البدء بعمارة الوقف من غلته، أو عزل الناظر إذا خان، أو أن يكون النظر في أمر الوقف للأرشد فالأرشد من ذريته( )، فجميع هذه الشروط صحيحة، يصح الوقف معها ويجب الوفاء بها إلا في بعض حالات استثنائية، ومن هنا شاع على ألسنة الفقهاء أن ما كان صحيحًا من شروط الواقفين، فإنه ينزل منزلة نص الشارع( )، ويريدون بذلك أن الشرط الصحيح يجب العمل به، ولا تجوز مخالفته إلا لضرورة، أو مصلحة راجحة؛ لأنه يعبر عن إرادة الواقف، ولا يُخِلُّ بأصل الوقف، ولا بمنفعته، ولا بمصلحة الموقوف عليهم، وليس فيه مخالفة للشرع.
مثال هذا النوع من الشروط: ما شرطه الزبير بن العوام رضي الله عنه في وقفه حيث شرط أن (.. للمردودة من بناتي أن تسكن غير مُضَرَّة ولا مُضَرِّ بها، فإذا استغنت بزوج، فلا حق لها فيه)
المطلب الثاني: النوع الثاني: الشرط الفاسد أو الشرط المخل بأصل الوقف المؤثر في أصله:
كل شرط خالف نص شرعي أو أخل بأصل الوقف، ونافى حكمه، يجعل الوقف غير صحيح؛ وذلك لأن حكم الوقف هو اللزوم، وإلى هذا ذهب الحنفية( ) في الراجح من مذهبهم، والشافعية( ) في الأصح عندهم، وهو الصحيح عند الحنابلة( )، وعليه فإن الوقف يبطل أصلًا ولا يترتب عليه شيء من آثاره.
وقيل: يبطل الشرط، ويصح الوقف( ) وإلى هذا ذهب المالكية( )، وهو رواية عن أبي يوسف من الحنفية( ).
وقد مثل الحنفية( ) للشرط المخل بأصل الوقف، المؤثر في أصله باشتراط الواقف أن يكون له حق بيع الوقف متى شاء فإن هذا الشرط يخل بأصل الوقف عندهم. ومن أمثلته: أن يقف المسلم مالاً على بيعة أو كنيسة.
وقال المالكية( ): إنه يصح للواقف أن يشترط لنفسه حق البيع متى شاء، ومثلوا لما يخل بأصل الوقف باشتراط الواقف عدم البدء بإصلاح الوقف من ريعه؛ لأن هذا الشرط يؤدي إلى إبطال الوقف من أصله، وباشتراط الواقف أن له حق الرجوع في الوقف متى شاء، أو أن له الخيار مدة معينة، فهذا شرط ينافي حكم الوقف وهو اللزوم
ويسمي الحنفية هذه الشروط بالشروط الباطلة، لأنهم يفرقون بين الباطل والفاسد.
المطلب الثالث: النوع الثالث: الشرط الباطل أو الشرط الذي يعطل المصلحة ويخل بالانتفاع:
كل شرط يوجب تعطيلًا لمصلحة الوقف، أو إخلالًا بالانتفاع به يبطل ذلك الشرط، لكن الوقف معه يكون صحيحًا.
ومن أمثلة ذلك: ما لو شرط صرف الغلة إلى المستحقين، وألا يُعَمَّرَ الوقف منها ولو تخرب، أو اشترط ألا يعزل الناظر الذي يتولى أمر الوقف بعد موت الواقف ولو ثبتت خيانته، وإضراره بأعيان الوقف وبالمستحقين، فإن ذلك الشرط يلغى، فيجب تقديم عمارة الوقف على إعطاء المستحقين الغلة؛ إذ بعمارة الوقف يكون دوامه وبقاؤه، وبذا يدوم الثواب الذي يصل إلى الواقف من وقفه؛ ويجب أن يعزل الناظر إذا خان، ولا يلتفت القاضي إلى ما شرطه الواقف، بل لو كان الواقف هو المتولي لشئون وقفه وقد خان، أو اعتدى، أو أساء في التصرف في الوقف، فللقاضي أن يعزله، ويخرجه من الولاية على الوقف؛ صيانة للوقف، وحفظًا له، واستدامة للانتفاع به؛ لأنه أصبح حقًّا للمستحقين وللفقراء بعد الواقف على حسب ما شرطه مع ملاحظة أنه لا بد من تأبيد الوقف.
وكذا لو شرط الواقف ألا يباع وقفه بطريق الاستبدال، كان للقاضي أن يستبدل بالعين الموقوفة غيرها إذا قضت بذلك ضرورة أو مصلحة راجحة( ).
المبحث الخامس أثر شروط الواقف على الوقف
قد ظهر مما تقدم أن الشروط التي يشترطها الواقف تنقسم إلى قسمين:
الأول: شروط باطلة؛ لمنافاتها لنصوص الشرع، أو لتعارضها مع مصلحة الوقف، أو المستحقين فيه، كما لو اشترط أن للمتولي أن يؤجر الوقف بما يشاء ولو كان بأقل من أجرة المثل، فهذا الشرط باطل لا قيمة له؛ لما فيه من الإضرار بالوقف وبالمستحقين( ) والوقف صحيح.
القسم الثاني: الشروط الصحيحة، وقد تقدم أنه يجب العمل على تنفيذها، وهي الشروط التي ليس فيها مخالفة لنصوص الشرع، ولا تؤدي إلى إضرار بالوقف، أو بالمستحقين فيه، كاشتراط الغلة للفقراء ونحوه من الشروط، غير أن الفقهاء أجازوا مخالفة شرط الواقف وإن كان صحيحًا، إذا طرأت مصلحة راجحة تستدعي تلك المخالفة؛ كما لو اشترط ألا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجار سنة، فللناظر مخالفة شرط الواقف بعد أخذ الإذن من القاضي، وإلى هذا ذهب الحنفية( ).
أما الشافعية: فالأصل – عندهم - في اعتبار الشرط وعدم اعتباره هو المصلحة للوقف، أو المستحقين فيه، بشرط ألا يتصادم مع نص شرعي( )، ويكون تقدير المصلحة تابعًا للاجتهاد والنظر( ).
والذي يبدو من مسلكهم أن الأصل في شروط الواقفين عندهم الإباحة ما لم تخالف نصًّا شرعيًّا.
قال الشيرازي( ): «وتصرف الغلة على شرط الواقف: من الأثرة والتسوية والتفضيل...» إلخ( ).
وبهذا يكون الشافعية في فقههم كالحنفية في تطبيقاتهم من حيث التوسع في تصحيح شروط الواقفين( ).
وأما المالكية: فإنهم يرون أن شروط الواقفين غير جديرة بالاعتبار ما لم تكن جائزة( ).
والمراد بالجواز -عندهم- ما قابل المنع؛ ومن ثم فإنه يجوز عندهم اتباع الشرط ولو كان مكروهًا( )، وقد مثَّلُوا للشروط الممنوعة: بأن يكون إصلاح الوقف على مستحقه فإن هذا شرط غير معتبر عندهم لأنه كراء مجهول، فالشرط باطل، والوقف صحيح.
وأما الحنابلة: فالأصل في الشروط -عندهم- الإباحة، إلا إذا ورد فيها نهي من الشارع، وقد نص الحنابلة( ) على وجوب اتباع شروط الواقفين، وعدم جواز مخالفتها إلا إذا تحققت مصلحة من هذه المخالفة.
وإذا ثبت هذا فقد تقدم – أيضا – أن بعض الفقهاء قد درجوا على النص في كتبهم -عند الكلام عن شروط الواقفين- على القول بأن:
«شرط الواقف كنص الشارع»:
وقد أثار هذا التشبيه خلافًا بين الفقهاء في معنى هذا القول ومدلوله.
وهذا الخلاف ينحصر في ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن شرط الواقف كنص الشارع، في وجوب اتباعه والعمل به، وإلى هذا ذهب الخرشي( ) من المالكية وغيره من الفقهاء
يقول( ) الخرشي: «ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع»، وفي شرح غاية المنتهى( ): «ويرجع وجوبًا لشرط واقف... ونصه كنص الشارع».
القول الثاني: أن شرط الواقف كنص الشارع: في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل به واتباعه.
وهذا هو رأي بعض فقهاء الحنابلة، كشيخ الإسلام ابن تيمية( ) وغيره، يقول ابن تيمية -رحمه الله( )-: «إن شروط الواقف كألفاظ الشارع، أي: يستفاد مراد الواقف من ألفاظه المشروطة، كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه، فكما يعرف العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك يعرف الوقف من ألفاظ الواقف».
وذلك لأن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطق بها، والفقيه يحتاج في معرفة كلام الشارع إلى معرفة لغته وعرفه، وعادته، وكذلك في خطاب كلامه، وكل قوم إذا تخاطبوا بينهم في البيع، والإجارة أو الوقف، أو الوصية، أو النذر، أو غير ذلك بكلام، فإنه يُرْجَع في معرفة مرادهم إلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب، وما يقترن بذلك من الأسباب.
وقد شنع ابن تيمية( ) على القول السابق بأن شرط الواقف كنص الشارع في وجوب العمل به، وجعله كفرًا، فقال: «أما أن يجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر بالاتفاق؛ إذ لا يطاع أحد من البشر في كل ما يأمر به بعد رسول الله ، وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد، كالشروط في سائر العقود، فالشروط إن وافقت كتاب الله، كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة».
ويقول ابن القيم( ) -رحمه الله( )-: «الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحًا، وما كان فيه جنف أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام، بل قد قال إمام الأنبياء : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق»( )، فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له».
وقد تعقب الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني هذا القول الذي ذهب إليه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وصحح قول من قال: إن شرط الواقف كنص الشارع في وجوب العمل به( )، وقال ابن عابدين في حاشيته( ): «قال العلامة قاسم: ونص أبو عبد الله الدمشقي في كتاب الوقف، عن شيخه شيخ الإسلام، قول الفقهاء: نصوصه - أي: الواقف- كنص الشارع، يعني: في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل، مع أن التحقيق أن لفظه، ولفظ الموصي، والحالف، والناذر، وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشرع أم لا».
قال العلامة قاسم: «قلت: وإذا كان المعنى ما ذكر– أي: أن شرط الواقف كنص الشارع في الفهم والدلالة- فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسر لا يحتمل تخصيصًا، ولا تأويلًا يعمل به؛ لأنه لا عموم له عندنا – أي: الحنفية - ولم يقع فيه نظر المجتهد؛ ليترجح أحد مدلوليه، وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف وإن كان حيًّا يرجع إلى بيانه.
القول الثالث: أن شرط الواقف كنص الشارع: في الفهم والدلالة، وفي وجوب اتباعه والعمل به، أيضا.
قال في الدر المختار( ): «قولهم: شرط الواقف كنص الشارع، أي: في المفهوم والدلالة، ووجوب العمل به.
وقد علق ابن عابدين على قول صاحب الدر: «أي: في المفهوم والدلالة» بقوله( ): «كذا عبر في الأشباه، والذي في البحر عن العلامة قاسم: في الفهم والدلالة، وهو المناسب؛ لأن المفهوم عندنا غير معتبر في النصوص، والمراد به مفهوم المخالفة المسمى: دليل الخطاب».
الترجيح:
من خلال عرض أقوال الفقهاء في مدلول معنى شرط الواقف كنص الشارع يترجح أنه كنص الشارع في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل به، وذلك بأن شرط الواقف لا يجب العمل به إلا إذا كان موافقاً للشرع أو فيه مصلحة، فإن كان مخالفاً لنص شرعي أو متعارضاً مع مصلحة الوقف أو المستحقين فيه لم يجب العمل به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فالشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة) ( )
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:(لا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع...) إلى أن قال (فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له)( )
تعليق ختامي
( ) لسان العرب، مادة (شرط) (4/2235)، تاج العروس، مادة (شرط) (19/404).
( ) سورة محمد الآية (18).
( ) حاشية البناني على جمع الجوامع 2/20
( ) التقرير والتحبير (3/214).
( ) انظر: إعلام الموقعين (3/3)، الفتاوى الكبرى (3/331).
( ) كتاب الوقف، أحمد إبراهيم بك، ص (57).
( ) دراسات في الشريعة الإسلامية، ص (291).
( ) سورة المائدة: الآية (1).
( ) تفسير القرطبي (6/32)، التفسير الكبير للرازي (20/164).
( ) سورة الإسراء: الآية (34).
( ) سورة المؤمنون: الآية (8).
( ) سورة الصف الآيتان (2، 3).
( ) التفسير الكبير للرازي (20/164).
( ) أخرجه أحمد في المسند (2/366)، وأبو داود في السنن (4/19) كتاب الأقضية، باب: في الصلح، حديث (3594)، وابن الجارود في مسنده رقم (638)، وابن حبان =في صحيحه (1199 - موارد)، والدارقطنى في سننه (3/27) كتاب البيوع، حديث (96)، والحاكم في المستدرك (2/49)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/64) كتاب الصلح، باب: صلح المعاوضة، كلهم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة؛ أن رسول الله قال: ((المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين)). وقد صححه الألباني في الجامع الصغير (2/50)
قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم مدنيون.
( ) تحفة الأحوذي (4/487).
( ) أخرجه البخاري (5/380) كتاب الشروط، باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح (9/124) كتاب النكاح، باب: الشروط في النكاح (5151)، ومسلم (2/1035، 1036)، كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح (63/1418).
( ) هو: إبراهيم بن موسى بن محمد, أبو إسحاق, اللخمي الغرناطي, الشهير بالشاطبي، من علماء المالكية، أخذ عن أئمة، منهم: ابن الفخار، من تصانيفه: الموافقات في أصول الفقه, والمجالس.
انظر: نيل الابتهاج بهامش الديباج ص (46), شجرة النور الزكية ص (231).
( ) الموافقات (1/284).
( ) كتاب الوقف، أحمد إبراهيم بك، ص (60).
( ) البحر الرائق (5/249).
( ) قد ثار خلاف بين الفقهاء حول مدلول هذه العبارة، سيأتي بيانه في المطلب القادم بمشيئة الله تعالى.
( ) المبسوط (12/42)، العناية شرح الهداية (6/228).
( ) أسنى المطالب (2/464).
( ) الإنصاف (7/25).
( ) كتاب الوقف، أحمد بك إبراهيم، ص (58).
( ) شرح مختصر خليل للخرشي (7/81).
( )المبسوط (12/42)، فتح القدير (6/228).
( ) العناية شرح الهداية (6/221).
( ) شرح مختصر خليل للخرشي (7/95)، الفواكه الدواني (2/165).
( ) العناية شرح الهداية (6/225)، البحر الرائق (5/225)، كتاب الوقف، أحمد إبراهيم بك، ص (58، 59).
( ) حاشية ابن عابدين (3/539).
( ) المرجع السابق (3/534).
( ) الحاوي (14/261).
( ) مغني المحتاج (7/386).
( ) هو: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله، الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وهو شيخ الإسلام علمًا وعملا، كان لا يملك شيئًا من الدنيا، ولم يحج بسبب ذلك، وكان طلق الوجه، دائم البشر، كثير البسط، حسن المجالسة، يحفظ كثيرًا من الحكايات الحسنة والأشعار، توفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة - وقيل: الأولى - سنة ست وسبعين وأربعمائة.
ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة (1/238)، تهذيب الأسماء واللغات (2/172), وفيات الأعيان (1/9).
( ) المهذب (1/443).
( ) أحكام الوقف ص (198).
( ) شرح الخرشي (7/92).
( ) حاشية العدوي على شرح الخرشي (7/92).
( ) كشاف القناع (3/2048)، فتاوى ابن تيمية (3/389، 390).
( ) هو: محمد بن عبد الله الخَرَّشي المالكي: أول من تولى مشيخة الأزهر، نسبته إلى قرية يقال لها: (أبو خراش) من البحيرة بمصر، ولد سنة عشرٍ وألف هـ.
من تصانيفه: الشرح الكبير على متن خليل، والشرح الصغير على متن خليل أيضًا في فقه المالكية، والفرائد السنية شرح المقدمة السنوسية في التوحيد. توفي رحمه الله =تعالى سنة إحدى ومائة وألف هـ.
انظر: تاريخ الأزهر (124)، سلك الدرر (4/62)، شجرة النور الزكية (1/317).
( ) شرح مختصر خليل، للخرشي (7/93).
( ) مطالب أولي النهى (4/312).
( ) هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي, تقي الدين أبو العباس، الإمام الحافظ المجتهد، شيخ الإسلام، حنبلي، ولد في حران، وانتقل به أبوه إلى دمشق، فنبغ واشتهر، سجن بمصر مرتين؛ من أجل فتاواه، وتوفي رحمه الله تعالى بقلعة دمشق معتقلا سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. من تصانيفه: السياسة الشرعية، الفتاوي، منهاج السنة.
انظر: الدرر الكامنة (1/144), البداية والنهاية (14/135)، ذيل طبقات الحنابلة (2/387).
( ) إعلام الموقعين (3/92، 93).
( ) مجموع الفتاوي (31/48).
( ) هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ابن القيم، شمس الدين من أهل دمشق، من أركان الإصلاح الإسلامي وأحد كبار الفقهاء. تتلمذ على ابن تيمية. من تصانيفه: الطرق الحكمية, ومفتاح دار السعادة, والفروسية, ومدارج السالكين، توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة هـ.
انظر: الدرر الكامنة (3/400), جلاء العينين ص (20).
( ) إعلام الموقعين (3/92، 93).
( ) أخرجه مسلم (2/1142) كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق (1504).
( ) مطالب أولي النهى (4/320).
( ) حاشية ابن عابدين (3/576).
( ) ابن عابدين (3/575).
( ) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة (1/460، 461).
( ) مجموع الفتاوي (31/48).
( ) أعلام الموقعين (4/320).