الفهرس
- الفصل الثالث عقوبة المرأة الحامل
- المبحث الأول: العقوبات اللازم تأخيرها عن الحامل إلى الوضع
- المبحث الثاني: العقوبات التي تقام على الحامل حال حملها
- العودة إلي كتاب أحكام المرأة الحامل
الفصل الثالث عقوبة المرأة الحامل
مدخل إلى الفصل:
إن تنفيذ العقوبات الممنوع على الحامل هو ما يضر بالحمل، فإن أمكن معاقبة الحامل على مخالفتها بحيث تقع العقوبة حال الحمل، بدون أن يسري أذى العقوبة إلى الجنين فيجوز ذلك، وإن لم يكن إقامة العقوبة عليها إلا بالإضرار بالجنين، فيجب التأخير إلى أن تضع.
المبحث الأول: العقوبات اللازم تأخيرها عن الحامل إلى الوضع:
أولاً : الحدود:
لا خلاف بين العلماء أنه لا يقام الحد على المرأة الحامل، سواء كان الحمل من زنا أو غيره، وسواء وجبت العقوبة قبل الحمل أو بعده ( ).
ويشمل ذلك الحدود كلها كالرحم والجلد والقطع، وعلة ذلك الحفاظ على حياة الجنين؛ لئلا يهلك بتنفيذ الحد على أمه.
ومستند ذلك: حديث بريدة رضي الله عنه في رجم المرأة الغامدية التي زنت: "قالت: يا رسول الله طهّرني فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)، فقالت: أراك تريد أن تردّني كما رددت ماعز بن مالك. قال: (وما ذاك؟)، قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال: (أنت؟)، قالت: نعم فقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك). قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي فقال: قد وضعت الغامدية . فقال: (إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إليّ رضاعه يا نبي الله قال: (فرجمها") ( ).
قال الإمام النووي في شرحه لحديث الغامدية هذا: "فيه أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا مجمع عليه؛ لئلا يقتل جنينها، وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل، لم تجلد بالإجماع حتى تضع" ( ).
ثانيًا : القصاص:
وكما لا يجوز تنفيذ العقوبة على الحامل التي أصابت الحد حتى تضع، فكذلك لا يجوز أن يقتص منها. قال ابن رشد: "أجمعوا على أن الحامل إذا قَتَلتْ عمدًا، أنه لا يقاد منها حتى تضع حملها" ( ).
وسواء في منع القصاص منها قبل وضعها أن تكون حاملاً وقت الجناية أو حملت بعدها قبل الاستيفاء، وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف ( ).
واستدلوا على ذلك بالأدلة التالية:
أولاً : القصاص في النفس:
1- لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ﴾ [الاسراء:33] وقتل الحامل قتل لغير القاتل. وهو الجنين فيكون إسرافًا ( ).
2- حديث بريدة في رجم الغامدية، وفي أن النبي ردها وقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك). قال الإمام النووي: "فيه أن من وجب عليها القصاص وهي حامل، لا يقتص منها حتى تضع، وهذا مجمع عليه" ( ).
والعلة الجامعة في التأخير إلى الوضع، هي الحفاظ على حياة الحمل خوف هلاكه.
ثانيًا: القصاص في الطرف:
إن كان الغالب تضرر الحمل بالقصاص في الطرف، فلا يقتص م المرأة الحامل لما يلي:
القياس: لأن استيفاء القصاص خشية السراية إلى الجاني أو إلى في حقه ممنوع، فلأن تمنع منه خشية السرايا إلى غير الجاني. وهو الحمل. بتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ( ).
متى تستوفي العقوبة على الحامل بعد الوضع؟
أولاً : في الحدود:
أ- الرجم: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يستوفي الرجم من المرأة المحصنة إذا كانت حاملاً بعد الوضع مباشرة، حتى ترضعه هي، وإن وجدت له مرضعة، وإذا انقضى الإرضاع لم يستوف أيضًا حتى يوجد للطفل كافل. وهذا مذهب الشافعية ( ).
القول الثاني: يقام الحد بالرجم على المرأة المحصنة إذا كانت حاملاً بعد الوضع مباشرة ( ).
استدل الشافعية بما يلي: حديث بريدة في رجم الغامدية من طريق بشير بن المهاجر وفيه: "فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله لم تردني كما رددت ماعزًا، فو الله إني لحبلى. قال: (إما لا، فاذهبي حتى تلدي،، فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدته قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)؛ فلما فطمته أتته بالصبي ي يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها" ( ).
قال الإمام النووي: "فهاتان الروايتان ( ) ظاهرهما الاختلاف، فإن الثانية صريحة في أن رجمها كان بعد فطامه وأكله الخبز، والأول ظاهرها أنه رجمها عقب الولادة ويجب تأويل الأولى وحملها على وفق الثانية؛ لأنها قضية واحدة، والروايتان صحيحتان، والثانية منهما صريحة لا يمكن تأويلها، والأولى ليست صريحة، فيتعين تأويل الأولى، ويكون قوله في الرواية الأولى: (قام رجل من الأنصار، فقال: إليّ رضاعه)، إنما قال بعد الفطام، وأراد بالرضاعة كفالته وتربيته، وسماه رضاعًا مجازًا ( ). واستدل الجمهور على قولهم بما يلي حديث بريدة من طريق ابنه سليمان، وفيه زيادة: (إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إليّ رضاعه يا نبي الله قال: (فرجمها" ) ( ).
في هذه الرواية دليل على أن العلة في تأخير الرجم رعاية الصغير وحفظه من الهلاك، لعدم وجود من يرضعه، فلما توفرت المرأة المرضع له بتكفل رجل من الأنصار برضاعة، انتفت علة التأخير، فرجمها رسول الله .
الترجيح:
يترجح لديّ قول الجمهور؛ لأن الرواية التي استدل بها الشافعية رواية شاذّة، فهي من رواية بشير بن المهاجر. وبشير بن المهاجر ليس ثقة، بل هو صدوق لين الحديث، بل قال عنه أحمد بن حنبل: "هو منكر الحديث"، وقال المنذري: " ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث، فإنه أتى به في الطبقة الثانية، بعدما ساق طرق حديث ماعز، وأتى به آخرًا، ليبين إطلاعه على طرق الحديث، والله أعلم" ( ).
وإذا كانت زيادة الثقة تقبل؛ بشرط ألا تخالف الثقات، فكيف إذا كانت المخالفة من غير الثقة؟ ( ).
والمخالفة من بشير بن المهاجر في التأخير إلى الرضاع هي مخالفة الثقات الذين ذكروا التعجيل في إقامة الحد على الغامدية، بعد تأمين من يرضع الصغير.
ب- الجلد: يرى العلماء أنه لا يقام حد الجلد على المرأة الحامل حتى تضع وتخرج من نفاسها ( ).
ثانياً: في القصاص:
يرى العلماء ومنهم الأئمة الأربعة تعجيل القصاص في النفس أو الطرف على الحامل إذا وضعت، ولكن يجب التأخير إلى أن توجد مرضعة أو ما يعيش به، وإلا أرضعته هي حولين وتفطمه. ومثله المرضع ( ).
المبحث الثاني: العقوبات التي تقام على الحامل حال حملها:
ولكثرة العقوبات التي يمكن أن تقام على الحامل حال حملها، فإنني أعرض لأهمها.
أولاً : الحبس:
العقوبات البدنية التي تثبت بالحدود أو القصاص، ولا يمكن إقامتها في الحال هل يجب حبس المرأة لحين إقامتها عليها؟
والحبس في اصطلاح الفقهاء: هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل الخصم أو وكيله عليه، وملازمته له ( ).
وتحبس المرأة الحامل في القصاص إلى أن يمكن الاستيفاء منها بعد الوضع، ولا يقبل منها كفيل في ذلك؛ لأن المقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في إيفاء الحد والقصاص، وهذا لا يتحقق في الحدود والقصاص ( ).
وأما الحبس في الحدود، فإنها تحبس عند المالكية إذا لزمها حد من حدود الله تعالى إلى الوضع، إذا خيف عليها من إقامته في حال الموت ( ).
وأما الحنفية فيرون حبس الحامل إن ثبت زناها بالبينة مخافة أن تهرب، وإن ثبت بالإقرار فلا تحبس؛ لأن الرجوع عن الإقرار صحيح، فلا فائدة في الحبس، والنبي لم يحبس الغامدية ( ).
وأما الشافعية فيرون أن لا تحبس الحامل إن كان عليها رجم أو غيره من حدود الله تعالى، على الصحيح المشهور في مذهبهم؛ لأن الحدود مبنية على التخفيف والتساهل ( ).
الترجيح:
يميل الباحث إلى رأي الحنفية لقوة تعليلهم، وأن من مقتضيات إقامة الحد، الحبس الذي يمكن استيفاؤه، ونأمن من هربها، وأما إن ثبت الحد بالإقرار، فلا تحبس؛ لأن لها الرجوع عنه.
ثانيًا: القصاص فيما دون النفس:
يستثنى من حالة وجوب تأخير القصاص فيما دون النفس إلى الوضع، ما لو كان الغالب بقاؤها، وعدم تضرر الحمل بالاستيفاء منها فيستوفي، وهذا ما نص عليه ابن قدامة ( ). ولم أجد غيره ذكره.
ثالثًا: التعزير:
التعزير في اصطلاح الفقهاء: هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود ( ).
والتعزير يشتمل على مجموعة من العقوبات تبدأ من النصح، وتنتهي بالجلد والحبس ( ).
ويميل الباحث إلى أنه لا مانع من إيقاع عقوبات التعزير على المرأة الحامل إذا كانت لا تضر بالحمل.
تعليق ختامي
( ) النووي: روضة الطالبين: (7/93). والميرغاني، الهداية مع شرح فتح القدير: (5/29). وابن عبد البر، الكافي: (2/1073). وابن قدامة، المغني: (8/171).
( ) صحيح مسلم: كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا: (3/1322، 1324).
( ) النووي، شرح صحيح مسلم: (11/ 201).
( ) ابن رشد، بداية المجتهد: (2/495).
( ) ابن قدامة، المغني: (7/731).
( ) ابن قدامة، المغني: (7/731).
( ) النووي، شرح صحيح مسلم: (11/ 201).
( ) ابن قدامة، المغني: (7/732).
( ) النووي، روضة الطالبين: (7/94).
( ) الحصكفي، الدر المختار مع حاشية رد المحتار: (7/ 16 – 17)، والخرشي، حاشية الخرشي: (8/ 84)، ابن قدامة، المغني: (8/171).
( ) صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا: (3/ 1323).
( ) أي هذه الرواية، والرواية الأخرى" إذاً لا نر جمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه".
( ) النووي، شرح صحيح مسلم: (11/ 202). وانظر: ابن حجر، فتح الباري: (12/ 150).
( ) صحيح مسلم.
( ) سنن أبي داود: (4/ 589، 590).
( ) ابن كثير، إسماعيل بن الشيخ أبي حفص بن كثير، "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" ، الطبعة الأولى – دار الفكر، والناشر دار الكتب العلمية – بيروت (1983م): (ص 54).
( ) الميرغناني، الهداية مع شرح فتح القدير: (5/ 29). والخرشي، حاشية الخرشي: (( / 84). والنووي، شرح صحيح مسلم: (11/ 201). وابن قدامة، المغني: (8/ 172).
( ) ابن الهمام، شرح فتح القدير: (5/ 30). والخرشي، حاشية الخرشي: (8/ 25). والنووي، روضة الطالبين: (7/ 93). وابن قدامة، المغني: (7/ 731).
( ) ابن القيم، الطرق الحكمية: (ص 102).
( ) الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته:؛ (6/ 89).
( ) الخرشي، حاشية الخرشي: (8/ 25).
( ) الميرغناني، الهداية مع شرح فتح القدير: (5/ 30). وابن مودود، الاختيار: (4/88).
( ) قليوبي، حاشية قليوبي: (4/ 184).
( ) ابن قدامة، المغني: (7/ 732).
( ) عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي، الطبعة العاشرة، مؤسسة الرسالة – بيروت (1989م) : (1/ 127).
( ) المرجع السابق: (1/127).