تفريق ضروري بين البدعة الشرعية واللغوية
ينتقد بعضهم تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ، وينكر على من يقول ذلك أشد
الإنكار ، بل ومنهم من يرميه بالفسق والضلال ، وذلك لمخالفة صريح قول الرسول
كل بدعة ضلالة] . وهذا اللفظ صريح في العموم وصريح في وصف ] :
البدعة بالضلالة ، ومن هنا تراه يقول : فهل يصح بعد قول المشرع صاحب
الرسالة : أن كل بدعة ضلالة يأتي مجتهد أو فقيه مهما كانت رتبته فيقول :
لا – لا – ليست كل بدعة ضلالة ، بل بعضها ضلالة وبعضها حسنة وبعضها
سيئة ، وذا المدخل يغتر كثير من الناس فيصيح مع الصائحين وينكر مع
المنكرين ويكّثر سواد هؤلاء الذين لم يفهموا مقاصد الشريعة ، ولم يذوقوا روح
الدين الإسلامي .
ثم لا يلبث إلا يسيرًا حتى يضطر إلى إيجاد مخرج يحل له المشاكل التي
تصادمه ، ويفسر له الواقع الذي يعيشه ، إنه يضطر إلى اللجوء إلى اختراع وسيلة
أخرى ، لولاها لما يستطيع أن يأكل ولا يشرب ولا يسكن ، بل ولا يلبس
ولا يتنفس ولا يتزوج ولا يتعامل مع نفسه ولا أهله ولا إخوانه ولا مجتمعه ، هذه
الوسيلة هي أن يقول باللفظ الصريح : إن البدعة تنقسم إلى بدعة دينية ودنيوية ،
يا سبحان الله – لقد أجاز هذا المتلاعب لنفسه أن يخترع هذا التقسيم أو على الأقل
أن يخترع هذه التسمية ولو سلّمنا أن هذا المعنى كان موجودًا منذ عهد النبوة لكن
هذه التسمية : دينية ودنيوية لم تكن موجودة قطعاً في عهد التشريع النبوي فمن أين
جاء هذا التقسيم ؟ ومن أين جاءت هذه التسمية المبتدعة ؟ .
فمن قال : إن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة لم يأت من الشارع نقول له :
وكذا تقسيم البدعة إلى دينية غير مقبولة ، ودنيوية مقبولة هو عين الابتداع والاختراع .
فالشارع بقول : (كل بدعة ضلالة)هكذا بالإطلاق ، وهذا يقول :
لا – لا ليست كل بدعة ضلالة بالإطلاق ، بل إن البدعة تنقسم إلى قسمين :
دينية وهي الضلالة ، ودنيوية وهي التي لا شيء فيها .
ولذا لابد أن نوضح هنا مسألة مهمة وا ينجلي كثير من الإشكال ، ويزول
اللبس إن شاء الله .
وهو أن المتكلم هنا هو الشارع الحكيم ، فلسانه هو لسان الشرع ، فلابد من
فهم كلامه على الميزان الشرعي الذي جاء به ، وإذا علمت أن البدعة في الأصل
هي : كل ما أحدث واخترع على غير مثال فلا يغيب عن ذهنك أن الزيادة أو
الاختراع المذموم هنا هو الزيادة في أمر الدين ليصير من أمر الدين ، والزيادة في
الشريعة ليأخذ صبغة الشريعة ، فيصير شريعة متبعة منسوبة لصاحب الشريعة ،
بقوله : (من أحدث في أمرنا وهذا هو الذي حذر منه سيدنا رسول الله
هذا ما ليس منه فهو رد)، فالحد الفاصل في الموضوع هو قوله : (في أمرنا هذا).
ولذلك فإن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة في مفهومنا ليس إلا للبدعة اللغوية
التي هي مجرد الاختراع والإحداث ، ولا نشك جميعاً في أن البدعة بالمعنى الشرعي
ليست إلا ضلالة وفتنة مذمومة مردودة مبغوضة ، ولو فهم أولئك المنكرون هذا
المعنى لظهر لهم أن محل الاجتماع قريب وموطن التراع بعيد .
وزيادة في التقريب بين الأفهام أرى أن منكري التقسيم إنما ينكرون تقسيم البدعة
الشرعية بدليل تقسيمهم البدعة إلى دينية ودنيوية ، واعتبارهم ذلك ضرورة .
وأن القائلين بالتقسيم إلى حسنة وسيئة يرون أن هذا إنما هو بالنسبة للبدعة اللغوية
لأنهمم يقولون : إن الزيادة في الدين والشريعة ضلالة وسيئة كبيرة ، ولا شك في
ذلك عندهم فالخلاف شكلي ، غير أني أرى أن إخواننا المنكرين لتقسيم البدعة إلى
حسنة وسيئة ، والقائلين بتقسيمها إلى دينية ودنيوية لم يحالفهم الحظ في دقة التعبير ،
وذلك لأنهمم لما حكموا بأن البدعة الدينية ضلالة – وهذا حق – وحكموا بأن
البدعة الدنيوية لا شيء فيها قد أساءوا الحكم لأم ذا قد حكموا على كل بدعة
دنيوية بالإباحة ، وفي هذا خطر عظيم ، وتقع به فتنة ومصيبة ، ولا بد حينئذ من
تفصيل واجب وضروري للقضية ، وهو أن يقولوا : إن هذه البدعة الدنيوية منها
ما هو خير ومنها ما هو شر كما هو الواقع المشاهد الذي لا ينكره إلا أعمى جاهل ،
وهذه الزيادة لابد منها ، ويكفي في تحقيق هذا المعنى بدقة قول من قال : بأن
البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة ، ومعلوم أن المراد ا اللغوية كما تقدم ، وهي التي
عبر عنها المنكرون بالدنيوية ، وهذا القول في غاية الدقة والاحتياط ، وهو ينادي
على كل جديد بالانضباط والانصياع لحكم الشرع وقواعد الدين ، ويلزم المسلمين
أن يعرضوا كل ما جد لهم وأحدث من أمورهم الدنيوية العامة والخاصة على
الشريعة الإسلامية ليرى حكم الإسلام فيها مهما كانت تلك البدعة ، وهذه
لا يتحقق إلا بالتقسيم الرائع المعتبر عن أئمة الأصول ، فرضي الله عن أئمة
الأصول وعن تحريرهم للألفاظ الصحيحة المجزئة المؤدية إلى المعاني السليمة دون
نقص أو تحريف أو تأويل .