إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
[هذا طرف من الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن
عباس مرفوعاً] .
[هذا طرف من الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن
عباس مرفوعاً] .
وهذا الحديث يخطئ كثير من الناس في فهمه ، إذ يستدل به على أنه لا
سؤال ولا استعانة مطلقاً من كل وجه وبأي طريق إلا بالله ويجعل السؤال
والاستعانة بغير الله من الشرك المخرج من الملة ، وهو ذا ينفي الأخذ بالأسباب
والاستعانة ا ويهدم كثيرًا من النصوص الواردة في هذا الباب .
والحق أن هذا الحديث الشريف ليس المقصود به النهي عن السؤال
والاستعانة بما سوى الله كما يفيده ظاهر لفظه ، وإنما المقصود به النهي عن الغفلة
عن أن ما كان من الخير على يد الأسباب فهو من الله ، والأمر بالانتباه إلى أن ما
كان من نعمة على يد المخلوقات فهو من الله وبالله ، فالمعنى : وإذا أردت
الاستعانة بأحد من المخلوقين ، ولابد لك منها فاجعل كل اعتمادك على الله وحده
ولا تحجبنك الأسباب عن رؤية المسبب جل جلاله ، ولا تكن ممن يعلمون ظاهرًا
من هذه الارتباطات والعلاقات بين الأشياء المترتب بعضها على بعض ، وهم عن
الذي ربط بينها غافلون .
وقد أومأ هذا الحديث نفسه إلى هذا المعنى ، وذلك في قوله عليه الصلاة
والسلام عقب هذه الجملة الشريفة : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) فأثبت لهم كما نرى نفعاً وضرًا بما كتبه الله
للعبد أو عليه .
يوضح مراده . فهذا منه
وكيف ننكر الاستعانة بغيره ، وقد جاء الأمر ا في مواضع كثيرة من
وَأعدواْ َلهم : وقال ، واستعينواْ ِبالصبرِ والصلاَة : الكتاب والسنة ، قال تعالى
. ما استطَعتم من قُوة
وفي مشروعية ، فَأَعينوِني ِبقُوة : وحكي عن العبد الصالح ذي القرنين قوله
صلاة الخوف الثابتة بالكتاب والسنة مشروعية استعانة بعض الخلق ببعض ، وكذا
في أمره تعالى المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من عدوهم .
وكذا في ترغيبه عليه الصلاة والسلام للمؤمنين في قضاء حوائج بعضهم
بعضاً ، والتيسير على المعسر والتفريج عن المكروب ، وفي ترهيبه من إهمال ذلك ،
وهو في السنة كثير ، روى الشيخان : من كان في حاجة أخيه كان الله في
حاجته .
وروى مسلم وأبو داود وغيرهما عنه عليه الصلاة والسلام : ((والله في عون
: العبد ما كان العبد في عون أخيه)) . وقال
((إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم ،
أولئك الآمنون من عذاب الله)) .
: فانظر إلى قوله
((يفزع إليهم في حوائجهم)) ولم يجعلهم مشركين بل ولا عاصين ..
وروي أيضاً مرفوعاً :
((إن لله عند أقوام نعما أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ما
لم يملوهم ، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم)) ..
: وروى هو وابن أبي الدنيا عنه
((إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها فإذا
منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم)) ..
: قال الحافظ المنذري : ولو قيل بتحسين سنده لكان ممكناً . وقال
((لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته – وأشار باصبعه – أفضل
من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين)) ..
رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد .
وإذا سألت فاسأل الله
أما قوله صلى الله عليه وسلم :
((وإذا سألت فاسأل الله)) ..
فإنه لا مستمسك فيه ولا دليل لمنع السؤال أو التوسل ، ومن فهم من
ظاهره منع السؤال من الغير مطلقاً أو منع التوسل بالغير على الإطلاق فقد أخطأ
الطريق وغالط نفسه كل المغالطة وذلك لأن من اتخذ الأنبياء والصالحين وسيلة إلى
الله ، لجلب خير منه عز وجل أو دفع خير كذلك ، فهو ليس إلا سائلاً الله
وحده أن ييسر له ما طلب أو يصرف عنه ما شاء متوسلاً إليه بمن توسل به ،
وهو في ذلك آخذ بالسبب الذي وضعه الله لينجح العبيد في قضاء حوائجهم
منه عز وجل ، ومن أخذ بالسبب الذي أمر الله بسلوكه لنيل جوده فما سأل
السبب بل سأل واضعه فقول القائل : يا رسول الله أريد أن ترد عيني أو يزول عنا
البلاء أو أن يذهب مرضي ، فمعنى ذلك طلب هذه الأشياء من الله بواسطة
وهو كقوله : ادع لي بكذا واشفع لي في كذا ، لا فرق بينهما شفاعة رسوله
إلا أن هذه أصرح في المراد من ذلك ، ومثلهما في ذلك أوضح قول المتوسل :
اللهم إني أسألك بنبيك تيسير كذا مما ينفع أو دفع كذا من الشر ، فالمتوسل في
ذلك كله ما سأل في حاجته إلا الله عز وجل .
وذا تعلم أن الاحتجاج على منع التوسل بقوله عليه الصلاة والسلام :
((إذا سألت فاسأل الله)) ..
هو مغالطة في حمل الحديث على ما هو ظاهر الفساد ، من أنه لا يصح
لأحد أن يسأل غير الله شيئاً ، فإن من فهم هذا من الحديث فقد أخطأ الخطأ
كله ويكفي في بيان الخطأ ، أن الحديث نفسه ، إنما هو جواب منه عليه الصلاة
أن يسأله والسلام لسؤال ابن عباس راوي الحديث بعد تشويق رسول الله
فإنه قال : يا غلام ! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله ن ، فأي تحريض على السؤال
أجمل من هذا ؟
قال ابن عباس : بلى ، فأجابه عليه الصلاة والسلام ذا الحديث الذي منه هذه
الجملة .
ولو جرينا على هذا الوهم ، ما صح على مقتضاه ، أن يسأل جاهل عالماً ،
ولا واقع في مهلكة غوثاً ، ممن تتوقف نجاته على إغاثته ، ولا دائن مديناً قضاء ما
عليه ، ولا مستقرض قرضاً ، ولما صح للناس يوم القيامة أن يسألوا النبيين الشفاعة
ولا صح لنبي الله عيسى أن يأمرهم بسؤالها سيد المرسلين عليه وعليهم الصلاة
والسلام ، فإن الدليل على هذا الوهم الذي توهموه عام ، يشمل عدم صحة ما
ذكرناه وما لم نذكره .
فإن قالوا : إن الممنوع إنما هو سؤال الأنبياء والصالحين من أهل القبور في
برازخهم لأم غير قادرين ، وقد سبق رد هذا الوهم مبسوطاً ، وإجماله : إم
أحياء قادرون على الشفاعة والدعاء ، وحيام حياة برزخية لائقة بمقامهم يصح ا
نفعهم بالدعاء والاستغفار ، والمنكر لذلك أخف أحواله أنه جاهل بما كاد يلحق
بالتواتر من سنته عليه الصلاة والسلام ، الدال على أن موتى المؤمنين لهم في حيام
البرزخية العلم والسماع والقدرة على الدعاء وما شاء الله من التصرفات فما الظن
بأكابر أهل البرزخ من النبيين وسائر الصالحين .
وفي حديث الإسراء الصحيح بل المشهور – ما فعل الأنبياء عليهم الصلاة
من الصلاة خلفه والخطب بين يديه – والدعاء له والسلام مع خيرهم محمد
في السماوات – حتى أن الأمة ما ظفرت بتخفيف خمسين صلاة – إلى خمس في
المتعددة – إلا بعد إشارة كليم الله موسى بن عمران كل يوم وليلة بشفاعته
ا عليه ، صلى الله عليهما وسلم .
وذا يتبين أن المقصود من الحديث – ليس ما توهموه فإنه فاسد واضح
الفساد كما تبين ، وإنما المقصود منه الترهيب من سؤال الناس أموالهم بلا حاجة
طمعاً فيها ، والقناعة بما يسر الله ولو كان قليلاً ، والتعفف عما لا تدعو إليه
الحاجة مما بأيدي الناس ، وأن يستغني بسؤال الله من فضله فإنه يحب الملحين
في الدعاء – والناس على العكس .
الله يغضب إن تركت سؤاله :: وبني آدم حين يسأل يغضب
فالمعنى – إنك إذا رأيت في يد أحد من المال ما أعجبك وطمحت إليه
نفسك فلا تسأله ما في يده واستعن بسؤال الله من فضله – عن سؤال عبده
فالحديث إرشاد إلى القناعة ، والتتره عن الطمح ، وأين هذا من سؤال الله
بأنبيائه وأوليائه أو سؤال أنبيائه الشفاعة للسائلين فيما جعل الله شفاعتهم فيه
الذي هو من أقوى الأسباب في النجاح ، ولكن الإنسان إذا ركب الهوى شط به
في مجال الأوهام ، وخرج به عن جادة الأفهام .