أسم الكتاب: النقد والتقويم لمنتقد عقائد الماتريدية
اسم المؤلف: سعيد عبد اللطيف فودة
المذهب الفقهي: شافعي
عدد الأجزاء: 1
التصنيف: عقيدة علم الكلام
محتويات
المبحث الثاني بيان عقائد الماتريدية إجمالا
أ- الاستدلال على وجود الله :
من المعلوم أن علماء المسلمين، وفي مقدمتهم الأشاعرة والماتريدية قد اتبعوا كثيرا
من الطرق في إثبات وجود الله تعالى والاستدلال على صفاته الجليلة. وهم لم يحصروا
طرق الاستدلال في عدد معين بل أن حصروه فإنهم يحصرونه كما تقتضيه الأدلة بجهات
معينة، كالاستدلال على وجوده تعالى من جهة إثبات أن العالم ممكن، أو الاستدلال
على ذلك من جهة كون العالم حادثا، أو من جهة الاحتياج الكائن في العالم، أو من
جهة الحكمة الظاهرة فيه، وهكذا.
ولكل جهة من هذه الجهات صور عديدة متكاثرة لا تنحصر تحت عدد.
وقد اشتهر من بين الأدلة الكثيرة التي حققها أهل السنة عدد معين من الادلة، كدليل الحدوث المعلوم بصورته المعهودة، وهي الاستدلال على وجود الله تعالى وصفاته بإثبات أن العالم حادث، وهذا يتم بأشكال عديدة من القياس، ومن مقدمات متعددة متغايرة، ولكنها غير متضادة ولا متنافرة، وقد اشتهر من بين هذه الصور القياسية والمقدمات العديدة، تلك التي تنبني على تقسيم الموجودات إلى أعيان، وهي الأجسام وأجزاؤها الفردة، ومن الأعراض وهي كيفيات تقوم بالأعيان.
وهذا الدليل بمقدماته وتدرجاته المعلومة عند من له أدنى أطلاع، قد اشتهرت بين الناس العامة والخاصة، اشد الاشتهار، حتى توهم البعض انه لا يوجد دليل عند علماء الأشاعرة والماتريدية على وجود الله تعالى الا هذه الصور والمقدمات والقياسات.
وهذا التوهم إنما هو لعدم معرفتهم بما يقوله علماء أهل السنة المحققون الذين تتقاصر نفوس هؤلاء المعترضين عن أن تمس معاني أقوالهم. فتراهم دائما إنما يتعلقون بما يتوهمون من أقوالهم، وهو ليس كذلك.
وبناءا على هذه المقدمة المختصرة فيما يتعلق بهذه المسألة نقول، لقد شرع مؤلف الكتاب المذكور بالاعتراض على علماء الإسلام وهم من ذكرناهم لك، وعرفناك بهم، واتهمهم بأنهم لا يتبعون طريقة القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق، وهذا الكلام منه يستدعي الغاية من العجب.
فقد حض القرآن الكريم في أكثر موضع على النظر في الكون وفي النفس الإنسانية بأكثر من أسلوب وفي أكثر من آية، وكذلك حث علىالتفكر في الكون من حيث وجود الحكمة التامة فيه، فهذا يستدعي إثبات وجود الخالق، إلى غير ذلك من جوانب.
ونحن كما ذكرنا لك فإن أدلة المتكلمين وعلماء أهل الحق لا تتعدى هذه الصور والرسوم. بل هي في أكثرها مستنبطة بتفاصيلها من القرآن الكريم.
فكيف يجوز لهذا المدعي الآن أن يقول أن طريقتهم ليست هي طريقة القرآن ؟؟!
وماذا يعني هذا القائل بطريقة القرآن ؟ فلننظر فيما يقول..
قال في صفحة 33 عن منهج السلف في ذلك الذي ينسبه اليهم ويدعي أنه هو طريق القرآن " فقد استدلوا بالفطرة السليمة المضطرة بطبعها إلى الاقرار بوجود الله تعالى والاعتراف بالخالق " أهـ
ولنسأله عما يريده بالفطرة السليمة، هل يوجد فطرة غير سليمة ؟! وكيف تكون الفطرة غير السليمة موجودة، وقد ادعى أن الفطرة هي الخلقة التي خلق الله تعالى الناس عليها، وهي علوم ومعارف، فهل تكون هذه العلوم التي خلقها الله تعالى في الناس دلالة لهم إلى الحق غير سليمة ؟ ! وهل توجد إمكانية لتغيير الخلقة التي يخلقها الله تعالى لهدف معين على زعمهم، لتصبح غير سليمة، وبالتالي لا توجه الإنسان إلى ما هو مراد منه ؟!
إن هذا الكلام في غاية الاضطراب كما يظهر لك. والحق أن الفطرة ليست أمرا غير ما ذكرته لك في أول هذا الكتاب، وأن العلماء من أهل السنة لم يستخدموا في الاستدلال غير القوى التي منحها الله تعالى لهم، ليصلوا إلى الخالق.
وبهذا يتضح لك شدة فساد هذا المدعي هنا وأصحابه في كلامهم.
ونحن لا نقول أن كل الأدلة التي يوردها المتكلمون في كتبهم يستطيع أي إنسان أن يفهمها ويدقق فيها من أول نظرة، أو بجهد قليل. بل إننا نقول أن بعض الأدلة التي يوردونها تحتاج لعقل جامع وقلب ذكي وجهد عظيم، وهذه الامور لا تتوفر في كثير من الناس، وأيضا توجد بعض الادلة يسهل على عامة الناس أن يفهموها.
وهنا تكمن عبقرية علماء الكلام، فإنهم لاحظوا اختلاف درجات الناس في الفهم والذكاء، فوضعوا لكل طائفة منهم ما يناسبهم من الأدلة، فمن يريد التدقيق والتحقيق يجد ذلك ومن يريد الدليل العام الاجمالي والوعظ الكافي والحجة الخطابية فإنه يجده أيضا.
ولا ينبغي أن يعترض على هذا المنهج أحد من العقلاء.
فلا يجوز لأحد أن يقول أن الدليل يجب أن يكون واحدا لجميع الناس لأن من يقول هذا يخالف صريح العقل وواضح البيان.
ولهذا فإننا نقول أن منهج المتكلمين قد بلغ بهذا الوجه مرتبة عالية من الحكمة، بخلاف غيرهم ممن لا يطيق ذلك.
ب- التوحيد
- أقسام التوحيد
التوحيد والوحدانية عند أهل السنة يندرج تحتها مسائل، منها ما يتعلق بالذات، ومنها ما يتعلق بالمخلوقات في علاقتهم مع الذات الالهية.
فأما ما يتعلق بالذات، فيجب الاعتقاد أن الذات الالهية واحدة وحدة مطلقة من حيث هي ذات، متصفة بصفات جليلة، منزهة عن شوائب النقص، وعن الحدوث ومستلزماته وعن مشابهة الحوادث من حيث هي حادثة من أي وجه كان.
ويجب تنزيه الله تعالى والقول بوحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله لأن الله تعالى موجود وله صفات وله أفعال، فالوحدانية تتعلق بكل أمر من هذه الثلاثة.
فالوحدانية في الذات : كون الذات لا يشبهها شيء فلا يوجد ذات متصفة بالكمال المطلق غير ذات الله تعالى وأيضا فهي واحدة لا تتكون من أجزاء وليست مركبةلأن التركيب والأجزاء من سمات الحدوث.
والوحدانية في الصفات : كون الذات موصوفة ومتصفة بصفات الكمال المطلق وأن هذه الصفات لا تنسب الىغير الله كما تنسب اليه تعالى.
والوحدانية في الأفعال: كون الله تعالى متصفا بأنه فاعل خالق مختار اختيارا مطلقا، لا يمنعه شيء عما يريد، ولا بذلك الا هو تعالى. فلا يجوزأن ينسب معنى أفعال الله تعالى وهو الخلق والابداع إلى غيره.
فهذه كلمات مختصرة توضح المراد بالتوحيد والوحدانية عند اهل السنة.
وقد اتفق على هذه المعاني جميع المسلمين، ولكن قد جرى النزاع في أمور ادعاها البعض من غير أهل السنة فقال أن للتوحيد غير ما ذكرتم، وهى :
- التوحيد فى الربوبية.
- التوحيد فى الألوهية.
- التوحيد فى الأسماء والصفات.
وادعى أن تقسيم التوحيد بهذا الأسلوب وما عليه السلف، وهو موجود فى كتبهم قاطبة، وهذا ادعاء ليس عليه دليل بل هو باطل بالاستقراء نفسه الذى يدعيه هو دليلا عليه.
وحقيقة هذه المسألة وهى تقسيم التوحيد قد تكلمنا عليها فى أكثر من موضع مما كتبناه، وذكرها العديد من العلماء، فالكلام فيها مشهور وتلخيص الكلام :
أن هذا التقسيم أن كان المراد به هو التسهيل على الأفهام التوضيح والتدريس لعامة الناس وطلاب العلم، فقد يتسامح فيه بشرط عدم حصر الأقسام بما ذكروا، وهذا إذا خلا عن الغلط فى تقسيم المعانى، ولكن الحال غير هذا، فقد بينا نحن أن معانى هذا التقسيم المذكور ليست بمستقيمة ولا تامة وفيها تلفيق وذكرنا أنها وضعت أصلا كتقسيم فى القرن الثامن الهجرى من قبل بعض المجسمة أراد بها الرد على ما ذكره أهل السنة من كلام فى هذا الباب. ولم يكن همه استقراء المعانى الشرعية وتحقيقها ثم ذكر خلاصة ما بان له وظهر فى المسألة.
وحتى لو سلمنا لهم هذا التقسيم المذكور، فلم يصرون على أنه هو الذى اختاره السلف - أى الصحابة والتابعون والتابعون - وردوا غيره، فى حين أننا نعلم وهم يعلمون أنه لم يظهر هذا التقسيم إلى حيز الوجود إلا فى القرن الثامن الهجرى على يد شيخهم ابن تيمية ؟
وكل ما ورد من عبارات على لسان المتقدمين فإنما هو إشارات وبيان لمعانى الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وردت متناثرة ولم يريدوا بها حقيقة التقسيم حتى جاء هؤلاء المدعون، وصاروا يتوهمون أن كل إنسان تلفظ بكلمة الألوهية أو الربوبية فقد أراد بها ذكر قسم من أقسام التوحيد.ثم هم قالوا بناء على هذا التقسيم أن توحيد الربوبية ليس كاف فى الدخول فى الإيمان والإسلام، وأن المشركين كانوا موحدين توحيد الربوبية، وهذا الكلام فى غاية البطلان لما ورد فى نصوص القرآن من أن النصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولما ورد فيه من أن مشركى العرب كانوا يعبدون غير الله معتقدين انه ينفعهم ويضرهم. كما ذكرنا هذا بتفصيل فى محل آخر.
ثم زادوا على ذلك بأن قالوا أن سائر الأشاعرة والماتريدية لم يحققوا من أقسام التوحيد إلا توحيد الربوبية، فساووا بينهم وبين المشركين ؟؟! وتناسوا أن الغالبية العظمى من علماء الدين هم أشاعرة وماتريدية، أبدعوا فى سائر العلوم وسيبقى هذا من مفاخرهم وشوكة فى عيون هؤلاء المجسمة عديمى التحصيل.
وهؤلاء لا ينكرون أن أغلب العلماء من المسلمين والعامة هم أشاعرة وماتريدية وذلك على طول القرون إلى هذه الأيام. ولكنهم يكابرون ويقولون لا يضرنا مخالفة الأكثرين حتى وإن كانوا من اعلم علماء المسلمين.
وعجبا لهم مع أن من برز اسمه منهم وجاز له أن يتكلم مع اعوجاج رأيه وسقم تفكيره لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين، الا انهم يرون انفسهم قد حازوا علوم المتقدمين والمتأخرين ؟! وما هذا الا غاية في الضلال والجهل.
وهؤلاء أدخلوا قضايا التجسيم في صفات الله تعالى، فقالوا له حد من جميع الجهات، وهو في جهة وفي مكان سموه عدميا، وبعضهم وجوديا، ونسبوا إلى الله تعالى الحركة والانتقال من محل إلى محل، والقول بأن الحوادث تقوم بذات الله تعالى، وأن التغير يطرأ عليه، جل شأنه، إلى غير ذلك من القضايا الفاسدة، كنسبة العين واليدين اليه تعالى مع عدم نفي كونهما أعضاءا، بل هم يعتقدون كونها أعضاءا وأجزاء لله تعالى عن ذلك، ونسبوا اليه تعالى الاستقرار والجلوس على العرش([1][6]).
أدخلوا كل هذه المفاسد في قسم الاسماء والصفات، واعتبروه قسما من أقسام التوحيد. وصاروا يبدعون كل من خالفهم فيه معتبرين أنفسهم أهل الحق والتحقيق، واستصغروا سائر علماء الأمة ونسبوا اليم الضلال، ولم يحكموا بالجنة الا لمن سار على دربهم الفاسد هذا.
- أول واجب على المكلف
اشتهر عند أهل السنة أن أول واجب هو معرفة الله تعالى، وأنه لا يشترط لصحة المعرفة كونها عن دليل ونظر، ولكن هذا زيادة في الكمال. وذكروا أن الإنسان لكي ينال ثواب كلمة الشهادة لا بد أن يكون عارفا بمعناها وان من قالها من دون فهم معناها ودون تصديق واعتقاد لها فلا تفيده شيئا.
وقرروا أن الإنسان لا يمكن أن يُعرَفَ دخوله في الدين شرعا الا بأن ينطق بكلمة التوحيد. ولهذا قالوا أن نطق المكلف بالشهادتين هو شرط لإجراء أحكام الإسلام عليه. وهذا الكلام في غاية التحقيق.
وأما الكلام الذي ذكره المؤلف المذكور فهو يدل على جهله التام بما في كتب القوم، وليس هو الا ثرثرة زائدة.
فلا يستطيع أحد أن يخالف ويقول أن النظر في حقيقة الدين ليس واجبا وان الأخذبالأدلة غير واجب، بل هما واجبان، ولكن إيمان المقلد صحيح مثاب عليه مع تقصيره في النظروالبحث.
ولم يقل أحد من الأشاعرة والماتريدية أن الكافر لا يجب عليه أول ما يجب لكي يعصم دمه أن ينطق بكلمة التوحيد.ولكن الخلاف وموضع الكلام عندهم أنها لا تكفيه عند الله تعالى الا أن كانت معانيها عنده صحيحة معتقدا بها مستقرا إلى هذا الاعتقاد.
والتطويل في هذا الموضوع زيادة على ما ذكر لا يفيد.
جـ - الصفات
أما الصفات والخلاف فيها، فتلخيصه أن الأشاعرة والماتريدية ينفون عن الله تعالى صفات الحوادث والأجسام كالحد والمقدار والحركة والحيز والجهة والتركيب والاجزاء والانفعال والتأثر بالغير، وهؤلاء الذين يخالفونهم يثبتون كل ذلك.
وليس الخلاف حول صفة ثبتت أصلا لله تعالى.
فلو نفى هؤلاء المجسمة ما أشرنا اليه، لبطل الخلاف وانمحى.
ولا تتوهم أن الخلاف هو في أنه هل يوجد لله يد ووجه أم لا، فكثير من الأشاعرة قالوا لله وجه، ولكن الخلاف هو هل هذا الوجه هو من قبيل الأعضاء والاجزاء ام لا ؟؟؟
فكل الأشاعرة نفوا ذلك، وكل المجسمة ممن خالفوهم لم ينفوه.
وكذلك في اليد وغيرها.
واما الاستواء فقالت المجسمة هو الجلوس والحلول والاستقرارعلى العرش والكون في مكان.
وعند الاشاعرة : لا ضرر في إثبات الاستواء لله تعالى بل يجب اثباته ولكن لا على سبيل الكون في مكان والجلوس كما تقول المجسمة.
هذا هو أصل الكلام، وكل ما سواه فهو تهويل لا يراد به وجه الله تعالى.
فما دام الامر كذلك، فمن هو أقرب إلى الصواب، الذي ينزه اله تعالى عن مشابهة الحوادث أم من يقول بذلك ؟!
وأما قولهم أن الأشاعرة لا يثبتون الا سبعة صفات أو ثمانية أو غير ذلك من الاعداد، فما هو الا كذب عليهم، لأنهم كلهم أجمعوا على أن كمالات الله تعالى التي هي صفاته لا يدرك حدها لأنه لا حد لها، فلا نهاية لكمالاته تعالى، واما العدد المذكور في كتب التوحيد فليس هو حصرا لصفات الله تعالى، بل هو توضيح وتعليم لعامة الناس أقل ما يجب عليهم أن يعلموه لكي يصح إيمانهم ويستقيم إسلامهم، وإلا فإن الله تعالى لم يكلفنا بمعرفة جميع صفاته وأسمائه، لأن ذلك من تكليف ما لا يطاق.
د- الإيمان
لما نظر أهل السنة في هذه المسألة وسبروا جوانبها وحققوا نواحيها وجدوا أن الحاصل ثبوت ثلاثة معاني :
الأول : التصديق القلبي وهو مع الإقرار والإذعان.
الثاني : التلفظ باللسان بكلمة الشهادة.
الثالث : العمل بالأوامر الشرعية، كالكف عن شرب الخمر وأداء الصلاة.
ووجدوا الشرع لا يحكم بكفر من شرب الخمر ولا من ترك أيَّ أمر من أوامر الشريعة، إلا أن يكون مستخفا مستهينا او معاندا.
علموا أن العمل ليس داخلا في ماهية الإيمان الذي يتم بناء عليه عدم الخلود في لنار.
ووجدوا عدم دخول الأعمال في ماهية وحقيقة الإيمان واضحا، فلم يحصل خلاف بينهم فيها.
أما التلفظ فلما رأوا أن الشارع حكم بايمان الأخرس وإن لم يتلفظ لأنه لا يستطيع، ووجدوا العديد من الآيات تدل على أن الإيمان المذكور أصله في القلب أيضا.
ثم لما لاحظوا أن الشارع رتب الحكم على الإنسان بالكفر أو عدمه بكونه قائلا بكلمة التوحيد أو لا، قالوا أن التلفظ هوشرط لإجراء أحكام المؤمنين عليه،لأننا لا يمكن أن نعرف المؤمن من غيره الا إذا قال أو فعل فعلا يدل على ذلك. وأقرب الأمور الدالة على ذلك هي القول والتلفظ بكلمة التوحيد.
واما التصديق القلبي مع الاذعان المذكور فلا خلاف بين المسلمين أنه داخل في حقيقة الإيمان المعتبر شرعا في الحكم بنجاة الإنسان والمكلف من الخلود في النار وإن دخلها لمعصية فعلها.
فهذا هو ما عليه المحققون وجمهور العلماء، وهو التحقيق في هذه المسألة.
ونقل الخلاف عن ابي حنيفة، أنه اعتبر التلفظ جزءا من حقيقة الإيمان، ويكاد الخلاف يكون لفظيا بين هذا القول وبين ما قال به الجمهور من المحققين.
أما الأعمال، فقد بالغ الحشوية المجسمة في القول بأنها تدخل في صميم الإيمان، ومع ذلك لم يحكموا بالكفر على كل من ترك عملا، وهو تناقض صريح.
وسبب غلطهم أنهم لم يفرقوا بين أنه يطلق على الأعمال أنها إيمان، وبين كونها هي الإيمان أو جزءا من الإيمان أصل المسألة.
فلا شك أنه يطلق على الأعمال شرعا ولغة أنها إيمان، وكذلك على الأقوال، كما يطلق على التصديقات، وكل إطلاق من حيثية معينة.
ولكن الخلاف أصلا،بل أصل المسألة هي ما هو أقل قدر يجب علىالمكلف أن يحققه، لكي ينجو من الخلود من النار.
هذا هو أصل المسألة، وليست المسألة هي هل يطلق على الأعمال ايمان أو لا يطلق.
واما كلام المؤلف في هذا المبحث، فهو كلام غير مستقيم ولا يفيد وليس فيه جنس التحقيق.
وكل ما يمكن أن يقال بناءا على غير هذا الأصل، فهو كلام لا يلتفت اليه.
هـ- النبوات، مبحث العصمة
لخص شيخ الإسلام زكريا الانصاري مسألة عصمة الأنبياء في كتاب غاية الوصول، تلخيصَ تحقيق كما هو المعهود منه فقال في ص91:
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون، حتى عن صغيرةٍ سهوا فلا يصدر عنهم ذنبٌ،لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدا ولا سهوا. فإنْ قلتَ : يُشكِلُ بأنه صلى الله عليه وسلم سها في صلاته حيث نسي فصلى الظهر خمسا وسلم في الظهر أو العصر عن ركعتين وتكلم.قلتُ :لا إشكال على قول الأكثر الآتي ويدل له خبر البخاري إني أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني.
وأما على القول المذكور فيجاب عنه،بأن المنع من السهو معناه المنع من استدامته لا من ابتدائه، وبأن محله في القول مطلقا وفي الفعل اذا لم يترتب عليه حكمٌ شرعيٌّ، بدليل الخبر المذكور.لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لبيان الشرعيات.
ثم رأيتُ القاضي عياضاً ذكر حاصل ذلك ثم قال : " إن السهو في الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم غير مضاد للمعجزة، ولا قادح في التصديق."
والأكثر على جواز صدور الصغيرة عنهم سهوا الا الدالة على الخِسَّةِ كسرقة لقمة والتطفيف بتمرة، وينبهون عليها لو صدرت.أهـ
فهذا هو حاصل مذهب الأشاعرة والماتريدية.
ولا يلزم على هذا القول محال ولا استخفاف بنصوص الشرع كما قال هذا المدعي، ولا تأويل لما ورد منها، لأن من قال انها تدل على جواز صدور الذنوب والخطأ منهم، إنما يقول هذا بفهمه المردود المعارض لما قاله هؤلاء العلماء، مع عدم الانتباه لما قاله المشايخ.
وما دام قد تقرر مذهب أهل السنة كما مضى، فقد حددوا موقفهم وطرقتهم في فهم النصوص بناءا على الاستقراء والبرهان، فقال الامام السعد التفتازاني في ص191:
اذا تقرر هذه، فما نُقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره أن أمكنَ، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة. أهـ
وهذا ما أطلق عليه مصنف الكتاب متعلَّق هذا النقد بأنه تحريف قبيح، وكلامه هذا قبح منه يدل على سخف عقله وسماجة فكره.وبهذا نكون قد أتينا على ما أردنا ذكره في هذه التعليقة المختصرة. وأدعو الله تعالى أن ينفعنا بها والمسلمين.
([1][6] ) راجع كتابنا "الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية".
ولكل جهة من هذه الجهات صور عديدة متكاثرة لا تنحصر تحت عدد.
وقد اشتهر من بين الأدلة الكثيرة التي حققها أهل السنة عدد معين من الادلة، كدليل الحدوث المعلوم بصورته المعهودة، وهي الاستدلال على وجود الله تعالى وصفاته بإثبات أن العالم حادث، وهذا يتم بأشكال عديدة من القياس، ومن مقدمات متعددة متغايرة، ولكنها غير متضادة ولا متنافرة، وقد اشتهر من بين هذه الصور القياسية والمقدمات العديدة، تلك التي تنبني على تقسيم الموجودات إلى أعيان، وهي الأجسام وأجزاؤها الفردة، ومن الأعراض وهي كيفيات تقوم بالأعيان.
وهذا الدليل بمقدماته وتدرجاته المعلومة عند من له أدنى أطلاع، قد اشتهرت بين الناس العامة والخاصة، اشد الاشتهار، حتى توهم البعض انه لا يوجد دليل عند علماء الأشاعرة والماتريدية على وجود الله تعالى الا هذه الصور والمقدمات والقياسات.
وهذا التوهم إنما هو لعدم معرفتهم بما يقوله علماء أهل السنة المحققون الذين تتقاصر نفوس هؤلاء المعترضين عن أن تمس معاني أقوالهم. فتراهم دائما إنما يتعلقون بما يتوهمون من أقوالهم، وهو ليس كذلك.
وبناءا على هذه المقدمة المختصرة فيما يتعلق بهذه المسألة نقول، لقد شرع مؤلف الكتاب المذكور بالاعتراض على علماء الإسلام وهم من ذكرناهم لك، وعرفناك بهم، واتهمهم بأنهم لا يتبعون طريقة القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق، وهذا الكلام منه يستدعي الغاية من العجب.
فقد حض القرآن الكريم في أكثر موضع على النظر في الكون وفي النفس الإنسانية بأكثر من أسلوب وفي أكثر من آية، وكذلك حث علىالتفكر في الكون من حيث وجود الحكمة التامة فيه، فهذا يستدعي إثبات وجود الخالق، إلى غير ذلك من جوانب.
ونحن كما ذكرنا لك فإن أدلة المتكلمين وعلماء أهل الحق لا تتعدى هذه الصور والرسوم. بل هي في أكثرها مستنبطة بتفاصيلها من القرآن الكريم.
فكيف يجوز لهذا المدعي الآن أن يقول أن طريقتهم ليست هي طريقة القرآن ؟؟!
وماذا يعني هذا القائل بطريقة القرآن ؟ فلننظر فيما يقول..
قال في صفحة 33 عن منهج السلف في ذلك الذي ينسبه اليهم ويدعي أنه هو طريق القرآن " فقد استدلوا بالفطرة السليمة المضطرة بطبعها إلى الاقرار بوجود الله تعالى والاعتراف بالخالق " أهـ
ولنسأله عما يريده بالفطرة السليمة، هل يوجد فطرة غير سليمة ؟! وكيف تكون الفطرة غير السليمة موجودة، وقد ادعى أن الفطرة هي الخلقة التي خلق الله تعالى الناس عليها، وهي علوم ومعارف، فهل تكون هذه العلوم التي خلقها الله تعالى في الناس دلالة لهم إلى الحق غير سليمة ؟ ! وهل توجد إمكانية لتغيير الخلقة التي يخلقها الله تعالى لهدف معين على زعمهم، لتصبح غير سليمة، وبالتالي لا توجه الإنسان إلى ما هو مراد منه ؟!
إن هذا الكلام في غاية الاضطراب كما يظهر لك. والحق أن الفطرة ليست أمرا غير ما ذكرته لك في أول هذا الكتاب، وأن العلماء من أهل السنة لم يستخدموا في الاستدلال غير القوى التي منحها الله تعالى لهم، ليصلوا إلى الخالق.
وبهذا يتضح لك شدة فساد هذا المدعي هنا وأصحابه في كلامهم.
ونحن لا نقول أن كل الأدلة التي يوردها المتكلمون في كتبهم يستطيع أي إنسان أن يفهمها ويدقق فيها من أول نظرة، أو بجهد قليل. بل إننا نقول أن بعض الأدلة التي يوردونها تحتاج لعقل جامع وقلب ذكي وجهد عظيم، وهذه الامور لا تتوفر في كثير من الناس، وأيضا توجد بعض الادلة يسهل على عامة الناس أن يفهموها.
وهنا تكمن عبقرية علماء الكلام، فإنهم لاحظوا اختلاف درجات الناس في الفهم والذكاء، فوضعوا لكل طائفة منهم ما يناسبهم من الأدلة، فمن يريد التدقيق والتحقيق يجد ذلك ومن يريد الدليل العام الاجمالي والوعظ الكافي والحجة الخطابية فإنه يجده أيضا.
ولا ينبغي أن يعترض على هذا المنهج أحد من العقلاء.
فلا يجوز لأحد أن يقول أن الدليل يجب أن يكون واحدا لجميع الناس لأن من يقول هذا يخالف صريح العقل وواضح البيان.
ولهذا فإننا نقول أن منهج المتكلمين قد بلغ بهذا الوجه مرتبة عالية من الحكمة، بخلاف غيرهم ممن لا يطيق ذلك.
ب- التوحيد
- أقسام التوحيد
التوحيد والوحدانية عند أهل السنة يندرج تحتها مسائل، منها ما يتعلق بالذات، ومنها ما يتعلق بالمخلوقات في علاقتهم مع الذات الالهية.
فأما ما يتعلق بالذات، فيجب الاعتقاد أن الذات الالهية واحدة وحدة مطلقة من حيث هي ذات، متصفة بصفات جليلة، منزهة عن شوائب النقص، وعن الحدوث ومستلزماته وعن مشابهة الحوادث من حيث هي حادثة من أي وجه كان.
ويجب تنزيه الله تعالى والقول بوحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله لأن الله تعالى موجود وله صفات وله أفعال، فالوحدانية تتعلق بكل أمر من هذه الثلاثة.
فالوحدانية في الذات : كون الذات لا يشبهها شيء فلا يوجد ذات متصفة بالكمال المطلق غير ذات الله تعالى وأيضا فهي واحدة لا تتكون من أجزاء وليست مركبةلأن التركيب والأجزاء من سمات الحدوث.
والوحدانية في الصفات : كون الذات موصوفة ومتصفة بصفات الكمال المطلق وأن هذه الصفات لا تنسب الىغير الله كما تنسب اليه تعالى.
والوحدانية في الأفعال: كون الله تعالى متصفا بأنه فاعل خالق مختار اختيارا مطلقا، لا يمنعه شيء عما يريد، ولا بذلك الا هو تعالى. فلا يجوزأن ينسب معنى أفعال الله تعالى وهو الخلق والابداع إلى غيره.
فهذه كلمات مختصرة توضح المراد بالتوحيد والوحدانية عند اهل السنة.
وقد اتفق على هذه المعاني جميع المسلمين، ولكن قد جرى النزاع في أمور ادعاها البعض من غير أهل السنة فقال أن للتوحيد غير ما ذكرتم، وهى :
- التوحيد فى الربوبية.
- التوحيد فى الألوهية.
- التوحيد فى الأسماء والصفات.
وادعى أن تقسيم التوحيد بهذا الأسلوب وما عليه السلف، وهو موجود فى كتبهم قاطبة، وهذا ادعاء ليس عليه دليل بل هو باطل بالاستقراء نفسه الذى يدعيه هو دليلا عليه.
وحقيقة هذه المسألة وهى تقسيم التوحيد قد تكلمنا عليها فى أكثر من موضع مما كتبناه، وذكرها العديد من العلماء، فالكلام فيها مشهور وتلخيص الكلام :
أن هذا التقسيم أن كان المراد به هو التسهيل على الأفهام التوضيح والتدريس لعامة الناس وطلاب العلم، فقد يتسامح فيه بشرط عدم حصر الأقسام بما ذكروا، وهذا إذا خلا عن الغلط فى تقسيم المعانى، ولكن الحال غير هذا، فقد بينا نحن أن معانى هذا التقسيم المذكور ليست بمستقيمة ولا تامة وفيها تلفيق وذكرنا أنها وضعت أصلا كتقسيم فى القرن الثامن الهجرى من قبل بعض المجسمة أراد بها الرد على ما ذكره أهل السنة من كلام فى هذا الباب. ولم يكن همه استقراء المعانى الشرعية وتحقيقها ثم ذكر خلاصة ما بان له وظهر فى المسألة.
وحتى لو سلمنا لهم هذا التقسيم المذكور، فلم يصرون على أنه هو الذى اختاره السلف - أى الصحابة والتابعون والتابعون - وردوا غيره، فى حين أننا نعلم وهم يعلمون أنه لم يظهر هذا التقسيم إلى حيز الوجود إلا فى القرن الثامن الهجرى على يد شيخهم ابن تيمية ؟
وكل ما ورد من عبارات على لسان المتقدمين فإنما هو إشارات وبيان لمعانى الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وردت متناثرة ولم يريدوا بها حقيقة التقسيم حتى جاء هؤلاء المدعون، وصاروا يتوهمون أن كل إنسان تلفظ بكلمة الألوهية أو الربوبية فقد أراد بها ذكر قسم من أقسام التوحيد.ثم هم قالوا بناء على هذا التقسيم أن توحيد الربوبية ليس كاف فى الدخول فى الإيمان والإسلام، وأن المشركين كانوا موحدين توحيد الربوبية، وهذا الكلام فى غاية البطلان لما ورد فى نصوص القرآن من أن النصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولما ورد فيه من أن مشركى العرب كانوا يعبدون غير الله معتقدين انه ينفعهم ويضرهم. كما ذكرنا هذا بتفصيل فى محل آخر.
ثم زادوا على ذلك بأن قالوا أن سائر الأشاعرة والماتريدية لم يحققوا من أقسام التوحيد إلا توحيد الربوبية، فساووا بينهم وبين المشركين ؟؟! وتناسوا أن الغالبية العظمى من علماء الدين هم أشاعرة وماتريدية، أبدعوا فى سائر العلوم وسيبقى هذا من مفاخرهم وشوكة فى عيون هؤلاء المجسمة عديمى التحصيل.
وهؤلاء لا ينكرون أن أغلب العلماء من المسلمين والعامة هم أشاعرة وماتريدية وذلك على طول القرون إلى هذه الأيام. ولكنهم يكابرون ويقولون لا يضرنا مخالفة الأكثرين حتى وإن كانوا من اعلم علماء المسلمين.
وعجبا لهم مع أن من برز اسمه منهم وجاز له أن يتكلم مع اعوجاج رأيه وسقم تفكيره لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين، الا انهم يرون انفسهم قد حازوا علوم المتقدمين والمتأخرين ؟! وما هذا الا غاية في الضلال والجهل.
وهؤلاء أدخلوا قضايا التجسيم في صفات الله تعالى، فقالوا له حد من جميع الجهات، وهو في جهة وفي مكان سموه عدميا، وبعضهم وجوديا، ونسبوا إلى الله تعالى الحركة والانتقال من محل إلى محل، والقول بأن الحوادث تقوم بذات الله تعالى، وأن التغير يطرأ عليه، جل شأنه، إلى غير ذلك من القضايا الفاسدة، كنسبة العين واليدين اليه تعالى مع عدم نفي كونهما أعضاءا، بل هم يعتقدون كونها أعضاءا وأجزاء لله تعالى عن ذلك، ونسبوا اليه تعالى الاستقرار والجلوس على العرش([1][6]).
أدخلوا كل هذه المفاسد في قسم الاسماء والصفات، واعتبروه قسما من أقسام التوحيد. وصاروا يبدعون كل من خالفهم فيه معتبرين أنفسهم أهل الحق والتحقيق، واستصغروا سائر علماء الأمة ونسبوا اليم الضلال، ولم يحكموا بالجنة الا لمن سار على دربهم الفاسد هذا.
- أول واجب على المكلف
اشتهر عند أهل السنة أن أول واجب هو معرفة الله تعالى، وأنه لا يشترط لصحة المعرفة كونها عن دليل ونظر، ولكن هذا زيادة في الكمال. وذكروا أن الإنسان لكي ينال ثواب كلمة الشهادة لا بد أن يكون عارفا بمعناها وان من قالها من دون فهم معناها ودون تصديق واعتقاد لها فلا تفيده شيئا.
وقرروا أن الإنسان لا يمكن أن يُعرَفَ دخوله في الدين شرعا الا بأن ينطق بكلمة التوحيد. ولهذا قالوا أن نطق المكلف بالشهادتين هو شرط لإجراء أحكام الإسلام عليه. وهذا الكلام في غاية التحقيق.
وأما الكلام الذي ذكره المؤلف المذكور فهو يدل على جهله التام بما في كتب القوم، وليس هو الا ثرثرة زائدة.
فلا يستطيع أحد أن يخالف ويقول أن النظر في حقيقة الدين ليس واجبا وان الأخذبالأدلة غير واجب، بل هما واجبان، ولكن إيمان المقلد صحيح مثاب عليه مع تقصيره في النظروالبحث.
ولم يقل أحد من الأشاعرة والماتريدية أن الكافر لا يجب عليه أول ما يجب لكي يعصم دمه أن ينطق بكلمة التوحيد.ولكن الخلاف وموضع الكلام عندهم أنها لا تكفيه عند الله تعالى الا أن كانت معانيها عنده صحيحة معتقدا بها مستقرا إلى هذا الاعتقاد.
والتطويل في هذا الموضوع زيادة على ما ذكر لا يفيد.
جـ - الصفات
أما الصفات والخلاف فيها، فتلخيصه أن الأشاعرة والماتريدية ينفون عن الله تعالى صفات الحوادث والأجسام كالحد والمقدار والحركة والحيز والجهة والتركيب والاجزاء والانفعال والتأثر بالغير، وهؤلاء الذين يخالفونهم يثبتون كل ذلك.
وليس الخلاف حول صفة ثبتت أصلا لله تعالى.
فلو نفى هؤلاء المجسمة ما أشرنا اليه، لبطل الخلاف وانمحى.
ولا تتوهم أن الخلاف هو في أنه هل يوجد لله يد ووجه أم لا، فكثير من الأشاعرة قالوا لله وجه، ولكن الخلاف هو هل هذا الوجه هو من قبيل الأعضاء والاجزاء ام لا ؟؟؟
فكل الأشاعرة نفوا ذلك، وكل المجسمة ممن خالفوهم لم ينفوه.
وكذلك في اليد وغيرها.
واما الاستواء فقالت المجسمة هو الجلوس والحلول والاستقرارعلى العرش والكون في مكان.
وعند الاشاعرة : لا ضرر في إثبات الاستواء لله تعالى بل يجب اثباته ولكن لا على سبيل الكون في مكان والجلوس كما تقول المجسمة.
هذا هو أصل الكلام، وكل ما سواه فهو تهويل لا يراد به وجه الله تعالى.
فما دام الامر كذلك، فمن هو أقرب إلى الصواب، الذي ينزه اله تعالى عن مشابهة الحوادث أم من يقول بذلك ؟!
وأما قولهم أن الأشاعرة لا يثبتون الا سبعة صفات أو ثمانية أو غير ذلك من الاعداد، فما هو الا كذب عليهم، لأنهم كلهم أجمعوا على أن كمالات الله تعالى التي هي صفاته لا يدرك حدها لأنه لا حد لها، فلا نهاية لكمالاته تعالى، واما العدد المذكور في كتب التوحيد فليس هو حصرا لصفات الله تعالى، بل هو توضيح وتعليم لعامة الناس أقل ما يجب عليهم أن يعلموه لكي يصح إيمانهم ويستقيم إسلامهم، وإلا فإن الله تعالى لم يكلفنا بمعرفة جميع صفاته وأسمائه، لأن ذلك من تكليف ما لا يطاق.
د- الإيمان
لما نظر أهل السنة في هذه المسألة وسبروا جوانبها وحققوا نواحيها وجدوا أن الحاصل ثبوت ثلاثة معاني :
الأول : التصديق القلبي وهو مع الإقرار والإذعان.
الثاني : التلفظ باللسان بكلمة الشهادة.
الثالث : العمل بالأوامر الشرعية، كالكف عن شرب الخمر وأداء الصلاة.
ووجدوا الشرع لا يحكم بكفر من شرب الخمر ولا من ترك أيَّ أمر من أوامر الشريعة، إلا أن يكون مستخفا مستهينا او معاندا.
علموا أن العمل ليس داخلا في ماهية الإيمان الذي يتم بناء عليه عدم الخلود في لنار.
ووجدوا عدم دخول الأعمال في ماهية وحقيقة الإيمان واضحا، فلم يحصل خلاف بينهم فيها.
أما التلفظ فلما رأوا أن الشارع حكم بايمان الأخرس وإن لم يتلفظ لأنه لا يستطيع، ووجدوا العديد من الآيات تدل على أن الإيمان المذكور أصله في القلب أيضا.
ثم لما لاحظوا أن الشارع رتب الحكم على الإنسان بالكفر أو عدمه بكونه قائلا بكلمة التوحيد أو لا، قالوا أن التلفظ هوشرط لإجراء أحكام المؤمنين عليه،لأننا لا يمكن أن نعرف المؤمن من غيره الا إذا قال أو فعل فعلا يدل على ذلك. وأقرب الأمور الدالة على ذلك هي القول والتلفظ بكلمة التوحيد.
واما التصديق القلبي مع الاذعان المذكور فلا خلاف بين المسلمين أنه داخل في حقيقة الإيمان المعتبر شرعا في الحكم بنجاة الإنسان والمكلف من الخلود في النار وإن دخلها لمعصية فعلها.
فهذا هو ما عليه المحققون وجمهور العلماء، وهو التحقيق في هذه المسألة.
ونقل الخلاف عن ابي حنيفة، أنه اعتبر التلفظ جزءا من حقيقة الإيمان، ويكاد الخلاف يكون لفظيا بين هذا القول وبين ما قال به الجمهور من المحققين.
أما الأعمال، فقد بالغ الحشوية المجسمة في القول بأنها تدخل في صميم الإيمان، ومع ذلك لم يحكموا بالكفر على كل من ترك عملا، وهو تناقض صريح.
وسبب غلطهم أنهم لم يفرقوا بين أنه يطلق على الأعمال أنها إيمان، وبين كونها هي الإيمان أو جزءا من الإيمان أصل المسألة.
فلا شك أنه يطلق على الأعمال شرعا ولغة أنها إيمان، وكذلك على الأقوال، كما يطلق على التصديقات، وكل إطلاق من حيثية معينة.
ولكن الخلاف أصلا،بل أصل المسألة هي ما هو أقل قدر يجب علىالمكلف أن يحققه، لكي ينجو من الخلود من النار.
هذا هو أصل المسألة، وليست المسألة هي هل يطلق على الأعمال ايمان أو لا يطلق.
واما كلام المؤلف في هذا المبحث، فهو كلام غير مستقيم ولا يفيد وليس فيه جنس التحقيق.
وكل ما يمكن أن يقال بناءا على غير هذا الأصل، فهو كلام لا يلتفت اليه.
هـ- النبوات، مبحث العصمة
لخص شيخ الإسلام زكريا الانصاري مسألة عصمة الأنبياء في كتاب غاية الوصول، تلخيصَ تحقيق كما هو المعهود منه فقال في ص91:
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون، حتى عن صغيرةٍ سهوا فلا يصدر عنهم ذنبٌ،لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدا ولا سهوا. فإنْ قلتَ : يُشكِلُ بأنه صلى الله عليه وسلم سها في صلاته حيث نسي فصلى الظهر خمسا وسلم في الظهر أو العصر عن ركعتين وتكلم.قلتُ :لا إشكال على قول الأكثر الآتي ويدل له خبر البخاري إني أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني.
وأما على القول المذكور فيجاب عنه،بأن المنع من السهو معناه المنع من استدامته لا من ابتدائه، وبأن محله في القول مطلقا وفي الفعل اذا لم يترتب عليه حكمٌ شرعيٌّ، بدليل الخبر المذكور.لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لبيان الشرعيات.
ثم رأيتُ القاضي عياضاً ذكر حاصل ذلك ثم قال : " إن السهو في الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم غير مضاد للمعجزة، ولا قادح في التصديق."
والأكثر على جواز صدور الصغيرة عنهم سهوا الا الدالة على الخِسَّةِ كسرقة لقمة والتطفيف بتمرة، وينبهون عليها لو صدرت.أهـ
فهذا هو حاصل مذهب الأشاعرة والماتريدية.
ولا يلزم على هذا القول محال ولا استخفاف بنصوص الشرع كما قال هذا المدعي، ولا تأويل لما ورد منها، لأن من قال انها تدل على جواز صدور الذنوب والخطأ منهم، إنما يقول هذا بفهمه المردود المعارض لما قاله هؤلاء العلماء، مع عدم الانتباه لما قاله المشايخ.
وما دام قد تقرر مذهب أهل السنة كما مضى، فقد حددوا موقفهم وطرقتهم في فهم النصوص بناءا على الاستقراء والبرهان، فقال الامام السعد التفتازاني في ص191:
اذا تقرر هذه، فما نُقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره أن أمكنَ، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة. أهـ
وهذا ما أطلق عليه مصنف الكتاب متعلَّق هذا النقد بأنه تحريف قبيح، وكلامه هذا قبح منه يدل على سخف عقله وسماجة فكره.وبهذا نكون قد أتينا على ما أردنا ذكره في هذه التعليقة المختصرة. وأدعو الله تعالى أن ينفعنا بها والمسلمين.
([1][6] ) راجع كتابنا "الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية".