أسم الكتاب: النقد والتقويم لمنتقد عقائد الماتريدية
اسم المؤلف: سعيد عبد اللطيف فودة
المذهب الفقهي: شافعي
عدد الأجزاء: 1
التصنيف: عقيدة علم الكلام
الشروع في نقد ما في هذا الكتاب
أولا : كلام عن الفطرة
في صفحة (5) يقول : ولو أن الناس تُرِكوا دونما مؤثرات خارجية، لنشأوا كلهم على الإسلام، إذ هو الفطرة الصحيحة. أهـ.
ثم قال في صفحة (6) : فالإنسان ليس بحاجة إلى قواعد علىالكلام والى استدلالات الفلاسفة والنظار وغيرهم حتى يتوصل إلى الاقرار بوجود الله تعالى، فإن هذا لشيء جبلت عليه النفوس وفطرت عليه العقول. أهـ.
يريد بهذا الكلام أن يكرر ما هو معهود ممن هو مثله من أنه لا حاجة للناس إلى الاستدلال ولا حاجة لهم إلى علم الكلام، ويلجأ هو وأمثاله في بيان عدم الحاجة إلى القول بأن وجود الله تعالى أمر فطري مفطور عليه الإنسان، بل يقولون أن كل العقائد هي مفطورة في الإنسان ولذلك تراهم يستدلون على عقائدهم بالفطرة ؟!
ولذلك تراهم يُرجعون إلى الفطرة جميع عقائدهم، عقائد التشبيه والتجسيم من كون الله تعالى في جهة وأنه يتحرك وأن له حيزا إلى غير ذلك، ويدعون أن كل ذلك معلوم بالفطرة.
ويستدلون عادة بقوله تعالى " فطرة الله التي فطر الناس عليها"، وبقول الرسول عليه الصلاة والسلام " ما من مولود الا يولد على الفطرة، أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه... "، ولا يذكرون تكملة الحديث كما سنذكرها لأنها تنقض عليهم ما يريدون إثباته.
ويوردون الحديث القدسي " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وانهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم."، كما فعل كاتب هذا الكتاب.
ونحن سوف نناقش هذه الجهات باختصار بما يكفي اللبيب والعامي.
فأما معنى الفطرة ؛ فقد قال ابن فارس في المقاييس : فَطَرَ : الفاء والراء أصل صحيح يدل على فتح الشيء وإبرازه.
ثم قال : والفطرة : الخِلقةُ.أهـ
وذكر الراغب الأصفهاني هذا المعنى في المفردات، ثم قال: وفطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه الفطرة، وفطر الله الخلق، وهو ايجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعلٍ من الأفعال.أهـ
فالفطرة في اللغة معناها : الخِلقةُ على هيئة معينة.
وهذا المعنى اللغوي هو أصل المعنى المراد في الحديث والآية، فالله تعالى خلق الناس على هيئة معينة، وأودع فيهم من القوى ما لو استعملوها استعمالا صحيحا سليما لأدى بهم هذا الاستعمال إلى الدين الحق الذي هو الإسلام. ولهذا قال الاصفهاني : " وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان."أهـ
فهي إذن القوة المودعة - بلا تأثير خَلقيٍّ للعبد - من الله تعالى هبة وتفضلا، يخلق الله عند استعمالها استعمالا صحيحا نتائجها من العلم بالله تعالى وبدينه الحق وغير ذلك.
وقد أوردت نصوصا كافية في هذا المعنى في بحثي المختصر في معنى الفطرة ([1][1]).
وأما الحديث الذي ذكره هذا المؤلف ويذكره معه أصحابه. فلطالما تمنيت أن يشير أحدهم إلى الرواية الكاملة له ويذكرها، ويفسره تفسيرا صحيحا بملاحظة جميعه لا بملاحظة بعضه كما ذكره هنا، ولكن إلى هذا الزمان لم أجد أحدا منهم يورده كاملا، وما ذاك الا لأنهم يعلمون أن آخر الحديث يرد على ما يريدون هم اثباته بما يذكرونه منه ويقتصرون عليه.
وقد ذكرنا نحن هذا الحديث كاملا في بحث الفطرة المذكور، وأشرنا إلى أقوال العلماء فيه، ونكتفي هنا بذكر ما تقوم به الحجة، ففي نهاية الحديث كما في بعض الروايات الصحيحة التي رواها الامام مسلم وغيره كالبيهقي، وذكرها الامام السيوطي في الجامع الصغير.. يقول الرسول الكريم بعد قوله " يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، "فإن كانا مسلمين فمسلم". هذه الزيادة التي لم أرَ أحدا من اصحاب هذا المؤلف المشار اليه يذكرها، وهي تنص صراحة على أن الطفل كما يتأثر بوالديه ويلحق بهم في الحكم أن كانا نصرانيين أو يهوديين أو مجوسيين، فكذلك يتأثر بهما ويلحق بهما في الحكم أن كانا مسلمين، وهذا يدل على أن الطفل في الأصل لا يقال له مسلم أو كافر، ولكن الحكم عليه بالكفر أو الإيمان أي الإسلام، إنما هو حكم تبعي إلحاقيٌّ لا أصلي، أي أن حاله يلحق بحال والديه أو الدار التي وجد فيها أو غير ذلك، مما هو مذكور في كتب الفقه([2][2]).
وعندي أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى استدلال فإن ما يدَّعونَ أنه مفطور في الناس من العلم بوجود الله تعالى وصفاته، لا يشعر به أحد منهم ولا من غيرهم في أنفسهم عندما كانوا أطفالا، وكذلك لا يشعرون به في الأطفال الذين نراهم ويرونهم، وإنما يثبت هذه العلوم من يثبتها ويتوهم وجودها في الفطرة عندما يخلق الإنسان ويخرج من بطن أمه لفرط تعصبه وضيق عقله. وأما ما قد يرونه من بعض الناس عندما يقولون بما يقول به هؤلاء من عقائد وأقاويل، فإنما هو أثرٌ لتقليده غيرَه، فلا أحد من الصغار ولا الكبار من توجد معه هذه العقائد بل ولا غيرها من العلوم عندما يخرج من بطن أمه.
لأن الإنسان يخرج إلى هذا العالم عاريا عن أي علم، وقابلا لأن يتعلم كما هو مذكور في نص الآية التي سنذكرها.
وأيضا فهذه الأمور المفطورة كما يدعي هؤلاء في الناس منذ خلقهم ! هي لا شك علومٌ توجد معهم منذ الخلقة والولادة على ما يدعيه هؤلاء !
وهذا باطل، كيف يكون صحيحا والله تعالى يقول في كتابه العظيم "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا". فأنت ترى الآية قد نفت وجود أي علم، والنفي المسلط على النكرة يفيد العموم كما تعلم، فهذا يستلزم عدم وجود أي علم في الإنسان حين ولادته. وهذا نص صريح على عدم وجود أي نوع من انواع العلوم في فطرة الإنسان، بل كل ما فيه من هذا الجانب إنما هي قوى قادرة على الوصول إلى العلوم والادراكات.
وقد ناظَرْتُ احدَهم في هذا بعد أن ادعى نفس الادعاء المذكور فقلت له : هل هذه الامور التي تدعيها هي مخلوقة مع الإنسان منذ الولادة ؟
فقال : نعم.
قلت : هل هي علوم معينة بما تدعيه من وجود الله تعالى وغير ذلك؟
قال : نعم.
قلت، فأنت تقول بأن الإنسان يُخلق معه علومٌ وهو خارج من بطن أمه ؟!
قال : نعم !
قلت : فهذه مخالفة صريحة لنص الآية " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ".
فسكت، وبُـهر، واعترف بالغلط.
فقلت له : فالفطرة المذكورة لا يمكن أن تكون من جنس العلوم بنص الآية، فلزم أن تكون من قبيل الشروط أو الاسباب للعلوم، والقابلية.
وهذا هو ما نص عليه المحققون من العلماء المتقدمين والمتأخرين.
وهذه الفطرة من شأنها أن تكون مائلة إلى الدين، بالقوة، لا بالفعل([3][3]). وهذا هو معنى قوله تعالى " حنيفا مسلما "، فالأصل أن يكون الوصف مقيدا، لا كاشفا لأن هذا هو المستلزم لزيادة الفائدة، لا مجرد تأكيدها، خاصة في حال عدم وجود منكر، فالكل يعلم أن إبراهيم كان حنيفا، فالزيادة بالوف هنا يفيد التقييد، لا مجرد الكشف، والتقييد نوع من التخصيص، فالحنيفية أعم إذن من الإسلام، والأعم لا يساوي الأخص كما هو واضح، فالناتج إذن أن الحنيفية ليست هتي عين الإسلام، والحنيفية هي الفطرة، فلو كانت الحنيفية هي نفس الإسلام لما جاز وصفها به. ولكنها تستلزمه، فوصفت به،والإسلام غيرها، ولكنه لازم عنها، وغير متعارض معها.
وظاهر كلام المؤلف المذكور، أن الفطرة هي علوم توجد مع الإنسان، وظاهرٌ أن هذا باطل.
فإن قصد أن الفطرة هي القابلية والتأهل لالتزام الدين والأخذ به، فلا نخالفه في ذلك، وليس ذلك ما يقصده. ولكن نخالفه أنها هي فقط كافية مطلقا للدلالة إلى الدين، بل نقول إنه يلزمها قواعد عقلية أو وجدانية قلبية، وهي تكون منبعثة عنها بالارادة الإنسانية الجازمة المتوجهة نحو اقتناص العلوم والمعارف، وتكون مقوية حارسة للفطرة.
وبهذا يثبت أن البحث والنظر لازم لا يمكن أن ينفك الإنسان عنه، وهو المقصود بكلام الأعرابي الذي سئل عن كيفية معرفته لله تعالى، فاستدل لهم بالكون وعظمته وظهور الحكمة فيه. وقد ذكر المؤلف هذه القصة، وهي دليل عليه لا له.
وبهذا نكون قد أشرنا إلى نقاطٍ كافية ترشد الطالب إلى الحق في هذه المسألة.
ثانياً :إشاعات تراجع الأشاعرة
وأما ما ذكره بعد ذلك من كلام حول تراجع بعض العلماء عن علم الكلام، وشكهم وترددهم في حياتهم !!
فهذا كلام باطل وقد أشبعنا الكلام عليه في أكثر من موضع، وقد أفردت لكل واحد من العلماء الذين نسب اليهم هذا الأمر مقالا ورسالة توضح حالهم وتهافت ما نسب اليهم، ومقاصد من نسب اليهم ذلك. فلتراجع.
ثالثاً : الموقف من علم الكلام
لما لم تكن المعارف والعلوم مخلوقة في الإنسان منذ الولادة، وكانت العلوم الدينية هي أكثر العلوم فائدة للإنسان، ولا يتم صلاح الإنسان الا بها، فقد لزم ضرورة أن يوجد علم يبني الأدلة القاطعة على هذه العلوم، ويرد الشبهات والتشكيكات التي يوردها الملحدون ومنكرو الاديان والمبتدعة المنحرفون عن النهج الصحيح، ولا يستطيع أي إنسان أن يدعي أن الفطرة تكفي في كل ذلك،فإن هذا يدل بكلامه على عمق جهله، وهذا يكفي في سقوط الكلام معه.
ولو كان الأمر كذلك، لما تكاثرت الآيات في القرآن الكريم التي تحض الناس على الالتفات إلى دقيق صنع الله تعالى والى التفكر في السموات والأرض، والى الإشارات البليغة في مناقشة الكفار واليهود والنصارى وغيرهم.
والعلم الذي يؤدي هذه الوظيفة في الدين الإسلامي، وعند المسلمين هو العلم المسمى بعلم الكلام أو علم التوحيد أو علم أصول الدين أو غير ذلك من الأسماء.
ولا يستطيع أحد أن ينكر إنكارا صحيحا وجه الحاجة إلى مثل هذا العلم الجليل.
وقد يتم النقاش والجدال حول أحد الأدلة أو بعضها المستخدمة في هذا العلم والواردة في بعض الكتب فيه، أو بعض الآراء التي قال بها بعض العلماء في هذا العلم. ولكن أن يتم القدح في أصل الحاجة إلى هذا العلم فهذا هو الأمر الغريب الذي لا يقول به الا كل جاهل.
وأن نخالف بعض العلماء في بعض ما قالوا، فهذا لا شيء فيه، وإنما هو من باب الاجتهاد، لأن الإنسان يخطئ ويصيب، ولكن لا شك في وجود قواعد راسخة يشترك فيها المسلمون جميعا لا يمكن لأحد أن يخدشها.
ولا أشك أن صاحبنا هنا، الذي يقدح في علم الكلام لا يدري من مباحثه شيئا، ولا يعرف الا كلمات التقطها من هنا ومن هناك. والجاهل بالشيء هو أول من يعاديه، لأنه يتصور كل المفاسد فيه !
ويجب أن يكون معلوما أنه لم يوجب أحد من العلماء المعتبرين على عوام الناس أن يعرفوا الله تعالى على طريقة المتكلمين ونصوصهم صريحة منتشرة في هذا الأمر في كتبهم، بل الواجب عليهم أي على العوام هو معرفة الله تعالى من غير تحديدٍ لوجه الدليل شرط أن يكون صحيحا ولو إجمالياً،كقول الأعرابي " البعرة تدل على البعير والسير يدل على أثر المسير، أسَماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير ".
وقد نص العلماء في كتبهم علىأن مثل هذا الاستدلال الاجمالي كاف في هذا الباب، وكذا في باقي المسائل في علم التوحيد.
رابعاً :إشارة إلى خدمات المتكلمين للدين
هناك عبارات يكثر بعض الناس من تردادها، وهي أن المتكلمين اتبعوا الفلاسفة، وأنهم قلدوهم في العلوم. ولعمري أن هذه تهمة عظيمة تدل على جهل عظيم بالفلسفة وعلى الكلام !
فإن أول الناس الذين بينوا عوار الفاسد من المذاهب الفلسفية هم أصحاب علم الكلام، وإن الذين وقفوا في وجه الملحدين من فلاسفة الشرق والغرب وكل من ادعى الحكمة وخالف أمرا من أمور الدين، هم المتكلمون.
وكتبهم دليل على ذلك.
وقد شهد القاصي والداني أن علم الفلسفة قد اندحرت جيوشه في الشرق بأثرٍ من هجوم المتكلمين عليهم.
وأحل المتكلمون نظريات خاصة بهم وأدلة سديدة استندوا في اكثرها إلى ما فهموه من النصوص الشرعية، خصوصا في مجال الالهيات.
وأما المنطق وعلم المقولات ومناهج الاستدلال وطرق التفكير الصحيح فلا تسل عن مقدار وجلالة الخدمات التي قدمها المتكلمون، حتى صارت نظرياتهم وآراؤهم هي الأساس الذي استند اليه الغربين في إقامة دعائم العلوم التجريبية الحديثة، وهذا لا ينكره أحد عنده شيء من العلم.
وأما النظرة في حقيقة الوجود، فبالله أسألُ هذا المدعي أن يدلنا على شيء ساير فيه المتكلمون أهل الفلسفة في ذلك ؟ الا أن يكون أمرا صحيحا لا يجوز عقلا ولا شرعا إنكاره، وإلا فإن الأصول الباطلة التي بنى عليها الفلاسفة أو لنقل بعضُهم أقوالَهم، قد ردها المتكلمون من الملة الحنيفية.
خامساً : حول التأويل والظاهر
عندما يقول أهل السنة وأهل الحق وهم الأشاعرة والماتريدية، أن بعض الناس مجسمة، فهذا لا يعني على الاطلاق أن النصوص التي اعتمد عليها هؤلاء ظانِّين أنها تؤيد ما يقولون، هي الموحية لهم بأفكار التجسيم.
ولذلك فإنهم عندما يردون عليهم ويفندون أقوالهم ويبطلون آراءهم، فهم لا يردون على القرآن والسنة كما يدعي هؤلاء المجسمة.
ولكنهم إنما يبطلون ما فهمه هؤلاء المجسمة من الكتاب والسنة ويبينون أن هذه الأفهام ليست مأخوذة من الكتاب والسنة، وأن ما يدعي هؤلاء أنه ظاهر النصوص الشرعية، فإنما هو ما ظهر لعقولهم أي لنفوسهم. ونقول أن هذا المعنى الباطل قد ظهر لنفوسهم ولم يظهر لنا، فلا بد أن يكونوا قد اتبعوا أساليب في الفهم تخالف ما اتبعناه، وإلا لو كان الظهور لمجرد الفطرة لكانت فطرتهم تستلزم التسيم وفطرتنا تستلزم التنزيه لنفس الفطرة، ومعلوم بطلان ذلك، إذن الوسائل التي اتبعوها في الفهم هي التي أدت بهم إلى فهم واستظهار هذا المعنى المؤدي إلى اعتبار الله تعالى جسما ومحدودا، ونسبوا فهمهم هذا إلى النصوص الشرعية، وهذا باطل، فلو كانت النصوص الشرعية تستلزم لذاتها هذا المعنى، لفهمه كل واحد ممن نظر فيها، وليس الأمر كذلك. ولذلك نص العلماء على أن معاني الجسمية ظهرت لأوهام المجسمة، فنسبوها إلى النصوص الشرعية، فتراهم بعد ذلك يتهمون كل من ينفي الجسمية والحد عن الله تعالى بمخالفة النصوص، وهو إنما يخالف ما نسبوه هم إلى النصوص الشرعية، ولا يسلم لهم بذلك. فنحن نُبطل أن تكون نفوسهم قد اتبعت الطرق السليمة في التفكير وفي فهم النصوص. وإلا لما امكن لهم أن يصلوا إلى مثل هذه الآراء الباطلة من القول بالحد والجسمية والأعضاء والحركة والجلوس وحلول الحوادث في الذات الإلهية، وغير ذلك من الآراء الباطلة. وذلك لأن الإنسان العاقل لا يصل إلى الآراء الباطلة.
وأهل الحق في نفس الوقت يقولون أن من يرد ما ثبت بالنص أو بالقطع أنه من الشرع فهو كافر. ولذلك لا يجوز أن ينسب اليهم أحد أنهم يخالفون النصوص أو يردون الأحاديث بعد أن علموا أنها ثابتة.
وأهل الحق لا ينسبون إلى احد من المخالفين من أهل الإسلام أنه يرد ما علم كونه من الدين بالضرورة، أقصد أهل الإسلام المعتبرين. ولذلك فلهم في تكفير الفرق أقوال، أرجحها عند الجمهور منهم عدم التكفير إلا بما وضحوه من مقاييس ذكروها في كتب الفقه وأصول الدين.
ونحن نرى في نفس الوقت أن المجسمة من المنتسبين إلى الإسلام يدعون أن الأشاعرة والماتريدية وهم أهل السنة علىالحقيقة، يخالفون الثابت من النصوص بالعقل، ويردون النصوص وسائر النقول اذا خالفت ما يقولون به هم، فيصورونهم كالملحدة والكفار الذين لا يعتدون بالنصوص الدينية، والأمر بخلاف هذا قطعا. وهؤلاء يكذبون على أهل الحق كعادتهم في كثير من كتبهم.
وسوف تتضح لك بعض الأمثلة على ما نقول هنا فيما يلي إن شاء الله تعالى.
سادساً :أهل السنة والمجسمة
يقول هذا المؤلف في صفحة 9 :"وقد هالني ادعاء بعضهم أن أهل السنة والجماعة هم الأشعرية والماتريدية، ورموا السلف بالتجسيم والتشبيه".
كذا قال، وكونه قد استغرب لماّ سمع هذا الكلام، يدل استغرابه هذا على مدى الجهل الذي هو واقع فيه بحيث يدفعه إلى الاستغراب من أمر أصبح مشورا في كتب عامة اهل العلم. وهذا ينبئك على مقدار وضحالة المعلومات التي يملكها هذا المستغرب في هذا الموضوع الذي يتصدى للكتابة فيه.
ولنا على كلامه بعد ذلك ملاحظات.
أما أن البعض ؟! هم من ادعى أن الأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة فهذا باطل، فمن ادعى ذلك ليس البعض فقط، بل هم جماهير أهل السنة، وجماهير العلماء من المسلمين على الاطلاق.
ونحن هنا لا نريد أن نعدد أسماء كبار العلماء من الأشاعرة أو ممن يوافقونهم في العقائد، فإن هذا الأمر أشهر من أن يذكر هنا، بل أن أغلب الفحول والعلماء من أهل الإسلام لا يخالفون الأشاعرة الا في بعض المسائل التي ينتمي معظمها إلى فروع الدين لا إلى أصوله. وهذا يعلمه من عنده أدنى إنصاف ويقول به. واما عند من اصبح الدين كله عنده أصولا، حتى سحب هذه الأصولية على ما قال به هو من الأقوال التافهة فإنه لا يدري ما هو المقصود من الأصول والفروع.
ويكفي لمعرفة ما قلناه الرجوع إلى كتب طبقات العلماء وتراجمهم من المتقدمين والمتأخرين كمثل ما قاله ابن السبكي وابن عساكر وابن حجر والسخاوي والقاضي عياض وطاش كبرى زاده ونجم الدين الغزي وغيرهم كثير.
أما ما ادعاه من أن أهل الحق رموا السلف بالتجسيم، فقوله هذا تلبيس، فإن كلمة السلف إذا أطلقت أريد بها أهل القرون الثلاثة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فهل يوجد أحد من الأشاعرة أو الماتريدية رمى هؤلاء بالتجسيم ؟؟!
إذا لم يوجد وهو لا يوجد ولن يوجد، فكيف أجاز هذا الرجل لنفسه إطلاق مثل هذا القول، إلا لأنه متعصب مشتد في غلوِّهِ !
وإذا قصد أنهم قالوا أن طائفة ممن وجد في زمان السلف الصالح هم مجسمة، فهذا صحيح، وهو لا يقصد هذا المعنى. فقد وجد فيهم الخوارج ومن قال بنبوة الامام على ابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، بل منهم من قال بألوهيته، رضي الله عنه،ووجد المعتزلة في زمان السلف، ولا يستطيع أن ينكر هذا منكر، كما وجد الجهمية والجعدية وغيرهم ممن عرفنا عنهم الضلال في زمان السلف الصالح.
والحق أن الأشاعرة والماتريدية إنما رموا بعض من ادعى التمسك بظواهر النصوص من القرآن والسنة، وهو على ما هو عليه من شدة الجهل والمكابرة مع عدم الانصاف، رموا هذه الطائفة بالتجسيم، وكلامهم صحيح في نسبة هؤلاء إلى التجسيم.
ويحاول المجسمة في كل زمان ومكان التمسح بنصوص الكتاب والسنة وإلصاق المعاني الباطلة بهما إلصاقاً بلا دليل، وإظهار التقوى والورع واللين وحسن الأخلاق، وهم عارون عن ذلك كله. وأشهر دليل على ذلك ما نراه ممن ينتسب إلى السلفية في زماننا هذا، وهم أتباع وفروع الكرامية والمجسمة ممن انتسبوا إلى الإمام أحمد وهو منهم براء.
والحق أن الأشاعرة والماتريدية هم المدافعون عن عقيدة أهل السنة والجماعة على مر التاريخ والأزمان إلى هذا الزمان، ولا يجهل هذا الا من لا اعتبار له أو حاقد متعصب مُغَرَّرٌ به.
وقد قسم مؤلف هذا الكتاب ما ذكره إلى مباحث ومسائل، وسنتابعه وننقده فيه مسألةً مسألةً.
المراجع
([1][1] ) أورد هنا بعض النصوص في ذلك.
ذكر الإمام مسلم في صحيحه (10/88)المطبوع على هامش إرشاد الساري،"باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موتى أطفال الكفار وأطفال المسلمين"، قوله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة واقرؤا أن شئتم "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله..)[30/الروم].
وذكر أحاديث وروايات أخرى، وفي شرح الإمام النووي قال في معنى الفطرة: "والأصح أن معناه أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في آحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه وينصرانه ويمجسانه، أي يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما فإن كانت سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره."اهـ
([2][2] ) نذكر هنا بعض ما ذكرناه في ذلك البحث.
روى الإمام مسلم في "باب معنى كل مولود يولد على الفطرة" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه بعدُ يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم، كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها".
وفي كتاب الاعتقاد للبيهقي ص107: قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في رواية أبي عبد الرحمن البغدادي عند قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة: هي الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، فجعلهم رسول الله ما لم يفصحوا بالقول فيختاروا أحد القولين الإيمان أو الكفر، لا حكم لهم في أنفسهم إنما الحكم لهم بآبائهم، فمن كان آباؤهم يوم يولدون فهم بحالهم إما مؤمن فعلى إيمانه وإما كافر فعلى كفره. قال الشيخ [البيهقي] رحمه الله:
الذي يؤكد هذا ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:فإن كانا مسليمن فمسلم.اهـ
([3][3] ) في بحث الفطرة ذكرت قول الإمام المناوي في فيض القدير(5/33): "(كل مولود) من بني آدم (يولد على الفطرة)اللام للعهد، والمعهود فطرة الله التي فطر الناس عليها، أي الخلقة التي خلق الناس عليها، من الاستعداد لقبول الدين والتهيؤ للتجلي بالحق وقبول الاستعداد والتأبي عن الباطل والتمييز بين الخطأ والصواب (حتى يعرب عنه لسانه) فحينئذ أن ترك بحاله وخلي وطبعه ولم يتعرض له من الخارج مَن يصده عن النظر الصحيح من فساد التربية وتقليد الأبوين والإلف بالمحسوسات والانهماك في الشهوات ونحو ذلك، لينظر فيما نصب من الدلالة الجلية على التوحيد وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك نظرا صحيحا يوصله إلى الحق وإلى الرشد، عرف الصواب ولزم ما طبع عليه في الأصل ولم يختر إلا الملة الحنيفية، وإن لم يُترَك بحاله بأن كان أبواه نحو يهوديين أو نصرانيين (فأبواه) هما اللذان (يهودانه) أي يصيرانه يهوديا بأن يدخلاه في دين اليهودية المحرف المبدل بتفويتهما له(أو ينصرانه) أي يصيرانه نصرانيا (أو يمجسانه).اهـ
ثم قال: والحاصل أن الإنسان مفطور على التهيؤ للإسلام بالقوة، لكن لا بُدَّ من تعلمه بالفعل.اهـ
فمعنى أن الإنسان مائل إلى الإسلام بالقوة لا بالفعل أنه إذا استعمل قواه التي أودعها الله تعالى فيه على الطريقة الصحيحة، فإنها ستوصله حتما إلى الإيمان بالإسلام أو على الأقل إلى معرفة أن الإسلام هو الحق. []
([1][1] ) أورد هنا بعض النصوص في ذلك.
ذكر الإمام مسلم في صحيحه (10/88)المطبوع على هامش إرشاد الساري،"باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موتى أطفال الكفار وأطفال المسلمين"، قوله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة واقرؤا أن شئتم "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله..)[30/الروم].
وذكر أحاديث وروايات أخرى، وفي شرح الإمام النووي قال في معنى الفطرة: "والأصح أن معناه أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في آحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه وينصرانه ويمجسانه، أي يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما فإن كانت سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره."اهـ
([2][2] ) نذكر هنا بعض ما ذكرناه في ذلك البحث.
روى الإمام مسلم في "باب معنى كل مولود يولد على الفطرة" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه بعدُ يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم، كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها".
وفي كتاب الاعتقاد للبيهقي ص107: قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في رواية أبي عبد الرحمن البغدادي عند قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة: هي الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، فجعلهم رسول الله ما لم يفصحوا بالقول فيختاروا أحد القولين الإيمان أو الكفر، لا حكم لهم في أنفسهم إنما الحكم لهم بآبائهم، فمن كان آباؤهم يوم يولدون فهم بحالهم إما مؤمن فعلى إيمانه وإما كافر فعلى كفره. قال الشيخ [البيهقي] رحمه الله:
الذي يؤكد هذا ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:فإن كانا مسليمن فمسلم.اهـ
([3][3] ) في بحث الفطرة ذكرت قول الإمام المناوي في فيض القدير(5/33): "(كل مولود) من بني آدم (يولد على الفطرة)اللام للعهد، والمعهود فطرة الله التي فطر الناس عليها، أي الخلقة التي خلق الناس عليها، من الاستعداد لقبول الدين والتهيؤ للتجلي بالحق وقبول الاستعداد والتأبي عن الباطل والتمييز بين الخطأ والصواب (حتى يعرب عنه لسانه) فحينئذ أن ترك بحاله وخلي وطبعه ولم يتعرض له من الخارج مَن يصده عن النظر الصحيح من فساد التربية وتقليد الأبوين والإلف بالمحسوسات والانهماك في الشهوات ونحو ذلك، لينظر فيما نصب من الدلالة الجلية على التوحيد وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك نظرا صحيحا يوصله إلى الحق وإلى الرشد، عرف الصواب ولزم ما طبع عليه في الأصل ولم يختر إلا الملة الحنيفية، وإن لم يُترَك بحاله بأن كان أبواه نحو يهوديين أو نصرانيين (فأبواه) هما اللذان (يهودانه) أي يصيرانه يهوديا بأن يدخلاه في دين اليهودية المحرف المبدل بتفويتهما له(أو ينصرانه) أي يصيرانه نصرانيا (أو يمجسانه).اهـ
ثم قال: والحاصل أن الإنسان مفطور على التهيؤ للإسلام بالقوة، لكن لا بُدَّ من تعلمه بالفعل.اهـ
فمعنى أن الإنسان مائل إلى الإسلام بالقوة لا بالفعل أنه إذا استعمل قواه التي أودعها الله تعالى فيه على الطريقة الصحيحة، فإنها ستوصله حتما إلى الإيمان بالإسلام أو على الأقل إلى معرفة أن الإسلام هو الحق. []