ا سم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
عدد الأجزاء: 10
التصنيف: الفقه المقارن
المحتويات
- المطلب الثاني عشر ـ النية والباعث في العبادات والعقود والفسوخ والتروك
- هل العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني أو للألفاظ والمباني
- أولا ـ حقيقة النية أو تعريفها
- ثانيا ـ حكم النية وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها
- القواعد الشرعية الكلية المتعلقة بالنية
- القاعدة الأولى ـ (لا ثواب إلا بالنية)
- القاعدة الثانية ـ (الأمور بمقاصدها)
- القاعدة الثالثة ـ (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني)
- ثالثا ـ محل النية
- الحاصل أن في الكلام عن محل النية أصلين
- رابعا ـ زمن النية أو وقتها
- ما يستثنى من وجوب توقيت النية أول العبادة
- خامسا ـ كيفية النية
- سادسا ـ الشك في النية، وتغييرها، والجمع بين عبادتين بنية واحدة
- سابعا ـ المقصود بالنية ومقوماتها
- ثامنا ـ شروط النية
- تاسعا ـ النية في العبادات: هل هي شرط أو ركن؟
- عاشرا ـ النية في العقود أو المعاملات
- الحادي عشر ـ النية في الفسوخ
- الثاني عشر ـ النية في التروك
- الثالث عشر ـ النية في المباحات والعادات
- الرابع عشر ـ النية في أمور أخرى
- خاتمة المطاف
- العودة الي كتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
المطلب الثاني عشر - النية والباعث في العبادات والعقود والفسوخ
والتروك:
هذا بحث في النية المشروعة (القصد أو الإرادة) والنية غير المشروعة
(الباعث السيء) وأحكامها وأحوالها في مجال العبادات من طهارة وصيام وزكاة وحج
وغيرها، والمعاملات من عقود بيع وزواج وهبة وكفالة وحوالة ونحوها، وفسوخ كالطلاق
لإنهاء رابطة الزواج، وتروك كترك المكروه والحرام، وإزالة النجاسة ورد المغصوب
والعواري وإيصال الهدية وغير ذلك مما لا تتوقف صحته على النية، ومباحات وعادات
كالأكل والشرب والجماع ونحوها مما يثاب عليه المسلم ثواب العبادات عند استحضار
النية فيها. ولا مشقة عليه في القيام بها، بل هي مألوفة لنفسه، مستلذة يقبل عليها
بدافع ذاتي أو بالغريزة والفطرة.
أهمية البحث وخطته:
تمتاز
الشريعة الإسلامية بسبب شمولها لأمور الدين والدنيا بأنها نظام روحي ومدني معًا،
وينقسم الحق فيها باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين: حق دياني وحق
قضائي.
الأول: هو الذي لايدخل تحت ولاية القضاء، وإنما يكون الإنسان مسؤولًا
عنه أمام الله تعالى.
والثاني: هو ما يدخل تحت ولاية القاضي، ويمكن لصاحبه
إثباته أمام القضاء. وتظهر ثمرة القسمة بينهما في أن الأحكام الديانية تبنى على
النوايا والواقع والحقيقة، وأما الأحكام القضائية فتبنى على ظاهر الأمر، ولا ينظر
فيها إلى النوايا وواقع الأمر، فمن طلَّق امرأته خطأ، ولم يقصد إيقاع الطلاق،
يحكم القاضي بوقوع طلاقه، عملًا بالظاهر واستحالة معرفة الحقيقة. وأما ديانة
فيحكم المفتي بعدم وقوع الطلاق، وللإنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين الله
تعالى.
فحق الديانة يعتمد على النية، والنية أساس الديانة (١)، وهو الحق
الأبدي الخالد الذي يبقى ولا يتغير، وهو مناط الثواب والعقاب بين يدي الله تعالى؛
لأن الإسلام دين قبل كل شيء، والدينونة جوهر الإسلام، وهي محصورة بأن تكون لله ﷿
وحده.
أما القوانين الوضعية فلا ينظر فيها للنوايا والبواطن والخفايا ولا
مجال فيها لفكرة الحلال والحرام بالمعنى الديني، وإنما العبرة للظواهر ورصد واقع
الحياة من خلال التعامل القائم، وتنظيمه على وفق النظام السائد في المجتمع
والدولة.
(١) روى البيهقي والطبراني عن أنس بن مالك حديثًا هو: «نية المؤمن
خير من عمله» لكنه ضعيف، كما ذكر السيوطي في الجامع الصغير، وقال الحافظ المناوي:
والحاصل أن له عدة طرق تجبر ضعفه.
وقد أدى تطبيق القوانين
الوضعية في البلاد الإسلامية إلى إضعاف الوازع الديني، وانحسار هيمنة الدين
ورقابة الإله في السر والعلن على تصرفات الناس، وغياب ميزان التقوى في كسب الحقوق
والتنازل عنها، مما أفقد الاهتمام بالنية. ولكن بروز مثل هذه الظاهرة المرضية في
مجتمعاتنا لا يثنينا عن ضرورة التذكير المستمر برصيد الإسلام وقيمه وأحكامه؛ لأنه
النظام الأمثل والأخلد والأصلح للبشرية لتصحيح مسيرة الناس، وتجاوز الانحرافات
والأخطاء، ولأنه الأساس الذي يحاسب عليه الإنسان في الضمير العام بين البشر، ولدى
أحكم الحاكمين في الدار الآخرة.
ومن أهم مقومات الرصيد الإسلامي في نطاق
الأحكام الشرعية التي يلزم بها المكلفون: النية الصحيحة، فهي معيار لتصحيح
الأعمال، فحيث صلحت النية، صلح العمل، وحيث فسدت فسد العمل. ولا تصير أعمال
المكلفين المؤمنين معتبرة شرعًا، ولا يترتب الثواب على فعلها إلا بالنية. وقد
اعتبر حديث عمر ﵁ المشهور وهو «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» أحد
الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، فهو أحد أصول الدين، وعليه تدور غالب أحكامه،
وهو نصف الإسلام، قال أبو داود: «إن هذا الحديث نصف الإسلام؛ لأن الدين إما ظاهر
وهو العمل، أو باطن وهو النية» وهو أيضًا ثلث العلم، قال الإمام الشافعي وأحمد
رحمهما الله: يدخل في حديث (الأعمال بالنيات) ثلث العلم، قال البيهقي وغيره. وسبب
ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه، ولسانه، وجوارحه، والنية أحد أقسامه الثلاثة. وروي
عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من
الفقه. ولذا استحب العلماء أن تستفتح به الكتب والمصنفات، ليكون ذلك منبِّهًا
طالب العلم أن يصحح نيته لوجه الله تعالى في طلب العلم وعمل الخير ونفع نفسه
وأمته وبلاده. وبناء عليه قال العلماء: «إن قاعدة: الأمور بمقاصدها ثلث
العلم».
وقال جماعة من العلماء: حديث الأعمال بالنيات ثلث
الإسلام، قا ل أبو داود: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم
نظرت، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير:
«الحلال بيِّن والحرام بيِّن» وحديث عمر هذا، وحديث أبي هريرة: «إن الله طيِّب لا
يقبل إلا طيبًا» وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» قال: فكل حديث من
هذه الأربعة ربع العلم (١).
لهذا كله يكون بحث النية من أوليات الدين.
وأصول العلم الضرورية لكل إنسان، لأن في البحث تذكيرًا وبيانًا وضبطًا، ووضع
الضوابط للنية ييسر على العبَّاد والنسَّاك معرفة الطريق الأصح الأسلم لعبادتهم
وقرباتهم، ويوضح لكل إنسان طريق التمييز بين الحلال والحرام وما يوجب الثواب
والعقاب، ويبيِّن له ما يجب عليه معرفته من الحد الأدنى في طلب العلم، إذ لا تصح
عبادة بدون نية، ويتأثر الحكم على كل تصرف من عقد أو فسخ بنوع النية، فهو إما
جائز صحيح بالنية المشروعة، وإما فاسد باطل بالنية الخبيثة أو السيئة، وإما
مُرتِّب للأثر أو عدمه بحسب النية وجودًا وفقدانًا، ف
هل العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني أو للألفاظ والمباني؟
وهل الباعث السيء يفسد العقد أو لا؟ وهذا يؤدي لبيان مبدأ الذرائع سدًا
وفتحًا.
وأتناول في بحثي هذا عن النية الأمور التالية:
١ - حقيقة النية
أو تعريف النية.
٢ - حكم النية (الوجوب)، وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية
المتعلقة بها.
٣ - محل النية.
(١) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص٨.
٤
- زمن النية أو وقت النية.
٥ - كيفية النية.
٦ - الشك في النية
وتغييرها والجمع بين عبادتين بنية واحدة.
٧ - المقصود بالنية ومقوماتها.
٨
- شروط النية.
٩ - النية في العبادات.
١٠ - النية في العقود.
١١ -
النية في الفسوخ.
١٢ - النية في التروك.
١٣ - النية في المباحات
والعادات.
١٤ - النية في أمورأخرى.
هذا مع العلم بأن المحدِّثين
والفقهاء أوضحوا الكلام في النية، ولكن في مواطن متفرقة، وفي ثنايا المسائل
وأعماق الأبواب الفقهية، ولم أطلع على كتاب جامع لأحكام النية وأحوالها سوى (كتاب
نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام) للعالم أحمد بك الحسيني (طبع ١٣٢٠هـ
/١٩٠٣م) بالمطبعة الأميرية بمصر، إلا أنه محصور بأمرين: كونه في مذهب الشافعية
فقط، وفي بعض العبادات فحسب.
لذا وجدت لزامًا علي بحث كل ما يتعلق بالنية
بحسب الخطة المذكورة، لتتجلى للقارئ هذه النظرية الشاملة لشؤون العبادات
والمعاملات والأحوال الشخصية والتروك والمباحات، والله الموفق لسواء الصراط.
أولًا - حقيقة النية أو تعريفها:
النية لغة: قصد الشيء وعزم القلب عليه (١)، قال الأزهري: يقال نواك الله: أي
حفظك. وتقول العرب: نواك الله: أي صحبك في سفرك وحفظك. وبعبارة أخرى: النية:
القصد: وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه، من غير تردد. والنية وإرادة الفعل
مترادفان، وتعم كل منهما الفعل الحالي والاستقبالي.
وفَرَق بعض اللغويين بين
النية والعزم بجعل النية: الإرادة المتعلقة بالفعل الحالي، والعزم: الإرادة
المتعلقة بالفعل الاستقبالي. لكن يردّ على هذا الفارق بتفسير النية بالعزم مطلقًا
في كتب اللغة.
والنية في الشرع: عزم قلبي على عمل فرضي أو غيره. أو عزم
القلب على عمل فرضًا كان أو تطوعًا. وهي أيضًا: الإرادة المتعلقة بالفعل في الحال
أو في المستقبل. وبناء عليه: إن كل فعل صدر من عاقل متيقظ مختار لايخلو عن نية،
سواء أكان من قبيل العبادات أم من قبيل العادات. وذلك الفعل هو متعلَّق الأحكام
الشرعية التكليفية من الإيجاب والتحريم، والندب والكراهة والإباحة. وما خلا عن
النية فهو فعل غافل، فهو لاغٍ، لايتعلق به حكم شرعي. فإذا صدر الفعل من غير عاقل
متيقظ، بأن كان من مجنون أو ناسٍ أو مخطئ أو مكرَه، فإنه لاغٍ، لايتعلق به حكم
تكليفي مما ذكر، لعدم وجود النية والقصد والإرادة فيه، ولايعتبر شرعًا، ولايتعلق
به طلب ولاتخيير.
وأما إذا كان الفعل من الأفعال العادية كالأكل والشرب
والقيام والقعود والبطش والمشي والنوم ونحوها صادرًا من العاقل المتيقظ بدون نية،
فحكمه الإباحة، إن لم يقترن بمايوجب حظره أو طلبه، ويكون معتبرًا شرعًا.
(١)
المجموع للنووي: ٣٦٠/ ١ ومابعدها، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٢٤ طبع دار الفكر
بدمشق.
وأما الحكم ببطلان وضوء الناسي، وضمان المتلفات من
المجنون والصبي ونحوهما، وضمان الدية بقتل النفس أو قطع عضو، أو إزالة معنى من
المعاني كالسمع والبصر والبطش والحركة إذا وقع ذلك خطأ أو شبه عمد، مع عدم نية
القتل أو القطع، فهو ليس من باب التكليف الشرعي بشيء بل من باب الحكم الوضعي، أي
جعل الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا أو عزيمة أو رخصة، أي أن
الإتلاف مثلًا سبب موجب للتعويض أو للضمان مطلقًا، سواء صدر من صغير أو كبير، من
عاقل أو مجنون.
ويلاحظ أن المراد بالنية في الصيام هو العزم أو الإرادة
الكلية وهو المعنى العام للنية، أي أن الصيام يصح بتبييت النية من الليل، دون
اشتراط مقارنتها لبدء الصوم وهوطلوع الفجر، فلو نوى ثم أكل، وصام، صح صومه، أما
غير الصيام من العبادات التي تتطلب لصحتها مقارنة النية ببدء الفعل فلابد فيها من
القصد تحقيقًا: وهو الإرادة المتعلقة ببدء الفعل، فالنية المعتبرة فيه هي القصد
تحقيقًا، أي النية المقترنة ببدء تنفيذ الفعل، وهو المراد بالنية عند عدّها لدى
الشافعية من أركان العبادة، كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والحج،
ومثلها كنايات العقود والفسوخ، فلابد فيها من القصد تحقيقًا الذي هو النية
المقارنة للفظ الكنائي أو الكتابة وإشارة الأخرس التي يفهمها الفطن، وكذا
الاستثناء في الأقارير (الإقرارات) والطلاق، والتعليق في الطلاق بكلمة (إن شاء
الله) فلابد فيها من النية بمعنى القصد تحقيقًا قبل الفراغ من المستثنى منه، أي
اقتران النية بالكلام المتصل ببعضه.
وخلاصة الكلام في بيان حقيقة النية تظهر
فيما يأتي: قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: اعلم أن النية في اللغة نوع من القصد
والإرادة، وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره. والنية في كلام
العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما - تمييز العبادات بعضها عن بعض،
كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز رمضان من صيام غيره. أو تمييز
العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك،
وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني -
بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أو لله وغيره. وهذه هي
النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد
كثيرًا في كلام السلف المتقدمين. وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفًا سماه
(كتاب الإخلاص والنية) وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام
النبي ﷺ تارة بلفظ (النية) وتارة بلفظ (الإرادة) وتارة بلفظ مقارب. وقد جاء ذكرها
كثيرًا في كتاب الله ﷿ بغير لفظ النية أيضًا من الألفاظ المقاربة.
وإنما
فرَق من فرَق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية بالمعنى
الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا
تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك، وقد ذكرنا أن
النية في كلام النبي ﷺ وسلف الأمة، إنما يراد لها هذا المعنى الثاني غالبًا، فهي
حينئذ بمعنى الإرادة، ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرًا.
ثانيًا - حكم النية وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها:
حكم النية عند جمهور الفقهاء (١) (غير الحنفية): الوجوب فيما توقفت صحته عليها،
كالوضوء والغسل، ماعدا غسل الميت والتيمم، والصلاة بأنواعها،
(١) الشرح
الكبير للدردير: ٩٣/ ١ ومابعدها، المجموع للنووي: ٣٦١/ ١ ومابعدها، مغني
المحتاج:٤٧/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٤/ ١ ومابعدها، المغني: ١١٠/ ١ ومابعدها، كشاف
القناع: ٩٤/ ١ - ١٠١، أحكام النية للحسيني: ص١٠، ٧٦، ٧٨ ومابعدها.
والزكاة
والصيام والحج والعمرة إلى غير ذلك، والندب فيما لم تتوقف صحته عليها كرد
المغصوب، والمباحات كالأكل والشرب والتروك كترك المحرَّم والمكروه، مثل ترك الزنا
والخمر وغيرهما من المحرَّمات، وترك اللهو الخالي من القمار: وهو اللعب الذي لا
عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فهو مكروه، لما فيه من تضييع الوقت والانشغال
عن كل نافع مفيد.
ورأي الحنفية (١): أن النية تسن في الوضوء والغسل وغيرهما
من وسائل الصلاة، لتحصيل الثواب، وهي شرط لصحة الصلاة، كما قرر المالكية
والحنابلة وسيأتي مزيد بيان لذاك في بحث النية في العبادات، علمًا بأن العلماء
اتفقوا على أن النية واجبة في الصلاة، لتتميز العبادة عن العادة وليتحقق في
الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة، والعبادة: إخلاص العمل بكلية العابد
لله تعالى.
وأدلة إيجاب النية كثيرة، منها قول الله تعالى: ﴿وما أمروا إلا
ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ..﴾ [البينة:٩٨/ ٥] قال الماوردي: والإخلاص
في كلامهم النية.
ومنها الحديث المتفق على صحته بين البخاري ومسلم وباقي
الأئمة الستة وأحمد (الجماعة) من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁، وهو - كما
قا ل النووي - حديث عظيم، أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، بل هو أعظمها،
وهي اثنان وأربعون حديثًا. ونصه: قا ل عمر: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
(١) الدر
المختار: ٩٨/ ١ ومابعدها، البدائع: ١٧/ ١، تبيين الحقائق:٩٩/ ١.
ورسوله،
فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدُنيا يصيبها أو امرأة ٍ ينكِحُها،
فهجرتُه إلى ما هاجر إليه».
والمراد بالأعمال: أعمال الطاعات والأعمال
الشرعية، دون أعمال المباحات. وقد دل الحديث على اشتراط النية في العبادات، لأن
كلمة (إنما) للحصر، تثبت المذكور وتنفي ماسواه، وليس المراد صورة العمل، فإنها
توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ومعناه لا يعتد
بالأعمال الشرعية بدون النية، مثل الوضوء والغسل والتيمم، وكذلك الصلاة والزكاة
والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات. فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية؛
لأنها من باب التروك، والترك لا يحتاج إلى نية.
وفي قوله: (إنما الأعمال
بالنيات) محذوف، اختلف العلماء في تقديره، فقال جمهور العلماء (غير الحنفية)
الذين اشترطوا النية: المراد إما صحة الأعمال، أو تصحيح الأعمال أو قبول الأعمال،
ويكون التقدير: صحة الأعمال بالنيات، فالنية شرط صحة، لا تصح الوسائل من وضوء
وغسل وغيرهما، والمقاصد من صلاة وصوم وحج وغيرها إلا بها.
وقال الحنفية
الذين لم يشترطوا النية في الوسائل: المراد كمال الأعمال ويكون تقديرهم كمال
الأعمال بالنيات، فالنية شرط كمال فيها، لتحصيل الثواب فقط.
وقوله: (وإنما
لكل امرئ ما نوى) يدل على أمرين:
الأول - قال الخطابي: يفيد معنى خاصًا غير
الأول، وهو تعيين العمل بالنية وقال النووي: فائدة ذكره أن تعيين العبادة المنوية
شرط لصحتها. فلو كان على
إنسان صلاة مقضية، لا يكفيه أن ينوي
الصلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوي كونها ظهرًا أو عصرًا أو غيرهما، ولولا هذا
اللفظ الثاني، لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك.
الثاني - أنه
لا تجوز النيابة في العبادات ولا التوكيل في النية نفسها. وقد استثني من ذلك
تفرقة الزكاة وذبح الأضحية، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح والتفرقة، مع
القدرة على النية، وكذلك يجوز التوكيل في دفع الدَّين (١).
وآخر هذا الحديث
أبان سببه، روى الطبراني في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن ابن مسعود ﵁ قال:
كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر،
فتزوجها، فكنا نسميه: مهاجر أم قيس.
والخلاصة: دل هذا الحديث على عدة أمور
منها:
أـ لا يكون العمل شرعيًا يتعلق به ثواب وعقاب إلا بالنية.
ب -
تعيين المنوي وتمييزه عن غيره شرط في النية، فلا يكفي أن ينوي الصلاة، بل لابد
باتفاق العلماء من تعيينها بصلاة الظهر أو العصر أو الصبح مثلًا.
جـ - من
نوى عملًا صالحًا، فمنعه من تنفيذه عذر قاهر كالمرض أوالوفاة، فإنه يثاب عليه؛
لأن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها، لم تكتب
له سيئة، قال السيوطي: من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم
(٢)، لقوله ﷺ فيما يرويه الأئمة الستة عن أبي هريرة: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي
عما حدّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به».
(١) المجموع:٣٦١/ ١
ومابعدها، شرح الأربعين النووية للنووي: ص٥ - ٧، ولابن دقيق العيد: ص ١٣ - ١٤.
(٢)
الأشباه والنظائر للسيوطي: ص ٢٩.
د - الإخلاص في العبادة
والأعمال الشرعية هو الأساس في تحصيل الأجر والثواب في الآخرة، والفلاح والنجاح
في الدنيا، والدليل تصريح الزيلعي بأن المصلي يحتاج إلى نية الإخلاص فيها.
هـ
- يصبح كل عمل نافع أو مباح أو ترك بالنية الطيبة وقصد امتثال الأمر الإلهي عبادة
مثوبًا عليها عند الله تعالى.
وـ إذا كانت نية الفعل لإرضاء الناس أو الشهرة
والسمعة أو لتحقيق نفع دنيوي مثل مهاجر أم قيس، فلا ثواب للفاعل في الآخرة.
رأي
الحنفية في بيان تعيين المنوي وعدم تعيينه:
فصَّل الحنفية (١) في شأن تعيين
المنوي، فقالوا:
أـ إن كان المنوي عبادة: فإن كان وقتها ظرفًا للمؤدى بمعنى
أنه يسعه ويسع غيره، وهو الواجب الموسَّع، فلا بد من التعيين كالصلاة، كأن ينوي
الظهر، فإن قرنه باليوم كظهر اليوم، صح. وعلامة التعيين للصلاة أن يكون بحيث لو
سئل أي صلاة يصلي يمكنه أن يجيب بلا تأمل. ولا يسقط التعيين في الصلاة بضيق
الوقت؛ لأن السعة باقية.
ب - وإن كان وقت العبادة معيارا ً لها، بمعنى أنه
لا يسع غيرها كالصوم في يوم رمضان، وهو الواجب المضيَّق، فإن التعيين ليس بشرط،
إن كان الصائم صحيحًا مقيمًا، فيصح بمطلق النية، وبنية النفل؛ لأن التعيين في
المتعين لغو. وإن كان مريضًا، ففيه روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان، سواء نوى
واجبا ً آخر أو نفلًا. وأما المسافر: فإن نوى عن واجب آخر، وقع عما نواه، لا عن
رمضان. وفي النفل روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان.
(١) الأشباه والنظائر
لابن نجيم: ص ٢٥ ومابعدها، طبع دار الفكر بدمشق.
جـ - وإن كان
وقت العبادة مشكلًا وهو الواجب ذو الشبهين كوقت الحج، فإنه يشبه الواجب المضيق أو
المعيار باعتبار أنه لا يصح في السنة إلا حجة واحدة، ويشبه الواجب الموسع أو
الظرف باعتبار أن أفعاله لا تستغرق وقته، فيصح الحج بمطلق النية نظرًا إلى
المعيارية. وإن وقع نفلًا، وقع عما نوى، نظرًا إلى الظرفية.
القواعد الشرعية الكلية المتعلقة بالنية:
استنبط الفقهاء من حديث عمر السابق: (إنما الأعمال بالنيات) ثلاث قواعد
كلية، اعتمد عليها المجتهدون وأئمة المذاهب في بناء أصول مذاهبهم عليها، واستنباط
أحكام الفروع الفقهية منها (١)، وهذه القواعد هي: لا ثواب إلا بالنية، الأمور
بمقاصدها، العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني.
القاعدة الأولى - (لا ثواب إلا بالنية):
النية شرط في العبادات كما بينا إما بالإجماع، أو بآية: ﴿وما أمروا إلا
ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفَاء﴾ [البينة:٥/ ٩٨]، قال ابن نجيم الحنفي:
والأول أوجه؛ لأن العبادة فيها - أي في الآية - بمعنى التوحيد، بقرينة عطف الصلاة
والزكاة، فلا تشترط في الوضوء والغسل ومسح الخفين وإزالة النجاسة الحقيقية عن
الثوب والبدن والمكان والأواني للصحة. وأما اشتراطها - أي النية - في التيمم
فلدلالة آتية عليها؛ لأنه القصد. وأما غسل الميت فقالوا: لا تُشترط النية لصحة
الصلاة عليه وتحصيل طهارته، وإنما هي شرط لإسقاط الفرض عن ذمة المكلفين (٢).
(١)
هناك قواعد خمس يرجع جميع مسائل الفقه إليها وهي: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال،
والعادة محكَّمة، واليقين لايزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير.
(٢) الأشباه
والنظائر لابن نجيم: ص ١٤، ط دار الفكر بدمشق.
والنية واجبة عند
الجمهور كما بينا في الوسائل والمقاصد معًا، وهي شرط كمال في الوسائل عند الحنفية
كالوضوء والغسل، وشرط صحة في المقاصد كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
ومعنى
هذه القاعدة: لا ثواب على جميع الأعمال الشرعية إلا بالنية، قال ابن نجيم المصري
(١) الثواب نوعان: أخروي: وهو الثواب واستحقاق العقاب، ودنيوي: وهو الصحة
والفساد. وقد أريد الأخروي بالإجماع، للإجماع على أنه لا ثواب ولا عقاب إلا
بالنية، فانتفى إرادة النوع الآخر وهو الدنيوي، لاندفاع الضرورة بالأول من صحة
الكلام به، فلا حاجة إلى النوع الآخر.
القاعدة الثانية - (الأمور بمقاصدها):
معنى هذه القاعدة: أن أعمال الإنسان وتصرفاته القولية والفعلية تخضع
أحكامها الشرعية التي تترتب عليها لمقصوده الذي يقصده منها، وليس بظاهر العمل أو
القول.
والأصل في هذه القاعدة كما أوضحت الحديث السابق: «إنما الأعمال
بالنيات» وأحاديث أخرى كثيرة في معناه أوردها السيوطي في كتابه (٢). وأمثلتها
مايأتي:
يختلف حكم القتل بحسب القصد الجنائي أو النية، فإذا كان القاتل
عامدًا وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئًا وجبت عليه الدية. وتقبل الصلاة ويثاب
عليها المصلي إن كانت بإخلاص لله تعالى، وترد في وجه صاحبها إن كانت بقصد
الرياء.
(١) الأشباه، المرجع السابق.
(٢) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص
٧.
ومن أخذ اللقطة بقصد تملكها، كان آثمًا غاصبًا يضمنها، ومن
أخذها بنية حفظها لمالكها حل له رفعها وكان أمينًا، لا يضمنها إذا هلكت إلا
بالتعدي أو بالتقصير في حفظها.
ومن قال لزوجته: اذهبي إلى بيت أهلك، فإن قصد
الطلاق وقع عليه، وإن لم يقصده لم يحكم بالطلاق عليه.
وذكر قاضي خان في
فتاواه عند الحنفية (١): أن بيع العصير ممن يتخذه خمرًا: إن قصد به التجارة، فلا
يحرم، وإن قصد به لأجل التخمير حرم (٢)، وكذا غرس الكرم على هذا.
وهجر
المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام دائر مع القصد، فإن قصد هجر المسلم حرم، وإلاَّ
لا.
والإحداد للمرأة على ميت غير زوجها فوق ثلاث دائر مع القصد، فإن قصدت
ترك الزينة والتطيب لأجل الميت حرم عليها، وإلا فلا. وإذا قرأ المصلي آية من
القرآن جوابًا لكلام، بطلت صلاته وكذا إ ذا أُخبر المصلي بما يسره فقال: الحمد
لله، قاصدًا الشكر، بطلت صلاته، أو بما يسوؤه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو
بموت إنسان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاصدًا له، بطلت صلاته.
وإن سجد
امرؤ للسلطان، فإن كان قصده التعظيم والتحية، دون الصلاة لايكفر، لأمر الملائكة
بالسجود لآدم ﵇، وسجود إخوة يوسف له ﵇.
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص
٢٢.
(٢) وقال الشافعية: يحرم بيع الرطب والعنب لعاصر الخمر والنبيذ، أي
لمتخذها لذلك بأن يعلم منه ذلك أو يظنه ظنًا غالبًا، ومثله بيع السلاح لباغ وقاطع
طريق، للنهي عن ذلك، لكن لايبطل البيع بسبب النهي (مغني المحتاج: ٣٧/ ٢ - ٣٨).
والأكل
فوق الشبع حرام بقصد الشهوة، وإن قصد به التقوي على الصوم أو مؤاكلة الضيف
فمستحب.
والكافر إذا تترس بالمسلم، فإن رماه مسلم، فإن قصد قتل المسلم حرم،
وإن قصد قتل الكافر لا يحرم.
وإذا توسد الكتاب، فإن قصد الحفظ لا يكره، وإلا
كره. وإن غرس في المسجد، فإن قصد الظل لا يكره. وإن قصد منفعة أخرى يكره.
وكتابة
اسم الله تعالى على الدراهم، إن كان بقصد العلامة لا يكره، وللتهاون يكره.
والجلوس
على جوالق (وعاء) فيه مصحف، إن قصد الحفظ لا يكره، وإلا يكره.
وكنايات البيع
والهبة والوقف والقرض والضمان والإبراء والحوالة والإقالة والوكالة وتفويض
القضاء، والإقرار والإجارة والوصية والطلاق والخلع والرجعة والإيلاء والظهار
واللعان، والأيمان والقذف والأمان، إن قصد بها ما يقصد بالصريح وقع وإلا فلا
(١).
القاعدة الثالثة - (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ
والمباني):
هذه القاعدة أخص من القاعدة الثانية السابقة، فهي في العقود خاصة،
والثانية عامة في كل التصرفات.
ومعناها: أن ألفاظ العقود تحوّل العقد إلى
عقد آخر إذا قصده العاقدان،
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص ٢٢ - ٢٣،
وللسيوطي: ص ٩ - ١٠ ..
فالهبة بشرط العوض، مثل وهبتك كذا بشرط
أن تعطيني كذا، هي بيع؛ لأنها في معناه، فتأخذ أحكام البيع
والكفالة بشرط
عدم مطالبة المدين المكفول عنه: حوالة تأخذ أحكامها لأنها في معناها.
والحوالة
بشرط مطالبة المدين المحيل والمحال عليه: كفالة. والإعارة بعوض: إجارة.
وبيع
الوفاء عند الحنفية (وهو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقارًا، على أنه متى وفى
الثمن، استرد العقار) يأخذ غالبًا أحكام الرهن؛ لأنه هو مقصود العاقدين.
لكن
هذه القاعدة يعمل بها عند الحنفية والشافعية (١) إن ظهر القصد في العقد صراحة أو
ضمنًا، فإن لم يكن في العقد ما يدل على النية والقصد صراحة، فيعمل بقاعدة
«المعتبر في أوامر الله المعنى، والمعتبر في أمور العباد الاسم واللفظ» أي أن
المبدأ حينئذ هو الاعتداد بالألفاظ في العقود، دون النيات والقصود؛ إذ إن نية
السبب والغرض غير المباح شرعًا مستترة، فيترك أمرها لله وحده، يعاقب صاحبها عليها
مادام أثم بنيته. وبناء عليه، تؤخذ أحكام كل عقد من صيغته ومما لابسه واقترن به،
ففساده يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد لأمور خارجة عنه، ولو كانت نيات
ومقاصد لها أمارات، أو لو كانت مآلات مؤكدة ونهايات ثابتة.
وهذا يدل على أن
الشافعية والحنفية لا يأخذون بمبدأ سد الذرائع في بيوع
(١) حاشية الحموي على
الأشباه والنظائر لابن نجيم: ١٢/ ٢ ومابعدها، مغني المحتاج شرح المنهاج: ٣٧/ ٢ -
٣٨، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص ١٤٨ - ١٤٩.
الآجال وبيوع
العينة، كأن يبيع إنسان سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يشتريها بخمسة قبل الشهر،
فالشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيصحح العقد، وأما أبو
حنيفة فهو وإن لم يقل بحكم سد الذرائع، يفسد البيع الثاني على أساس آخر: وهو أن
الثمن إذا لم يستوف، لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنيًا عليه.
وأخذ
الإمامان مالك وأحمد بمبدأ سد الذرائع في هذه البيوع؛ لأنها وسيلة السلف بفائدة:
خمسة بعشرة إلى أجل، بإظهار صورة البيع لذلك. قال ابن القيم: أحكام الشريعة تجري
على الظاهر فيما عرف منه قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يخالف كلامه،
وأما النيات والمقاصد فتعتبر فيما ظهر فيه خلاف الصيغة والنطق (١). وهذا هو الحق
الأبلج لدي، سدًا لباب التحايل على الربا. فيكون الباعث السيء أو القصد غير
المشروع سببًا واضحًا في إفساد البيع وبطلانه.
ثالثًا - محل النية:
محل النية باتفاق الفقهاء وفي كل موضع: القلب وجوبًا، ولا تكفي باللسان قطعًا،
ولا يشترط التلفظ بها قطعًا، لكن يسن عند الجمهور غير المالكية التلفظ بها
لمساعدة القلب على استحضارها، ليكون النطق عونًا على التذكر، والأولى عند
المالكية: ترك التلفظ بها (٢)؛ لأنه لم ينقل عن النبي ﷺ وأصحابه التلفظ بالنية،
وكذا لم ينقل عن الأئمة الأربعة. وسبب كونها في القلب في جميع العبادات: أن
(١)
الفروق للقرافي: ٣٢/ ٢، أعلام الموقعين: ١١٧/ ٣ - ١٢٠، ٤٠٠/ ٤ ومابعدها.
(٢)
الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٤٦ - ٥١، القوانين الفقهية: ص٥٧، الشرح الكبير
للدردير وحاشية الدسوقي: ٢٣٣/ ١، ٥٢٠، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص٢٦ - ٣٠، كشاف
القناع: ٣٦٥/ ١ طبع مكة، أحكام النية للحسيني: ص١٠، ٧٨، ٨٢، ٩٧، ١٢٧.
النية:
الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب، أو لأن حقيقتها القصد مطلقًا، فإن نوى
بقلبه، وتلفظ بلسانه، أتى عند الجمهور بالأكمل، وإن تلفظ بلسانه ولم ينو بقلبه لم
يجزئه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه أجزأه. قال البيضاوي: النية عبارة عن
انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مآلًا،
والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال
حكمه.
والحاصل أن في الكلام عن محل النية أصلين:
الأصل الأول - أنه لا يكفي التلفظ باللسان دون القلب، لقوله تعالى:
﴿وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ [البينة:٩٨/ ٥]، والإخلاص: ليس في
اللسان، وإنما هو عمل القلب، وهو محض النية، وذلك بأن يقصد بعمله الله وحده،
ولقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
ويتفرع عن هذا
الأصل:
أـ أنه لو اختلف اللسان والقلب، فالعبرة بما في القلب، فلو نوى بقلبه
الوضوء، وبلسانه التبرد، صح الوضوء، ولو نوى عكسه لا يصح. وكذا لو نوى بقلبه
الظهر، وبلسانه العصر، أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة أو عكسه، صح له مافي القلب.
وجاء في بعض كتب الحنفية (القنية والمجتبى): من لا يقدر أن يحضر قلبه لينوي بقلبه
أو يشك في النية يكفيه التكلم بلسانه: ﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها﴾ [البقرة:٢/
٢٨٦].
ب - إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بالله تعالى بلا قصد، فلا تنعقد عند
الجمهور (غير الحنفية) وهي يمين اللغو، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على
شيء،
فسبق لسانه إلى غيره. وقال الحنفية (١):انعقدت الكفارة؛ لأن يمين اللغو التي
لاحكم لها أصلًا ولا كفارة لها: هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال، على الظن أن
المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه في النفي أو الإثبات (٢). كمن قال: «والله مادخلت
هذه الدار» وفي ظنه أنه كذلك، والأمر بخلافه، أو رأى طيرًا من بعيد، فظن أنه
غراب، فحلف، فإذا هو حمام، ويمين اللغو عند الجمهور: هي اليمين التي تجري على
لسان الحالف (سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل) من غير قصد اليمين، كأن
يقول: لا والله، أو بلى والله، أو كان يقرأ القرآن، فجرى على لسانه اليمين.
والحاصل
أن الحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر
يمينًا منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد،
وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط، بحسب الظن من الحالف أن الأمر كما
حلف، والحقيقة بخلاف ذلك.
هذا في اليمين بالله تعالى، وأما في الطلاق
والعتاق والإيلاء فيقع قضاء لا ديانة، أي أنه لم يتعلق به شيء باطنًا، ويديَّن
بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يقبل كلامه في الظاهر والقضاء، لتعلق حق
الغير به.
جـ - إن قصد بالطلاق أو العتق معنى آخر غير معناه الشرعي، كلفظ
الطلاق أراد به الطلاق من وثاق، أو يقصد ضم شيء إليه يرفع حكمه، لم يقبل منه
قضاء، ويديَّن فيما بينه وبين الله تعالى، فيعمل بما قصده. قال الفوراني في
الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه، فإذا نواه، قبل فيما بينه وبين الله
تعالى
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص ٧
(٢) البدائع: ٣/ ٣ - ٤. دون
الحكم.
ومثاله: إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت من
وثاق، ولا قرينة، لم يقبل في الحكم، ويديَّن. فإن كان قرينة، كأن كانت مربوطة،
فحلَّها، وقال ذلك، قبل ظاهرًا.
الأصل الثاني - أنه لا يشترط مع نية القلب
التلفظ في جميع العبادات، فلا معتبر باللسان، ويترتب على ذلك ما يأتي:
أـ
إذا أحيا إنسان أرضًا بنية جعلها مسجدًا، فإنها تصير مسجدًا بمجرد النية، فلا
يحتاج إلى التلفظ.
ب - من حلف: (لا يسلِّم على فلان) فسلَّم على قوم هو
فيهم، واستثناه بالنية، فإنه لا يحنث، بخلاف من حلف: (لا يدخل على فلان) فدخل على
قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره، فإنه يحنث في الأصح عند
الشافعية، وكذا يحنث عند الحنفية إن كان فلان ساكنًا في الدار، ولا يحنث إن لم
يكن ساكنًا.
ويستثنى من هذا الأصل مسائل:
منها: (النذر والطلاق والعتاق
والوقف) لو نواها بقلبه، ولم يتلفظ لم ينعقد النذر والوقف، ولم يقع الطلاق والعتق
بمجرد النية، بل لابد من التلفظ.
ومنها: لو قال رجل لامرأته: (أنت طالق) ثم
قال: أردت: إن شاء الله تعالى، لم يقبل قوله، قال الرافعي: المشهور أنه لا يديَّن
أيضًا. ومنها: حديث النفس لايؤاخذ به مالم يتكلم أو يعمل، أو من عزم على المعصية
ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم، لقوله ﷺ فيما رواه الأئمة الستة عن أبي
هريرة - «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل
به».
وقد قسم السبكي وغيره من العلماء الذي يقع في النفس من قصد
المعصية خمس مراتب:
الأولى - الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس، وهذا لا يؤاخذ
به إجماعًا لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له فيه ولا صنع.
الثانية
- الخاطر: وهو ما يجري في النفس، وكان الإنسان قادرًا على دفعه، كصرف الهاجس أول
وروده. وهذا لا مؤاخذة فيه أيضًا.
الثالثة - حديث النفس: وهو ما يقع في
النفس من التردد، هل يفعل أو لا؟ وهذا لا إثم فيه أيضًا، بنص الحديث السابق، وإذا
ارتفع حديث النفس، ارتفع ما قبله با لأولى.
وهذه المراتب الثلاث لو كانت في
الحسنات لم يكتب له بها أجر، لعدم القصد.
الرابعة - الهمّ: وهو ترجيح قصد
الفعل، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة، والهمّ بالسيئة لا
يكتب سيئة (١)، وينظر: فإن تركها لله تعالى كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة
واحدة. والأصح في معناه أنه يكتب عليه إثم الفعل وحده، وأن الهمَّ مرفوع.
الخامسة
- العزم: وهو قوة القصد والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به.
(١) رواه
البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك،
فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله
عنده عَشْرَ حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم
يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة
واحدة».
رابعًا - زمن النية أو وقتها:
الأصل العام: أن وقت النية أول العبادة البدنية إلا في حالات سأذكرها
(١).
فنية الوضوء: محلها عند غسل الوجه، قال الحنفية: ويسن أن تكون في أول
السنن عند غسل اليدين إلى الرسغين، لينال ثواب السنن المتقدمة على غسل الوجه.
ووقتها:
قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة لله تعالى.
وقال المالكية: محلها الوجه،
وقيل: أول الطهارة. وقال الشافعية: يجب قرن النية بأول غسل جزء من الوجه، لتقترن
بأول الفرض كالصلاة، ويستحب أن ينوي قبل غسل الكفين، لتشمل النية مسنون الطهارة
ومفروضها، فيثاب على كل منهما، كما قال الحنفية، ويجوز تقديم النية على الطهارة
بزمن يسير، فإن طال الزمن لم يجزئه ذلك. ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر
الطهارة، لتكون أفعاله مقترنة بالنية، وإن استصحب حكمها أجزأه، ومعناه ألا ينوي
قطعها.
وقال الحنابلة: وقت النية عند أول واجب، وهو التسمية في الوضوء.
وللمتوضئ
عند الشافعية والحنابلة تفريق النية على أعضاء الوضوء، بأن ينوي عند كل عضو رفع
الحدث عنه؛ لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء، فكذلك يجوز تفريق النية على أفعاله.
والمعتمد
عند المالكية، خلافًا لابن رشد: أنه لا يجزئ تفريق النية على الأعضاء، بأن يخص كل
عضو بنية، من غير قصد إتمام الوضوء، ثم يبدو له
(١) الأشباه والنظائر لابن
نجيم: ص٤٣ ومابعدها، للسيوطي: ص٢١ ومابعدها، أحكام النية للحسيني: ص١٠، ٧٤، ٧٨،
١٢٢ - ١٢٥.
فيغسل ما بعده، فإن فرق النية على الأعضاء مع قصده
إتمام الوضوء على الفور، أجزأه ذلك.
والغسل كالوضوء في السنن عند الحنفية؛
لأن الابتداء بالنية في الغسل عندهم سنة فقط، ليكون فعل المغتسل تقربًا يثاب
عليه، كالوضوء. وأوجب الجمهور النية للغسل كالوضوء، للحديث السابق: (إنما الأعمال
بالنيات) وتكون النية عند غسل أول جزء من البدن، بأن ينوي فرض الغسل، أو رفع
الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إليه.
والنية في التيمم
فرض باتفاق المذاهب الأربعة، والمعتمد الراجح أنها شرط عند الحنفية والحنابلة،
وتكون لدى الحنفية عند الوضع على الصعيد (التراب). وأوجب الشافعية قرن النية
بالنقل الحاصل للتراب بالضرب إلى الوجه؛ لأنه أول الأركان، ويجب على الصحيح
استدامة النية إلى مسح شيء من الوجه. واقتصر المالكية والحنابلة على إيجاب النية
عند مسح الوجه.
ونية الصلاة تكون عند تكبيرة الإحرام، واشترط الحنفية (١)
اتصال النية بالصلاة، بلا فاصل أجنبي، بين النية والتكبيرة، والفاصل: عمل ما لا
يليق بالصلاة كالأكل والشرب ونحو ذلك. وأوجب المالكية (٢) استحضار النية عند
تكبيرة الإحرام، أو قبلها بزمن يسير.
واشترط الشافعية (٣) اقتران النية بفعل
الصلاة، فإن تراخى عنه سمي عزمًا.
(١) تبيين الحقائق للزيلعي: ٩٩/ ١.
(٢)
الشرح الصغير وحاشية الصاوي: ٣٠٥/ ١، طبع دار المعارف بمصر.
(٣) حاشية
الباجوري: ٣٠٥/ ١
وقال الحنابلة (١): الأفضل مقارنة النية
للتكبير، فإن تقدمت النية على التكبير بزمن يسير بعد دخول الوقت في أداء فريضة
وراتبة، ولم يفسخها، وكان ذلك مع بقاء إسلامه، بأن لم يرتدّ، صحت صلاته؛ لأن تقدم
النية على التكبير بزمن يسير لا يخرج الصلاة عن كونها منْوية، ولا يخرج الفاعل عن
كونه ناويًا مخلصًا، ولأن النية من شروط الصلاة، فجاز تقدمها كبقية الشروط، وفي
طلب المقارنة حرج ومشقة، فيسقط لقوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾
[الحج:٧٨/ ٢٢]، ولأن أول الصلاة من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيه كسائرها.
والخلاصة:
يجب أن تكون النية مقارنة لتكبيرة الإحرام، لكن الشافعية أوجبوا أن تكون النية
مقارنة للتكبير، ومقترنة بكل التكبير؛ لأن التكبير أول أفعال الصلاة، فيجب اقتران
النية به كالحج وغيره، وأجاز باقي المذاهب (الجمهور) تقدم النية على التكبير
بزمان يسير، فإن تأخرت النية أو تقدمت بزمن كثير، بطلت بالاتفاق.
وكذلك قال
الشافعي في الإمامة: إذا أحرم، إمامًا كان أو منفردًا، نوى في حال التكبير، لا
قبله ولا بعده. قال أصحاب الشافعي: لم يرد بهذا أنه لا يجوز أن تتقدم النية على
التكبير، ولا تتأخر عنه، وإنما أراد الشافعي بقوله: «لا قبله» أنه لا يجوز أن
ينوي قبل التكبير، ويقطع نيته قبل التكبير، وكذلك لم يرد بقوله: «ولابعده» أنه لا
تجوز استدامتها بعد التكبير، وإنما أراد لو ابتدأ بالنية بعد التكبير لم تجزه،
فإن نوى قبل التكبير، واستصحب ذكرها إلى آخر التكبير أجزأه، وكذلك لو استدام
ذكرها بعد الفراغ من التكبير أجزأه، وقد أتى بأكثر مما يجب عليه، ولا يضره
ذلك.
(١) كشاف القناع: ٣٦٧، طبع مكة، غاية المنتهى: ٥٤/ ١، ١١٥
وقال
الحنفية: ينبغي أن تكون نية الإمامة وقت اقتداء أحد بالإمام لا قبله، كما أنه
ينبغي أن يكون وقت نية الجماعة أول صلاة المأموم، قال في فتح القدير في صحة
الاقتداء بالإمام: والأفضل أن ينوي الاقتداء عند افتتاح الإمام.
وأما ما يستثنى من وجوب توقيت النية أول العبادة فهو ما يأتي:
١ً - الصوم: يجوز تقديم نيته على أول الوقت، لعسر مراقبته، فلو نوى مع
الفجر لم يصح في الأصح عند الشافعية. وفصل الحنفية القول ورأوا أن الصوم إن كان
أداء رمضان، جاز بنية متقدمة من غروب الشمس، وبنية مقارنة لطلوع الفجر وهو الأصل،
وبنية متأخرة عن الشروع إلى ما قبل نصف النهار الشرعي تيسيرًا على الصائمين. وإن
كان غير أداء رمضان من قضاء أو نذر أو كفارة، فيجوز بنية متقدمة من غروب الشمس
إلى طلوع الفجر، ويجوز بنية مقارنة لطلوع الفجر؛ لأن الأصل القران، وإن كان نفلًا
فكرمضان أداء.
٢ً - الحج: النية فيه سابقة على الأداء، أي أداء المناسك، عند
الإحرام، وهو النية مع التلبية أو ما يقوم مقامها من سوق الهدي عند الحنفية. ورأى
المالكية أن الإحرام ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية
والتوجه إلى الطريق، لكن الأرجح أنه ينعقد بمجرد النية، وقرر الشافعية والحنابلة
أن الإحرام ينعقد بالنية، فإن اقتصر على النية، ولم يلبِّ أجزأه، وإن لبى بلا
نية، لم ينعقد إحرامه، ولا يشترط قرن النية بالتلبية؛ لأنها من الأذكار، فلم تجب
في الحج كسائر الأذكار، فصار الجمهور قائلين بانعقاد الإحرام بالنية؛ ولا ينعقد
بمجردها عند الحنفية، وإنما لابد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام.
والأصح
عند الشافعية أن وقت نية التمتع مالم يفرغ من العمرة.
٣ً -
الزكاة وصدقة الفطر: يجوز تقديم النية فيهما على الدفع إلى الفقراء قياسًا على
الصوم، ويكتفى بوجود النية حال عزل مقدار ما وجب عن بقية المال، أو عند إعطائها
للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، تيسيرًا على المزكين، وإن كان الأصل ألا يجوز أداء
الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء. وهل تجوز بنية متأخرة على الأداء؟ قال الحنفية:
لو دفعها بلا نية، ثم نوى بعده، فإن كان المال قائمًا في يد الفقير جاز وإلا
فلا.
والكفارة مثل الزكاة يجوز تقديمها على وجوبها، ويجوز تقديم نيتها على
دفعها للمستحقين.
٤ً - نية الجمع بين الصلاتين: تكون في الصلاة الأولى، مع
أن الصلاة الثانية هي المجموعة. فإن جعلت الصلاة الأولى أول العبادة، جاز فيها
عند الشافعية تأخير النية عن أولها؛ لأن الأظهر جواز النية في أثنائها ومع التحلل
منها.
٥ً - نية الأضحية: يجوز تقديمها على الذبح، ولا يجب اقترانها به في
الأصح لدى الشافعية. وتجوز النية عند الدفع إلى الوكيل في الأصح.
٦ً - نية
الاستثناء في اليمين: تجب قبل فراغ اليمين مع وجوبها في الاستثناء أيضًا.
عدم اشتراط النية في البقاء:
لا تشترط النية في البقاء للحرج، ولا يلزم نية العبادة في كل جزء، إنما
تلزم في جملة ما يفعله في كل حال. وعليه يكتفى في العبادات الأفعال بالنية في
أولها، ولايحتاج إليها في كل فعل، اكتفاء بانسحابها عليه كالوضوء والصلاة، وكذا
الحج، فلا يحتاج إلى إفراد الطواف والسعي والوقوف بنية. لكن لا يجوز في الصلاة
تفريق النية على أركانها، ويجوز ذلك في الوضوء على الأصح في مذهب
الشافعية
كما بينت، والأكمل في الحج وجود نية الطواف والسعي والوقوف بعرفة عند كل منها،
لكن تشترط النية في طواف النذر والتطوع، لعدم اندراجه مع غيره، وعلى هذا يقال:
لنا عبادة تجب النية في نفلها دون فرضها وهو الطواف، ولا نظير لذلك.
وعبارة
الحنابلة في ذلك: الواجب استصحاب حكم النية دون حقيقتها، بمعنى أنه لا ينوي
قطعها، فلو ذهل عنها، لم يؤثر ذلك في صحة صلاته.
وذكر الحنفية أن الحاج لو
طاف بنية التطوع في أيام النحر، وقع عن الفرض، ولو طاف بعد ما حل النفر ونوى
التطوع أجزأه عن طواف الصدر (الوداع). ولو طاف الحاج طالبًا الغريم لا يجزئه، ولو
وقف في عرفات طالبًا الغريم أجزأه؛ لأن الطواف قربةمستقلة بخلاف الوقوف (١).
خامسًا - كيفية النية:
تتطلب العبادة مع نية فعلها تمييزها عن غيرها، سواء أكان ذلك الغير عبادة
من نوعها أو جنسها أم غير عبادة أي فعلًا عاديًا؛ لأن المقصود بالنية في العبادة
تمييزها عن العادات، أو تمييز رتب العبادة عن بعضها.
مثلًا الوضوء يكون
عبادة إذا قصد به التوصل للعبادة كالصلاة والطواف ونحوهما مما يفتقر إلى ذلك،
ويكون عادة للنظافة والتبرد ونحوهما، فإذا نوى استباحة الصلاة باستعمال الماء في
أعضاء الوضوء، أو فرض الغسل، صح الوضوء.
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم:
ص٤٥ - ٤٦، وللسيوطي: ص٢٣، أحكام النية للحسيني: ص١٢٤ - ١٢٦، المغني: ٤٦٧/ ١.
ولاسبب.
والصلاة، وإن لم تكن من جنس العادات، بل هي محض عبادة،
فإنها تتنوع إلى نوعين: فرض وسنة، والفرض: عيني وكفائي، الأول: الصلوات الخمس،
والثاني: الجنازة. والسنة: رواتب تابعة للفرائض، ووتر وعيدان وكسوفان واستسقاء
وتراويح، ونفل مطلق. فالفرض لابد مع نية فعله من ملاحظة تعينه باسمه، ليتميز عن
باقي الفروض، ومن ملاحظة فرضيته ليتميز عما عداه من السنن، ولم يشترط بعض الفقهاء
التعرض في نيته للفرضية، اكتفاء بالتعيين بالاسم، لوضعه للفرض. والرواتب والسنن
المؤكدة غير النفل المطلق: لابد مع نية فعلها من ملاحظة تعينها بإضافة: كراتبة
كذا، أو صلاة عيد كذا، أو صلاة كسوف.
وأما النفل المطلق: فيكفي فيه نية
الفعل، لتميزه بذاته عن غيره لعدم تقيده بوقت وإعطاء المال للغير من غير مقابل:
قد يكون زكاة، وصدقة تطوع، وهدية، وهبة، فلا بد مع نية الإعطاء من التعيين بالوصف
الشرعي وهو الزكاة مثلًا، ليتميز عن الإعطاء لغيرها، ولا يحتاج لنية الفرض؛ لأن
لفظ الزكاة موضوع شرعًا للفرض.
والإمساك عن المفطرات قد يكون لأجل الصيام،
وقد يكون لأجل الحمية والتداوي، فلا بد مع نية الإمساك من ملاحظة تعينه بكونه
صيامًا ليتميز عن غيره. ثم إن الصيام يكون فرضًا وسنة كالصلاة، فلا بد مع نية
الصيام من ملاحظة تعينه بكونه عن رمضان إن وقع في غير شهره، أو قضاء عنه، أو
كفارة يمين أو ظهار أو قتل أو جماع في رمضان أو فدية تطيب في الحج مثلًا. ولا
يحتاج في ذلك إلى ملاحظة الفرض؛ لأن هذه الأمور لا تكون إلا فرضًا، فهو متعين
بذاته لا يشتبه بغيره من السنن.
وقصد الحرم قد يكون للإحرام، وقد يكون لغيره
من العادات كالتجارة أو
غيرها، فلابد مع قصده من ملاحظة كونه
للإحرام، إما بالحج إن كان الوقت قابلًا له وذلك في أشهر الحج، أو بالعمرة، أو
مطلقًا، ويصرف لما شاء منهما، إن كان الوقت قابلًا للحج، وإلا تعين للعمرة. ولا
يشترط نية الفرضية لانصراف الإحرام إليه، حيث لم يسبق له حج ولا عمرة (١).
ودليل
اشتراط التعيين حديث: (وإنما لكل امرئ مانوى) فهو ظاهر في اشتراط التعيين، كما
بينا.
وأذكر هنا أمثلة لكيفية النية في العبادات، ففي الوضوء: أن ينوي رفع
الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء، أو امتثال الأمر الإلهي، أو يقصد
بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، أو ينوي رفع
الجنابة أو فرض الغسل، أو الغسل المفروض مع أول غسل جزء من الجسد وهو الرأس أو
غيره. وإذا وضأه غيره، اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ؛ لأن المتوضئ هو
المخاطب بالوضوء. وينوي من حدثه دائم كالمستحاضة وسلس البول ونحوه استباحة الصلاة
دون رفع الحدث، لعدم إمكان رفعه (٢).
وفي التيمم: ينوي عند الحنفية أحد أمور
ثلاثة: إما نية الطهارة من الحدث، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة لا تصح
بدون طهارة، كالصلاة أو سجدة التلاوة أو صلاة الجنازة، ولا تشترط له نية الفرض؛
لأنه من الوسائل عندهم.
(١) نهاية الإحكام في بيان ماللنية من الأحكام لأحمد
الحسيني: ص١٠ ومابعدها.
(٢) البدائع: ١٧/ ١، الدر المختار: ٩٨/ ١ ومابعدها،
١٤٠ ومابعدها، المجموع: ٣٦١/ ١ وما بعدها، مغني المحتاج ٤٧/ ١، ٧٢، بداية
المجتهد: ٧/ ١ ومابعدها، ٤٢ ومابعدها، الشرح الصغير: ١١٤/ ١ ومابعدها، ١٦٦
ومابعدها، كشاف القناع: ٩٤/ ١ ومابعدها،١٧٣ ومابعدها، المغني: ١٤٢/ ١،٢١٨ وما
بعدها.
ونية التيمم عند المالكية: إما استباحة الصلاة أو
استباحة ما منعه الحدث، أو فرض التيمم عند مسح الوجه، ولو نوى رفع الحدث فقط، كان
تيممه باطلًا؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، على المشهور عندهم. ولو نوى فرض التيمم
أجزأه.
وقال الشافعية: لابد أن ينوي استباحة الصلاة ونحوها، فلا يكفي في
الأصح نية فرض التيمم أو فرض الطهارة أو الطهارة عن الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم
لا يرفع الحدث عندهم.
وينوي عند الحنابلة استباحة ما لا يباح إلا بالتيمم
كالصلاة ونحوها، من طواف أو مس مصحف، أي كما قال الشافعية (١).
وفي الغسل:
ينوي المغتسل عند غسل أول جزء من البدن نية فرض الغسل أو رفع الجنابة أو الحدث
الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إلى الغسل كأن ينوي استباحة الصلاة أو الطواف مما
يتوقف على غسل، فإن نوى ما لا يفتقر إليه كالغسل ليوم العيد، لم يصح. وتكون النية
مقرونة بأول فرض: وهو أول ما يغسل من البدن، سواء أكان من أعلاه أم من أسفله، إذ
لا ترتيب فيه (٢). ولا تشترط عند الحنفية نية الفرضية، الغسل والوضوء، لعدم
اشتراط النية فيهما.
(١) فتح القدير: ٨٦/ ١، ٨٩، البدائع: ٢٥/ ١، ٥٢، تبيين
الحقائق: ٣٨/ ١، الشرح الكبير: ١٥٤/ ١، القوانين الفقهية: ص٣٧، المهذب: ٣٢/ ١،
مغني المحتاج: ٩٧/ ١، المغني: ٢٥١/ ١، كشاف القناع: ١٩٩/ ١.
(٢) فتح القدير:
٣٨/ ١ ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: ٢٠/ ١، الشرح الصغير: ١٦٦/ ١ ومابعدها، بداية
المجتهد: ٤٢/ ١ومابعدها، مغني المحتاج: ٧٢/ ١ ومابعدها، المغني: ٢١٨/ ١ ومابعدها،
كشاف القناع: ١٧٣/ ١ ومابعدها.
وفي الصلاة:
قال الحنفية:
إن كان المصلي منفردًا يصلي وحده، عيَّن نوع الفرض أو الواجب، وإن كان تطوعًا
تكفيه نية الصلاة.
وإن كان المصلي إمامًا، عيَّن كما سبق، ولا يشترط للرجل
نية إمامة الرجال، ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم. ويشترط للرجل نية إمامة
النساء لصحة اقتدائهن به.
وإن كان مقتديًا، عيَّن أيضًا كما سبق، ويحتاج
لزيادة نية الاقتداء بالإمام، كأن ينوي فرض الوقت والاقتداء بالإمام فيه، أو ينوي
الشروع في صلاة الإمام، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته.
وقال المالكية:
يجب التعيين في الفرائض، والسنن الخمس (وهي الوتر والعيد والكسوف والخسوف
والاستسقاء) (١) وسنة الفجر، دون غيرها من النوافل كالضحى والرواتب والتهجد،
فيكفي فيه نية مطلق نفل، وينصرف للضحى إن كان قبل الزوال، ولراتب الظهر إن كان
قبل صلاته، أو بعده، ولتحية المسجد إن كان حين الدخول فيه، وللتهجد إن كان في
الليل، وللشفع (سنة العشاء) إن كان قبل الوتر. ولا يشترط نية الأداء أو القضاء أو
عدد الركعات، فيصح القضاء بنية الأداء وعكسه. وتجب نية الانفراد، والمأمومية، ولا
تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع بين الصلاتين تقديمًا للمطر، والخوف،
والاستخلاف، لكون الإمام شرطًا فيها (٢).
(١) البدائع: ١٢٧/ ١ ومابعدها،
الدر المختار: ٤٠٦/ ١، تبيين الحقائق:٩٩/ ١، فتح القدير: ١٨٥/ ١، الأشباه
والنظائر لابن نجيم: ص٣٢ ومابعدها.
(٢) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: ٢٣٣/
١، ٥٢٠، بداية المجتهد: ١١٦/ ١، القوانين الفقهية: ص٥٧.
وقرر
الشافعية (١) أنه إن كانت الصلاة فرضًا، ولو فرض كفاية كصلاة الجنازة، أو قضاء
كالفائتة، أو معادة، أو نذرًا يجب ثلاثة أمور:
أـ نية الفرضية: أي يلاحظ
ويقصد كون الصلاة فرضًا، لتتميز عن النفل والمُعَاد. والعبارة عن نية الفرض: أن
يقول: (أؤدي الظهر، فرض الوقت لله تعالى) فيشمل قوله: (أؤدي) أصل الفعل
والأداء.
ب - والقصد: أي قصد إيقاع الفعل، بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن
سائر الأفعال.
جـ - التعيين: أي تعيين نوع الفريضة من صبح أو ظهر مثلًا، بأن
يقصد إيقاع صلاة فرض الظهر مثلًا.
ويشترط أن يكون ذلك مقارنًا لجميع أجزاء
تكبيرة الإحرام، مقارنة إجمالية لاتفصيلية، بأن يستحضر المصلي أركان الصلاة، أي
أن تكون حاضرة في الذهن في زمن واحد، بأن يحضر المصلي في ذهنه ذات الصلاة وصفاتها
التي يجب التعرض لها كالظهرية والفرضية وغيرهما، ثم يقصد إلى هذا المعلوم قصدًا
مقارنًا لأول التكبير، ودائمًا مع ذكر المعلوم إلى آخر التكبير، وتكفي المقارنة
العرفية العامة، بحيث يعدّ المصلي مستحضرا ً للصلاة غير غافل عنها، قال النووي:
وهو المختار.
وهذا الحكم هو المقصود عندهم بالاستحضار والمقارنة العرفيين،
أي يستحضر قبل التحريمة فعل الصلاة من أقوالها وأفعالها في أولها وآخرها ولو
إجمالًا، على المعتمد، ويقرن ذلك الاستحضار السريع في الذهن في أثناء تكبيرة
الإحرام.
(١) المجموع: ٢٤٣/ ٣ - ٢٥٢، مغني المحتاج: ١٤٨/ ١ - ١٥٠، ٢٥٢ -
٢٥٣، حاشية الباجوري: ١٤٩/ ١.
والحاصل: إن كانت الصلاة إحدى
الفرائض الخمس، يجب على المصلي ثلاث نيات: فعل الصلاة، والفرضية، والتعيين،
فيقول: نويت أن أصلي فرض الظهر، أو نويت أداء فرض صلاة العصر، أو فرض صلاة
المغرب، ينوي الصلاة لتتميز العبادة عن العادة، وينوي الظهر لتمتاز عن العصر،
وينوي الفرض ليمتاز عن النفل.
ولا يشترط نية عدد الركعات، ولا تعيين اليوم،
لا في الأداء ولا في القضاء، ولا الإضافة إلى الله تعالى (١)، ولا التعرض لأركان
الصلاة، ولا لاستقبال القبلة، ولا التعرض للأداء والقضاء في الأصح عند الأكثرين،
وإنما يسن ذلك كله، فلا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادة لا تكون إلا له
﷾، لكن تستحب ليتحقق معنى الإخلاص. ويستحب نية استقبال القبلة وعدد الركعات
خروجًا من الخلاف، فلو أخطأ في العدد، كأن نوى الظهر ثلاثًا أو خمسًا، لم تنعقد
صلاته، كما يستحب نية الأداء والقضاء للتمييز بينهما. والأصح لدى الشافعية أنه
يصح الأداء بنية القضاء وعكسه في حالة العذر، كجهل الوقت بسبب غيم أو نحوه، فلو
ظن خروج الوقت، فصلاها قضاء، فبان بقاؤه، أو ظن بقاء الوقت، فصلاها أداء، فبان
خروجه، صحت صلاته.
وذكر المالكية: أنه يصح القضاء بنية الأداء وعكسه مطلقًا.
ويصح عند الحنابلة أيضًا القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه. كذلك قال
الحنفية: يجوز الأداء بنية القضاء وبالعكس في الصلاة والحج.
وإن كانت الصلاة
نفلًا ذات وقت كسنن الرواتب، أو ذات سبب
(١) وهذا هو أيضًا رأي الحنفية
والمالكية كما بينا، ورأي الحنابلة (الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٣٢ - ٣٥، كشاف
القناع: ٣٦٥/ ١ ومابعدها، غاية المنتهى: ١١٦/ ١).
كالاستسقاء،
وجب أمران: قصد فعله، وتعيينه كسنة الظهر أو عيد الفطر أو الأضحى، ولا يشترط نية
النفلية على الصحيح.
ويكفي في النفل المطلق (وهو الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب
نحو تحية المسجد وسنة الوضوء) نية فعل الصلاة.
ولا يشترط للإمام نية
الإمامة، بل يستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من
عمله إلا مانوى. وتشترط نية الإمامة في مذهب الشافعية في حالات أربع: في الجمعة،
والصلاة المجموعة مع غيرها للمطر جمع تقديم، والصلاة المعادة في الوقت جماعة،
والصلاة التي نذر أن يصليها جماعة، للخروج من الإثم. وكذلك قال المالكية: لا تجب
نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع والخوف والاستخلاف، لكون الإمام شرطًا فيها،
وزاد ابن رشد الجنائز.
ويشترط للمقتدي نية الاقتداء: بأن ينوي المأموم مع
تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة بالإمام الحاضر، أو بمن في
المحراب ونحو ذلك؛ لأن التبعية عمل، فافتقرت إلى نية، إذ ليس للمرء إلا ما نوى.
ولا يكفي إطلاق نية الاقتداء، من غير إضافة إلى الإمام، فلو تابع بلا نية، أو مع
الشك فيها، بطلت صلاته إن طال انتظاره.
ومذهب الحنابلة (١): إن كانت الصلاة
فرضًا، اشترط أمران: تعيين نوع الصلاة: ظهرًا أو عصرًا أو غيرهما، وقصد الفعل،
ولا يشترط نية الفرضية بأن يقول: أصلي الظهر فرضًا.
(١) المغني: ٤٦٤/ ١ -
٤٦٩، ٢٣١/ ٢، كشاف القناع: ٣٦٤/ ١ - ٣٧٠.
أما الفائتة: فإن
عينها بقلبه أنها ظهر اليوم، لم يحتج إلى نية القضاء، ولا الأداء. ويصح القضاء
بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه.
وإن كانت الصلاة نافلة: فيجب تعيينها
إن كانت معينة أو مؤقتة بوقت كصلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر، والسنن
الرواتب؛ ولا يجب تعيين النافلة إن كانت مطلقة، كصلاة الليل، فيجزئه نية الصلاة
لا غير، لعدم التعيين فيها، فهم كالشافعية في هذا.
وفي الصوم: رأى الحنفية
(١) أنه يصح صوم رمضان ونحوه كالنذر المعين زمانه بمطلق النية، وبنية النفل،
وبنية واجب آخر، ولا يجب تبييت نية صوم رمضان، كما أبنت، والتسحر نية عندهم.
وصفة
النية عند المالكية (٢): أن تكون معينة مبيتة جازمة. وكمال النية لدى الشافعية
(٣) في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى، والمعتمد
أنه لا يجب في التعيين نية الفرضية.
ومذهب الحنابلة (٤): من خطر بباله أنه
صائم غدًا، فقد نوى، ويجب تعيين النية، بأن يعتقد أنه يصوم غدًا من رمضان أو من
قضائه أو من نذره أو كفارته، ولا يجب مع التعيين نية الفرضية.
والحاصل: اتفق
الجمهور غير الحنفية على وجوب تبييت النية، كما اتفق الجمهور غير الشافعية على أن
الأكل والشرب بنية الصوم أو التسحر نية، إلا أن
(١) مراقي الفلاح: ص ١٠٦
ومابعدها، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٣٣.
(٢) القوانين الفقهية: ص ١١٧،
بداية المجتهد: ٢٨٣/ ١.
(٣) مغني المحتاج: ٤٢٥/ ١.
(٤) كشاف القناع:
٣٦٧/ ٢.
ينوي معه عدم الصيام. ولا يقوم مقام النية لدى الشافعية
التسحر في جميع أنواع الصيام، إلا إذا خطر له الصوم عند التسحر ونواه، كأن يتسحر
بنية الصوم، أو امتنع من الأكل عند الفجر خوف الإفطار.
وفي الاعتكاف (وهو
اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية، كما عرفه الشافعية) تشترط النية اتفاقًا، فلا
يصح الاعتكاف إلا بالنية، للحديث المتقدم: (إنما الأعما ل بالنيات) ولأنه عبادة
محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان
الاعتكاف فرضًا، لزمه تعيين النية للفرض، لتمييزه عن التطوع. ويشترط له أيضًا عند
الحنفية والمالكية الصوم (١)، لحديث رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة: «لا
اعتكاف إلا بصوم»، لكنه ضعيف. وليس الصوم بشرط عند الشافعية والحنابلة إلا أن
ينذره، ونية الاعتكاف أن يقول: (نويت الاعتكاف في هذا المسجد ما دمت فيه).
وفي
الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النية شرط في أداء الزكاة، وينوي المزكي: «هذا زكاة
مالي» ولا يشترط ذكر الفرض؛ لأن الزكاة لا تكون إلا فرضًا، ونحو ذلك مثل: هذا فرض
صدقة مالي، أو صدقة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، أو فرض الصدقة. وتجزئ عند
المالكية نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي. وقال الحنابلة: النية أن
يعتقد أنها زكاته، أو زكاة ما يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب؛ لأن محل
الاعتقادات كلها القلب (٢).
(١) فتح القدير: ١٠٦/ ٢ ومابعدها، الدر المختار:
١٧٧/ ٢ ومابعدها. الشرح الصغير وحاشية الصاوي: ٧٢٥/ ٢ ومابعدها، المهذب: ١٩٠/ ١ -
١٩٢، مغني المحتاج: ٤٥٣/ ١وما بعدها، كشاف القناع: ٤٠٦/ ٢ ومابعدها، المغني: ١٨٤/
٣ - ١٨٦.
(٢) فتح القدير: ٤٩٣/ ١، البدائع: ٤٠/ ٢، المجموع: ١٨٢/ ٦
ومابعدها، الشرح الصغير: ٦٦٦/ ١، ٦٧٠، المغني: ٦٣٨/ ٢ ومابعدها.
وفي
الحج والعمرة: لا بد فيهما من النية، وهي الإحرام: وهو نية الحج أو العمرة، أو
هما، بأن يقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به لله تعالى. وإن حج أو اعتمر عن
غيره قال: نويت الحج أوالعمرة عن فلان، وأحرمت به لله تعالى. ثم يلبي عقب صلاة
ركعتي الإحرام. وينعقد الإحرام عند الجمهور بالنية، ولا ينعقد عند الحنفية
بمجردها، وإنما لابد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد،
ويسن عند الحنفية النطق بما نوى بأن يقول الحاج المفرد: اللهم إني أريد الحج
فيسره لي وتقبله مني، ويقول المعتمر: اللهم إني أريد العمرة، فيسرها لي، وتقبلها
مني، ويقول القارن: اللهم إني أريد العمرة والحج، فيسرهما لي وتقبلهما مني
(١).
ونية الأضحية: أن تكون في رأي الشافعية والحنابلة عند ذبح الأضحية؛ لأن
الذبح قربة في نفسه، ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛
لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها (٢).
سادسًا - الشك في النية، وتغييرها،
والجمع بين عبادتين بنية واحدة: الشك في النية: عني الشافعية والحنابلة (٣)
بأمر النية والشك فيها في العبادات، فقرروا أن الشك في أصل النية أو في شرطها
يبطل العبادة. فإذا شك المصلي، هل نوى صلاة الظهر أو العصر، فلا يحسب له واحدة
منهما، كما نص عليه الشافعي في الأم.
(١) القوانين الفقهية: ص١٣١، البدائع:
١٦١/ ٢ ومابعدها، الشرح الصغير: ١٦/ ٢،٢٥، مغني المحتاج: ٤٧٦/ ١ ومابعدها،
المجموع: ٢٢٦/ ٧، المغني: ٢٨١/ ٣ ومابعدها.
(٢) البدائع: ٧١/ ٥، القوانين
الفقهية: ص ١٨٧، مغني المحتاج: ٢٨٩/ ٤، كشاف القناع: ٦/ ٣.
(٣) أحكام النية
للحسيني: ص٤٨ - ٥١، ٦٦، مغني المحتاج: ٤٧/ ١، ١٤٨ ومابعدها، ٢٥٢ وما بعدها،
المغني: ١٤٢/ ١، ٤٦٧، غاية المنتهى: ١١٦/ ١، كشاف القناع: ٣٩٦/ ١.
وإن
شك المتطهر في النية في أثناء الطهارة، لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها،
وهو فيها، فلم تصح كالصلاة. ولا يضر شكه في النية بعد فراغ الطهارة، كسائر
العبادات.
وقرر الشافعية: أن النية شرط في جميع الصلاة، فلو شك في النية في
صلاته، هل أتى بها أو لا، بطلت صلاته. وبطلان صلاته فيما إذا فعل مع الشك مالا
يزاد مثله في الصلاة، وإن زيد بطلت كالركوع والسجود والرفع منهما.
أي أن
صلاته تبطل إذا استمر في الشك بمقدار أداء ركن فعلي، فإن لم يمض ركن، وقصر
الزمان، لم تبطل صلاته على المشهور، إلا إذا شك المسافر في نية القصر، ثم تذكر
أنه نوى عن قرب، يلزمه الإتمام، لأن تلك اللحظة، وإن قصرت، فهي في حق المسافر
محسوبة من الصلاة، مع تخلف نية القصر، وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف نية القصر،
غلب الإتمام، فإنه الأصل.
ومالا يشترط أصل نيته، فالشك فيه لا يمنع الجواز،
واستحضار النية في أثناء الصلاة لا يشترط، فلو صلى ركعة من الظهر، فظن في الركعة
الثانية أنها من العصر، ثم تذكر في الثالثة، صح ظهره، ولا يضر ظنه أنها من العصر؛
لأن مالا يجب أصل نيته، فالخطأ فيه لا يضر.،ولو شك في أصل النية، فأتى بفعل
الصلاة على الشك، بطلت؛ لأن أصل النية، وإن لم يكن شرطًا، فاستدامة الحكم شرط.
وحكم
الشك في شرط النية كالحكم في أصلها، فلو فاتته صلاتان، فعرفهما، فدخل في إحداهما
بنية، ثم شك، فلم يدر أيتهما نوى، وصلى، لم تجزئه هذه الصلاة عن واحدة منهما، حتى
يكون على يقين أو ظن غالب من التي نوى.
وكذلك قرر الحنابلة: إن
شك في أثناء الصلاة، هل نوى أو لا؟ أو شك في تكبيرة الإحرام، استأنفها، كما قال
الشافعية؛ لأن الأصل عدم ماشك فيه. فإن ذكر أنه قد نوى، أو كبر قبل قطعها، فله
البناء أي الإكمال؛ لأنه لم يوجد مبطل لها. وإن عمل في الصلاة عملًا مع الشك،
بطلت الصلاة، كما قال الشافعية.
تغيير النية: اتفق الفقهاء على أن المصلي
إذا أحرم بفريضة، ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى، بطلت الاثنتان؛ لأنه قطع نية
الأولى، ولم ينو الثانية عند الإحرام. فإن حول الفرض إلى نفل، فالأرجح عند
الشافعية أنها تنقلب نفلًا؛ لأن نية الفرض تتضمن نية النفل، بدليل أنه لو أحرم
بفرض، فبان أنه لم يدخل وقته، كانت صلاته نافلة، والفرض لم يصح، ولم يوجد ما يبطل
النفل.
والحاصل: تبطل الصلاة بفسخ النية أو تردده فيها أو عزمه على إبطالها
أو نية الخروج من الصلاة، أو إبطالها وإلغاء ما فعله من الصلاة، أو شكه هل نوى أو
لا، أو بالانتقال من صلاة إلى أخرى (١).
الجمع بين عبادتين بنية واحدة:
قال
الحنفية (٢): إما أن يكون الجمع بين العبادتين في الوسائل أو في المقاصد.
فإن
كان في الوسائل، فإن الكل صحيح، كما لو اغتسل الجنب يوم الجمعة للجمعة ولرفع
الجنابة، ارتفعت جنابته وحصل له ثواب غسل الجمعة. ومثله لو نوى الغسل للجمعة
والعيد، فإنهما يحصلان.
وإن كان في المقاصد: فإما أن ينوي فرضين، أو نفلين،
أو فرضًا ونفلًا.
أما
(١) كشاف القناع: ٣٧٠/ ١، المغني: ٤٦٨/ ١، فتح
القدير٢٨٥/ ١.
(٢) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٣٩ وما بعدها.
الأول
(نية الفرضين): فإن كان في الصلاة، لم تصح واحدة منهما، فلو نوى صلاتي فرض كالظهر
والعصر، لم يصحا اتفاقًا. ولو نوى في الصوم القضاء والكفارة، كان عن القضاء. ولو
نوى الزكاة وكفارة الظهار، جعله عن أيهما شاء. ولو نوى الزكاة وكفارة اليمين، فهو
عن الزكاة. ولو نوى صلاة مكتوبة (مفروضة) وصلاة جنازة، فهي عن المكتوبة. وقد ظهر
بهذا أنه إذا نوى فرضين: فإن كان أحدهما أقوى، انصرف إليه، فصوم القضاء أقوى من
صوم الكفارة، وإن استويا في القوة، فإن كان في الصوم، فله الخيار ككفارة الظهار
وكفارة اليمين، وكذلك الزكاة وكفارة الظهار. وأما الزكاة مع كفارة اليمين،
فالزكاة أقوى، وأما في الصلاة فيقدم أيضًا، فقدمت المكتوبة على صلاة الجنازة.
وإن
نوى فرضًا ونفلًا، فإن نوى الظهر والتطوع، أجزأه عن المكتوبة وبطل التطوع، في رأي
أبي يوسف. وقال محمد: لا يجزئه شيء منهما. وإن نوى الزكاة والتطوع يكون عن
الزكاة، وعند محمد عن التطوع. ولو نوى نافلة وجنازة فهي نافلة.
وأما إذا نوى
نافلتين، كما إذا نوى بركعتي الفجر التحية والسنة أجزأت عنهما.
وأما التعدد
في الحج: فلو أحرم نذرًا ونفلًا، كان نفلًا، أو فرضًا وتطوعًا، كان تطوعًا عند
أبي يوسف ومحمد في الأصح. ولو أحرم بحجتين معًا أو على التعاقب، لزماه عند أبي
حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: في المعية يلزمه إحداهما، وفي التعاقب الأولى
فقط.
وإذا نوى عبادة ثم نوى في أثنائها الانتقال عنها إلى غيرها، فإن كبر
ناويًا الانتقال إلى غيرها، صار خارجًا، كما إذا نوى تجديد الأولى وكبر.
وذكر
السيوطي (١): لو نوى مع النفل نفلا ً آخر فلا يحصلان، لكن لو نوى صوم يوم عرفة
والاثنين مثلًا، فيصح. أما لو نوى سُنَّتين: فإن لم تدخل إحداهما في الأخرى كسنة
الضحى وقضاء سنة الفجر، فلا تنعقدان عند التشريك بينهما. وأما إن دخلت إحداهما في
الأخرى كتحية المسجد وسنة الظهر مثلًا، فتنعقدان؛ لأن التحية تحصل ضمنًا. ومثل
التحية في رأي ابن حجر وشيخه العراقي أن ينوي مع الفرض صوم يوم عرفة وعاشوراء
وتاسوعاء وستة من شوال والأيام البيض ويوم الاثنين والخميس من كل شهر.
أما
لو نوى مع غير العبادة شيئًا آخر غيرهما، كما لو قال لزوجته: أنت عليَّ حرام،
ناويًا الطلاق والظهار، أو قال لزوجتيه: أنتما على حرام، ناويًا في إحداهما
الطلاق ووفي الأخرى الظهار، حمل في رأي الحنفية إن أراد أحدهما على الأغلظ منهما
وهو الطلاق؛ لأن اللفظ الواحد لا يحمل على أمرين. والأصح عند الشافعية: يخير
بينهما، فما اختاره ثبت (٢).
وسيأتي في بحث المقصود بالنية تفصيل رأي
الشافعية في هذا الموضوع.
سابعًا - المقصود بالنية ومقوماتها:
أوضح ابن نجيم والسيوطي (٣) الهدف أو الغاية من النية إيضاحًا تامًا،
فقالا: إن المقصود الأهم من النية تمييز العبادات من العادات وتمييز رُتَب
العبادات بعضها من بعض، كالوضوء والغسل، يتردد بين التنظيف والتبرد والعبادة.
والإمساك عن المفطرات قد يكون حِمْية أو تداويًا أو لعدم الحاجة إليه. والجلوس في
المسجد
(١) الأشباه والنظائر: ص ٢٠.
(٢) الأشباه لابن نجيم: ص ٤٢،
وللسيوطي: ص٢١.
(٣) الأشباه لابن نجيم: ص ٢٤ ومابعدها، وللسيوطي: ص ١٠ -
٢١.
قد يكون للاستراحة.
ودفع المال قد يكون هبة أو لغرض
دنيوي، وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة. والذبح قد يكون للأكل، فيكون
مباحًا أو مندوبًا، أو للأضحية فيكون عبادة، أو لقدوم أمير، فيكون حرامًا، فشرعت
النية لتمييز القربات من غيرها.
والتقرب إلى الله تعالى يكون بالفرض والنفل
والواجب، فشرعت النية لتمييزها عن بعضها، فكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم
ونحوها قد يكون فرضاَ ونذرًا ونفلًا. والتيمم قد يكون عن الحدث، أو عن الجنابة،
وصورته واحدة وهي في الوجه واليدين فقط.
ويتفرع عن ذلك أمور:
١ ً - ما
لا يكون عادة أو لا يلتبس بغيره، لا تشترط فيه نية زائدة على قصد الفعل، كالإيمان
بالله تعالى، والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن والأذكار؛ لأنها
متميزة لا تلتبس بغيرها، فإذا قصد الإنسان الإيمان أو القراءة، صار طاعة مثابًا
عليها، بدون قصد التقرب، أما غير ذلك فلا يكفي فيه مجرد قصد الفعل، بل لا بد من
نية زائدة، بأن ينوي التقرب في دخول المسجد ونحوه، ليكون مثابًا عليه.
٢ ً -
اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره: لقوله ﷺ: «وإنما لكل امرئ مانوى» فهذا ظاهر
في اشتراط التعيين، فيشترط في الفرائض التعيين لتساوي الظهر والعصر صورة وفعلًا،
فلا يميز بينها إلا التعيين. وتعين النوافل غير المطلقة كالرواتب (سنن الصلاة)
بإضافتها إلى الظهر مثلًا قبلية أو بعدية.
ثم ذكر السيوطي قواعد
ثلاثًا وهي:
أـ (ما لايشترط التعرض له لا جملة ولا تفصيلًا لايضر الخطأ فيه)
أي في تعيينه، مثل مكان الصلاة وزمانها.
ب - (وما يشترط تعيينه يضر الخطأ
فيه) كالخطأ من الصوم إلى الصلاة ومن الظهر إلى العصر.
جـ - (وما يجب التعرض
له جملة ولا يجب تعيينه تفصيلًا، إذا عينه وأخطأ فيه ضر) مثل عدد الركعات، لو نوى
الظهر خمسًا أو ثلاثًا لم يصح.
٣ ً - اشتراط التعرض للفرضية وللصلاة: يترتب
كلاهما على ماشرعت النية لأجله وهو التمييز، فلا بد من بيان صفة الفرضية لتتميز
عن النفل.
والأصح وجوب التعرض للصلاة لتتميز عن غيرها من صوم وغيره، والأصح
اشتراط التعرض للفرضية في الغسل دون الوضوء؛ لأن الغسل قد يكون عادة، والوضوء لا
يكون إلا عبادة. والأصح اشتراط التعرض للفرضية في الزكاة، إن أتى بلفظ الصدقة،
وعدم التعرض لها إن أتى بلفظ الزكاة؛ لأن الصدقة قد تكون فرضًا، وقد تكون نفلًا،
فلا يكفي مجردها، والزكاة لا تكون إلا فرضًا؛ لأنها اسم للفرض المتعلق بالمال،
فلا حاجة إلى تقييدها به. وكذا الحج والعمرة لا يشترط فيهما التعرض للفرضية بلا
خلاف.
والخلاصة: تنقسم العبادات التي تجب فيها النية بالنسبة لوجوب نية
الفرضية إلى أقسام أربعة:
ـ الحج والعمرة والزكاة بلفظها والجماعة: لا تشترط
فيها بلا خلاف.
ـ الصلاة والجمعة منها، والغسل، والزكاة بلفظ الصدقة: تشترط
فيها على الأصح. - الوضوء والصوم: لاتشترط فيها على الأصح.
ـ
التيمم: لا يكفي فيه نية الفرضية، بل يضر على الصحيح، فإذا نوى فرضه لم يكف.
٤
ً - عدم اشتراط نية القضاء والأداء، على الأصح، في الصلوات، ومنها الجمعة.
وأما
الصوم: فالذي يظهر ترجيحه أن نية القضاء لا بد منها فيه. وأما الحج والعمرة فلا
شك أنهما لا يشترطان فيهما، إذ لو نوى بالقضاء الأداء لم يضره، وانصرف إلى
القضاء. ولو كان عليه قضاء حج أفسده في صباه ثم بلغ، فنوى القضاء، انصرف إلى حجة
الإسلام وهي الأداء.
٥ ً - الإخلاص: يترتب على التمييز، فلا تصح النيابة أو
التوكيل في النية إلا فيما يقبل النيابة وهو ما يقترن بفعل، كتفرقة زكاة، وذبح
أضحية، وصوم عن الميت، وحج؛ لأن المقصود اختبار سر العبادة، بأن ينويها المكلف
بالعبادة بنفسه.
وضابط التشريك في النية يتضح في الأقسام التالية التي
ذكرناها في بحث الجمع بين العبادتين بنية واحدة وهي:
الأول - أن ينوي مع
العبادة ماليس بعبادة، فقد يبطلها، كما إذا ذبح الأضحية لله ولغيره، فانضمام غيره
يوجب حرمة الذبيحة. ويقرب من ذلك: ما لو كبَّر للإحرام بالصلاة مرات، ونوى بكل
تكبيرة افتتاح الصلاة، فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار، ويخرج بالأشفاع لأن من
افتتح صلاة، ثم افتتح أخرى، بطلت صلاته؛ لأنه يتضمن قطع الأول. فلو نوى الخروج
بين التكبيرتين، خرج بالنية، ودخل بالتكبيرة، ولو لم ينو بالتكبيرات شيئًا، لا
دخولًا ولا خروجًا. صح دخوله بالأولى، والبواقي ذِكْر.
وقد لا
يبطلها، كما لو نوى مع الوضوء أو الغسل التبرد، الأصح الصحة لأن التبرد حاصل،
قصده أم لا، فلم يجعل قصده تشريكًا للعبادة مع غيرها وتركًا للإخلاص، بل هو قصد
للعبادة على حسب وقوعها لأن من ضرورتها حصول التبرد.
الثاني - أن ينوي مع
العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة، وفيه صور:
منها - ما لا يقتضي البطلان
وتحصلان معًا: كأن أحرم بصلاة، ونوى بها الفرض والتحية معًا، صحت، وحصلا معًا.
وكأن ينوي بغسله غسل الجنابة والجمعة معًا، حصلا جميعًا على الصحيح. ولو نوى
بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الحاضرين حصلا. ولو حج الفرض وقرنه بعمرة
التطوع، أو عكسه، حصلا. ولو نوى في صوم يوم عرفة غيره من قضاء أو نذر أو كفارة،
صح وحصلا معًا.
ومنها - ما يحصل الفرض فقط: كأن نوى بحجه الفرض والتطوع، وقع
فرضًا؛ لأنه لو نوى التطوع، انصرف إلى الفرض. ولو صلى الفريضة الفائتة في ليالي
رمضان، ونوى معها التراويح، حصلت الفائتة دون التراويح.
ومنها - ما يحصل
النفل فقط: كأن أخرج خمسة دراهم، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع، لم تقع زكاة،
ووقع التطوع. ولو خطب بقصد الجمعة والكسوف، لم يصح للجمعة؛ لأنه تشريك بين فرض
ونفل.
ومنها - ما يقتضي البطلان في الكل: كأن كبَّر المسبوق، والإمام راكع
تكبيرة واحدة، ونوى بها التحرُّم والهويّ إلى الركوع، لم تنعقد الصلاة أصلًا،
للتشريك. ولو نوى بصلاته الفرض والراتبة، لم تنعقد أصلًا.
الثالث
- أن ينوي مع المفروضة فرضًا آخر، ويجري ذلك في الحج والعمرة، والغسل والوضوء
معًا، فإنهما يحصلان على الأصح.
الرابع - أن ينوي مع النفل نفلًا آخر: فلا
يحصلان، لأن السَّنتين إذا لم تدخل إحداهما في الأخرى، لا تنعقدان عند التشريك
بينهما كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر، فإن دخلت إحداهما في الأخرى كتحية المسجد
وسنة الظهر مثلًا، صح؛ لأن التحية تحصل ضمنًا. ويستثنى من ذلك: ما لو نوى الغسل
للجمعة والعيد، فإنهما يحصلان، وما لو خطب خطبتين بقصد العيد والكسوف جميعًا،
فإنه يصح. وما لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلًا، فيصح.
الخامس - أن ينوي
مع غير العبادة شيئًا آخر، وهما مختلفان في الحكم، كأن يقول لزوجته: «أنت علي
حرام» وينوي الطلاق والظهار فالأصح يخير بينهما، فما اختاره ثبت.
والخلاصة:
أن النية لها مقومات: هي القصد، والفرضية في الفرائض الخمس والغسل والزكاة بلفظ
الصدقة، والتعيين فيما يلتبس مع غيره، والإخلاص، فلا يصح التوكيل في النية إلا
فيما يقبل النيابة مما يقترن بفعل، والأصل: ألا يصح التشريك في العبادة، إلا ما
استثني.
ثامنًا - شروط النية:
للنية شروط عامة في العبادات، وشروط خاصة بكل عبادة. أما الشروط العامة فهي
ما يأتي (١):
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص ٥٢ - ٥٥، وللسيوطي: ص ٣١ -
٣٨، غاية المنتهى: ١١٥/ ١ وما بعدها.
١ ً - الإسلام: لا تصح
النية المرتبة للثواب وصحة الفعل إلا من المسلم، فلا تصح العبادات من كافر، فلغا
تيمم كافر وكذا وضوؤه عند الجمهور، ويصح وضوؤه وغسله عند الحنفية؛ لأن النية من
شروط التيمم دون الوضوء عندهم، فإذا أسلم بعدهما صلى بوضوئه وغسله. ولم تصح عندهم
الكفارة من كافر، فلا تنعقد يمينه، لقوله تعالى: ﴿إنهم لا أيمان لهم﴾ [التوبة:١٢/
٩]، وقوله تعالى: ﴿وإن نكثوا أيمانهم﴾ [التوبة:١٢/ ٩]، أي عهودهم الظاهرية. وتصح
الكفارة عند الشافعية بغير العبادة (الصوم) من عتق رقبة وإطعام مساكين، ويشترط
منه نيتها، لأن المغلب فيها جانب الغرامات، والنية فيها للتمييز لا للقربة، وهي
بالديون أشبه. ويصح غسل الكتابية زوجة المسلم عن الحيض، ليحل وطؤها بلا خلاف
للضرورة، ويشترط نيتها عند الشافعية.
أما المرتد فلا يصح منه غسل ولا غيره،
لكن إذا أخرج المرتد الزكاة في حال ردته تصح وتجزئه.
٢ ً - التمييز: فلا تصح
بالاتفاق عبادة صبي غير مميز، ولا مجنون. لكن يصح عند الشافعية للولي أن يوضئ
الطفل للطواف حيث يحرم عنه، وللزوج أن يغسل المجنونة عن الحيض، وينوي على
الأصح.
ويتفرع عن هذا الشرط أن (عمد الصبي والمجنون خطأ) سواء أكان الصبي
مميزًا أم لا عند الحنفية. ورأى الشافعية أن عمد المجنون والصبي غير المميز خطأ
قطعًا، أما المميز منهما فعمده عمد في الأصح.
وينتقض وضوء السكران وتبطل
صلاته بالسكر، لعدم تمييزه. لكن الشافعية قالوا: لا يقضى عليه بالحدث ولا تبطل
صلاته وسائر أفعاله، حتى يستغرق في سكره، بعد أوان النشوة.
٣ ً
- العلم بالمنوي: فمن جهل فرضية الصلاة، لم تصح منه، وكذا لو علم أن بعض الصلاة
فرض، ولم يعلم الفرضية التي شرع فيها. ولا يشترط هذا الشرط في الحج، فهو يفارق
الصلاة بأنه لا يشترط فيه تعيين المنوي، بل ينعقد الإحرام مطلقًا، ثم يعينه؛ لأن
عليًا ﵁ أحرم بما أحرم به النبي ﷺ وصححه، فإن عين حجًا أو عمرة صح إن كان قبل
الشروع في الأفعال، وإن شرع تعينت عمرة.
وفرع السيوطي على هذا الشرط: ما لو
نطق بكلمة الطلاق بلغة لا يعرفها، وقال: قصدت بها معناها بالعربية، فإنه لا يقع
الطلاق في الأصح.
٤ ً - ألا يأتي بمنافٍ بين النية والمنوي بأن يستصحبها
حكمًا: فتبطل العبادات من صلاة وصوم وحج وتيمم بالارتداد - والعياذ بالله تعالى -
في أثنائها، وتبطل صحبة النبي ﷺ بالردة إذا مات عليها، فإن أسلم بعدها: فإن كان
في حياته ﵊، فلا مانع من عودها، وإلا ففي عودها نظر. وذكر السيوطي: أن الوضوء أو
الغسل لم يبطل بالردة؛ لأن أفعالهما غير مرتبطة ببعضها، ولكن لا يحسب المغسول في
زمن الردة.
والردة تحبط العمل والأجر والإيمان السابق، سواء عاد إلى الإسلام
أم لا.
ومن المنافي للنية: نية القطع، فإذا نوى قطع الإيمان، صار مرتدًا
للحال، ولو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها لم تبطل بالإجماع. وكذا سائر
العبادات. أما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها بطلت بلا خلاف؛ لأنها شبيهة
بالإيمان، إلا أن ابن نجيم المصري قال: لا تبطل إلا إذا كبر في الصلاة، وينوي
الدخول في أخرى، فالتكبير هو القاطع للأولى، لا مجرد النية.
ولو
نوى قطع الطهارة في أثنائها، لم يبطل ما مضى في الأصح، لكن يجب تجديد النية لما
بقي. ولو نوى قطع الصوم أو الاعتكاف، لم يبطل في الأصح؛ لأن الصلاة مخصوصة من بين
سائر وجوه العبادات بوجوه من الربط ومناجاة العبد ربه. ولو شرع في الصوم الفرض
بعد الفجر، ثم نوى قطعه والانتقال إلى صوم نفل، فإنه لا يبطل؛ لأن الفرض والنفل
في الصوم وكذا في الزكاة جنس واحد. أما لو افتتح الصلاة بنية الفرض، ثم غيَّر
نيته في الصلاة، وجعلها تطوعًا، فتصير تطوعًا. ولو نوى فعلَ منافٍ للصلاة لم
تبطل. ولو نوى الأكل أو الجماع في الصوم، لم يضره. ولو نوى الصوم من الليل، ثم
قطع النية قبل الفجر، سقط حكمها؛ لأن ترك النية ضد النية.
ولو نوى قطع السفر
بالإقامة، صار مقيمًا، وبطل سفره بخمس شرائط في رأي الحنفية: ترك السير، حتى لو
نوى الإقامة سائرًا لم تصح، وصلاحية الموضع للإقامة، فلو نواها في بحر أو جزيرة
لم تصح، والاستقلال بالرأي، فلا تصح نية التابع، والمدة أي إن نوى إقامة نصف شهر،
فيقصر إن نوى الإقامة في أقل من نصف شهر، واتحاد الموضع، فلو نوى إقامة نصف شهر
في موضعين مستقلين، كمكة ومنى، لم يصر مقيمًا، وأصبح كمن نوى الإقامة في
غيرموضعها (١)
ويقرب من نية القطع: نية القلب (التحويل): وهي نية نقل الصلاة
إلى أخرى، وذلك لا يكون عند الحنفية إلا بالشروع بالتحريمة لا بمجرد النية، ولا
بد أن تكون الثانية غير الأولى، كأن يشرع في العصر بعد افتتاح الظهر، فيفسد
الظهر، وبشرط ألا يتلفظ بالنية، فإن تلفظ بها بطلت الأولى مطلقًا. وقال الماوردي:
تبطل الصلاة بنقل من فرض إلى فرض، أو من نفل راتب إلى نفل راتب، كوتر إلى سنة
(١)
الدر المختار ورد المحتار: ٧٣٧/ ١ ..
الفجر، أو من نفل إلى فرض،
أو من فرض إلى نفل إلا إذا كان لعذر، كأن أحرم بفرض منفردًا، ثم أقيمت جماعة،
فسلَّم من ركعتين ليدركها، صحت نفلًا في الأصح.
ومن المنافي: التردد وعدم
الجزم في أصل النية، فلو نوى يوم الشك (ليلة الثلاثين من شعبان): إنه إن كان من
شعبان فليس بصائم، وإن كان من رمضان كان صائمًا، لم تصح نيته، بخلاف لو وقع ذلك
ليلة الثلاثين من رمضان، لاستصحاب الأصل. ولو ترد د هل يقطع الصلاة أو لا، أو علق
إبطالها على شيء بطلت. ولو تردد في أنه نوى القصر أو لا أو هل يتم أو لا، لم
يقصر.
ومن فروعه: تعقيب النية بالمشيئة: قال السيوطي: إن نوى التعليق بطلت،
أو التبرك فلا تبطل، أو أطلق تبطل؛ لأن اللفظ موضوع للتعليق، فلو قال: أصوم غدًا
إن شاء الله، لم يصح. وقال ابن نجيم: إن كان مما يتعلق بالنيات كالصوم والصلاة لم
تبطل، وإن كان مما يتعلق بالأقوال كالطلاق والعتاق بطل.
وهناك صور تصح فيها
النية مع التردد أو التعليق أوردها السيوطي، فمن صور التردد: لو اشتبه عليه ماء،
وماء ورد، لا يجتهد، بل يتوضأ بكل مرة، ويغتفر التردد في النية للضرورة.
ومنها:
من كان عليه صوم واجب، لا يدري هل هو من رمضان أو من نذر أو كفارة، فنوى صومًا
واجبًا أجزأه، كمن نسي صلاة من الخمس، وصلى الخمس، أجزأه، ويعذر في عدم جزم النية
للضرورة.
ومن صور التعليق:
في الصلاة: إن شك في قصر إمامه، فقال: إن
قصر قصرت، وإلا أتممت،
فبان قاصرًا، قصر. وفي الحج: بأن يقول
مريد الإحرام: إن كان زيد محرمًا فقد أحرمت، فإن كان زيد محرمًا انعقد إحرامه،
وإلا فلا. ولو علقه بمستقبل كقوله: إذا أحرم زيد أو جاء رأس الشهر، فقد أحرمت فلا
يصح.
ومنها: عليه فائتة وشك في أدائها، فقال: أصلي عنها إن كانت وإلا
فنافلة، فبانت، أجزأه.
ومنها في الصوم: لو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم
غد إن كان من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن فتطوع، صح وأجزأه.
ومنها في الزكاة:
نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقيًا، وإلا فعن الحاضر، فبان باقيًا أجزأه عنه، أو
تالفًا أجزأه عن الحاضر.
ومنها في الجمعة: أحرم بالصلاة في آخر وقتها، فقال:
إن كان الوقت باقيًا فجمعة، وإلا فظهر، فبان بقاؤه، صحت الجمعة في وجه، وقيل: لا
تصح.
ومن المنافي: عدم القدرة على المنوي إما عقلًا أو شرعًا أو عادة.
مثال
الأول - نوى بوضوئه أن يصلي صلاة وألا يصليها لم تصح لتناقضه.
مثال الثاني -
نوى بوضوئه الصلاة في مكان نجس، لا تصح.
ومثال الثالث - نوى بوضوئه صلاة
العيد، وهو في أول السنة، أو الطواف وهو بالشام، الأصح الصحة، وقيل: لا تصح.
هذه
هي الشروط العامة في العبادات، شرطها الفقهاء في الطهارة، فقالوا: يشترط في نية
الوضوء: إسلام الناوي، وتمييزه، وعلمه بالمنوي وعدم إتيانه بما ينافيها بأن
يستصحبها حكمًا، فلا ينصرف عن الوضوء مثلًا لغيره، وألا تكون
معلَّقة،
فلو قال: إن شاء الله تعالى: فإن قصد التعليق أو أطلق، لم تصح، وإن قصد التبرك
صحت.
واشترط غير الحنفية دخول وقت الصلاة لدائم الحدث كسلس بول ومستحاضة؛
لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم (١). وشرطها الفقهاء أيضًا
في الصلاة، وأضافوا إليها مقارنة النية لتكبيرة الإحرام، فاشترط الحنفية اتصال
النية بالصلاة بلا فاصل أجنبي بين النية والتكبير، واشترط الشافعية اقتران النية
بفعل الصلاة، وكذلك اشترط المالكية والحنابلة المقارنة، لكنهم أجازوا تقدم النية
على التكبير بزمن يسير. واتفق الفقهاء على اشتراط تعيين نوع الفرض الذي يصليه
المصلي كالظهر أو العصر؛ لأن الفروض كثيرة، ولا يتأدى واحد منها بنية فرض آخر.
ولا
تجب نية الخروج من الصلاة بالسلام، وإنما تستحب عند المالكية والشافعية.
واشترط
الفقهاء تلك الشروط في الصيام، وأضافوا إليها: تبييت النية أي إيقاعها ليلًا في
رأي الجمهور غير الحنفية، وهو الأفضل عند الحنفية، لقوله ﵊: «من لم يبيِّت الصيام
قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» (٢). واشترط الجمهور أيضًا تعيين النية في فرض
الصيام، ولم يشترطه الحنفية، والتعيين: أن يعتقد أنه يصوم غدًا من رمضان، أو من
قضائه، أو من كفارته أو نذره.
واشترط الجمهور كذلك الجزم بالنية، فلو نوى
ليلة الشك: إن كان من رمضان، فأنا صائم فرضًا، وإلا فهو نفل، لم يجزئه عن واحد
منهما، لعدم جزمه
(١) مغني المحتاج: ٤٧/ ١، المغني: ١٤٢/ ١.
(٢) رواه
الدارقطني بإسناد رجاله كلهم ثقات.
بالنية لأحدهما؛ إذ لم يعين
الصوم من رمضان جزمًا. وليس الجزم بالنية في الصوم المقيد بزمن معين شرطًا عند
الحنفية، فيصح صومه بالنية المذكورة. وليست نية فرضية الصيام شرطًا باتفاق
الفقهاء، بخلاف المقرر في الصلاة؛ لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضًا،
بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل. وكذلك لا يشترط بالاتفاق تعيين السنة، ولا
الأداء، ولا الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن المقصود متحقق بنية الصوم، والتعيين
يجزئ عن ذلك.
واشترط الجمهور تعدد النية بتعدد الأيام، فينوي لكل يوم من
رمضان على حدة، لعدم تعلق عبادة يوم باليوم الآخر. وقال المالكية: تجزئ نية واحدة
لرمضان في أوله، فيجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة.
وفي الزكاة: تشترط الشروط
العامة للنية، واختلفوا في أحوال مقارنتها للأداء، فقال الحنفية: لا يجوز أداء
الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء إلى الفقير، ولو حكمًا، كما لو دفع بلا نية ثم
نوى، والمال في يد الفقير، أو نوى عند الدفع إلى الوكيل، ثم دفع الوكيل بلا نية،
أو مقارنة لعزل مقدار الواجب.
وقال المالكية: تشترط النية لأداء الزكاة عند
الدفع، ويكفي عند عزلها، وتجزئ من دفعها كرهًا عنه كالصبي والمجنون، وتجزئ نية
الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي.
وأجاز الشافعية كالحنفية والمالكية
تقديم النية على الدفع للفقير، بشرط أن تقارن عزل الزكاة، أو إعطاءها للوكيل أو
بعده، وقبل التفرقة، كما تجزئ بعد العزل وقبل التفرقة، وإن لم تقارن أحدهما،
ويجوز تفويضها للوكيل إن كان من أهلها، بأن يكون مسلمًا مكلفًا. ويجوز توكيل
الصبي والكافر في أدائها للمستحقين، بشرط أن يعين له المدفوع له. وتجب نية الولي
في زكاة الصبي
والمجنون والسفيه، وإلا ضمنها لتقصيره. ولو دفعها
المزكي للإمام بلا نية لم تجزئه نية الإمام في الأظهر. وإذا أخذت قهرًا من المزكي
نوى عند الأخذ منه، وإلا وجب على الآخذ النية.
وأجاز الحنابلة أيضًا تقديم
النية على الأداء بالزمن اليسير، كسائر العبادات. وإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوى
هو دون الوكيل، جاز، إذا لم تتقدم نيته الدفع بزمن طويل. فإن تقدمت النية بزمن
طويل لم يجز إلا إذا نوى حال الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى
المستحق. لكن إن أخذ ها الإمام قهرًا، أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه،
أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون.
ولو تصدق الإنسان بجميع ماله تطوعًا، لم
يجزئه عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه لم ينو به الفرض، كما لو تصدق ببعضه، وكما
لو صلى مئة ركعة، ولم ينو الفرض بها. ورأى الحنفية أنه يسقط الفرض عنه استحسانًا،
بشرط ألا ينوي بها واجبًا آخر من نذر أو غيره؛ لأن الواجب جزء منه، فكان متعينًا
فيه، فلا حاجة إلى التعيين، وعلى هذا: لو كان للمزكي دين على فقير، فأبرأه عنه،
سقط زكاة المبلغ المبرأ عنه، سواء نوى به عن الزكاة أو لم ينو؛ لأنه كالهلاك.
وفي
الحج والعمرة: تشترط الشروط العامة أيضًا، ولكن يشترط في الحج أن يكون الإحرام في
وقت معين، وهي الأشهر الثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، أما العمرة فتصح على
مدار العام، ويشترط أن ينضم للإحرام في رأي الحنفية قول أو فعل من خصائصه،
كالتلبية أو التجرد من المخيط، ولم يشترط الجمهور ذلك، وإنما ينعقد الإحرام عندهم
بمجرد النية، لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية والتجرد من المخيط ونحوه
حين النية. ويشترط للإحرام تجرد
الرجال من المخيط، والامتناع عن
الطيب ونحو ذلك من محظورات الإحرام، وإحرام المرأة بكشف وجهها. ويشترط للإحرام
أيضًا كونه من الميقات، ولكل جهة ميقات معين معروف عند الفقهاء والناس.
وأجاز
جمهور الفقهاء إدخال الحج على العمرة وبالعكس، بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع
في طواف العمرة، وبشرط كونه عند الحنفية قبل أداء أربعة أشواط من طواف العمرة،
ولا يجوز إدخال العمرة على الحج في مذهب الحنفية.
وأجاز الحنابلة خلافًا
للجمهور فسخ الحج إلى العمرة، أي تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة.
وفي
الأضحية: اشترط الشافعية والحنابلة أن تكون النية عن ذبح الأضحية لأن الذبح قربة
في نفسه، ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل
القلب، والذكر باللسان دليل عليها. وقال الكاساني في البدائع: لا تتعين الأضحية
إلا بالنية وتكفي النية في مذهب الحنفية عند الشراء، كما سأوضح.
تاسعًا - النية في العبادات:
هل هي شرط أو ركن؟ تكلمنا فيما سبق في هذا البحث عن شروط النية ومحلها وكيفيتها
وزمنها وغير ذلك، ولم يبق في بحث النية في العبادات إلا الكلام عن شرطيتها
وركنيتها، فهل النية في العبادات شرط أو ركن؟ علمًا بأن كلًا من الشرط والركن
فرض، لكن الشرط يكون خارجًا عن المشروط، كالطهارة شرط للصلاة خارجة عن الصلاة،
والركن في اصطلاح الحنفية: هو ما يتوقف عليه وجود الماهية أو الشيء، ويكون جزءًا
داخلًا فيها أو فيه. وهو عند الجمهور: ما به قوام الشيء الذي يتوقف وجوده عليه،
سواء أكان جزءًا داخلًا فيه أم أمرًا أساسيًا فيه. فالركوع والسجود
ركنان
للصلاة داخلان فيها؛ لأنهما جزءان من أجزائها. والإيجاب والقبول ركن العقد في
اصطلاح الحنفية، ويضاف إلى الصيغة (الإيجاب والقبول) العاقدان والمعقود عليه،
والثمن أو العوض في المعاوضات، تعد أركانًا في العقد في اصطلاح الجمهور.
ويحسن
إيراد عبارتين لكل من ابن نجيم والسيوطي قبل تفصيل حكم النية في العبادات؛ لأنهما
يمثلان اتجاهين متعارضين في شرطية النية وركنيتها.
قال ابن نجيم (١):النية
شرط عندنا في كل العبادات باتفاق الأصحاب (أي الحنفية)، لا ركن، وإنما الاختلاف
بينهم وقع في تكبيرة الإحرام، والمعتمد أنها شرط كالنية وقيل: بركنيتها. وكذلك
قال الحنابلة والمالكية: النية شرط في العبادة لاركن ولو داخلها (٢).
وقال
السيوطي (٣):اختلف الأصحاب (أصحاب الشافعي) هل النية ركن في العبادات أو شرط؟
فاختار الأكثرون أنها ركن؛ لأنها داخل العبادات، وذلك شأن الأركان، والشرط ما
يتقدم عليها، ويجب استمراره فيها.
وأتتبع هنا حكم النية في كل عبادة على حدة
(٤).
١ - الطهارة: اختلف الفقهاء في اشتراط النية للوضوء على رأيين فقال
الحنفية (٥): يسن للمتوضئ البداية بالنية لتحصيل الثواب، ووقتها قبل الاستنجاء
(١)
الأشباه والنظائر: ص٥٥.
(٢) القوانين الفقهية: ص ٥٧، غاية المنتهى: ١١٥/
١.
(٣) الأشباه والنظائر: ص٣٨.
(٤) سيأتي تفصيل البحث في النية في
مواضعها المطلوبة أصالة.
(٥) البدائع: ١٧/ ١، الدر المختار: ٩٨/ ١
ومابعدها.
ليكون جميع فعله قربة، وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث،
أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء، أو امتثال الأمر ومحلها: القلب، فإن نطق بها
ليجمع بين فعل القلب واللسان، فهو مستحب عند المشايخ.
ويترتب على قولهم بعدم
فرضية النية: صحة وضوء المتبرد، والمنغمس في الماء للسباحة أو للنظافة أو لإنقاذ
غريق، ونحو ذلك.
واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
أـ عدم النص عليها في
القرآن: إن آية الوضوء لم تأمر إلا بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح بالرأس، والقول
باشتراط النية بحديث آحاد زيادة على نص القرآن، والزيادة على الكتاب عندهم نسخ،
لا يصح بالآحاد.
ب - عدم النص عليها في السنة: لم يعلِّمْها النبي ﷺ
للأعرابي مع جهله. وفرضت النية في التيمم؛ لأنه بالتراب، وليس هو مزيلًا للحدث
بالأصالة، وإنما هو بدل عن الماء.
جـ - القياس على سائر أنواع الطهارة
وغيرها: إن الوضوء طهارة بماء، فلا تشترط لها النية كإزالة النجاسة، كما لا تجب
النية في شروط الصلاة الأخرى كستر العورة، ولا تجب أيضًا بغسل الذمية من حيضها
لتحل لزوجها المسلم.
د - إن الوضوء وسيلة للصلاة، وليس مقصودًا لذاته،
والنية شرط مطلوب في المقاصد، لا في الوسائل.
وقال الجمهور غير الحنفية (١):
النية فرض في الوضوء، لتحقيق العبادة أو
(١) المجموع للنووي:٣٦١/ ١
ومابعدها، بداية المجتهد: ٧/ ١ ومابعدها، الشرح الكبير: ٩٣/ ١ وما بعدها، مغني
المحتاج: ٤٧/ ١ ومابعدها، المغني: ١١٠/ ١ ومابعدها، كشاف القناع: ٩٤/ ١ - ١٠١
قصد
القربة لله ﷿، فلا تصح الصلاة بالوضوء لغير العبادة كالأكل والشرب والنوم ونحو
ذلك، واستدلوا بما يأتي:
أـ السنة: قوله ﷺ فيما رواه الجماعة عن عمر ﵁ «إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» أي إن الأعمال المعتدّ بها شرعًا تكون
بالنية، والوضوء عمل، فلا يوجد شرعًا إلا بنية.
ب - تحقيق الإخلاص في
العبادة، لقوله تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾
[البينة:٥/ ٩٨]، والوضوء عبادة مأمور بها، لا يتحقق إلا بإخلاص النية فيه لله
تعالى؛ لأن الإخلاص عمل القلب وهو النية.
جـ - القياس: تشترط النية في
الوضوء، كما تشترط في الصلاة، وكما تشترط في التيمم لاستباحة الصلاة.
د -
الوضوء وسيلة للمقصود، فله حكم ذلك المقصود، لقوله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم﴾ [المائدة:٦/ ٥]، فهذا يدل على أن الوضوء مأمور به عند القيام
للصلاة، ومن أجل هذه العبادة، فالمطلوب غسل الأعضاء لأجل الصلاة، وهو معنى
النية.
وبمقارنة أدلة الفريقين يتبين لي أن الحق هو القول بفرضية النية؛ لأن
أحاديث الآحاد كثيرًا ما أثبتت أحكامًا ليست في القرآن، بل إن حديث عمر في النية،
وإن كان غريبًا بالنسبة إلى أوله، فهو مشهور بالنسبة إلى آخره، فإنه اشتهر، فرواه
عن عمر أكثر من مئتي إنسان، أكثرهم أئمة، ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري
والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم،
ولأن عموم الماء للأعضاء بدون قصد أصلًا، أو بقصد التبرد، ليس غسلًا للوضوء، حتى
يؤدي مهمته الشرعية، ويحقق المأمور به كما أمر به، والأمور بمقاصدها باتفاق
الأئمة.
٢ - التيمم: اتفق العلماء على وجوب النية في التيمم،
وهي فرض عند المالكية والشافعية، والمعتمد أنها شرط في رأي الحنفية والحنابلة
(١)، ودليلهم على اشتراط النية في التيمم: الحديث السابق: (إنما الأعمال بالنيات)
واستدل الحنفية: بأن التراب ملوِّث، فلا يكون مطهرًا إلا بالنية، أي أن التراب
ليس بطهارة حقيقية، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية، بخلاف
الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية. فلا يشترط له الحاجة ليصير طهارة، فلا يشترط له
النية.
٣ - الغسل: الخلاف فيه كالخلاف في الوضوء على قولين، فقد أوجب
الجمهور غير الحنفية النية للغسل كالوضوء، للحديث المتقدم: «إنما الأعمال
بالنيات». ورأى الحنفية أن الابتداء بالنية سنة، ليكون فعله تقربًا إلى الله
تعالى يثاب عليه، كالوضوء (٢). وفي غسل الميت اشترط الحنابلة في الغاسل النية:
نية غسل الميت، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات».
٤ - الصلاة: النية
واجبة في الصلاة باتفاق العلماء، لتتميز العبادة عن العادة، وليتحقق في الصلاة
الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى، قال
الله تعالى: ﴿وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء﴾ [البينة:٥/ ٩٨]،
قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم: النية. ودل الحديث المتقدم: «إنما الأعمال
بالنيات» على إيجابها، فلا تصح الصلاة بدون النية بحال.
(١) البدائع: ٤٥/ ١،
٥٢، فتح القدير: ٨٦/ ١، ٨٩، الشرح الكبير للدردير: ١٥٤/ ١ القوانين الفقهية: ص٣٧،
بداية المجتهد: ٦٤/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٩٧/ ١، المهذب: ٣٢/ ١، المغني:
٢٥١/ ١، كشاف القناع: ١٩٩/ ١ ومابعدها.
(٢) الدر المختار: ١٤٠/ ١ ومابعدها،
الشرح الصغير للدردير: ١٦٦/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٧٢/ ١ وما بعدها، كشاف
القناع: ١٧٣/ ١ ومابعدها، المجموع: ٣٧٠/ ١.
والنية شرط من شروط
الصلاة عند الحنفية والحنابلة، وكذا عند المالكية على الراجح، وهي من أركان
الصلاة عند الشافعية وبعض المالكية؛ لأنها واجبة في بعض الصلاة، وهو أولها، لا في
جميعها، فكانت ركنًا كالتكبير والركوع (١).
وهل يجب على الإمام أن ينوي
الإمامة أو لا؟ ذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه، لحديث ابن عباس أنه قام إلى
جنب رسول الله ﷺ بعد دخوله في الصلاة.
ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لابد من
ذلك؛ لأن الإمام يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين (٢).
أما الجمهور فيرون
عدم اشتراط نية الإمام الإمامة، بل تستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم
تحصل؛ لأنه ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. واستثنى الشافعية والمالكية الصلاة
التي تتوقف صحتها على الجماعة كالجمعة والمجموعة للمطر، والمعادة، وصلاة الخوف،
والاستخلاف فلا بد فيها من نية الإمام الإمامة.
واستثنى الحنفية اقتداء
النساء بالرجل، فإنه يشترط نية الإمامة، لصحة اقتداء النساء به.
وقال
الحنابلة: تشترط نية الإمامة مطلقًا، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم،
وإلا فسدت الصلاة، لكن لو أحرم الشخص منفردًا، ثم جاء آخر، فصلى
(١) تبيين
الحقائق: ٩٩/ ١، الأشباه لابن نجيم: ص ١٤، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: ٢٣٣/ ١،
٥٢٠، الشرح الصغير: ٣٠٥/ ١، المجموع: ١٤٨/ ١ ومابعدها، الأشباه للسيوطي: ص١١، ٣٨،
مغني المحتاج: ١٤٨/ ١، حاشية الباجوري: ١٤٩/ ١، المغني: ٤٦٤/ ١ وما بعدها، غاية
المنتهى: ١١٥/ ١، كشاف القناع: ٣٦٤/ ١ ومابعدها.
(٢) الأشباه والنظائر لابن
نجيم: ص١٥، القوانين الفقهية: ص ٥٧، ٦٨ ومابعدها، مغني المحتاج: ٢٥٢/ ٢ - ٢٥٨،
كشاف القناع: ٥٦٥/ ١ وما بعدها.
معه، فنوى إمامة صح في النفل،
عملًا بحديث ابن عباس، وهو أنه قال: «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي ﷺ
متطوعًا من الليل، فقام إلى القربة، فتوضأ، فقام، فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك،
فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك
إلى الشق الأيمن» (١).
أما في الفريضة: فإن كان المصلي ينتظر أحدًا، كإمام
المسجد، فإنه يُحرم وحده، وينتظر من يأتي، فيصلي معه، فيجوز ذلك أيضًا عند
الحنابلة؛ لأن النبي ﷺ أحرم وحده، ثم جاء جابر وجبارة، فأحرما معه، فصلى بهما،
ولم ينكر فعلهما. والظاهر أنها كانت صلاة مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين. أما في
غير هذه الحالة، فلا يصح الاقتداء لمن لم ينو الإمامة.
-----------------------------
(١)
متفق عليه.
وأما نية المؤتم الاقتداء: فهي شرط باتفاق المذاهب، فلا يصح
اقتداء بإمام إلا بنية، أي أن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو
الجماعة أو المأمومية، فلو ترك هذه النية أو مع الشك فيها، وتابعه في الأفعال،
بطلت صلاة المقتدي، ولايجب تعيين الإمام باسمه، فإن عينه وأخطأ، بطلت صلاته عند
الشافعية. لكن لا بد من تعيين إمام معين بصفة الإمامة، فلو نوى الائتمام بأحد
رجلين يصليان، لابعينه، لم يصح، حتى يعين الإمام بوصفه؛ لأن تعيينه شرط. ولا يجوز
الائتمام بأكثر من واحد، فلو نوى الائتمام بإمامين لم يجز؛ لأنه لا يمكن اتباعهما
معًا.
وشرط النية في القدوة أن تكون مقارنة للتحريمة عند الشافعية. وأجاز
الحنفية أن تكون متقدمة على التحريمة، بشرط ألا يفصل بينها وبين التحريمة فاصل
أجنبي. والأفضل عندهم وعند الحنابلة: أن تكون النية مقارنة، خروجًا من الخلاف.
والخروج من الخلاف مستحب.
واشترط المالكية المقارنة للتحريمة أو قبلها بزمن
يسير، كاشتراط النية في الصلاة، كما بينا.
وأما الأذان:
فالمشهور أنه لا يحتاج إلا نية. وقيل: إنه يحتاج.
وفي خطبة الجمعة: اشترط
الحنفية والحنابلة النية أو قصد الخطبة، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» فلو خطب
الخطيب بغير النية، لم يعتد بها عندهم.
ولم يشترط المالكية النية، كما لم
يشترطها الشافعية، وإنما اشترطوا عدم الصارف، فلو حمد الله للعطاس، لم يكف للخطبة
(١).
واشترط الشافعية لكل من سجدتي التلاوة والشكر النية مع تكبيرة الإحرام،
لكن المصلي ينوي بقلبه لا بلسانه سجدة التلاوة، كما ينوي سجود السهو.
وفي
صلاة المسافر: اشترط الشافعية والحنابلة لصحة جمع التقديم نية الجمع عند الإحرام
بالصلاة الأولى، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» وتجوز نية الجمع عند الشافعية في
الأظهر في أثناء الصلاة الأولى، ولو مع السلام منها. وكذلك اشترط هذان المذهبان
لجمع التأخير نية الجمع أو التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة،
أي بزمن لو ابتدئت فيه كانت أداء، عند الشافعية، وما لم يضق وقتها عن فعلها عند
الحنابلة، فإن ضاق وقت الأولى عن فعلها، لم يصح الجمع؛ لأن تأخيرها إلى القدر
الذي يضيق عن فعلها حرام، ويأثم بالتأخير (٢).
٥ - الصوم: ذهب الجمهور (غير
الشافعية): إلى أن نية الصوم شرط؛ لأن صوم رمضان وغيره عبادة، والعبادة: اسم لفعل
يأتيه العبد باختياره خالصًا لله تعالى بأمره، والاختيار والإخلاص لا يتحققان
بدون النية، فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، تمييزًا للعبادات عن العادات.
(١)
الدر المختار: ٧٥٧/ ١ - ٧٦٠، مراقي الفلاح: ص٨٧، كشاف القناع٣٤/ ٢ - ٣٧، الأشباه
لابن نجيم: ص١٥.
(٢) المجموع: ٢٥٣/ ٤ - ٢٦٩، مغني المحتاج: ٢٧١/ ١ - ٢٧٥،
كشاف القناع: ٣/ ٢ - ٨، المغني: ٢٧٣/ ٢ - ٢٨١.
وذهب الشافعية:
إلى أن نية الصيام ركن كالإمساك عن المفطرات، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» (١).
أما نية الأداء والقضاء: فالأصح عند الشافعية أنهما لا يشترطان في الصلاة والحج
والزكاة والكفارة وصلاة الجنازة. وأما الجمعة التي لاتقبل القضاء فلا حاجة فيها
إلى نية الأداء لتمييزها. وأما الصوم فالراجح عندهم أن نية القضاء لا بد منها
فيه، وهذا متفق عليه بين المذاهب.
٦ - الاعتكاف: (وهو اللبث في المسجد من
شخص مخصوص بنية، بتعريف الشافعية): ويشترط لصحته بالاتفاق النية واجبًا كان أو
سنة أو نفلًا، فلا يصح الاعتكاف إلا بنية، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات»
ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف
الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضًا كالمنذور، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن
الطاعة (٢).
٧ - الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النية شرط في أداء الزكاة،
لقول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» وأداؤها عمل، ولأنها عبادة كالصلاة، فتحتاج
إلى نية لتمييز الفرض عن النفل (٣).
٨ - الحج والعمرة: يرى الحنفية: أن
الإحرام بالحج (نيته) شرط صحته، فرضًا كان أو نفلًا، والعمرة كذلك، ولا تكون
عندهم إلا سنة، والمنذور عمرة
(١) الدر المختار: ١١٦/ ٢ومابعدها، مراقي
الفلاح: ص١٠٥، القوانين الفقهية: ص١١٣ الأشباه لابن نجيم: ص١٦، ٣٥، الأشباه
للسيوطي: ص١٦، مغني المحتاج: ٤٢٣/ ١، ٤٣٢، المهذب: ١٧٧/ ١، المغني: ١٣٧/ ٣
ومابعدها، كشاف القناع: ٣٥٩/ ٢.
(٢) فتح القدير: ١٠٦/ ٢ ومابعدها، الدر
المختار: ١٧٧/ ٢ ومابعدها، الأشباه لابن نجيم: ص١٧، القوانين الفقهية: ص١٢٥،
الشرح الصغير: ٧٢٥/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٩٠/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج: ٤٥٣/ ١
ومابعدها، المغني: ١٨٤/ ٣ ومابعدها، كشاف القناع: ٤٠٦/ ٢ ومابعدها.
(٣)
الأشباه لابن نجيم: ص١٦، البدائع: ٤٠/ ٢، الشرح الصغير: ٦٦٦/ ١ ومابعدها،
القوانين الفقهية: ص٩٩، المجموع: ١٨٢/ ٦ ومابعدها، المغني: ٦٣٨/ ٢ ومابعدها.
فرض.
ولو نذر حجة الإسلام لا يلزمه إلا حجة الإسلام، كما لو نذر الأضحية. والقضاء في
الكل كالأداء من جهة أصل النية.
ويرى جمهور الفقهاء: أن الإحرام بأن ينوي
الدخول في النسك ركن في الحج والعمرة، فلا ينعقدان بدون النية، ولا يصح الإحرام
إلا بالنية، لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» ولأن الحج أو العمرة عبادة محضة،
فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة (١). ومحل النية كما عرفنا: القلب، والإحرام:
النية بالقلب، والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما نواه، لما رواه مسلم عن أنس
﵁، قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: لبيك بحج وعمرة».
وينعقد الإحرام بالنية
وحدها عند الجمهور، كما أوضحت، ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية، وإنما لا بد من
قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد من المخيط.
٩ -
اليمين: لا يتوقف اليمين بالله على النية، فينعقد إذا حلف عامدًا أو ساهيًا أو
مخطئًا أومكرهًا، وكذا إذا فعل المحلوف عليه (٢). أما في حال التحليف فقد اتفق
الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف، لا الحالف، واختلفوا
في الأيمان على الوعود ونحوها، فقال قوم: بحسب نية الحالف، وقال آخرون: بحسب نية
المستحلف (٣).
(١) الأشباه لابن نجيم: ص١٦، البدائع: ١٦١/ ٢ ومابعدها، فتح
القدير: ١٣٤/ ٢ ومابعدها، الشرح الصغير: ١٦/ ٢، ٢٥، القوانين الفقهية: ص١٣١، مغني
المحتاج: ٤٧٦/ ١ ومابعدها، المجموع: ٢٢٦/ ٧ ومابعدها، غاية المنتهى: ٣٦٥/ ١،
المغني: ٢٨١/ ٣ - ٢٨٨.
(٢) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص ١٩ - ٢٠.
(٣)
بداية المجتهد: ٤٠٣/ ١، البدائع: ٢٠/ ٣، الأشباه لابن نجيم: ص٢٠، ٥٧، مغني
المحتاج: ٣٢١/ ٤، المغني: ٧٢٧/ ٨، ٧٦٣، الشرح الكبير مع الدسوقي: ١٣٩/ ٢،
القوانين الفقهية: ص١٦٢.
أما المالكية فقالوا: اليمين على نية
المستحلف، ولا تقبل نية الحالف؛ لأن الخصم كأنه قبل هذه اليمين عوضًا عن حقه،
ولأنه ثبت أن رسول الله ﷺ قال: «اليمين على نية المستحلف» وفي رواية: «يمينك على
ما يصدقك به صاحبك» (١).
والمعول عند الحنفية: أن اليمين على نية المستحلف،
إلا إذا كانت اليمين بالطلاق أو العتاق ونحوهما، فتعتبر نيةالحالف إذا لم ينو
خلاف الظاهر، ظالمًا كان الحالف أو مظلومًا. وكذلك إذا كانت اليمين بالله تعالى،
وكان الحالف مظلومًا، فإنه تعتبر نية الحالف أيضًا. والظالم: من يريد بيمينه
إبطال حق الغير.
وذهب الحنابلة وفي رواية عن أبي حنيفة: إلى أن من حلف،
فتأول في يمينه، أي قصد بكلامه محتملًا يخالف ظاهره، فله تأويله إن كان مظلومًا،
ولم ينفعه تأويله إن كان ظالمًا. قال ابن نجيم: والفتوى في مذهب الحنفية على
اعتبار نية الحالف إن كان مظلومًا، لا إن كان ظالمًا، لكن بشرط كون اليمين بالله
تعالى، فإن كان بطلاق أو عتاق لا اعتبار بنية الحالف مطلقًا كما بينا.
والمقرر
لدى الشافعية: أن العبرة في اليمين بنية الحالف؛ لأن المقصود من الأيمان هو
المعنى القائم بالنفس، لا ظاهر اللفظ.
واختلف الفقهاء أيضًا في تفسير
المقصود بالمحلوف عليه في اليمين، فهل تبنى الأيمان على النية أو العرف أو صيغة
اللفظ (٢)؟
فذهب الحنفية: إلى أن الأيمان مبنية على العرف والعادة، لا على
المقاصد
(١) أخرج مسلم وابن ماجه هاتين الروايتين عن أبي هريرة. وأخرج أحمد
وأبو داود والترمذي وابن ماجه الرواية الثانية (جامع الأصول: ٣٠٧/ ١٢).
(٢)
الأشباه لابن نجيم: ص٥٧، وللسيوطي: ص٤٠، رسائل ابن عابدين: ٢٩٢/ ١، بداية
المجتهد: ٣٩٨/ ١ ومابعدها، الاعتصام للشاطبي: ١٤١/ ٢، مغني المحتاج: ٣٣٥/ ٤،
المغني: ٧٦٣/ ٨.
والنيات؛ لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف
عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب عندهم. وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ،
لا على الأغراض. فلو اغتاظ من إنسان، فحلف أنه لا يشتري له شيئًا بفلس، فاشترى له
شيئًا بمئة درهم، لم يحنث. ولو حلف لا يبيعه بعشرة فباعه بأحد عشر أو بتسعة، لم
يحنث، مع أن غرضه الزيادة.
وقال الإمام مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر
في الأيمان التي لا يقضى على حالفها بموجبها (١)، وكذلك النذور: هو النية، أي نية
الحالف في غير الدعاوى، ففيها تعتبر نية المستحلف، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن
عدمت فعرف اللفظ، أي ما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة.
وأما
الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا
الترتيب. وإن كان مما يقضى بها عليه، لم يراع فيها إلا اللفظ، إلا أن يؤيد ما
ادعاه من النية قرينة الحال أو العرف.
وقال الشافعية: الأيمان مبنية على
الحقيقة اللغوية، أي بحسب صيغة اللفظ؛ لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن
ينوي شيئًا فيعمل بنيته. فمن حلف ألا يأكل رؤوسًا، فأكل رؤوس حيتان (مفرده حوت)
فمن راعى العرف كالحنفية قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة كالشافعية قال:
يحنث. وكذلك يحنث عندهم من حلف لا يأكل لحمًا، فأكل شحمًا، مراعاة لدلالة اللفظ.
وقال غيرهم: لايحنث.
(١) أي لايصدر فيها حكم قضائي، وإنما يترك شأنها للحالف
بينه وبين الله تعالى، وذلك في الأمور التي تكون علاقتها بالإنسان نفسه أو بالله
سبحانه. أما الأمور التي تتعلق بالناس، فهذه مما يقضى فيها على الحالف.
ورأى
الحنابلة: أنه يرجع في الأيمان إلى النية، أي نية الحالف، فإن نوى ما يحتمله
اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان ما نواه موافقًا لظاهر اللفظ أم مخالفًا له،
لقول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». فإن لم ينو شيئًا
رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع
امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظًا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو
منَّة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها، ولا
أثر للدار فيها، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار.
اليمين أمام القضاء: بينت
سابقًا أن العبرة في الحلف أمام القضاء بنية القاضي المستحلف للخصم، لقوله ﷺ فيما
رواه مسلم عن أبي هريرة ـ: «اليمين على نية المستحلف» وقد حمل هذا الحديث على
الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف، لبطلت فائدة الأيمان
وضاعت الحقوق؛ إذ كل أحد يحلف على ما يقصد. فلو ورَّى الحالف في يمينه، بأن قصد
خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول، أي اعتقد خلاف نية القاضي، أو استثنى
الحالف، كقوله عقب يمينه: (إن شاء الله) أو وصل باللفظ شرطًا، مثل: إن دخلت
الدار، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر إثم اليمين الفاجرة، فإن لم
نحكم بالتأثيم ضاع المقصود من اليمين، وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها.
واشترط
الشافعية والحنابلة (١) شرطين في كون اليمين على نية المستحلف.
١ً - ألا
يحلفه القاضي بالطلاق أو العتاق.
٢ً - ألا يكون القاضي ظالمًا أو جائرًا في
طلب اليمين.
(١) مغني المحتاج: ٤٧٥/ ٤، كشاف القناع: ٢٤٢/ ٦.
التورية
في اليمين: يجوز للحالف في اليمين غير القضائية التي يحلفها باختياره أو يطلبها
شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين: التورية في يمينه، بأن يقصد فيها غير
المعنى المتبادر من اللفظ، أو ينوي فيها خلاف الظاهر، للحديث السابق: «إنما
الأعمال بالنيات» وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف، ومن
غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويقبل قوله.
وبناء عليه ذكر السيوطي (١) ثلاث
قواعد وهي:
الأولى - (مقاصد اللفظ على نيةاللافظ إلا في موضع واحد وهو
اليمين عند القاضي) فإنها على نية القاضي دون الحالف.
الثانية - (تجري النية
مجرى الشروط) في مسألة وهي: ما لو شك بعد الصلاة في تركها أو ترك الطهارة، فإنه
تجب الإعادة، بخلاف ما لو شك في ترك ركن؛ لأن الشك في الأركان يكثر بخلاف الشروط.
أما لو شك الصائم في النية بعد الغروب (نهاية اليوم) فلا أثر له.
الثالثة -
(النية في اليمين تخصص اللفظ العام، ولا تعمم الخاص) مثال الأول أن يقول: (والله،
لا أكلم أحدًا) وينوي زيدًا. ومثال الثاني: أن يمن عليه رجل بماء، فيقول: والله
لا أشرب منه ماء من عطش، فإن اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصة، ولا يحنث
بطعامه وشرابه؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يجوز لها.
وقال
ابن نجيم (٢) عن هذه القاعدة: (تخصيص العام بالنية مقبول ديانة لا
(١)
الأشباه والنظائر: ص ٤٠
(٢) الأشباه والنظائر: ص ١٨،٥٦
قضاء)
وعند الخصاف: تصح قضاء أيضًا، فلو قال: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) ثم قال:
(نويت من بلدة كذا) لم تصح في ظاهر المذهب، خلافًا للخصاف. ولا بأس أن يؤخذ بقول
الخصاف إذا وقع الشخص في يد الظلمة، فإذا حلفه الظالم له أن يخصص العام. وأما
تعميم الخاص بالنية فلم أره الآن.
١٠ - الأضحية: لا تجزئ الأضحية بدون
النية؛ لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يكون قربة بدون
النية، لقوله ﵊: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» قال الكاساني:
والمراد منه عمل هو قربة، فلا تتعين الأضحية إلا بالنية.
وتتعين الأضحية
بالذبح اتفاقًا، وبالنذر إن عينها له اتفاقًا، وتتعين عند أبي حنيفة بالشراء بنية
الأضحية.
واشترط الشافعية والحنابلة: أن تكون النية عند ذبح الأضحية؛ لأن
الذبح قربة في نفسه. ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛
لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها (١). وتتعين الأضحية عند
المالكية إما بالذبح أو بالنية قبله، على خلاف في المذهب. والمعتمد المشهور في
المذهب المالكي: أن الأضحية لا تجب إلا بالذبح فقط، ولا تجب بالنذر (٢).
١١
- الاصطياد:
الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما
بالاستيلاء الفعلي على المصيد، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير
أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو
الحيونات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلَّمة.
(١)
البدائع: ٧١/ ٥، القوانين الفقهية: ص١٨٧، مغني المحتاج: ٢٨٩/ ٤، كشاف القناع: ٦/
٣.
(٢) القوانين الفقهية: ص ١٨٧، ١٨٩، مطبعة النهضة بفاس.
ويشترط
في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي: قصد التملك، عملًا بقاعدة «الأمور
بمقاصدها». فمن نصب شبكة، فتعلق بها صيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن
سبقت يده إليه؛ لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن
أخذه غيره كان متعديًا غاصبًا. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان، كان لمن سبقت إليه يد
إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك.
وإذا دخل طائر في دار، فأغلق صاحبها
الباب لأخذه، ملكه، وإن أغلقه صدفة لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو
ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده (١).
١٣ -
قراءة القرآن: إن القرآن يخرج عن كونه قرآنًا بالقصد، فجاز للجنب والحائض قراءة
ما فيه من الأذكار بقصد الذكر، والأدعية بقصد الدعاء (٢).
عاشرًا - النية في العقود أو المعاملات (مدى تأثير النية غير المشروعة أو
الباعث على العقود):
للفقهاء اتجاهان من نظرية السبب بالمعنى الحديث: اتجاه يغلِّب النظرة
الموضوعية أو الإرادة الظاهرة، واتجاه آخر يلاحظ فيه النوايا والبواعث الذاتية أو
الإرادة الباطنة (٣).
أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية والشافعية (٤)
الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة الباطنة، أي أنهم حفاظًا
على مبدأ استقرار
(١) البدائع: ١٩٣/ ٦ومابعدها.
(٢) الأشباه والنظائر
لابن نجيم: ص٢٠
(٣) سيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع.
(٤) انظر عند
الحنفية مختصر الطحاوي: ص ٢٨٠، تكملة فتح القدير: ١٢٧/ ٨، البدائع: ١٨٩/ ٤، تبيين
الحقائق: ١٢٥/ ٢ ومابعدها.
المعاملات لا يأخذون بنظرية السبب أو
الباعث لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب أو الباعث الذي
يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات.
ولا تأثير للسبب
أو للباعث على العقد إلا إذا كان مصرحًا به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة
الظاهرة، كالاستئجار على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح
به في صيغة العقد، بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثًا غير مشروع، فالعقد
صحيح لا شتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد،
ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال العقد،
أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير المشروع، لكنه مكروه
حرام، بسبب النية غير المشروعة، نظرًا لاستكمال العقد أركانه وشروطه المطلوبة
شرعًا في الظاهر.
وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية في
الظاهر، مع الكراهة التحريمية أو الحرمة عند الشافعية، للنهي عنها في السنة
النبوية، وهي:
١ ً - بيع العينة (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا): كبيع
سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة درهم، ثم شراؤها من المشتري في الحال بمئة وعشرة،
فيكون الفرق ربا. لكن أبا حنيفة ﵀ استثناء من مبدئه في عدم النظر إلى النية غير
المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسدًا، إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض
والمشتري المقترض، لأساس آخر: وهو عدم تمام البيع الأول بسبب عدم قبض الثمن، ولأن
البيع الثاني بيع شيء منقول قبل القبض وبيع الشيء قبل القبض فاسد شرعًا.
٢ ً
- بيع العنب لعاصر الخمر: أي لمن يعلم البائع أنه سيتخذه خمرًا أو يظنه ظنًا
غالبًا، فإن شك في اتخاذه خمرًا أوتوهمه، فالبيع مكروه.
٣ ً -
بيع السلاح في الفتنة الداخلية، أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع الطريق
المحاربين، ومثله بيع أدوات القمار، وإيجاد دار للدعارة أو للقمار، وبيع الخشب
لمن يتخذ منه آلات الملاهي، والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها، ونحو ذلك.
٤
ً - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقًا بائنًا، أي
البائن بينونة كبرى، بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة مثلًا،
ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، هو عقد صحيح في الظاهرعملًا
بظاهر الآية القرآنية: ﴿فإن طلقها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجًا غيره﴾
[البقرة:٢٣٠/ ٢]، أي أنه لا يصرح في عقد التحليل بالغرض المقصود، وإنما يتم
الاتفاق سرًا وبنحو مستتر في غير حالة إبرام العقد.
والخلاصة: أن هذا
الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلًا في صيغة العقد، وتضمنه
التعبير عن الإرادة ولو ضمنًا، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد.
وأما
الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشيعة (١) الذين ينظرون
إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون التصرف المشتمل على باعث غير مشروع، بشرط أن
يعلم الطرف الآخر بالسبب غير المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك بالظروف
والقرائن التي تدل على القصد الخبيث، كإهداء العدو هدية
(١) راجع عند
المالكية: بداية المجتهد: ١٤٠/ ٢، مواهب الجليل للحطاب: ٤٠٤/ ٤، ٢٦٣، الموافقات:
٢٦١/ ٢، الفروق:٢٦٦/ ٣، وعند الحنابلة: المغني: ١٧٤/ ٤، ٢٢٢، أعلام الموقعين:
١٠٦/ ٣، ١٠٨، ١٢١، ١٣١، ١٤٨، غاية المنتهى: ١٨/ ٢، وعند الظاهرية: المحلى: ٣٦/ ٩،
وعند الشيعة الجعفرية: المختصر النافع في فقه الإمامية: ص١٤٠، وعند الزيدية:
المنتزع المختار:١٩/ ٣ ومابعدها.
لقائد الجيش، والإهداء للحكام
والموظفين، فذلك مقصود به الرشوة. فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد
به استدامة الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (١).
هذا
الاتجاه يأخذ تقريبًا بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه اللاتيني،
مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث مشروعًا، فالعقد صحيح،
وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان.
وبناء
عليه، قال المالكية والحنابلة وموافقوهم ببطلان العقود السابقة وأضاف إليها
المالكية: أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة أو بيع خشب بقصد صنع صليب، أو
شراء عبد بقصد أن يكون مغنيًا، أو استئجار كراريس فيها عبارات النوح، وبيع ثياب
حرير ممن يلبسها (٢).
أما عدم صحة بيع العنب للخمار، وبيع السلاح للأعداء
ونحوهما، فلأنه إعانة على الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به، فلا يصح. وأما
فساد زواج المحلل، فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد، قصد
به تكوين أسرة دائمة، لإنجاب ذرية تنعم بجو هادئ مطمئن، وهذا الزواج اتخذ لتحليل
المطلقة ثلاثًا لزوجها الأول في وضع مؤقت قلق، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد
غير مشروع.
وأما فساد بيع العينة أو بيوع الآجال، فلأنه اتخذ البيع حيلة
لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء، فهو وسيلة لعقد
محرم غير مشروع، فيمنع سدًا للذرائع المؤدية إلى الحرام.
(١) القواعد لابن
رجب: ص٣٢٢
(٢) مواهب الجليل للحطاب: ٢٥٤/ ٤، ط دار الفكر - بيروت.
والخلاصة:
أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات، ولو لم تذكر في العقود، بشرط أن يكون ذلك
معلومًا للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن النية روح العمل ولبّه.
ويكون هذا الاتجاه آخذًا بنظرية السبب التي تتطلب أن يكون السبب مشروعًا، فإن لم
يكن سبب العقد مشروعًا، فلا يصح العقد.
أما في الأحوال غير المصحوبة بنية
غير مشروعة أو بباعث سيء، فهل يصح العقد بنية تحول صفة العقد؟.
يرى المالكية
والحنفية: أن للنية تأثيرًا في صيغة العقود، فقالوا: يصح عقد الزواج بكل لفظ يدل
على تمليك العين في الحال، كالتزويج والنكاح والتمليك، والجعل، والهبة والعطية
والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج،
وبشرط فهم الشهود للمقصود،؛ لأن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي
العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما (١).
أما البيع والإقالة
والإجارة والهبة فلا تتوقف على النية، فلو وهب مازحًا صحت. لكن قال الحنفية (٢):
إن عُقِد البيع بمضارع لم يصدَّر بسوف أو السين توقف على النية، فإن نوى به
الإيجاب للحال، كان بيعًا، وإلا لا، بخلاف صيغة الماضي، فإن البيع لايتوقف على
النية. وأما المضارع المتمحض للاستقبال فهو كالأمر، لا يصح البيع به ولا بالنية،
ولا يصح البيع مع الهزل، لعدم الرضا بحكمه معه.
(١) فتح القدير: ٣٤٦/ ٢،
الدر المختار ورد المحتار: ٣٦٨/ ٢ ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: ٢٢٠/ ٢
ومابعدها، بداية المجتهد: ١٦٨/ ٢، القوانين الفقهية: ص١٩٥.
(٢) الأشباه
والنظائر لابن نجيم: ص ١٨، ٢٠ وأما الإقرار والوكالة والإيداع والإعارة والقذف
والسرقة، فلا تتوقف على النية.
وأما القصاص فمتوقف على قصد
القاتل القتل، لكن قال الحنفية: لما كان القصد أمرًا باطنيًا، أقيمت الآلة مقامه،
فإن قتله بما يفرق الأجزاء عادة، كان عمدًا ووجب القصاص، وإن قتله بما لا يفرق
الأجزاء عادة، لكن يقتل غالبًا، فهو شبه عمد لا قصاص فيه عند أبي حنيفة.
الحادي عشر - النية في الفسوخ:
الإقالة (وهي فسخ العقد) والطلاق (حل الرابطة الزوجية) إن كان صريحًا لا
يتوقفان على النية (١) فلو طلق الرجل زوجته غافلًا أو ساهيًا أو مخطئًا وقع، حتى
قال الحنفية: إن الطلاق يقع بالألفاظ المصحفة قضاء، ولكن لا بد من أن يقصدها
باللفظ.
وأما الطلاق بالكناية: (وهو كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ولم يتعارفه
الناس، مثل قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، اذهبي، اخرجي، أنت بائن، أنت بتَّة،
أنت بتلة، أنت خلية، برية، اعتدي، استبرئي رحمك، أمرك بيدك) فلا يقع قضاء في رأي
الحنفية والحنابلة إلا بالنية أو دلالة الحال على إرادة الطلاق، كأن يكون الطلاق
في حالة الغضب، أو في حال المذاكرة بالطلاق.
ولا يقع في رأي المالكية
والشافعية إلا بالنية، ولا عبرة بدلالة الحال، فلا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، فإن
قال: إنه لم ينو الطلاق، لم يقع، وإن امتنع عن اليمين، حكم عليه بالطلاق.
(١)
الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص ١٨ ومابعدها.
واشترط الشافعية في
نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، فلو قارنت أوله، وغابت عنه قبل آخره، لم يقع
طلاق.
ولو قال الزوج: أنت طلاق أو أنت الطلاق (بالمصدر) أو أنت طالق طلاقًا،
فيقع بها عند الحنفية والمالكية والحنابلة طلقة واحدة رجعية إن لم ينو شيئًا. فإن
نوى ثلاثًا فهي ثلاث، فهي عندهم من الألفاظ الصريحة؛ لأنه صرح بالمصدر، والمصدر
يقع على القليل والكثير، وإنه نوى بلفظه ما يحتمله. وأضاف الحنفية: ولا تصح نية
الثنتين في المصدر: (أنت الطلاق) إلا أن تكون المرأة أَمَة (رقيقة). وأما تفويض
الطلاق والخلع والإيلاء والظهار، فما كان منه صريحًا فلا تشترط له النية، وما كان
كناية، اشترطت له. وأما الرجعة فهي كعقد الزواج؛ لأنها استدامته، لكن ما كان منها
صريحًا لا يحتاج إلى نية، وكنايتها تحتاج إليها.
ورأي الشافعية في الأصح:
ليس قوله: (أنت طلاق أو الطلاق) من الألفاظ الصريحة، بل هما كنايتان؛ لأن المصادر
إنما تستعمل في الأعيان توسعًا (١).
ويلاحظ أن الشافعية قرروا أن التعريض
بالقذف يوجب الحد إن نوى به القاذف القذف، فهو بمنزلة كنايات الطلاق، والكناية مع
النية توجب الحد كالصريح.
الثاني عشر - النية في التروك:
التروك كترك الرياء وغيره من المنهي عنه. إن المقرر شرعًا: أن ترك المنهي
عنه لا يحتاج إلى نية للخروج عن عهدة النهي، وإنما لحصول الثواب بأن كان
كفًّا:
(١) الأشباه لابن نجيم: ص١٩ ومراجع المذاهب الأخرى في بحث الطلاق
الآتي.
وهو أن تدعوه النفس إليه، قادرًا على فعله، فيكف نفسه
عنه خوفًا من ربه، فهو مثاب، وإلا فلا ثواب على تركه، فلا يثاب على ترك الزنا وهو
يصلي، ولا يثاب العنِّين (العاجز عن الجماع) على ترك الزنا، ولا الأعمى على ترك
النظر المحرم.
وهناك أعمال في حكم التروك، لترددها بين أصلين: الأفعال من
حيث إنها فعل، والتروك من حيث إنها قريبة منها، رجح الأكثرون عدم النية فيها،
لمشابهة التروك، وذلك مثل إزالة النجاسة، ورد المغصوب والعواري، وإيصال الهدية
وغير ذلك، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة، لكن يتوقف الثواب فيها على نية
التقرب.
وأما غسل الميت: فالأصح فيه عند الأكثرين خلافًا للحنابلة كما بينا
عدم اشتراط النية فيه، كالأعمال الملحقة بالتروك؛ لأن القصد منه التنظيف كإزالة
النجاسة. ومثله أيضًا نيةالخروج من الصلاة: الأصح فيها عدم الاشتراط؛ لأن النية
تليق بالإقدام، لا بالترك.
ومن الملحق بالتروك: إطعام الشخص دابته: إن قصد
بإطعامها امتثال أمر الله تعالى، فإنه يثاب، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية، فلا
ثواب، كما ذكر القرافي. لكن يستثنى من ذلك: فرس المجاهد: إذا ربطها في سبيل الله،
فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها، أثيب على ذلك. وكذلك الزوجة، وكذلك إغلاق
الباب وإطفاء المصباح عند النوم: إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب، وإن قصد به
أمر آخر، فلا (١).
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص٢١، وللسيوطي: ص١١، شرح
الأربعين النووية للنووي ص ٧ - ٨، غاية المنتهى: ١١٥/ ١.
الثالث عشر - النية في المباحات والعادات:
تختلف صفة المباحات والعادات التي تصدر عن الإنسان في اليوم والليلة
باعتبار ما قصدت لأجله، فإذا قصد بها التقوّي على الطاعات أو التوصل إليها كانت
عبادة، وإن لم يقصد بها العبادة لا ثواب عليها. وبناء عليه إن المباحات كالأكل
والشرب والنوم واكتساب المال والجماع أو الوطء كالتروك مثل ترك الزنا والخمر،
ليست مفتقرة إلى نية، ولا تكون عبادة إلا إذا نوى بها العبادة كالأكل والشرب بقصد
التقوي بهما على الطاعة، والجماع بقصد إعفاف نفسه وزوجه وحصول نسل يعبد الله،
وترك الزنا والخمر مثلًا بقصد امتثال نهي الشارع.
وهكذا كل فعل يصح أن يكون
عبادة بالقصد، لا بد فيه من القصد ليكون عبادة يترتب عليها الثواب، وإليه يشير
حديث (إنما الأعمال بالنيات).
فينبغي - كما قال الرملي - استحضار النية عند
المباحات والعاديات ليثاب عليها ثواب العبادات، ولا مشقة عليه في القيام بها، بل
هي مألوفة لنفسه، مستلذة، فسبحان الله ماأعظم منته، وما أوسع رحمته، أباح لعبده
الطيبات التي يشتهيها، ثم هو مع ذلك يثيبه عليها بحسن نيته، كما يثيبه على عبادته
التي طلبها منه، فله الحمد والمنة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلا خيره.
ويسن
لكل إنسان أن يقول في الصباح والمساء، ليحظى بالثواب والأجر على المباحات
والتروك: (اللهم ما أعمله في هذا النهار - أو في هذه الليلة - من خير، فهو امتثال
لأمرك، وما أتركه من معصية فهو امتثال لنهيك).
الرابع عشر - النية في أمور أخرى:
هناك غير ما ذكرناه أمور أخرى، أشير إلى النية فيها بإجمال (١):
(١)
غاية المنتهى: ١/ ١١٥.
١ - الجهاد: هو من أعظم العبادات، فلا بد
له من خلوص النية، ليكون في سبيل الله.
٢ - الوصية كالعتق: إن قصد به التقرب
إلى الله فله الثواب، وإلا فهي صحيحة فقط.
٣ - الوقف: ليس عبادة وضعًا،
بدليل صحته من الكافر، فإن نوى القربة، فله الثواب، وإلا فلا.
٤ - الزواج:
أقرب إلى العبادات، حتى إن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة، وهو عند
الاعتدال سنة مؤكدة على الصحيح في مذهب الحنفية، فيحتاج إلى النية لتحصيل الثواب:
وهو أن يقصد إعفاف نفسه وتحصين زوجته وحصول الولد. والرجعة كالزواج لأنها
استدامة، فما كان منها صريحًا لا يحتاج إلى نية، وما كان منها كناية يحتاج إلى
نية.
٥ - القضاء: من العبادات، والثواب عليه متوقف عليه متوقف على النية.
٦
- الحدود والتعازير وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة، وتحمل الشهادات وأداؤها:
الثواب في كل ذلك متوقف على النية.
٧ - الضمان أو التعويض عن الضرر: لا
يتوقف على النية أو القصد، ويجب الضمان عن الضرر كالتلف، سواء حدث عمدًا أم خطأ.
وهل يترتب الضمان في شيء بمجرد النية من غير فعل؟ قال الحنفية في المُحْرِم إذا
لبس ثوبًا، ثم نزعه، ومن قصده أن يعود إليه، لا يتعدد الجزاء. فإن قصد ألا يعود
إليه، تعدد الجزاء بلبسه. وقالوا أيضًا في الوديع إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه،
ومن نيته أن يعود إلى لبسه، لم يبرأ من الضمان.
٨ - الكفارات:
النية شرط صحتها، عتقًا، أو صيامًا، أو إطعامًا.
٩ - الضحايا: لابد فيها من
النية كما بينا، لكن في رأي الحنفية: عند الشراء لا عند الذبح. وتفرع عليه: أنه
لو اشتراها بنية الأضحية، فذبحها غيره بلا إذن، فإن ذبحها عن مالكها، فلا ضمان
عليه، وإن ذبحها عن نفسه: فإن أخذها مذبوحة ولم يضمنه مالكها قيمتها، أجزأته. وإن
ضمنه لا يجزئه.
وهل تتعين الأضحية بالنية؟ قال الحنفية: إن كان فقيرًا، وقد
اشتراها بنية الأضحية، تعينت، فليس له بيعها. وإن كان غنيًا لم تتعين، وصحح ابن
نجيم في الأشباه أنها تتعين مطلقًا، والصحيح لدى غيره أنها لا تتعين مطلقًا، ولو
في غير أيام الذبح، ويتصدق بها.
وتتعين الأضحية في مذهب الشافعية وفي قول
عند المالكية بقول مشتريها: هذه أضحية، أو جعلتها أضحية، فيتعين عليه ذبحها،
لزوال ملكه عنها بذلك القول. وتتعين الأضحية عند المالكية إما بالذبح أو بالنية
قبله، على خلاف في المذهب، كما بينا، والمعتمد المشهور في المذهب: أن الأضحية لا
تجب إلا بالذبح فقط، ولا تجب بالنذر.
وفي خاتمة المطاف أقول:
هذه هي النية وأهميتها وأحكامها، فهي رادار القلب المسلم توجهه إما إلى
الخير وإما إلى الشر.
وهي مدار عمل المسلم ومعيار ضبط الأعمال الشرعية من
عبادات ومعاملات فإما أن تصحح العمل الشرعي، وإما أن تبطله وتلغي آثاره.
وهي
سبب الثواب الأخروي على العمل، فإما أن تكون سببًا للثواب والظفر بجنان الخلد،
كنية الجهاد وحب المؤمنين وصفاء القلب، وإما أن تكون سببًا للعقاب كالحقد والحسد
والبغضاء، أو الرياء والشهرة والسمعة.
فمن حسنت نيته، وصلحت سريرته، حاز
الفضل والفوز والخير في الدنيا والاخرة ومن ساءت نيته، وفسدت سريرته، بالخسران
والسوء، والخذلان في الدنيا والاخرة.